تستبد قضايا الهوية اليوم بالهموم النظرية والعملية في المشهد السياسي والثقافي المعاصر. ويرى الكاتب أنها متعالقة مع الحوار أو "صراع الحضارات"، وأن تأصيل الهوية اللغوية ضمن التحيز ليس فعلاً إيجابيا ولا سلبيا، بل هو من نسق آخر مفارق لمركزية الفكر وهيمنته.

مدخل تأسيسي لقضايا الهوية والتحيز اللغوي

مراد ليمام

سرت العادة في التفكير الكلاسيكي بأن يسند مقول القول إلى صاحبه انطلاقا من البداهة الظنية المتمثلة في سيادة الاعتقاد القائل بأننا نؤلف وحدة ما نقول حين تلفظنا، آخذين على عواتقنا فعل التأليف. غير أن التطور العجيب الذي شهدته العلوم الإنسانية منذ أزيد من قرن، أفضى إلى تناسل اتجاهات تحظى بشرف السبق والاستئثار في وضع اللبنات التأسيسية وتخطيط الإجابات الواعدة للغة المحملة بالقصدية والبعيدة تمام البعد عن معاني المعاجم لتحتضن دلالات المتكلمين. ففي إطار السعي الحثيث لصك نظرية تتجاوز التصور الذاتي الذي يروم نحو مقام الإفصاح عن فرادتنا حينما نتكلم، برزت تصورات ترمي تفكيك هذا الوهم ببيان أنه ربما يوجد في كل ما نقول أصوات عديدة، بل إن الملفوظ نفسه قائم على جمهرة من الأصوات؛ صوت المتكلم وصوت القائلين الذين يعبرون عن وجهات نظرهم من خلال التلفظ المتكئ على جريان أشكال لغوية لا يمكن أن تزداد دون أن تتغير طبيعتها بين متكلمين يعيشون في مجتمع ما. فالمعطى التصوري للملفوظ لا ينحصر في كونه نسقا منتظما محكم التناسق وإنما حوار بين ملفوظات مختلفة.

انطلاقا من هذه الملاحظة، نستنتج أنه ينبغي إقامة الملفوظ في علاقة مع حقل مجاور يحوي ملفوظات أخرى بوصفها خطابات داخلية، وكأن الملفوظ هو ذاك الجزء من الكل الذي يحدد بنظام الخطاب، قابل لأن يشتغل بذاته ويقيم علاقات مع عناصر أخرى مشابهة له. في هذا الاستعمال يشير نظام الخطاب إلى ذلك النسق الكفيل بإنتاج الملايين من مقامات التلفظ المتقدمة، والتي تعكس مختلف غايات الإنسان بوصفه كائنا عاقلا ولغويا يستطيع بفعل قدرته تأسيس وجود محكوم بطموحات ذات طبيعية اجتماعية وسياسية وأخلاقية. فما يصنعه الإنسان ويقيمه ويسعى إلى تطويره باستمرار يوسع مجاله الثقافي والحضاري.

فالثقافات والحضارات باعتبارها أساليب حياة، تترجم ضروبا من السلوك والتفكير تمارسها المجتمعات في طقوسها الاجتماعية اليومية على شاكلة تمثيلات لفظية تشكل مصدرا للمعرفة بالذات والعالم والآخرين. إن روح الحضارات المجسدة في العادات والمواقف والعلاقات هي التي تنظم كيفية عمل الثقافات بكل منها، فأي تغيير في روحها يؤثر في المؤسسات التي تدعم الروح وتجسدها. وبتعبير أدق؛ إن جوهر الحضارة الممثل في فهمها الذاتي لأصلها ومصيرها هو ترميز لغوي، إذ لن تمتلك أي وحدة أو سلامة من دون ذلك.

