عرفتُ شعيب حليفي منذُ الثمانينيات، عبر صفحات الجرائد الوطنية، اسما نشيطا يكتبُ القصيدة بكل أريحية، ولذلك فإن لغته الروائية فيها الكثير من جمالية وإيقاع الشعر، قبل أن تتأسس أواصر الاتصال والتواصل والعلاقة الدائمة بيننا، تلك المحبوكة بنص سردي يحكيه راوِ سري، مثل الروح التي تسري في الجسد.
وقبل ذلك كنتُ قد التقيتُ به، بشكل عابر، بمدينة الرباط، في إحدى القاعات، خلال مناسبة ترتبط بالشعر، كان هو طالبا بكلية الآداب الدار البيضاء، وكنت، أنا كذلك، طالبا بكلية الآداب مراكش.
هو أخ وصديق يستحق كل الإعزاز، وفوق ذلك، هو عذبُ الرُّفقة وطيبُ العشرة، يتميز بالسخرية والقدرة على تحويل المواقف والوقائع، وفق ما يشاء، أو يشاء تخييله، مثل تلك الشخوص التي تتحرك في أعماله السردية.
الآن هو شعيب حليفي الذي يُشرِّفُ مثقفي المغرب والعالم العربي، بحضوره المتميز.
حينما أخبِرتُ بتكريمه، غمرتني سعادة خاصة، لأن الأمر يتعلق أولا بصديق، أعرفه عن قُرب، مثلما أعرفه من خلال كتاباته التخييلية الروائية المتميزة، التي نحتت لها معالمها الخاصة، وصوته المنسرب بين رواته؛ ولأنه من أصوات الشاوية التي ترفع رايتها عاليا، حتى أصبح من أيقونات حقولها وتضاريسها وأغوارها وأوليائها، وتاريخها الذي يأتي مزمجرا، من بئر عميقة، في أرض من مستقر الله، الحافظ والراعي لأمرها. وعليه، فإننا لن نخفي، كلنا أو على الأقل، بعضنا وأنا من ضمنهم، ما يشبه نرجسية الانتماء والتشكل عبر كل المخاضات.
إن هذا التكريم، أتى في وقته وفي العمر جذوة وبقية وصحة ونخوة، -أطال الله في عمره- حتى تتزيد الأجيال من علمه ومعرفته وتخييله، إذ أصبح التكريم في كثير من الحالات، مقرونا بالعجز والحاجة والموت، وهذا التكريم هو تكريم للحياة، واعتراف بالجميل، واحتفاء بالذات، وبابن من أبناء الشاوية البررة، وعَلَم من أعلامها المرموقين المجبولين على حب لون الأرض وطينها التي تضفي بعضا من لونها على سحنته وعلى وجوه "أنبيائها" الخلص وثقاتها العارفين.
لذلك كله، أجدني مدفوعا إلى انتقاء الكلمات التي تليق بأخ وصديق حميم، والتي يمكن أن تسعفني، في التعبير عن مقامه بين محيطه ومجتمعه.
وإذا كانت كل مناسبة شرطا، فلن ينفعنا كثيرا أن نسرد كل كتاباته في مجال السرد بدءا بمساء الشوق، ومرورا بزمن الشاوية ورائحة الجنة، ولا أحد يقفز فوق ظله، ومجازفة البيزنطي، وأنا أيضا .. الخ، ودراساته النقدية للسرد الرحلي، والرواية الفانتاستيكية وشعريتها، وكتاب آخر في العتبات، وغيره كثير. ولا أن نختزل دراسة تفصيلية، عن هذه الأعمال الثرية؛ ولذلك أيضا لن ينفعنا أن نعبر من باب واحد إلى الكاتب شعيب حليفي، وذواته وعوالمه ومخلوقاته التي فيها الكثير من سلالاته التاريخية وجيناته التي عمّدها بالحبر الأسود، والصلصال الرمادي الغائم والغاشم، واللوح المحفوظ، وسر كلمة الله في خلقه، ولله في خلقه شؤون.
تتوزع اهتمامات وانشغالات شعيب حليفي بين مجالات عديدة ،حيث يستطيع أن ينتقل بسلاسة وأناقة من مجال البحث العلمي إلى السياسي، والاجتماعي والثقافي، فهو:
شعيب الأستاذ والباحث المناضل والمتفاني في عمله؛ وشعيب المثقف العضوي في ارتباطه بقضايا المجتمع وواجهاته؛ وهو المبدع الاجتماعي، والناقد الذي يعرف كيف يكون مبدعا في حالاته الاجتماعية، واجتماعيا في سفرياته التخييلية، بيد أنه يمكن أن يتمرد على ذاته (وعلى كائناته) كي يشيد عوالم جديدة ومغايرة في رحلة للمغامرة الملتهبة اللامتناهية، باعتبارها صورة أنطولوجية حالمة.
