هنا يقدم الروائي والمترجم المصري قراءة لمجريات الثورة المصرية، ويحكي خواطره عن حبكة التوجهات الدينية والسياسية في الحراك، وطبيعة التغيرات في تكوين الشخصية الثورية نحو الفردانية تحت ظلال الشبكة العنكبوتية وعبر مواقع التواصل الاجتماعي.

خواطر حول قصة أربع سنوات من الثورة شعوب مصر الثلاثة

نائل الطوخي

في البدء تماماً، قبل الثورة وقبل الإنترنت، كان مبارك يجلس على عرش السلطة السياسية وكان الإسلاميون يجلسون على عرش السلطة المجتمعية. السياسة كانت للحزب الوطني والشارع للإسلاميين.

لم يعد أحد في مصر يتذكر هذا الآن. لم يعد أحد يتذكر تغلغل "الصحوة الإسلامية" داخل المدن في الثمانينيات والتسعينيات، انتشار المستوصفات الإسلامية وتزايد دعاة الفضائيات. بدأ دعاة الفضائيات بارتداء الجلابيب أولاً، ثم انضم إليهم لابسو القميص والبنطلون، وبدأت فتياتهم بارتداء النقاب والخمار أولاً، ثم انضمت فتيات أخريات ارتدين حجاب "شيك" مع لمسات ماكياج خفيف. هذا يعني أن الدعوة الإسلامية في التسعينيات كانت قادرة على التحول إلى فكرة أنيقة وجذابة وقادرة على اجتذاب الشباب. بالموازاة مع هذا، لم يكن أحد يفكر في مبارك بوصفه موضوعاً للجدل. مواضيع الجدل كانت كثيرة: إسرائيل، الفساد، الانفتاح، الخصخصة، أميركا.. ولكن ليس مبارك. كانت هذه صيغة التسعينيات وبعض بدايات الألفية الجديدة.

وبدأ الوضع في التغير من الأسفل. ظهرت صحف ودور نشر مستقلة، ومراكز ثقافية، كما بدأ الإنترنت ينتشر انتشاراً كبيراً، خاصة مع المشروع الحكومي "حاسب لكل بيت". ظهرت المدونات التي كتبها شباب صغيرو السن وجرى تحدي غالبية المواضيع المسكوت عنها في المجتمع المصري المحافظ، مثل الجنس والدين والسياسة والوطنية وغيرها، ولاحقاً ظهر الفيسبوك. كل هذا شكل مجموعة من الفضاءات الحرة والنخبوية أتاحت مناقشة جميع القضايا الشائكة بلا رقابة، كما أتاحت التشبيك بين الشباب وتكوين علاقات اجتماعية واسعة. والدولة التي سهلت وصول الشباب للإنترنت، في لحظة من لحظات الاطمئنان السياسي لأبدية الحكم، سرعان ما فقدت السيطرة تماماً على المحتويات التي يتبادلها هؤلاء الشباب. كانت كأنها تحفر قبرها في هذا المشهد، مع عَرَض جانبي آخر: الإسلاميون في الوقت نفسه بدأوا يفقدون تأثيرهم على أفكار الشباب.

لسوء حظ الإسلاميين، وبعد العمل لعقود على ترسيخ شعاراتهم على الأرض، حدث الزلزال الأكبر في المجتمع، واندلعت ثورة 25 يناير التي لم تنادي بتطبيق الشريعة، ولا تكلمت عن المرأة بوصفها أساس الفساد، ولا عن العقيدة "المنحرفة" للأقباط. بالعكس، كانت الأيام الثمانية عشر الأولى، أياماً من التغني الرومانسي بالوحدة بين المسلم والمسيحي، بين الرجل والمرأة. كان هناك إسلاميون بالطبع، وربما كانوا يضمرون في دواخلهم حلم الشريعة ودولة الخلافة. ولكن أفكارهم هذه لم تتحول إلى القصة السائدة للثورة، لأنهم حبسوها بداخلهم ولم يظهروها إلا بعد تنحي مبارك. "الإسلام كموضة" أصبح ها هنا شيئاً من التاريخ.