لن يقوم نظام الحضارة والثقافة كما نتصوره إلا على الأساس اللغوي. ولعل أكبر مظهر لتصورنا هذا هو تفكيرنا في الإرث المشترك من الذكريات والعادات التاريخية بوصفها نظاما حضاريا شاملا لأنساق جاهزة من الأفكار والقيم ... لا يتحقق ٳلا عن طريق التقاليد اللغوية المشتركة والمنقولة. ٳن أول نقطة يرسو عندها تصورنا تكمن في أن الفهم الإنساني للحياة داخل ٳطار حضاري ما، ينبني على أساس شبكة التعبيرات والتمثيلات اللفظية التي تمنحنا إياها اللغة، حيث ترسم تلك التمثيلات شبكة من البنى الرمزية تؤطر دلاليات الفهم الإنساني وفعله في اللحظة التي تتولى الذات أمر العناية بها من منطلق أنها تشكل هويتها، على أن الهوية المقصودة هنا هوية لغوية.

فاللغة تمنح للموجودات الموضوعية تمثيلات لفظية ترادف الحقائق الأنطولوجية التي تسبق العالم، مادامت تترجم الشروط المنطقية لكل تجربة ولكل وعي. من هنا يصبح للوجود معنى لغوي يطابق حالة الشعور والوعي، ٳذ ليس هناك وجود آخر خارج تصور الوعي اللغوي أو من أجله يصير الموضوع موضوعا ٳلا ٳذا كان على علاقة باللغة والفكر. ٳن هذا الأخير غير قابل للالتقاط وهو في حالة من التساوي الكامل مع الذات مادام متجردا من كل طابع ومن كل تعين ، فالفكر على هذا النحو ليس له سمة مميزة ٳنما هو فراغ كامل. أما في اللحظة التي يقرر فيها مبارحة حالته الأصلية، فإنه يصير كلاما ضمنيا. مما يعني أن الفكرة تولد مع لفظها، ولن يكون لها قوام ٳلا عندما تنفصل عن لحظة الفراغ المطلق أوالعدم. ٳن الدعوة في أن يكون الإنسان هو ذاته تتطلب تجاوز فكرة التصور الشفاف للفكر أمام ذاته ، ٳذ لابد من فعل المغايرة في نطاق مسافة زمانية-مكانية يواجه فيها الفكر العالم الخارجي الذي يظهر في الآن ذاته داخله. ٳن الفكر موجود حين يخرج من نفسه ٳلى ضده، وحين يفعل ذلك لا ينتقل ٳلا إلى نفسه مادام هذا الضد نابعا من كون انفصاله لا يتحقق ٳلا وهو حامل معه كل ما ينفصل عنه.

ٳن الفكر الذي يواجه العالم الخارجي لا يواجهه بوصفه عالما خارجا عنه وٳنما هو كذلك داخل فيه. فعلى الرغم من كونه آخرا مفارقا له، ٳلا أنه خارج منه. ويجري في ٳطار الفكر الطامح لإشراك الخارج في صمته اختراقه بكلامه، فيغدو عندها التلفظ أخص ما تختص به هوية الإنسان. فكل منطوقات هذا الأخير تنفلت من عقال التعبير وتعلو فوق هباء تمثيل الأشياء ليصدح صوت الوجود المعبر عن المواقع النائية لمساحات العالم. ٳن ما نسميه فكرا ليس بالمعطى منذ البدء، بل لابد أن يخرج من ذاته ليواجه قوى العالم التي تتضاد معه باعتبارها أشياء غريبة عن حياته الخاصة وعن ذاتيته، غير أن انصرافه نحو التمثيلات اللفظية التي تستوطن الأنظمة العقائدية والدينية والسياسية تزوده بمرشد ودليل للحصول على فهم ذاتي. فكل مظاهر التمثيل اللفظي تخضع لترابطات وقوانين وقواعد معينة تشمل ما في الحياة من تبدل وتغير وتطور وسيرورة، فهي المعادل الموضوعي للبنية الثقافية القائمة بالألفاظ والترميزات التي تنقسم وتتشكل دوالا وفق ضرورات الفكر. بالتالي يصبح البحث في الوجود الٳنساني بحثا في رد فعل الفكر المقذوف به في نظام من أنظمة حضارة التعبير والتواصل اللغويين، والتي تشترط اندماج وامتصاص كل التمايزات الخطابية داخل هوية لغة واحدة يكون فيها المتكلمون مشتركين في تصور المعنى الأساسي الذي يمكن من تشييد صرح نظام الخطاب.

