«مرّة سئل الطائر الحر:
- لماذا سميت حراً دون سائر الطير باستثناء ذاك المحبوس في قفص؟
أجاب:
- كنت أناجي النفس دوماً بأني أكثر حرية من غيري. وذات يوم افتضح سرّ مناجاتي فلقبوني بالطائر الحر».
ذاك هو منطق الطير.
أما منطق الحجاج فشيء آخر.
* * *
الحجاج ممارسة عقلية رصينة، وإفراز منطقي يتوسل بالمنطق ذاته من أجل التحكم في وصف الانفعال وضوابطه. رياضة ذهنية كالشطرنج. علم له قوانينه ومصطلحاته، وغاياته. رياضيات وزيادة. يقول أحد الباحثين بصدد "مفهوم الحجاج" عند "پيـرلمان":
«تعد عقلنة الطرح ومَنْطقته من أهم الإضافات التي ألحقها بـيرلمان بنظرية الحجاج، ومبعث ذلك المكانة التي رأى أن المنطق قد تبوأها حديثاً والتي مكنته من العدول عن "تكرار الأشكال القديمة والأخذ في تحليل أدوات البرهان التي يستخدمها الرياضيون بالفعل. فالمنطق الشكلي الحديث قد تأسس باعتباره دراسة وسائل البرهان الرياضي، ولكن مجاله ظل محدوداً مما دفع المناطقة إلى استكماله بنظرية برهانية. وهذا ما نهدف إلى وضعه عبر تحليل أدوات الاستدلال الملائمة للعلوم الإنسانية". وهو بذلك يستأنس بمنهج تشومسكي الرياضي التحويلي الذي أفصح عنه في بداية مشواره.
هذا الميل إلى نظرية حجاجية تتوسل بالآليات الرياضية المنطقيـة والنفسية من شأنـه أن يسم التحليل البلاغي المعاصر بطابع إمبيريقي»(1).
* * *
قلما يعيـر الحجاج اهتماماً للتجربة الأدبية في ذاتـها. هو إن فعل، فلكي يثبّت نتائجه وتخريجاته العقلية. وهو منطقي في ذلك، منسجم مع غاياته وضوابطه. الأدب بالنسبة إليه وسيلة من أجل الإثبات ليس إلا. هو وسيط. مادة خام مخبرية. لذا فأن يُمَارَس الحجاج بوصفه سبيلاً لـ"النظر" إلى الأدب يعنـي أن يزيد في توسيع دائرتـه الاستدلاليـة حتى وإن كان في ذلك تعسف على الأدب القائم، كما هو بدهي، على الوجدانيات، والانفعالات، والتأملات. وحتى لو كان بين طيات ذلك الأدب فكر دسم، فالمقصود به إيحاءاته الموغلة في الإبهام، كما في أعمال كافكا، ودوستويفسكي، وفيليپ سوليرز. إيحاءات كتلك التي ينثّها منطق الطير، ويصعب على منطق الحجاج أن يتقرّاها.
* * *
بعد سياحات في البحث عن مفهوم الحجاج لدى الكبار؛ من قبيل پيـرلمان، وديكرو، وتودوروف، وأبوبكر العزاوي؛ انتابتني غواية التساؤل عن خطة تقديم هذا النهج المنطقي للفتيان. لفتني في تلك الخطة الموضوعيةُ العلمية في تشريح التعريف، ثم الدقة في تحديد نقطة التماس بين الحجاج وبعض أجناس الأدب:
«الحجاج عمل عقلي يرتبط بمجال التواصل الإنساني وتبادل الخطاب، فهو مجال لالتقاء وجهات نظر متعارضة في عرضها على عمليات عقلية استدلالية بهدف التأثير والإقناع تأييداً أو تفنيداً.
والخطاب الحجاجي هو الذي تُبرَز فيه العناصرُ الحجاجية وتعضده وسائل الإقناع التي تقوّي رأي المحاجّ، وتساهم في إقناع المتلقي بالآراء والأفكار التي يتضمنها الخطاب أو يدافع عنها أو يعارضها.
