يصور الروائي العراقي جانبا من محنة العراقي عقب الاحتلال من خلال شخصية مترجمة وجدت في ذلك الزمن الصعب، زمن تحكم الميليشات الدينية المندمجة بأجهزة الدولة الجديدة في جنوب العراق في سير حياة بشرها، والعالم الداخلي لروح مترجمة عراقية أحبت عملها لكنها تلقي مصيرا فاجعا كمصير وطنها المذبوح.

مقبرة الإنكليز (رواية)

علاء شاكر

إهداء أول *
لا بد لي يا أبي من أن أقدم شيئا ...أنت أصله

إهداء ثانِ **
إلى ما بعد ملك الموت ، إلى حفار القبور ...

تقول لي أغنية آتية

من جهة المقبرة

"إن الروح مهما امتلكت ستبقى تعيسة ..."

هذا العالم ليس بيتها

من أغاني فرناندو بيسوا

(1)

لا أدري كيف جرت الأمور، لكن الذي أعرفه أنها بدأت بعد منتصف الليل في ظلام مخيف، المسدس مثبت على رأسي من الخلف وأنا موثق اليدين ومعصوب العينين انتظر رحمة الله. أرى ما يحدث من خلال دائرة الضوء الوهمي التي تخترق الظلام؛ أربعة رجال ملثمون، سحبني اثنان منهم وأجلساني على الأرض، واحد منهم بقي قرب السيارة بينما كان الرابع داخلها ينتظر انتهاء المهمة لينطلق بهم.

 الكلاب وحدها كانت حاضرة في ظلام تلك الأرض المهجورة ومن الصعب أن أستجمع صورة واحدة لتلك اللحظة قبيل أن تخترق الرصاصة رأسي؛ الخوف أفقدني التركيز وكانت محاولات تذكر الأشياء الجميلة في عمري تتكرّر وتتسارع لتهون عليّ لحظة الرحيل.

لم يغادرني هاجس الموت يوما؛ أن يطرق بابي أحد ويأخذني ولا أعود أبدا، لم أتخيل بأي هيئة سيأتي الموت كان الرعب يتملكني من أن يُطرق الباب بقوة، كنت فكرت أنني ربّما وقتها لن أدع أحداَ يفتح الباب، كان الموت خلف الأبواب الموصدة في تلك الفترة والخوف دب في النفوس وسكن.

لم أسمع طرقا على الباب عصر ذلك اليوم ولكنّني خرجت على غير عادتي في أن أمكث في البيت إلى صباح اليوم القادم ساعة خروجي للعمل، فجأة استوقفني شخصان قبل أن أصل إلى الشارع العام تجمدت من الرعب عندما رأيتهما يسحبان مسدسين مخبأين تحت قميصيهما. لم يمهلاني لحظة واحدة للاستفسار بل اقتاداني من فورهما في زحمة المكان وعلى مرأى من الناس. شلَّ الخوف لساني فرحت انظر في وجوه الناس حولي، يائسا من أن يعترض أحدهم الطريق كان الرعب والعجز ماثلين أمامي ترسمه نظراتهم البلهاء، لا أحد يمكن أن يفهم شيئا مّما يحصل، كأن الناس تخدروا وهم يشاهدون رجلا حياَ وميتاَ في الوقت نفسه. تصوّرت أمامي شكل الرصاصة التي ستخترق دماغي بقوة وهي تحفر اللّحم والعظم.