على هذا الأساس لا تبقى للرموز اللغوية حيادية ما مادام التفكير يعمل داخل الترميز، أي في خضمه حيث التلفظ هو مرجعيته ذاتها فيكون الملفوظ المنجز بعلاماته هو ما يعنيه معناه؛ فالثقافي والفكري يترعرعان على الزاد اللغوي. بدون ريب يتمتع العالم بوجود قبلي سابق على فعل التفكير نفسه، أما ما يأتي به الفكر حين تخارجه فهو البرهان على حضور هذا الوجود بوصفه ٳمكانية لغوية للتفكير، فيكون حاصله من جنس اللغة المعروضة في سياقي الزمان والمكان، قابلة لسرد قصة تكوينها في وسط تاريخي وجغرافي هو محل انتاجها.

فعندما ننظر إلى اللغة من خلال المبادئ المفسرة لاشتغال الألسن باعتبارها فكرا ينتمي إلى واقع ما، نستنتج أنها تعكس صورة منه. من هنا بالضبط يقطع كل لسان الواقع كما يشاء وينظم المعقولات ويولد تأويلات العالم، فالمدلولات اللسانية ليست متطابقة من لسان لآخر طالما اللسان هيكلة للواقع وتقطيع تصوري لمعطيات العالم، على أن تعقيد العالم يؤدي حتما إلى تأويلات متباينة. ويقودنا هذا النوع من التحليل إلى المطابقة بين الفكر واللغة شريطة الإقرار بأن الأفكار المولدة نتيجة فعل التفكير هي أفكار ذات بنية خصوصية تتمايز حسب طبيعة الألسن التي تلتقط المظاهر المتنوعة للواقع لتنظمها بأجدر ما يناسب كتجسيد للوسط الحضاري أو نظام الخطاب الكفيل بتوليدها.

حسب هذا المنظور، يصبح اللسان طريقة تمثيل خاصة للفكر في الواقع طبقا لانتقاء خاص يتم وفق وجهة نظر معينة، تختزنه الذاكرة الجماعية بوصفه سلسلة من القيم التي تمتلكها الذات وتحينها العلامة اللغوية في حقل ثقافي يعبر عن تجربة إنسانية شديدة الخصوصية. فالواقع بعملة البدائل يتجاوز الفكر وعلاماته الملحوظة والمجسدة له. لذلك لا نغالي ٳن قلنا ٳن التجربة الإنسانية قاصرة عن استيعاب الكم اللامتناهي للمعطيات التي يوفرها العالم بموضوعاته. على هذا الأساس تغدو منجزات الفكر المجسدة في علامات الألسن انتقاء خاصا يترك بالضرورة سلسلة أخرى من المعطيات جانبا، مادام هو بالأصل غير قادر على اعطاء تمثيل كلي وتام للعالم الخارجي دفعة واحدة. ويقودنا هذا التمييز نحو الزعم بأن التمثيلات اللفظية للسان ما ليست سوى استبعاد لمعطيات بعينها وانتقاء لأخرى اتخذت شكل بنى رمزية استقرت عليها الفعالية الإنسانية، حين انتاجها لذاتها في ممارستها الفعلية وفق ما يفي بحاجاتها ضمن وسط جغرافي ومرحلة تاريخية اجتماعية تعكس بالضرورة رؤية الإنسان للعالم وطبيعة علاقته بالأشياء.

ٳن كل إبداع ثقافي فرديا كان أم جماعيا رافد من روافد الأفق الفكري واللغوي المرهون بظروف تاريخية واجتماعية محددة. فالقيم الثقافية هي بالضرورة قيم إنسانية من منطلق أنها تخص الإنسان، لكنها تتمايز بتمايز السياقات حيث تختلف جذريا مظاهر السلوك الاجتماعي اليومي التي ترتدي أشكالا محددة وخاصة في التطبيق العملي داخل كل مجتمع تبعا لعاداته وتقاليده وقيمه.