وغالباً ما نجد الحجاج بكل مواصفاته في النصوص ذات الطابع الموضوعي كالخطابة والمناظرة والمقالة، كما يلامس بعض النصوص الإبداعية كالشعر والرواية والسيرة»(2).
أثار انتباهي في الفقرة الأخيرة من الاقتباس حدود: "التغليب"، و"الموضوعية"، و"الملامسة"، و"التبعيض". إذ استناداً إلى تلك الحدود يغـدو جل الأدب خارجاً عن دائـرة.
الحجاج من حيث هو كنه منطقي. صحيح أن الحجاج قادر على أن يتسلل إلى كل وسائط التواصل الإنسانـي الشفاهية والمكتوبة والمشاهَـدة والمسموعة؛ لكنه يفعل ذلك من أجل أن يرسّخ مقاصده العقلية، وليس بحثاً عن خصوصيات تلك الوسائط في ذاتها. لذلك يفقد الإبداع قـدراً هائلاً من ماهيته باسم الحجـاج، مثلما سبق لـه أن فقدها باسم السيميولوجيا، واللسانيات، والهيرمينوطيقا.
يعترض معترض: عن أية ماهية تتحدث؟ وهل يمكن للماهية أن تقاس؟ أقول تلك هي المسألة. الماهية لا تقاس، وإنما تُسبر، أو على الأصح تُستشرف؛ كما لدى فريد الدين العطار وصحبه. حتى في الفلسفة الوجودية "الماهية" لا تقاس. في حين تتطلع النظرية إلى "القياس" متوسلة بالمصطلح الموائم، مع استحضار شبكة هائلة من القوانين.
* * *
عندما تعالج النظرية الحجاجية السرد في البلاغة القديمة تنتهي إلى نتيجة خطيرة مفادها أنْ لا وجود للسرد إلا بوصفه أحد مكونات الإقناع. لا وجود إذن للسرد من حيث هو محكي. تتفاقم الخطورة عندما تنساق النظرية مع هذا التخريج فتتعامل مع المحكي ليس بوصفه مكوناً مندغماً (ملاشياً) في الكون السردي وإنما من حيث هو "قانون"، أو "قاعدة". في حين من المسلم به القول بأن "المكون" يشمل ضمناً القول بـ"التكوين"، ثم بـ"الكون". وحيث إن عناصر "الكون" لانهائية لزم القول كذلك بلانهائية إمكانات التكوين. ينتج عن ذلك ضرورة عدم القول بانفصال "المكون" عن "كونه" وعن "تكوينه". وحيث إن ذرات التكوين شتى لا تكاد تحصر لزم ألا يكون ثمة خطاب نظري أو قانوني أو قاعدي منفصل أو جزئي، بل خطاب كوني. إذ في حال وجود غاية من أجل التقعيد في ذاته أو من أجل مطاردة الجزء وحده؛ حينذاك يغدو الخطاب المعتمَد نفسُه حجاباً، وحاجزاً في سبيل انعتاق رؤى الكون النصي. فما العمل إذن من أجل أن نرقى إلى سمْت الإبداع من حيث هو "كون" له رتبه البلاغية الهائلة؟
في مقابل خطاب القانون والتفصيل الجزئي ثمة لغة أخرى شبيهة بلغة الصوفية. وما لغة الصوفية؟ هي أيضاً لغة كونية. لغة الإبداع. لغة الذوق. لغة التأمل. لغة الانطباع. لكن حذار من تفسير الانطباعية بمعناها القدحي السائد. إذ من دلالاتها النظرية ما ينطبع في الذاكرة ويُرسم فيها من فكَر وأحاسيس مجسدة على نحو سريع "Impression". أما دلالاتها التطبيقية فتتجلى في تلك الثورة الفنية الكبيرة التي عرفها الرسم الحديث وأثرت بدورها في مسيرة الفكر الإنساني المعاصر.
في كل معالجة سردية محتملة نكون إذن إزاء حقلين:
- كثافة العقل ومنطقه.