في لحظة الصمت تلك عمّ السكون حتى الكلاب هدأ نباحها فجأة، كأنها كانت تتفرج علي. أطلق أحدهم الرصاصة دون أن أسمع لها دويا ولم أشعر سوى باختراق دافئ، أما الضوء الوهمي الذي كان يصلني من خلف القماشة السوداء فتلاشى عندما هويت بجسدي على الأرض مفكراَ في اللّحظة نفسها أن أجمد تماما حتى لا يشعر القاتل أنّني على قيد الحياة. أحسست بالبرد يخترق جسدي وبدأت أطرافي في التجمد لكنّني تماسكت وقتها، وما أن شعرت بأرجلهم تتسارع ركضا وانغلقت أبواب سيارة الموت حتى غادر الصمت أُذني وركضت بسرعة في حلكة الظلام كانت الكلاب تطاردني بنباحها. اخترقني الخوف مرة أخرى فارتفع جسدي عن الأرض وجدت نفسي أطير متّجها صوب الضوء المنعكس من نافذة تطل على الأرض المهجورة كنت كفراشة جذبها ضوء النار. دلفت إلى البيت من بؤرة الضوء وأخذت نفسا عميقا وأنا أطل على الموضع الذي غدرت فيه، لم تكن الرؤية واضحة من هناك.

 من النافذة نظرت إلى الساحة المقفرة القريبة من مقبرة الإنكليز، كانت محاطة بسياج حديدي تستره أشجار الدفلى، رأيت القبور التي برزت بشكل منتظم وانتبهت إلى تلك الساحة المحفوفة بالأنقاض. كان الوقت يشير إلى الثانية بعد منتصف الليل. الكلاب تطلق نباحا غاضبا وهي تجوس ظلام ساحة المقبرة، يصلني مع الريح الباردة التي تتسلل إلى الغرفة كأنه من الذاكرة.

 القدر ساقني إلى غرفتها، لا يمكن أن تحدث هذه الأشياء في الواقع، تحصل فقط في الأحلام عندما تكون الروح قادرة على اختراق مسافات طويلة وأماكن لا تخطر على البال لتقابل من تريد.

خطوت في ظلام الغرفة واصطدمت قدمي بهيكل من الخشب. كان الليل يوشك على الرحيل بينما حزم الضياء تتقدم مثل خيول بيضاء. اقتحمت الخيول النافذة وبركت على أرضية الغرفة ببياضها الخافت. بدت الغرفة في الضوء أشبه بجناح للعرائس. رأيت وجهها النابض بالحياة، مثل حوريات البحر نائمة كأنها عروس وقفت في مكاني خائفا من أن تفتح عينيها وتراني. خفق قلبي، هذه أول مرة أكون في حضرة ملاك نائم، وجدتها بملابس النوم، كنت مثل عاشق مغامر في إحدى روايات العشق تسلق نافذة حبيبته غير عابئ بما يحصل له بعدها أعرف أني لا أجرؤ على فضحها فيما لو كنت عاشقا، تمنيت أن أراها وأنا بحالة أفضل. الخوف والقلق أربكاني، خفت أن تصرخ فيهب من في البيت نحوي. أردت طمأنينتها أنّني لن أمكث طويلا.

 ما أصعب الانتظار، نفضت عنها وهي تنهض تراب القبر واختالت بجسدها النحيف، رأيت بياض قدميها وهما تغوران في نسيج السجادة كأنهما وردتان بيضاوان طافيتان على الماء. تراءى جسدها خلف قميص النوم، وطمعت في مغازلتها، لكني كنت أريد التأكد من حلمي أو موتي المؤقت.

لم تكن خائفة، حتى أنها لم تستغرب وجودي الغريب في مثل هذا الوقت، قالت كأنها تنتظرني من زمن طويل.

ـ أنت !

ـ أما سمعت إطلاق نار ؟

ـ لا

ـ أما سمعت نباح الكلاب ؟

ـ كل ليلة أسمعه، نافذتي تطل على هذه الساحة، كما ترى، وهناك مقبرة، تصلني أصوات الريح والكلاب والموتى.