نتيجة لزخم "25 يناير"، تحولت الثورة إلى ما يشبه ديناً علمانياً في مصر، أي تحولت إلى شيء قادر على الإلهام وإنتاج سحره بنفسه بدون الاضطرار لاستعارة أدبيات الإسلام وأدبيات الدولة. كانت الثورة تعادي قوى الدولة التقليدية كلها، من الإسلاميين وحتى حكم العسكر، من الحزب الوطني وحتى المجتمع التقليدي. بعد الثورة فوراً، وأثناء تحالف المجلس العسكري مع الإخوان المسلمين بوصفهم القوة الوحيدة المنظمة القادرة على استلام الحكم، وأثناء استعراضات القوة التي قام بها الإسلاميون في ميدان التحرير، تحددت أكثر بوصلة "الثوار": لا عسكر ولا إخوان. بدأت السخرية من الشيوخ لأول مرة على الإنترنت والفضائيات، وكذلك السخرية من أعضاء المجلس العسكري، وهو ما كان أمراً غير مسبوق في المجتمع المصري. تواصل الأمر بعد حكم مرسي حتى وصل إلى إحدى ذراه ببرنامج "البرنامج" لباسم يوسف، الذي ركزت حلقاته على انتقاد الإسلاميين والسخرية منهم. كان يوسف واحداً ممن استطاعوا تحويل انتقاد الإسلاميين إلى أمر شعبي وثوري في آن واحد.

الثوريون حلفاء الغير دائماً
علمانية "الثوار" هي علمانية ثورية تخوض معركة ضد التسلط بكل أشكاله: الديني والأمني والعسكري. من أجل الدفاع عن "الدولة القوية"، لا يفرق محبو السيسي الآن بين الإخوان والثوار، ينسون مشاركة الثوار في الانتفاضة ضد مرسي ويتهمونهم بأنهم عملاء الإخوان. وهذا صحيح بمعنى أن كثيراً من الثوريين تعاطفوا ويتعاطفون مع الإسلاميين بوصفهم الطرف المقموع الآن، وليس إيماناً بأفكارهم التي لا يبالون بها. عدم التمييز بين الإسلاميين والثوريين ينتج أخطاء فادحة في فهم قصة الثورة. ليست مشكلة الدولتيين مع الثوريين أنهم منحازون للإسلاميين، وإنما كونهم هم، أي الدولتيين، يعادونهم هم أنفسهم.

فالمجلس العسكري هو نفسه تحالف مع الإسلاميين سابقاً، أي الإخوان في ما قبل مرسي وحزب النور السلفي في ما بعده. وبتعبير الدولتيين الفج، فمشكلة التيار الثالث أنه "يساوي بين الجيش والإرهاب". وبالتالي فهم من وجهة نظرهم "ينحازون للإخوان".

ولا ننسى أن الإخوان أيضاً، أيام حكم مرسي، اتهموا الثوار بأنهم حلفاء الفلول. وهذا كان صحيحاً أيضاً، فـ"30 يونيو 2013" كان يوم نزول الثوار والفلول وضباط الشرطة للانتفاض ضد حكم الإخوان المسلمين. قصة 30 يونيو شديدة التعقيد. فمن جانب هي انتفاضة الدولة القديمة ضد ثلاث سنوات من شعارات الحرية. ومن جانب آخر هي نتاج تبرم المجتمع، بثواره في الأساس، ولأول مرة في تاريخه، من شعارات الإسلام السياسي. ومن هنا نتجت المفارقة. 30 يونيو التي كان مفترضاً أن تكون ثورة مضادة ونهاية للثورة، قوّت أسطورتها: الثورة خلعت رئيسَي جمهورية متواليَين، ومؤيدو السيسي يظهرون الآن دلائل على القلق من أن يكون الثالث في الطريق (والصيغة الإصلاحية الشائعة التي تُظهِر هذا القلقَ يُعبر عنها في فعل أمر يُوجه للسيسي: "انجح لأن مصر لن تحتمل سقوطك").