- والكون الهلامي بما فيه من انطباع، وذوق، وشفافية.
* * *
إن نُظر إلى الحجاج من منظور النقد الأدبي أضحى مجردَ تمرين بلاغي أو حتى منطقي مثل التمرينات الأكاديمية والديداكتيكية؛ من قبيل تشريح الاستعارة في بيت شعري لابن المعتز، أو تشريح الكناية في بيت آخر لامرئ القيس، أو رصد سبل الإقناع الحواري في رواية أو مسرحية أو نص تراثي.
عندما يكتب البلاغي، أو المنظر، أو المنطقي النقد، غالباً ما لا يميّز، عن وعي أو عن غير وعي، الحقل الذي يتحرك فيه: النظرية أم الإبداع. أحياناً تراه يتنقل من النظرية إلى الإبداع، ثم يعود ثانية إلى النظرية، دونما عقدة ولا تسليم بأنه يتحرك في حقل ملغوم. قد يكون الدافع إلى ذلك الرغبة في اختبار مدى نجاعة النظرية وقدرتها على التغلغل إلى بنيات النصوص، مثلما قد يكون إبراز قدرة النظرية على "الاستحواذ" على "النص"، أو "اختزاله" أو حتى تثبيته في رتبة نظرية.
ومن البدهي القول بوجود فرق شاسع بين معالجة الحجاج في الروايات وبين التشغيل الروائي للحجاج من لدن المبدع. وإذا كان من حق الناقد أو الدارس أن يستعين بشبكة المصطلحات، ويستنجد المنطق، والفلسفة، واللسانيات في صوغه العلمي؛ فلا دخل للمبدع الروائي في كل ذلك؛ إلا إذا كان كاتباً من النوع الرفيع الذي يعرف كيف يتحكم في جعل أصداء النظرية تتلاشى في أكوانه الروائية، مثلما هو صنيع إيكو، أو كان، على العكس من ذلك، كاتباً من النوع الرديء يكتب في ضوء نظريات النقد، ويسلس زمام إبداعه للنقاد لكي يوجهوا كتاباته، ويعينوه على بناء نصوصه، مثلما يحصل لكثير من كتاب السرد بصورة لافتة.
وأكثر من هذا وذاك قد تجد في بعض الأحيان كاتباً كبيراً يحاول مسايرة آخر صيحات النقد والأبحاث الفكرية، فتبدو تلك المسايرة المتصنعة جلية في إبداعه، ولا ينقذه من السقوط في مستنقع الرداءة إلا مهارته وحنكته.
* * *
يمكن عدّ أمبرتو إيكو واحداً من المفكرين الذين عملوا على التقريب بين الغايات العلمية والنمذجة السردية. لكنه فعل ذلك بإيعاز من السيميولوجيا، والحجاج، والهيرمينوطيقا، وليس بإيعاز من الكون النصي للنموذج. والنتيجة أن إيكو ظل محسوباً، في هذه التجربة الذكية على أهل الفكر وليس على أهل النقد. حتى غاسطون باشلار نفسه لم يفلح في التخلص من قيدٍ شبيهٍ عندما تعامل مع النماذج الشاعرية بإيعاز من التصور الظاهراتي. غير أن تجربته في التحلُّل من القيد العقلي كانت أكثر رحابة مما هي لدى إيكو. ربما لذلك أمكن القول إن النقد الأدبي قد ربح مع باشلار أكثر مما ربحته الظاهراتية نفسها.
إن لغة العلم والنظر ليست هي لغة الإبداع إذن. وإذا كانت لغة التأليف الحجاجي تمارس مهمتّها بانسجام عن طريق تحقيق المواءة بين ماهية الممارسة ووسائل الصوغ؛ فالمنتظر أن ينـزع التأليف الدائر حول الإبداع إلى أن يكون بدوره إبداعاً. ذاك حلم. وعلة ذلك أن الإبداع يراهن على تحقيق المشاركة الوجدانية مع المتلقي، وحتى العقلية والجمالية، لكن من دون أن ننتظر ترجمة تلك المشاركة إلى معادلات، وإحصاءات، وترسيمات. وإلاّ سيتحوّر القصد الإبداعي ويحصل النشاز. بل من المحتمل أن يحصل حتى خلل في النظر إلى طبيعة الأشياء والإنسان ونواميس الكون.