 ـ على هذه الأرض المهجورة التي تطل عليها غرفتك، غدروني، أطلقوا رصاصة على رأسي، كأنهم يعرفونك، قتلوني بدم بارد والقوني هنا مثل حيوان، أمام نافذتك التي كنت أطيل النظر إليها، أراقبك، أرقب ظل جسدك وهو يتمايل خلف الستارة مثل غصن، هل كانوا يعرفون بقصتي معك، أي عدالة هذه ؟

ـ من هم ؟

ـ رجال موتى، أقصد القتلة الذين يشبهون الشياطين يرتدون بزات سوداء ويحملون مسدسات، وجوههم كالحة وأصواتهم غليظة بلا رحمة، أمّا قلوبهم فيملؤها الحقد وخلف هذا كله تربض إرادة عمياء تسلطت عليهم، ربّما ليس أمامهم إلا أن يصنعوا لنا هذه الجحيم وها قد فقدنا الإحساس بالأسى لوطأة ما يحصل معنا ، وكأننا اعتدنا الموت بدل الحياة، والسواد بدل البياض، والحزن بدل الفرح، والخوف بدل الأمان، لذلك ترين الناس وهم يبدؤون يومهم وكأنه لم يحصل شيء.

 ـ أنت تأسى على حالك كثيرا.

 طلبت مني الجلوس على سريرها، كنت محموما ولا أعرف سبب الحمى بالضبط أبفعل الخوف أم بفعل وجودي الغريب مع صبية على سرير نومها، حاولت أن تخفف عني بوضع كفها على كفي، كانت كفها باردة وناعمة تنزلق بخفة على جسدي ذلك الذي بدا لي خفيفا مثل ريشة.

(2)

نظرت إليها عندما بدأت تسرح شعرها وعيناها ترفرفان مع خفقات الستائر الشفافة أحسست أنها على حافة الانفجار وخشيت أن أتورّط في شباك دموعها لكنّها فاجأتني قائلة :"قبل أن أنام كنت أسمع أغاني الموتى تصلني عبر النافذة وأشعر بعالم آخر في كل مرة استلقي فيها على سريري حتى من غير أن أنظر صوب النافذة.

ارتسمت بسمة عذبة على شفتيها وهي تلتفت إلي فأخفيت ارتباكي ببسمة مصطنعة .

 هل تصدق أنّني منذ كنت طفلة يلازمني شعور بالرعب كلما فكرت في الخروج من تحت اللحاف! كنت أسال أمي عن الموتى وأتمنى لو أستطيع أن أطرد من رأسي حقيقة أنهم في البيت بالفعل غير راغبين بالعودة إلى قبورهم. طالما دفنت وجهي تحت اللحاف محاولة الدخول في جولة جديدة من النوم، كنت دائما أتذكر أن هناك مقبرة خلفي، فيحتك صوته الذي من دخان بالنعاس الذي بداخلي، يد مباغتة لشبح خفي تهزني فيما أحلامي تخترق الليل، تهزني فأصحو بلا وعي لأرى خيالات أجسادهم العارية بالمئات تتماوج على زجاج نافذتي بينما الريح ترقص الستارة والكلاب تنبح في الخارج. وغالبا ما كنت أجد أحدهم واقفا أمامي يرتجف في إحدى زوايا الغرفة المضاءة.

كانت تبحث عن شيء، مدت يدها قرب راس السرير، تناولت علبة سجائرها، سحبت سيجارة بخفة، وأشعلتها، نفثت دخان سيجارتها بقوة، أنزلتها من بين شفتيها، ماسكة السيجارة بين إصبعي السبابة والوسطى.

ــ هم تقريبا بعمري جميعا أي في حدود الخامسة والعشرين، إنهم خُطّابي المغرمون أشفق عليهم.

 من يقتل أحلامهم يا ترى؟ لا أعرف كيف أفسر الذي يحصل لي؟ شيء ربما له علاقة بالحظ والنصيب كما يقولون.