فطرافة المعنى في الحضاري والثقافي في أنه لا يمكن أن ينوجد بدون لغة وفكر مادامت بنية اللغة توجد سلسلة من التقطيعات المفهومية التي تؤدي إلى تشييد صلاحية الكون في العالم. فالمعايير الاجتماعية والتلميحات المعاصرة تشكل مخططات لفظية تستدعي صياغة المعارف والذكريات التي يتم استدعاؤها لتساعد الإنسان على استيعاب الحقيقة، مادام بناء المعنى تحدده قدرة الذات ومعرفتها بالأنساق. المعنى الحضاري والثقافي بنية ذاتية ترتبط بالمجموع المرجعي الذي تتضمنه التمثيلات اللفظية المندغمة بالفكر. كما أن المعنى المحدد هو تجربة شديدة الفردية يستحيل أن تتكرر بنفس الصورة طالما يظل صانعه ذو طبيعة زمنية ومكانية تحدد نقاط الأثر الإنساني التاريخي في نظام خطاب معين.

هكذا نلقى أنفسنا نشير إلى الأهمية الإيجابية والبناءة التي يوليها الناس للتاريخ المشترك ولمفهوم الانتماء المبني على هذا التاريخ. فالمغزى الذي يتضح هو أن لا أحد يستطيع التفكير من فراغ، بل لابد من مواقف ومعتقدات أساسية ومعينة تؤثر في طبيعة تفكيرنا. ٳن ما يسمى ثقافة أو حضارة يتضمن قائمة استثنائية ومحددة من القيم المخزنة في الذاكرة اللغوية الجماعية والتي يمكن أن تصوغ تفكيرنا. والحق أن الثقافة أو الحضارة الواحدة من الممكن أن تحتوي على تنويعات داخلية مضمرة. فما نعنيه بهما هو ذاك التقطيع المفهومي الذي ينقل الخارجي إلى ميدان الفكر اللغوي حيث تتقلص الممكنات الدلالية اللانهائية للعالم داخل ٳطار سقف دلالي موحد اصطلحنا على تسميته نظام الخطاب. يتأسس هذا الأخير على مصادر معينة للمعرفة بالذات والعالم فيثبت بعضا منها ويغيب أو يقصي أخرى، ليؤسس ثوابت يتلبس حالاتها ويبنين قيمها حتى يشيد صرحا معماريا صالحا لسكنى الجماعة. ٳنه نظام مندغم بمكونات الوعي الجمعي لجماعة بشرية ما، يتضمن مصادرة المطلوب حين تحيزه وغلبته على مصادر دون أخرى، فيسود وتحال ٳليه كل معرفة بالجماعة. فما يسمى بالثقافة يمكنها أن تسوق بضاعتها على أنها علامة مسجلة وحصرية تحت متطلبات الهوية اللغوية القائمة على التفكير.

فمهما أصاب مفهوم الهوية عند البعض من إهمال واهتراء فٳننا نؤكد على أن قدرة الفكر اللغوي على تصنيف معين يراعى فيه التحيز لأجزاء مقابل أخرى يولد بصورة معقولة شعورا بالهوية. والحقيقة أن الناس في العالم يمكن تصنيفهم وفقا للعديد من نظم التحيز مثل القومية، والطبقة، والمكانة الاجتماعية، والسياسة. لكن التصنيف العمدة الذي يحظى بشرف التقوم مؤسس على أن الإنسانية يمكن تصنيفها أولا وقبل كل شيء ٳلى حضارات، كل واحدة منها محكومة بنظام خطاب معين يعكس أشكالا محددة من الوعي الاجتماعي في مجال الدين والسياسة والأخلاق.