هو ابن سطات وقبائلها، وتمتد عروقه الضاربة إلى كل فسيفساء الشاوية التاريخية، من حاضرة الجديدة وأزمور وربوع دكالة الفيحاء، إلى أولاد سعيد، وأولاد سيدي بنداود وأولاد بوزيري، ومن أقباب سيدي امحمد البهلول العالمة العاتية المجيدة إلى قبائل امزاب الحرون، ونافذة البيضاء على البحر وتخوم الأطلس من بني ملال إلى مراكش، حيث حدود الشاوية كما رسمها ابن خلدون من هذه الجهة، من كل نقطة عابرة أو قارة. يمكن أن تعثر على شعيب حليفي أو ظله المتلألئ، وهو الإنسان بقيمه وخصاله، الذي يثأر من التاريخ، وينتقم لآباء الشاوية وأبنائها من النسيان الجاثم على واقعها وتاريخها المتفحم. من خلال تأكيد وترسيخ تاريخه الذاتي، وتاريخ الشاوية، والتاريخ الضائع والمفترض في الماضي والحاضر. هو الكاتب الذي يتمسك بكل هذا، مثل القابض على الجمر لا يتملص منه، أو يبتعد عنه أو يخلق مسافة وهمية بينه وبين ما كان، بل يغدو ذلك مَدْعاة للاعتزاز والاحتفاء وإعزاز أهلها وذويها (أي الشاوية)، يقول: «لست نادما على شيء، فقد عشت كما أردت، فخورا بحياتي وشجرة أنسابي من أبي وأمي وقبيلتي، ولست خاشيا الموت وإنما يؤلمني الغدر» (ص58 من كتاب "لا أحد يستطيع القفز فوق ظله"). وبنفس الحدة يمقت ويستصغر قيم الرذالة يقول: «إن من يطعنك غدرا، يمكن أن يفعل أي شيء، ويمارس كل الموبقات لكون نفسه ذليلة وبها عطب لا يبرأ، فقيمة الإخلاص هي السمو بالنفس التي تجعلك تشعر بامتلاء كامل ودائم بالحب والطمأنينة»(ص58 نفس الكتاب).
وهكذا يتوزع شعيب حليفي بين كل الثنايا ينكتبُ فيها، ويكتب أحاسيسه واهتجاساته بدهاء لافت، وانتقاء لمعجمه وصوره، حتى إن الكتابة عنده تتحول إلى ملح مرشوش على كل الجراحات الذاتية والتاريخية، ليعبر عن سيرته، وسيرة الذين عاشوا من قبل، والذين لا زالوا يسعون في الأرض، وسيرة الآتين من زمن لم يأت بعد، يوقظ الراقد والمسكوك، ويجعل من انتمائه نموذجا ساحرا وأخاذا إلى حد التقديس، فالشاوية هي المثال وعالم الجنة المفقود، الذي يتمنى أن يحيى كل فرد في بحبوحتها بعد أن يبعث من قبره:
"هناك أمكنة لا يمكن أن تكون فيها محايدا، تلك التي يولد فيها الإنسان بعلامة، والقاهرة مثل الشاوية، أرض مقدسة ، كل من يهبط إليها يصبح روائيا أو نبيا"("كتاب الأيام أسفار لا تخشى الخيال" ص55).
ولذلك حين نقارن بين الشاوية أو أي مكان في المغرب وخارجه، أي في أرض الله الواسعة، فإن المكان يأخذ جماليته ومزيته من مدى تماثله وتشابهه مع الشاوية، الأرض المقدسة.
يقول: «هكذا صرت أحب المقارنة التي تمدني بقوة خارقة، فالشاوية "وهي بلدي الأول والأخير، وكم تمنيت أن أكون حاكما مطلقا عليها، أورث عرشي من بعدي لسلالتي الطهرانية من الذكور والإناث" لها غروب خرافي يشبه الدهشة الأزلية الرابضة في أرواحنا، أما القاهرة فلها فجر خرافي أيضا، لم أر أو أشاهد أو أبصر نظيرا له أبدا في حياتي، فجر روحاني» (ص55-56 "كتاب الأيام").
الكتابة، إذن، عند شعيب حليفي، أعزه الله ورفع من شأنه، هي جِدارات من طوب وحجر يتشكل في الفضاء المحفور، والطين اللزج، وعروق الأرض الميادة، وفرن التاريخ والذات، واحتطاب كل السير المهربة والفجائع الصامتة:
احتطاب للذي مضى والذي سيأتي؛ احتطاب مثل الجرح ورتق الجرح؛ احتطاب للذاكرة والمتخيل والسفر عبرهما، كيف نعيش جميعا في غمرتهما، حتى لا يتحول الراوي إلى مجرد ناقل للأحداث والوقائع والسرود؛ هي إذن لعبة للانغماس في الموت على حد الحياة، وللتشقق والتفتق مثل كل الملائكة.
مع سلاماتي ومودتي.