 كرهت الأوقات التي يُطرق فيها الباب، الطريقة التقليدية في الزواج، تأتي الأم والأخت والخالات والعمات ليجدن العروس ويفحصوها مثل أي بضاعة وعلى الفتاة أن توافق ما دام وجودها يسبب القلق الأكبر للأهل، من لحظة تورد صدرها وهم يقولون عادة "البنت زهَّرت"، وتدخل في عالم جديد تتلاطم فيه حياتها مثل بحر هائج، والمحظوظة التي تجد نفسها سيدة البيت من دون حموات معقدات تأخر زواجهن، كما يقول المثل «سفينة الشرايك مشت وسفينة نسوان الحمى غرقت» ... وكنت أفشل كل مخططات الصفقات، أفعل ذلك لأني أحب أن أقتل الأمل في داخل قلب أمي.

ـ لم تتزوج بعد؟

ـ ........

ـــ اعرف انك الآن بوضع صعب، صدقني وضعنا أصعب، ولعلك أكثر حظا...

أتعرف أني لا احقد على أمي، هي طيبة جدا، تفكر بعقل جديد لم يكن قبل اليوم.

ـ أنت تضحك!

هن يفكرن وفق أملاءات حديثة العهد، كل تفاصيل حياتنا أملاءات غبية، لا احد يستطيع أن يقف أمامها.

في اللحظة التي صحوت فيها كنت معكرة المزاج رغم أن الزائر الجديد كان هادئا ولم يقترب مني، قبل أن تحتك يده بي قلت في سري: أما كان له أن يأتي في النهار، يرتدي بدلته البيضاء وربطة العنق الحمراء، ويحمل لي باقة الورد التي أحبها، باقة ورد القرنفل الأبيض الملفوفة بالياسمين والآس، يستأذن أبي، فهو عادة ما يكون قبل الغروب في مكتبته؟ سوف لن يحرجه أبي، عكس أمي التي تريد أن تزوجني بالقرعة. يصطحبني إلى حدائق الأندلس، حيث العشاق هناك والمخطوبون. أيمكن أن يكون مجرد حلم من أحلام اليقظة أم خيال من خيالاتي التي أعيشها؟ الغريب إني حلمت كثيرا، ومع كل حلم يتكرر أزداد تعلقا به حتى إني لا أتوقف عن الحلم.

ــ لماذا تبدو صامتا مذعورا فاقع اللّون؟ هل ستقول لي إنهم يطاردونني وإنّني لست ميتا؟

ـــ أتظنين أنّني ميّت؟ ها أنا أقف أمامك بكامل جسدي، أنا أعرف شكل الميتين وأجسادهم البيضاء الباردة، كل ما في الأمر أنّني أنتظر الصباح لأعود إلى عائلتي، ستكون أمي الآن محروقة القلب.

ــــ تنتظر ! سيكون انتظارا طويلا قاسيا، إنه أصعب من انتظار في طابور طويل، أو انتظار سجين محكوم بالمؤبد استرحاماَ.

ــــ لماذا تريدين إقناعي أنّني ميت ؟

ــــ لأني أعرف...أنت لست الأول ولا الثاني ولا الثلاثين ... جميعكم تقولون الشيء نفسه.

 شعر بالارتباك وعدم التوازن فطاف مثل سحابة حول النافذة وتعلق بالستارة، اقتربت منه ونظرت في عينيه وجدْت أسئلة تحتاج إلى إجابة ولكني عجزت عن الإجابة أو التفسير، فوقفت مثله بدم بارد واكتفت بالنظر مثله إلى جهة المقبرة.

صحوت على أصوات البيت في الصباح، حركة الأقدام وهي تتسارع إلى الحمام والمطبخ وتنتقل بين الغرف. فتحت عيني ونظرت صوب النافذة ككل مرة، شعرت بثقل في رأسي عندما أزحت الشرشف شعرت كأني لم أنم، هكذا أنا دائما لكنّني أكون في غضون ساعة أقضيها بين الحمام والفطور والوقوف أمام مرآتي قد جهزت نفسي وتوجهت إلى العمل، وعند الباب سمعت أمي تقول وجدوا جثة هذا الصباح.