أخشى أن يولد تصورنا هذا لدى البعض ٳدراكا ضبابيا إلى حد ما، وهو ٳدراك ربما يرى في تصورنا دعوة ضمنية للتعصب والتطرف الذي كانت من تجلياته وضع ٳنساني بئيس يعكس ديانات متناحرة، وأنظمة فاشية متوحشة بالٳضافة إلى أحزاب وتكتلات لا يوازيها في فظاعة كثرتها سوى هول تناقضاتها والرفض المشترك لبعضها البعض. لذلك نميز في هذا الصدد بين التحيز باعتباره صانع نظم الخطاب واختلافاتها الهوياتية طبقا لتصنيفات المعرفة الإنسانية كما سلف الذكر، وبين التطرف الذي يحمل خصوصية الصورة المرآوية لهوية ثقافية ما فيسقطها على شمولية الإنسانية. ٳنه تصور مزيف للوجود يصيب صاحبه بتمركز ذاتي لا علاج له أو كبر معرفي يدفعه إلى الاعتقاد بأنه نوع فريد يخص الإنسانية الظافرة بشروطه، وكأنه استثناء تاريخي تعالى فوق التاريخ العام، بالتالي احتقار كل من لا يتحدث عن الوجود بلغته المفاهيمية.

لقد أنتجت المركزية الغربية -مثلا- من نفسها مركزية فكرية تدعي الكونية والحداثة، فحملت خصوصياتها المثالية لنمذجة المجموع الإنساني، فرمت كل ثقافة لم تحاكي دوافعها النمطية في التحقيب الحضاري -الذي يفهم في ارتباطه بأفقها التاريخي- بالبربرية والرجعية والتخلف التاريخي. أفضت هذه النظرة الاختزالية إلى نفي دور الثقافات الأخرى في بناء الحضارة الإنسانية، ويظهر ذلك جليا في تقديم أسطورة المعجزة اليونانية وربطها مباشرة بأروبا باعتبارها مصدر التوازن التاريخي بين الجذور الضاربة في أعماق التاريخ والفروع الناهضة على سطوحه. وعلى ضوء هذا تفتقت مقولة الغرب المحملة بأسوء التعميمات وأفجعها، حيث أمسى التاريخ الغربي هو التاريخ كله والثقافة الغربية هي الثقافة النموذج والمرجع. تجلى هذا الحراك في تقويض الفسيفساء الثقافية والهوياتية الأخرى بإرغامها على أن ترتد في محاولة لتثبيت ٳبستيمية الأصل الغربي والواحد ذي الجذور الإغريقية. لقد سقطت المركزية الغربية في شراك التعصب لما حاولت الالتفاف على التعدد والتنوع وفق قوالب خصوصية صيرورتها التاريخية، والطامحة لإعادة ٳنتاج الديمومة كما هي ماثلة في نظام خطابها.

رغم جدارة محاولات التقويض وٳعادة الإنتاج التي استبدت بالمركزية الغربية الواقعة في شراك أمراض الهوية، استطاعت التلوينات الهوياتية الأخرى من أن تحافظ بشكل متفاوت على أولوياتها التفضيلية. لكن سرعان ما أصيبت هذه التلوينات بعدوى أمراض الهوية حين عملت على ترسيخ جدلية النقائض الدورية بين الأنا والآخر، فانتهت بالانغلاق على ضرب من الغائية المفزع. فلقد قادت أمراض الهوية الأطراف الأخرى إلى السقوط في مخاطر الانزلاق الثقافي القائم على الزج بنظم خطابها من مواطن التحيز الصحي إلى متاهات التطرف المرضي، حينما شرعت في ٳثارة احراجات الهوية. ٳن المجازفة بإعادة ترتيب متطلبات الولاءات الثقافية قادت من مساءلة الذاكرة الجماعية المشتركة وتطويرها إلى تشييد صروح واهية تقوم على مهاجمة تناقضات الآخر عبر نزعة سلفية طائفية. لم تضف هذه النعرات جديدا فيما يخص تطوير ٳمكانات الهوية سوى رفضها ما ليس منها وما هو مخالف لها، كما أنها محتاجة في الآن ذاته إلى العالم البراني والمعادي. ٳنها طفيليات هوياتية مادامت لا تولد أولوياتها التفضيلية من ٳنباتها الظافر لذاتها ومن تصوراتها التلقائية النابعة من حركية الفكر المتحيز لأناه. ٳنها أشباح هوياتية ليس لها أصل بل أيقونته المشوهة والمحرفة بعد أن أضاعت نظام خطابها وبعثرته بتصنع نظام فوقي لا يحيل إلى الواقع، خصوصا حينما تعدم في العلامة اللغوية كل مرجع سوى نقائض الآخر المعادي.