* * *
البعد الحجاجي في أقصوصة "القلعة" لجمال الغيطاني" دراسة مستفيضة وجادة لمحمد نجيب العمامي. دراسة يتحقق فيها الانسجام بين لغة الصوغ والقصد الحجاجي(3). هي مستفيضة لأنها تقع في ست وثلاثين صفحة من القطع الكبير. وهي جادة لأنها تصرح منذ البدء بانحصارها في الحقل الحجاجي؛ أي دراسة الحجاج الضمني أو البعد الحجاجي في الأقصوصة المذكورة. قال العمامي:
«يُردّ اختيارنا هذه الأقصوصة إلى ما وقفنا عليه فيها من حجاج ضمني في الحوار بين بعض شخصياتها. ويُردّ أيضاً إلى عسر التفطن إلى البعد الحجاجي في خطاب الراوي»(4).
كما أنها دراسة جادة لأن صاحبها لم يصدر عن فراغ في معالجة إشكاله العقلي، وإنما اعتمد على مراجع متخصصة بلغ عددها بالفرنسية أزيد من ستة وعشرين، وبالعربية خمسة.
منذ البداية علّل العمامي اختياره لتلك الأقصوصة بالذات دون غيرها نظراً إلى ما "فيها من حجاج ضمني" في الحوار. معنى ذلك أن ليس كل الأقاصيص يمكن أن تتضمن، بالضرورة، بعداً حجاجياً.
ومنذ البداية حدد كذلك الحقل الذي سيتحرك فيه، وميّز في هذا الصدد بين نوعين من الحجاج:
- الأول هو المقصد الحجاجي الصريح المباشرVisée Argumentative ، ومثّل له، اعتماداً على روث أموسي Ruth Amossy، بالمرافعة Plaidoirie لدى المحامين التي هدفها الإقناع.
- ثانياً البعد الحجاجيDimension Argumentative المضمر وغير المباشر، ومثّل له، اعتماداً على أموسي دائماً، بالوصف "في مقال صحفي أو في عمل روائي. فغالباً ما يبدو [ذلك الوصف] مجرد محاولة لتصوير جزء من الواقع تصويراً حسياً بصرياً. ورغم ذلك فهو، أحب صاحبه أم أبى، يضفي على موضوعه طابعاً ومعنى خاصين"(5).
انتبه العمامي بذكاء إلى الحقل الملغوم الذي هو مقبل عليه. قال:
«إن الأشكال القصصية تطورت، وصار من خصائصها الفنية التلميح والإيحاء والغموض
وإخفاء المقاصد. وإن الحديث عن حجاج محتمل في هذه الأشكال يطرح العديد من الإشكالات»(6)، ثم أضاف إشكالاً آخر في المجال ذاته، واقترح له حلاً جزئياً:
«تنضاف إلى الإشكاليات التي يطرحها الحجاج في النص القصصي إشكاليةُ إمكانيةِ قيام حجاج بين شخصيتين [قصصيتين] إحداهما راغبة عن التواصل عازفة عنه. لا يمكن مواجهة هذه الإشكاليات دون مراعاة الحقل الذي يمارَس فيه الحجاج ودون أخذ جنس النص بعين الاعتبار»(7).
مثل هذا الإشكال التعبيري والتواصلي الأخير يقتضي إذن الاستعانة بالجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص. لماذا؟ لأن الصمت في الأدب عموماً يندرج ضمن أبواب الاحتمالات والإيحاءات والإبهام والتكثيف. وهي أبواب تستعصي على التحليل المنطقي ما دامت منتمية إلى "الكون" النصي أو "الأثر الأدبي" عامة œuvre littéraire حسب توصيف بارث. في هذه الحال المستعصية تغدو الاستعانة بالجماليات أو ما نسميه بـ"بلاغة الكون" حلاً ملائماً.
