تغوص القاصة العراقية في العالم الداخلي لامرأة توشك على الشيخوخة في المنفى مقلبة أمانيها وحلمها في العثور على حبيب يشبه حبيب صباها الراحل. وتحدث تلك الصدفة في حافلة عمومية فتدخل في صراع بين تمردها القديم على مجتمعها وترددها لرسوخ القيم القديمة التي تمردت عليها في بيئة المجتمع الغريب الجديدة.

صدفة أحنُ إليها

ناهدة جابر جاسم

ركضت لاهثة لكي ألحقَ بالحافلة. نجحت بتسلق درجاتها الاثنتين باحثة بعيني القلقتين عن كرسي فارغ. كانت الحافلة  مكتظةً بالركاب وكل راكب كان مشغولاً بعالمه وشأنه إلا أنا فقد كنت مملوكة لشعور راودني في أزمنة وأمكنة مختلفة.  في صباي وشبابي وترحالي في مدن وعواصم دول مررت بها قبل استقراري الأخير هنا في الدنمرك، أو زرتها في سفر. شعور عنيف يجذبني في الحلم والواقع أن أصادف حبيباً أحس بقربه ونبض قلبه فتذوب  روحي بروحه وأتجلى بعشقه حد الثمالة.  كأنني امرأة خلقت لكي تَعشق ونُعشق!.

وفيما كنت في نشوتي من حلمي  شعرت بعيون تتفحص جسدي الممشوق وبشرتي السمراء وعينيَ السوداويين. كان الكرسي فارغاً بجانبه، تزحزح ليترك لي مجالا كي اجلس جواره.

شعرت به وكأنه يناديني بعينيه العسليتين الواسعتين اللتين تكحلاهما ابتسامة خفيفة غازلت روحي وقالت تعالي اجلسي هنا يا سمرائي وحلم حياتي!.

* * *

وسيماً، رشيقا، حيويا وواثقا كان قلبي يراه. لون عينيه العسليتين كان سر انجاذبي وفرحي به. كانتا  تشبهان بل كانتا عيني حبيب صباي ورفيق رحلتي ..هما بكل الحس والكلام الذين كان يخدرني بهما في كل لقاء كنا نخطفه خائفين من شر عادات وتقاليد في سنوات ماضيات. كان يحتضن عدة رياضية وكأنه أم تحتضنُ طفلها الوحيد. طريقة احتضانه وتمسكه بها سحرتني. تملكتني سعادة خفية وخاطر حلمي في العثور على جوهرتي في الحب بزغَ شامخا سمعت صوتا يهمس لي:

- هذا حبيبك الذي حلمت به روحك التائهة.

  لوازمه الرياضية  أوشت لي انه لاعب غولف وهذه لعبة رشيقة احتكرها البرجوازيون والمرفهون  اقتصاديا. ومن خلال علاقتي العميقة بهذه الطبقة من المجتمع الدنمركي قدرت أو أوهمت نفسي بقد تكون هذه اللعبة تعويضاً عن حنين ودفء حضن حبيبة تمنح هذين العينين ما تستحق من غزل وتأمل وحب. تخيلته حتى ظننت أني سمعته يهمس  لي:

-  تعالي يا سمرائي وحلوتي أسكني قلبي..  فروحي ستمنحك ما تبحثين عنه.

 أربكتني عيناه وجرأتهما.

جلستُ إلى جانبه سامعةً نبضات قلبه وقارئة ما تريده عيناه. كان طائرا فرحا، رجلا تتمناه كل أنثى.

بغتةً انكمشت شاعرةً بأنني سجينة تقاليدي وتربيتي الشرقية التي تمردت عليها في سبعينيات القرن الماضي.

-                   ماذا أصابني أنا الغجرية، البرية، المتمردة على تقاليد مجتمع انبثقت من رحمه وكنت ومازلت  أمقته  لشدة احتقاره لبنات جنسي؟!.

-لا  أدري!.