ٳن هذا التحقق المصطنع وهذه الجريمة الكاملة، تمت وتتم بتواطئ المركزية الغربية التي أرادت ٳلغاء كل الجوانب الحضارية والروحية للآخر، الذي كانت من ردات فعله أن اصطنع ثقافة هوياتية ترتاب من الحقيقة ومن الواقع وزئبقيته لفائدة استقلالية واهية، تقوم على مبدٳ التطرف والتصنع الهائل لمحددات الفعل القائم على المحفزات الخارجية.

لعل مشروع تثبيت العالم أو النزعة المحمومة بالفكر الأحادي والواحدي لم يقفا عند حدود المركزية الغربية، بل تم اختلاق ما ينوب عنها في دعوتها داخل الثقافات الأخرى بشكل يصب في مصلحتها في نهاية المطاف. ويكفي أن نحيل –مثلا– إلى الخطابات العربية الداعية ٳلى تفتيت عظام الجغرافيا حتى تتيه في المتعدد، مع زلزلة مسطح الذاكرة الجماعية الذي يغلف الواقع ويحميه؛ فتردم المرجعيات وتطمس وقائع التاريخ المشترك لفائدة الكوني. بل من العرب من تقوقع في شرنقة الاستهلاك الاجتراري للصروح المعمارية الغربية الموصدة الأبواب والنوافذ منبهرين بأدواتها ومفاهيمها، متشبعين في الآن ذاته بحس المقارنة التاريخية وبفكرة التقدم. عمل هؤلاء على ضم المفاهيم -بوصفها ٳطارات مقولية– بعد عزلها عن نظام خطابها، ثم حشوها داخل الواقع العربي انطلاقا من افتراض مثالي يقوم على مبدأ المماثلة الطامح في المضي قدما نحو مسار تاريخي لا مهرب منه، من أجل الظفر بمكاسب التقدم أو استيعاب مكتسباته دون قطع أشواطه التاريخية.

وٳذا كنا نرفض نظرية الحضارات المتبارية كما هي في عالم هنتنغتون المتخيل، فٳننا لا نثق وبنفس القدر في المخادعة الكامنة في برنامج الحوار بين الحضارات. ففي الصراع يولد الٳرهاب بوصفه الابن الشرعي لتاريخ من الدموية والتعصب، وفي الحوار الداعي للنمذجة وفق منطق الواحد والوحيد تدمر الثقافات في تطلعها إلى الكوني. الواقع إن الهوية الثقافية تموت حين تطرفها نحو الخصوصية وهو موت طبيعي في حين أنها تموت من فقدانها لكل الخصوصية ومن استئصال لكل قيم، وهو انتحار باسم الحوار المتطلع إلى المطابقة مع الكوني.

هذا الوضع الشامل يعطينا الحق في أن نموقع الهوية الثقافية فوق مسطح التحيز الواقع بين سكنى الحوار والصراع ، يتقاسم عناء التجربتين فيثبت عرش موطنه بينهما. ٳذا كان الأمر بهذه الطرافة والغرابة، فمرد ذلك أننا لا نثق في النظرة الاختزالية لفكرة الصراع أو الحوار وٳن كنا ضمنيا ننحاز إلى الحوار القائم على التثاقف ضمن فكرة الاختلاف المؤسس لمنطق الهوية المنخرطة في سيرورة التحيز.