إنّه شاب بعمري ... التفت إليه وكان واجما.

قالت أمي الله يحمينا.

خرجت من البيت وسرت باتجاه نقطة وقوفي عند نهاية الفرع على الشارع العام أنتظر الباص، لا أخفي عليك أنا أشعر بالرعب كلما انتظرت الباص، المسافة إلى مكان عملي تستغرق دقائق بالسيارة، ولكن الوقوف في طابور طويل عند نقاط التفتيش تجعلها تستغرق ما يقارب نصف الساعة.

صعدت الباص لأجد حديثهم يتناول قصة الشاب المغدور، خبر الموت ينتشر سريعا، كأن الأمر موكل لملائكة السماء، والناس لا تسمع في هذه الأوقات إلا أخبار الموت، فهي تتصدر قائمة اهتماماتهم، ما يحاك لهم ويترك مساحة من التساؤلات والتعليقات... عبرنا ساحة الشهيد عز الدين سليم واجتزنا شارع المقبرة الفرعي ثمّ واصل الباص طريقه عبر الشارع الرئيسي إلى مقر عملي.

أخرجت من حقيبتي دفتر مذكراتي الصغير بلونه الأزرق الغامق كان يغلقه خيط أسود مثبت بغلافه... رفعت الخيط فتحت الدفتر على صفحة بيضاء جديدة ودونت عليها ما لم يخبرني به أحد أو ما أردت أن أعرف عنه، اخترت له اسما حديثا وجعلت عمره يكبرني بثلاث سنوات، ورسمت له شخصية كما أريدها متحررة وذكية ومرحة، أردته أن يكون مستقلا بأفكاره كافر بالتخلف الذي يغلف أيامنا.

أشاحت بنظرها عن المقبرة نظرت إلى وجهها الذي يشع قريبا مني وحاولت أن ألاحق أفكارها الشاردة بدت نظراتها حالمة وهي تقول: "أدون ما أصادفه وأجمع الأخبار لكتابة الريبورتاجات والقصص الصحفية عن الأحداث التي تمر بنا كل يوم...كنت أخطط لكتابة قصة صحفية جديدة.. من السهل أن نكتب عن موت الناس بدم بارد...ما أكثر القصص التي علينا أن نسردها فمهرجان الدم لا يتوقف، حتى الحياة صارت موتا آخر.

(3)

كنا نجلس أنا و(هانس وايمن) الصحفي الأميركي الذّي قدم منذ شهرين من أجل العمل على تأليف كتاب حول البصرة والدكتورة (بسمة) وهي أستاذة التاريخ بجامعة البصرة، في صالة فندق المربد بشارع الاستقلال. عرج بنا الحديث من دخول القوات الأجنبية مرورا بسيطرة القوى الظلامية وصولا إلى النزعة المحافظة المنتشرة بين طلبة الجامعة. انتبهت إلى رجل أربعيني بوجه غاضب، يسدد نظره نحوي، نظرة بلهاء من قبيل تلك التي تنتشر هذه الأيام على الوجوه الغريبة المنحشرة في كل مكان ... رغم أنه كان يشاهد على التلفاز أغاني الفيديو الكليب الصاخبة إلا أنّه حدَّق تحديقة طويلة أثارت مخاوفي حين نزعت عباءتي، وكنت البس قميصا ابيض ذا أكمام طويلة وتنورة جينز زرقاء، ملابس محتشمة لا تثير حساسية ضيّقي العقول.

إنتبه هانس إلى نظراته البلهاء وكنت أخاف من أن تثار شهامته التي دائما ما تظهر في غير محلها. نظر إلي هانس نظرة استفهام، حاولت أن ابتسم وقلت برجاء: "اعرف، تجاهله فقط".