هل العمر والتجربة والمخاض العسير التي عشتهما جعلا مني  إنسانة مترددة، متوجسة من كل جديد، ومتأنية في خوض أية مغامرة؟.

- لا لا لا تخافيأنت امرأة عجنت من التمرد على كل بالٍ وحقير.

قلت ذلك محاورة نفسي بصوت خافت .

مرت ثلاثون دقيقة وكأنها لحلاوة وندرة الأحاسيس التي شعرت بها كانت ثلاثين ثانية.

صراع  وأسئلة  وخوف من روحي التي أتوجس تمردها!.

فكرت أن أكون أكثر جرأة ومبادرة في التعرف عليه وطلب اللقاء به وكما فعلت في  عزّ  شبابي وثورتي في سبعينيات القرن الماضي حين اتصلت بحبيبي ورفيق تجربتي وطلبت منه أن نلتقي متعذرة في طلب مساعدته أو استشارته لحل سوء فهم حصل بيني وبين أخته التي كانت صديقتي

أنا الآن  أرملة  وأعيش وحيدة.. ما المانع؟!.

بين الحوار مع الذات والرغبة في اقتناص الفرصة كان الزمن أسرع من تكتيك  أخلاقي  وتوجسي من خوض تجربة عشق ورحلة مع حبيب ظننتُ أني عثرت عليه صدفة.

* **

لماذا الخوف والتردد؟ وأنا أرملة ..ووحيدة ..و غريبة.  أكرر وأكرر الحوار مع ذاتي..أنا حرة  الآن….  لا عائلة ولا وطن  أخاف  تقاليده ولا رفاق  أنصاراً  في وحشية حياة الجبل أخشى أحكامهم.. لماذا التردد؟ كوني جريئة يا أنهار!.

كنت في حلمٍ غير مصدقةٍ  أن هناك من أعجب كياني رغم علامات الشيخوخة و خطوط العمر المرسومة على تقاسيم وجهي. كنت تائهة بين الحب والسفر الروحي مع هذا الجالس بجانبي والتردد في أن أطلق قيود وحدتي ووحشة  أيامي. نزل وودعني بنظرة من عينيه، لم تكن من عينيه بل من روحه التي أحسست أنها تدعوني للرحيل معه في متاهة السؤال والحياة. نزلت في الموقف نفسه دون أن أشعر رافقته الطريق دون كلام.  رمقني بنظرة شعرت بفرحه وسعادته برفقتي. كانت السماء ملبدة بالغيوم. وقفنا تحت المطر ننصت متأملين الصدفة التي جمعتنا.

كان يتأمل بشرتي وينصت إلى  قلبي. وكنت أنصت بسعادة ونشوة غير مصدقة لصوته العذب و لهاث أنفاسه.. قليلاً.. قليلاً غرقنا مستمتعين بنشوة الصدفة غير مكترثين بالمارة فرحينَ بحوار العيون. شعرت بلذة ناعمة ودافئة داعبت روحي وهزت كياني، اشتعلت به وذبت

لاعنة حزني وخسارتي وبؤس حياتي قبل أن ألتقي به.

في لحظة نشوتي وصمتنا المتأمل في صدفتنا الكونية وحضور حلمي القديم الحديث باغتني بقبلة وضمني إلى صدره بشدة،  احتواني  كياناً وروحاً.

وجدتني أردد  بصمتٍ أغنية جنوبية من هنااااااااااااك!.

*     *     *

فجأةً ودون أن أعي  بادرته بالقول فيما كان يهم بالقيام من جواري باغياً النزول في الموقف القادم:

Du må have en god aften, og jeg håber at vi  snart ses

- أتمنى لك مساءً طيباً كما أتمنى أن نلتقي قريبا.

 قلت له جملتي لكني كنت واثقة بأني لن أجرؤ على اللقاء به مرة أخرى، أو ربما سألتقي به ذات صدفةٍ أو .... لا أدري

  آب  2008

 

* من مجموعة "العاشقة والسكير" صدرت عن دار الأدهم القاهرة 2014