لدى الجميع الآن يقين غامض بقوة الشعب. وهذا يشمل حتى مَن فوضوا السيسي بغرض القضاء على التظاهرات، فهم يعون أنهم، كشعب، جزء من المعادلة، وأنه لا يمكن للسيسي أن يخون آمالهم، لأنهم هم مَن تحركوا وأتوا به. هذا وعي مستبطن تماماً في دواخل مؤيدي السيسي. السيسي ليس عبد الناصر الذي نزل على الشعب فآمن به. السيسي آمن به الشعب فجاء رئيساً لمصر. والشعب مزاجه متقلب.

هكذا بالتدريج تتحول الحرب الثنائية التي طالما شهدناها إلى شيء أكثر تعقيدا، حرب ثلاثية وربما رباعية أيضاً، (لأن انشقاقاً حديثاً لاح بعد براءة مبارك بين الدولتيين من مؤيدي 25 يناير والدولتيين من أعدائها). هذه الأيام يبدو التيار الثالث شديد التمايز، متمايزاً كما لم يكن منذ قيام الثورة، يعادي السيسي ولكنه شديد الضجر من تظاهرات الإسلاميين. يتعاطف مع الإسلاميين فقط في حالة اعتقالهم أو قتلهم، ولكنه غير مستعد للنزول معهم في أية تظاهرة، ولا يفعل سوى أن "يشاهد" المعركة بين قمع الدولة والتفجيرات الإرهابية. كان مقرراً ليوم 28 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي أن يكون يوم "الثورة الإسلامية" ضد حكم العسكر.

ولكن الانتقادات توالت ضد هذا اليوم، من جانب أبناء التيار الثالث، ثم من جانب "الإسلاميين المعتدلين". وبالمحصلة لم تنزل مجموعات ذات بال في "الثورة الإسلامية" المفترضة. التيار الثالث الآن منكفئ على الفايسبوك، يكتب ويناقش ويحلل ويسخر. وبين الحين والآخر، تخلع فتاة جديدة حجابها، تنتشر نكتة جديدة ضد السيسي. الثورة الآن تتحول لما يشبه طاقة ثقافية. والله وحده يعلم إن كان بإمكان هذه الطاقة الثقافية أن تتحول لمكسب سياسي.

السؤال المهم الآن بالنسبة للثوار، ويوجهه لهم أعداء الثورة وأصدقاؤها على السؤاء: لماذا لم يُتهموا ولا مرة واحدة بأنهم حلفاء أنفسهم؟ الإجابة تكمن في الحقيقة البسيطة، التي هي ميزة الثورة ومقتلها في آن واحد، الثوار غير منظمين ولا قادة لهم. واحد من أسباب الضعف التنظيمي للتيار الثالث هو فردانيتهم (بلغة أصدقاء الثورة) أو ذواتهم المتضخمة (بلغة أعدائها). نتيجة لاستحداث زر "لايك"، وزر "شير" على الفايسبوك، بجانب أسباب أخرى بالطبع، تكونت ذوات متضخمة لدى الثوار. أصبح هذا تياراً ثورياً يريد أغلب من فيه الظهور، وحيازة أكبر عدد من المعجبين ومدوّري الكلام، وهذا السبب جعل العنصر "الفرداني" في هذا التيار هو المكون الأقوى، بما طرح ذلك من نتائج متناقضة، منها عدم تكون "أصنام" لدى هذا التيار، بالإضافة لضعفه وعدم قدرته على تقديم حلول، لأن كل حل يُقدم سرعان ما يقابل بالتشكيك من أبناء التيار نفسه، فيفقد بالتالي زخمه. الشعب الثالث، شعب الثوار، معاد تماماً لفكرة الرموز. هو أكثر تيار فرداني وناقد لنفسه في مصر الآن، بما ينجم عنه ضعفه وعدم قدرته على تنظيم نفسه، وبالتالي عدم قدرته على حيازة مكتسبات سياسية ملموسة.