كانت بسمة تتحدث وتحاول أن تتجاهل نظرة ذلك الرجل بصعوبة. في لحظة ما شعرت بخوف من أن ينفجر صاحبي الغيور وتملأ حممه المكان لم يتأخر هانس فصدقت ظنوني فورا عندما التفت إليه وقال له بحدة: "عندك مشكلة"؟

دمدم الرجل بكلمات لم يفهمها هانس وظل يحدق ببلاهة ... خفت أن يتأزّم الوضع فقلت لـ هانس: "انه يقصدني". وعدت لأرتدي العباءة خوفا من تطور الأمر... عاد الرجل إلى مشاهدة التلفاز وواصل التحديق المتلهف نحو إناث الفيديو وهن يحركن أعضاءهن وشعورهن بحرية لا تمارسها الواحدة منا حتى في أحلامها.

غادرت الدكتورة بسمة قبل نصف ساعة، وشعرت أنه من الضروري هانس من هناك. كان متوترا بعض الشيء عندما غادرنا الفندق، أردت أن أغير وجهته لشيء آخر، قلت له بوداعة: "أنت وعدتني بوجبة غذاء فاخرة".

ـــ عزيزتي نور وهو كذلك، أين يعجبك؟

ـــ لنذهب إلى الكورنيش، المكان هناك جميل وسأطلب وجبة سمك، هل تحب السمك ؟

ـــ أنتم غريبون، تحبون الحياة بجنون، إن تعرضكم للموت اليومي لا يوقفكم عن مواصلة الحياة، كل ما تقومون به يبشر بخير، أنتم شجعان عزيزتي.

ــ وأنت مجنون هانس.

ضحك ضحكة طويلة وغمرني بنظرة دافئة.

عقبت شارحة رأيي: ألست مجنونا؟

نحن لا مفر لنا من الاستمرار هذا قدرنا ولم نختره أما أنت فقد اخترت أن تكون هنا بإرادتك .. لماذا تركت مدينتك الساحرة وبيتك وزوجتك وحياتك التي أتخيلها الآن؟

ــ من أمام منزلي في منهاتن شاهدت أهوال الحادي عشر من سبتمبر، تصوري لقد كنت أشاهد البرج يتهاوى أمامي، صدقيني يا نور من الصعب أن تحافظي على نفسك من الانهيار، وهذا ما دفعني لأكون من اشد المدافعين عن حرب العراق بين الصحافيين الأمريكيين، الوجود الأمريكي في العراق لا يعني احتلالا أبدا.

ــ ذلك يحصل هنا يا هانس، عندما تجد جثة على الطريق لا ترى سوى روحك وقد سحقت، إنّنا نرى أنفسنا وقد هدها الموت، نحن ميتون هانس ... صحيح نحن كما ترانا نعمل ونتحرك، نأكل وننام، لكنّ نومنا مليء بالرعب كما هو صحونا كابوس ... تتصبب أجسادنا ليلا ونهارا بالعرق ونختنق وكأن أرواحنا في أفواهنا... الشاب الذي قتل في محلتنا بالأمس، وغيره كثيرون تقذف أجسادهم في المزابل وعلى ناصية الطرقات. شيخ الجامع بدل أن يصعد إلى منبر الجمعة يتلقى رصاصة في رأسه، الدكتور الذي يفكر أن يرجع إلى بيته ظل في عيادته والرصاص يخترق صدره، أستاذ الجامعة في الطريق تلحقه دراجة بخارية ليتلقى الرصاص.

 هنا يا هانس موت يترصدنا في كل مكان إنّه الانهيار المتتالي ما أشبهه بلقطة سقوط تكرّر نفسها وفي كل مرة يصاحبها ألم جديد.

من يدري لعلنا لا ندرك لحظة الإحساس بالموت الذي يصيبنا لأنه غالبا ما يكون مفاجئا لن نستطيع أن نخبر الآخرين كم هو محزن أن نموت بلا سبب ...