إن اصطلاح الأقصوصة أو حتى القصة القصيرة يتضمن معنى النقص. النقص مركب في ماهية هذا الجنس الأدبـي مثلما الامتداد مركب في طبيعة الجنس الروائـي. ها نحن ننتقل من مفهوم الحقل، حسب بورديو، إلى مفهوم الجنس الأدبي أو النوع السردي. نفعل ذلك من أجل أن نعطي لأنفسنا مشروعية الاستماع إلى أنين كاتب الأقصوصة (وليس راويها) وكأنه ينادينا من تحت القبو:
- لا تنتظر مني أيها القارئ الناقد أن أقول لك كل شيء. وإذا كان خطابك موسوماً بالتماسك، ومدعماً بالحجة؛ فخطابي أنا، على العكس من ذلك، ناقص وقصير. أنا نفسي لا أدرك كل "شيء" بواسطة الكلمات أو من خلالها. ثمة فيما بين الأسطر بياضات تستعصي عليّ.
غير أن صاحب المقال لم يشأ أن ينساق مع كل احتمالات الإشكال الذي اعترف بوجوده. فقد ظل ملتزماً بالنطاق الحجاجي الذي حدّده منذ البدء، متوسلاً بالمعجم الحجاجي، من دون أن تغريه الإمكانات التحليلية الكثيرة التي تتيحها تلك البلاغة الكونية المشار إليها. إنما اكتفى في معالجته لأقصوصة "القلعة" بثنائيتين كبيرتين (الحجاج في خطاب الشخصيات/ الحجاج في خطاب الراوي)، ثم فرّعهما بدورهما إلى ثنائيات إضافية من قبيل: ثنائية (الراوي/ المروي له)، و(ثنائية صنفين من المتلقين)(8)، و(ثنائية الكاتب والقارئ)، و(ثنائية الحكاية والخطاب)، و(ثنائية السوابق واللواحق من الأحداث) و(ثنائية البعدين في شخصية الضابط)، و(ثنائية المقدمة الصغرى والمقدمة الكبرى للقياس)، و(ثنائية النفي والإثبات)، و(ثنائية الصورة الخطابية للسجين: الرجولة والتراجع عن الموقف)، و(ثنائية الصور: الصور الإيجابية، والصـور السلبية/ الصورة الخاصة للضابط، وصورة سامعه)، و(النتيجة المنطقية الضمنية الأولى والنتيجة الضمنية الأخرى)، و(ثنائية الكل والجزء)، ثم زكى تلك الثنائيات بترسانة هائلة من مصطلحات المنطق، والفلسفة والتلقي. بذلك ظل الباحث وفياً للنظرية الحجاجية التي صدر عنها، من دون أن ينشغل بـ"كون القلعة". وهو كون فيه من المكونات والسمات "المتلاحمة بكثافة" في صورٍ بمقدار ما في اصطلاح "الكون" من عناصر ودلالات. لكن المعالج، على كل حال، في حلّ من الانسياق مع الكونيـة التي نقترحـها. ومع ذلك من الصعب جداً، حتى في حقل الحجاج، أن نتصّور النص كله يمكن اختزاله في الشخصية، والراوي، والمروي له، في حين تفضل خارج الـهيكل مكونات أخرى عديـدة لـها نفس الصدارة من قبيل: الإيقاع، والانسجام، والتوقيت، والإيحاءات الكثيفة (وليس الثنائيّة) للمكان، وأصداء الزمن الأبدي (وليس الزمن التاريخي أو السياسي فحسب)، وتلاحم الزمان والمكان ووصف الضيق الشديد لغرفة السجن، وصفرة الزنزانة، والمصباح الكهربائي الأصفر، وحميمة بذور الزيتون الأسود (الزيتونات التسع)، والجوارب الصوفية الستة، ومذاق الرحيق الأول، وطبيعة التشابيه، والتشويق (عِلل تأخر العربة)، وهفو السجين إلى البحر.. وهي