الجميع خائفون
في لقاء للسيسي مع الفنانين والمثقفين، ورداً على سؤال حول التظاهرات المتكررة، قال إن مبدأه هو ألا تلهيه الضجة عن العمل الجاد. حرص السيسي في البداية على الظهور بمظهر اللامبالي بالتظاهرات، مظهر الحكيم قليل الكلام. ولكن السيسي خائف هو أيضاً. في لقاء له مع الإعلامي إبراهيم عيسى والإعلامية لميس الحديدي، حذّر من تسمية الجيش بـ"العسكر"، لم يسهب وإنما قال إن الألفاظ تفهم حسب مدلولاتها لا حسب معانيها الحرفية. كان السيسي هنا يشير إلى التظاهرات التي اندلعت تحت حكم المجلس العسكري وكان شعارها "يسقط يسقط حكم العسكر". السيسي كان خائفاً من الكلمة ومن تاريخ قديم لها. وعندما تحدث في تسجيل آخر عن "أربعة أقسام" للموازنة، رفع أربعة أصابع أولاً، ثم رفع إصبعاً خامساً. لماذا رفع خمسة أصابع وهو يتحدث عن أربعة مشاريع؟ ببساطة شديدة، لأنه فكر لحظتها في احتمال ظهور فيديو يأخذ عنوان "السيسي يرفع علامة رابعة". السيسي كان خائفاً من السخرية منه، وبالتالي من سقوط هيبته.

ما الذي يحتاجه السيسي إذًا حتى يستقر حكمه؟ يحتاج لأمر من اثنين: إما أن يصبح بطلاً في أعين الناس مثلما كان عبد الناصر، وهو ما يبدو شديد الصعوبة الآن، نتيجة لتهالك أجهزة الدولة وللفقر المعرفي لكوادرها، ولعدم رغبة السيسي نفسه في الدخول في صراع مع أي منها. أو أن يصبح موظفاً منسياً مثلما كان مبارك في التسعينيات.

ولكن النسيان ليس سهلاً، وبالتالي الاستقرار. فالاستقرار يتطلب أن ينسى الناس قصة الثورة، وهذا يتطلب وجود نخبة ثقافية جديدة تُنسي الناس قصة الثورة عبر اختراع قصص جديدة تماماً. ولكن أزمة الحكم في مصر أن النخبة الجديدة تكونت بالفعل قبل الثورة بسنوات، وهي نخبة الإنترنت، الشعب الثالث، الذي هو لسوء الحظ غير مقتنع (أو غير مبال) بالأفكار التي يطرحها المروجون للنظام الجديد. هناك فارق كبير بين النخبة الجديدة التي آمنت بعبد الناصر في ما سبق والنخبة القديمة التي تؤمن بالسيسي الآن، مثل الفارق بين الإعلامي الشاب محمد حسنين هيكل في الستينيات والإعلامي إبراهيم عيسى في 2014. نخبة عبد الناصر كانت نخبة جديدة، وخطابها كان ملهِماً، والقطيعة مع العهد الملكي كانت واضحة، أما الآن فنخبة السيسي تروج لأفكار قديمة، وهي معروفة من قبل الثورة بسنوات، ولا تحوز مصداقية بين متابعيها. والقليلون الذين لهم مصداقية بين أفراد هذه النخبة، يتبرمون هم أيضاً من نظام السيسي.

المعركة الآن تبدو صفْرية تماماً، جميع الأطراف خائفون وجميع الأطراف يحسبون حساباً للأطراف الأخرى. حتى الدولة خائفة، رغم صلابتها الظاهرية. التوتر شديد ومكتوم. لهذا فهناك استبطان قوي لكارثة قادمة في الطريق، لأن تجربة السنوات الأربع الماضية علمتنا أن بإلامكان اشتعال الفتيل فجأة. الله يستر!

 

(naelaltoukhy.blogspot.com)

(عن جريدة السفير)