دخلنا العوامة التي يقدم مطعمها وجبات سمك لذيذة، سرنا وجلسنا إلى طاولة تتوسط الصف الثاني من صفوف الطاولات، جلست قبالة هانس، وخلفه النهر. كانت سفينة كبيرة تحمل صناديق حديدية زرقاء، لا أحد على سطح الباخرة، أسمع أصوات النوارس ومحركات القوارب الصغيرة التي تذهب وتجيء، تحرك العوامة بحركة خفيفة. شاشة عريضة تتوسط صالة المطعم تعرض كليبات منوعة. قدم المضيف لنا وجبة الطعام وكان الأكل لذيذا، أعجبتني طريقة مضغه، كان يمضغ بطريقة ساحرة وهادئة، كأنه ممثل هوليودي.

"كأس مارتيني من فضلك" قالها هانس وهو يمسح فمه ... ضحكت "آسفة لا توجد عندنا مثل هكذا خدمة".

ابتسم بوداعة والتفت إلى النهر، نهض ووقف قرب النافذة يشرب البيبسي كولا "ساحرة مدينتكم يا نور" رددها وهو يرمقني"مثلك تماما" هكذا قالها وهو يومئ لي بالقدح "بصحتك". رفعت قدحي وابتسمت. كان شاعريا ورومانسيا ولكنه بنفس الوقت كان عمليا. كان يترك لنفسه فرصة أن يستوعب ما يسمعه ويراه، إنه لا ينقطع عن العمل أو التفكير بما حوله، يدون ويكتب ويحلل ويجري مقابلات وكنا نعمل معا إلى أوقات متأخرة. كنت أرافقه في جولاته في المدينة وكنت أعرف أني أسير في حقل مليء بالألغام رغم الحذر. كانت آلاف العيون تترصد تحركاتنا، الخطر يقترب منا كل يوم من دون أن نعي ذلك، وكان هانس لا يبالي، كان يعتقد أن المهمة مخاطرة كبيرة ولكنها تستحق المغامرة.

كنت أخاف كلما خرجنا من مكان إلى الشارع، أشعر أن سيارة تقف على مبعدة، وثمة "ماسورة" تمتد من مكان ما، ستطلق الرصاص. كان يشعر بتوتري كلما سرنا معا، حاولت أن اشغل نفسي بمتابعة طيور البجع التي تسبح في البحيرة المسيجة قرب العوامة. خطونا سريعا إلى الشارع، توقف التاكسي الذي لمحنا من بعيد، واقلنا إلى الفندق.

(4)

كان يرسم عذابات روحه على زجاج النافذة، ووجهه مكفهر، ظل واقفا فترة طويلة، لا يلتفت إلي، يلفه صمت غريب، صوت الكلاب في الخارج يصل متقطعا بفعل الريح. لم استطع أن أدعوه إلى فراشي، كلانا يعرف أن الأمر يحتاج وقتا طويلا، ولكني كنت منصته له بكل جوارحي اتكئ بظهري على الوسادة النائمة على رأس السرير، أستمع إليه من دون مقدمات وأنا أداعب خصلات شعري.