كلها عناصر فاعلة في البناء والحجاج والتكوين قدر فعالية الشخصية، والراوي، والمروي له. وعلى الرغم من اعتراف المعالج أكثر من مرة بسمة التكثيف التي تطبع جنس الأقصوصة؛ لم يساير إيحاءات تلك السمة، وظل ملتزماً بتحليل ملفوظ النص، أي هيكله، والنظر إليه من زاوية الثنائيات. إن الأقصوصة عنده مشكّلة من ثنائية "الحكاية والخطاب"؛ أي إنها ليست تكثيفاً سردياً مخصوصاً صاغها الغيطاني في صورة قصصية لا تُضَاهى. وحتى دلالات الأقصوصة وسمات مكوناتها سجنها العمامي في ثنائيةٍ:
«يبرز من أوصاف المكانين وما توحي به أن المكان الأول [الصحراء] كريه منفى. والثاني جميل محبب مرغوب فيه. فالصحراء رديف الموت والوادي معادل الحياة. وما الموت والحياة في الأقصوصة، سوى السجن والحرية. وهكذا فالراوي ينتقي معجمه ويوزعه على محورين دلاليين متقابلين. وهو لا يخفي تحيزه لأحدهما ولا سعيه إلى التأثير في المروي له وحمله على اختيار محور الحياة والحرية»(9).
إضافة إلى تلك الحدود يورد المعالج عائقاً علمياً آخر يتمثل في ضرورة توافر المتلقي على ثقافة موسوعية من أجل أن يتمكن من "فك شفرات النص". أما إذا لم تتوافر تلك الموسوعية فإن الأقصوصة، حسب رأيه، لن تفقد بعدها الحجاجي المؤثر، ما دام الكاتب أقام حججه على صراع بعض القيم وأضدادها. قال:
«فالأقصوصة تبيّن أنّ فكّ شفراتها يتطلّب من القارئ كفاءة لغويّة ومعارف موسوعيّة. وهو يدعوه، في صورة غيابها، إلى اكتسابها إن أراد أن تكون قراءته منتجة. فالقـارئ مطالب مثلا بمعرفة أن "القلعة" هو اسم سجن في مصر المعاصرة وبتحديد تاريخ "زيارة الهند"(ص85) والقائم بـها وأهـميتها التي جعلتها تكون "جزءاً من العنوان الرئيسي" لصفحة من صفحات جريدة الأنباء (ص85). ولعلّ القارئ مطالب بمعرفة العلاقات الوثيقة التي جمعت، بدءاً من خمسينيّات القرن العشرين، بين حكّام مصر والهند. وكان من نتائجها المساهمة الفعّالة في تأسيس حركة عدم الانحياز. وعلى القارئ أن يتسلّح، علاوة على هذه المعارف المشتركة، بمعرفة مختصّة مجالها أدبيّ تمكّنه من ربط الصّلة بين الأقصوصة وسائر ما أُنتج في باب "أدب السّجون" من قبيل روايات "الوشم" لعبد الرحمان مجيد الرّبيعي و"الكرنك" لنجيب محفوظ و"نجمة أغسطس" لصنع الله إبراهيم و"شرق المتوسّط" لعبد الرحمان منيف وغيرها. فيعقد المقارنات ويبحث عن أوجه الشبه والاختلاف ويستخلص النتائج.
إلاّ أنّ مثل هذه الكفاءة وتلك المعارف قد لا تتوفر لكل القرّاء ولا في زمان يعقب زمن النشر بكثير. فهل يعني غيابها أن التواصل بين الكاتب والقرّاء سينقطع؟ وأن الأقصوصة ستفقد بعدها الحجاجي؟ لا نعتقد ذلك. فالكاتب أقام حججه على صراع بين قيم الحرّية والإيمان والبطولة وأضدادها. وبناء عليه نقدّر أنه سيظل للأقصوصة قراء يتفاعلون مع مضامينها وأبعادها وقيمها ويتأثرون بها ما دامت هذه القيم حيّة فاعلة»(10).