ومادمنا بصدد الحديث عن ٳثبات مقومات الهوية الثقافية القائمة على فكرة التحيز عموما واللغوي خصوصا، وفي ٳطار تشييد صلاحية نظام الخطاب المتكئ على التحيز اللغوي والداعي ٳلى تخصيص جديد يدنو من فكرة الحوار بقدر ما يبتعد عن فكرة الصراع مع الآخر، نرى أنه ينبغي الٳقرار بحتمية التحيز بوصفه الخطوة الأولى للانفلات من القبضة المهينة لنظام الخطاب الغربي. ٳن نكتة الٳشكال تكمن في أن علينا أن نجيب عن أسئلة تخص سبل تطوير إمكاناتنا الهوياتية والمرتبطة براهنيتنا مع ٳمكانية الاستفادة من منجزات التجربة الحضارية الغربية وسبل نظرها العقلي. ٳن تعاملنا مع منجزات الحضارة الغربية في الميادين المعرفية يستلزم ضربا من اليقظة لا سيما عند هجرة المصطلحات في ميادين العلوم الٳنسانية من المناخ الثقافي والأرضية اللغوية التي ترعرعت فيها ٳلى لغة أخرى. فلقد ترتب عن انتقال العديد من المصطلحات ٳلى البيئة العربية دون خلخلتها عسر في التوظيف المفهومي ، لأن التشكييل الحضاري للمفاهيم والمصطلحات هو بالضروري تحيز لغوي لعلاقة الدال بالمدلول وفق نواحي نظام الخطاب.

ٳن الربط بين الدال والمدلول ليس بالهين، فالمدلول تقطيع للواقع وتنظيم للمعقولات وتوليد وتأويل للعالم طبقا للأنظمة التي يندرج فيها، متضمنا في طياته حمولة تاريخية وثقافية من الصعب أن يفصح عنها التقطيع الصوتي الموافق له، ما دام الدال بنية سكونية خارج الزمن. ٳذ يستلزم التعبير عن مدلول مركب الاختيار من بين عدد لا بأس به من الدوال، لأن إيجاد المكافئ الصوتي للمعنى يتطلب انتقاء واستبعادا وتهميشا. في إطار هذه العملية يحصل قدر من التحيز إما للدال على حساب المدلول أو العكس. فالعلاقة بينهما أبعد ما تكون عن البساطة، فالدال ليس أمرا واضحا محدد المعالم بل هناك معناه الظاهر وتضميناته الكامنة. أما المدلول فهو الآخر غاية في التركيب قد يشير إلى حالة عاطفية أصلها إما مادي أو عقلي، ومحاولة الربط بينهما ليس بالأمر الهين والبسيط ما داما مؤطرين بمقولتي الزمان والمكان الإنسانيتين. كما أن بنية الدال بنية لغوية بينما بنية المدلول تاريخية اجتماعية متحركة ومتغيرة. على هذا الأساس تصبح عملية اختيار الدال للمدلول أوالعكس عملية اختيار وإبقاء وتأكيد واستبعاد وتهميش وتحيز.

ختاما، تستبد قضايا الهوية والتحيز اليوم بالهموم النظرية والعملية متحولة ٳلى جزء لا يتجزأ من المشهد السياسي والإعلامي والثقافي المعاصر، بعد أن كانت شأنا داخليا يخص كل جماعة. ولا شك أن ٳثارة قضايا مثل هذه ليست بالأمر الهين لاسيما وأن ٳعادة فتح سيرتها تصطدم بنظرية متميزة الضخامة ٳما عن الحوار أو الصراع بين الحضارات. لذلك حاولنا التأصيل لمفهوم الهوية ضمن منظور التحيز، على أن التحيز ليس ٳيجابية ولا سلبية ولا بديلا، بل هو من نسق آخر. ٳنه من جنس الذي يفشل كل فكر وحيد مسيطر لكنه ليس فكرا مضادا أو وحيدا، ٳنما هو ابتكار للمبدٳ ولمبادئ المبدٳ الخاصة به.