وعلى الرغم من أن المعالج أورد كل تلك الحدود فقد بقي وفياً لمنطلقه ما دام قد اعترف بأن القصد هو "فك شفرات النص"، وليس التماهي معه، أو التأثر به، أو تذوقه، أو حتى التلذذ به تلذذاً شبه جنسي حسب توصيف بارث مرة أخرى. ومن الواضح أن خطة الثنائيات.
قد أسعفته إلى حد بعيد على فك شفرات بعض الفقرات الحجاجية في القصة، وهي على كل حال ليست وحدها الفقرات المهيمنة. إني أتساءل لماذا لم تغره مثلاً شفرات الصورة الآتية الواردة قبيل نهاية القصة، المفعمة بالإيحاءات المستعصية:
«يضوي في عتمة الذكريات وجه بعيد لم يستعده منذ سنوات، حبه الأول، كانت تسكن على مقربة منه، بداية العمر، يرى وجهها واضح الملامح، شعرها الملموم في ضفيرتين، وملامحها التي تحوي تساؤلاً مستمراً، أو دهشة بريئة، كان يراها في لحظات الخروج الصباحي، يذكرها مقترنة بأغنية تتحدث عن الزهور، صوت ليلى مراد اللؤلؤي، ضوئي الرنين، والصدى»(11).
في خاتـمة الدراسة عاد العمامـي ليؤكد صعوبة المعالـجة الحجاجية للسرد وصعوبة استخلاص نتائج تخص نصاً بعينه. ثم باح بما يشبه الاعتراف بطول الطريق التحليلي الذي لم يُنجز بعد. قال:
«هكذا بينت لنا ممارسة الحجاج في النص تأثره بالحقل الذي يمارس فيه وبالجنس الذي يتجلى فيه. ونعني به جنس السرد القائم على التخييل. ولقد وقفنا على الخصائص البنائية لأقصوصة "القلعة" فتبين لنا أنها خصائص تشترك في كثير منها مع أقاصيص أخرى. ولكننا لا نعتقد أن خصائص الحجاج التي استضْفيناها وقف على الأقصوصة وحدها. فهي متوفرة في نظرنا، في سائر أنواع السرد التخييلي. ويبدو لنا أن استخلاص خصائص الحجاج في الأقصوصة يتطلب دراسة مدونة أقصوصية متنوعة وممثلة ومعرفة دقيقة بخصائص الحجاج في سائر أنواع الخطاب. ومثل هذا المشروع يقتضي جهداً جماعياً يجذر أن يبذل في إطار وحدة بحث»(12).
هي إذن نتائج عامة ومشتركة، تثبّت مشروعية المعالجة الحجاجية أكثر مما تحاول استشراف الماهية المخصوصة للنص القصصي المدروس.
الهامش
(1) محمد الأمين الطلبة، ضمن الكتاب الجماعي، الحجاج، الجزء الثاني الخاص بالمدارس والأعلام، إعداد وتقديم حافظ إسماعيلي علوي، عالم الكتب، إربد – الأردن، 2010 (والنص الوارد داخل الاقتباس هو لمحمد القاضي).
(2) الأساسي في اللغة العربية، كتاب التلميذة والتلميذ، السنة الثالثة من التعليم الثانوي الإعدادي، جماعة من المؤلفين، مكتبة المعارف، الرباط 2006، ص15.
(3) الكتاب الجماعي، الحجاج، مرجع سابق، ص205.
(4) نفسه.
(5) نفسه.
(6) نفسه.
(7) نفسه.
(8) يقول: «يتبين من خطاب الراوي أنه يتوجه إلى صنفين من المتلقين: صنف السجانين وصنف السجناء المحتملين [..] ولما كان المتلقي اثنين لكل منهما قلعته» ص237-238.
(9) نفسه، ص 234.
(10) نفسه، ص235–236.
(11) إتحاف الزمان بحكايات جلبي السلطان، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1984، ص91-92.
(12) نفسه، ص238.