تراجعت نور إلى فراشها وكأنها تبحث عن وضعية ما ربما كانت تركن إليها كلما داهمها شبح الموت وبقيت معلقا تتلاعب بي الرياح التي بدأت تعصف بالستائر من كل جانب كان مشهد المقبرة أمامي بقبورها المتناثرة ينبئ باقتراب النهاية ويعلنها حاولت أن أنادي شريكتي في الغرفة فغص حلقي ... كنت أشعر بالخوف من أن يتوقف كل شيء، ذاكرتي ظلت وحدها متوهجة، حرارة الأحداث جعلتها لا تفقد ديمومتها في إضاءة تلك الأوقات المظلمة التي مرت بي، قد لا أستطيع تذكر كل شيء فقط الأشياء التي حدثت أخيرا، نباح الكلاب، اختراق الرصاصة، الوجوه البشعة، الرعب، الخوف نفسه، لكن الذاكرة أعادتني سريعا إلى الوراء،عندما كنت جنديا برتبة عريف مخابرة، في وحدة عسكرية في شرق بغداد، كنت وقتها اجلس قرب الملجأ، طيلة ثلاثون يوما، وعندما يحل الليل، تبدأ طائرات الشبح تقذف بنيرانها لتحرق بغداد، أركض، تدك قدماي الحفر والمرتفعات هابطا وصاعدا وأحشائي تهتز داخلي مثل دراهم في صندوق، ومن فوقي اشتعلت السماء بنيران مضادة، ولكنها كمن تضرب أشباحا لا طائرات، تلك الليلة دكت الطائرات آخر معسكرات التصنيع العسكري الذي تحميه وحدتنا العسكرية، وكنت آخر الجنود الذين تركوا الموقع في غرفة متوحدا مع التوجس والرعب. ركضت عبر الأرض الزراعية المفتوحة أمامي ولكن الليل والظلام وضعا أكثر من جدار، والطائرات عزمت على أن تحيي حفلتها الجنونية لتقلب المصنع العسكري رأسا على عقب. تطايرت في الهواء الصفائح المحروقة يلحقها دخان كثيف واستحالت السماء إلى تنور كبير تؤججه الريح، وقتها كنت ارتجف من الخوف والبرد، وكنت أشعر بألم في رأسي، ألم شديد سيطر علي ولكني كنت في الظلام كمن يركض إلى ما لا نهاية. كانت السماء تحترق من جهة المعسكر، جلست أسفل شجرة رمان وكان لأنفاسي صوت واضح، الألم الشديد يكاد يفجر رأسي فجأة لمحت على بعد أمتار خيالات بيت كبير وشبح رجل سمعته يسعل، اقتربت منه وكان يلف جسده بعباءة من الصوف. وقفنا نحصي الضربات التي دمرت المكان وحولت المصنع إلى أرض سوداء.

بعد ليلتين في غرفةٍ بعرض ثلاثة أمتار وطول ثمانية، كنا خمسة أشخاص بملابسنا العسكرية، جاءت الأوامر أن نستعد ونكون بكامل قيافتنا. بعد الضربة الجوية التي دفنت المصنع تحت الأرض، هطل المطر بغزارة تلك الليلة. كان يرشق السقف والجدران وكنا مرهقين ومتعبين، كان خير الله مستلقيا على فراشه، عيناه مفتوحتان على السقف، وخليل ممدّد بجسده الضخم على السرير تحيطه هالة من الكآبة، صبيح ومحسن يجلسان إلى الطاولة يدخنان بلا مبالاة، وكنتُ أقف مسكونا بهواجس الترقب، لا أقوى على فعل شيء غير التنقل ببصري من مكان إلى آخر كانت الفوضى تبعث على الغثيان، البطانيات مبعثرة، البساطيل تنتظر قرب أعمدة السرير، سلة الزبالة طافحة، القصعة عفنة، أقداح الشاي ملوثة ببقايا السواد، أعقاب السجائر مبعثرة والوقت جمد تماما... انتبهنا إلى خليل وهو يصرخ ويسب قاذفا بسطاله على صورة الرئيس، تناثرت قطع الزجاج وهوت الصورة إلى الأرض. ضحك صبيح بهستيرية عالية، ومحسن جمد وجهه في الفراغ، جلست إلى الطاولة بتثاقل، أخرجت سيجارة ودخنتها. قطرات المطر أربكت الصمت وهي تنقر سطح الطاولة التي كنا نلعب عليها الورق، كنا نجتمع حول أقداح الشاي وسجائرنا وأوراق لعبنا. في النهار أشحن البطاريات لتضيء الغرفة ليلا، كان ليل الحرب أكثر ثقلا وحزنا، والضربات الجوية تدك الأرض فتسري رجرجتها إلى أقدامنا هناك. المطر لم يتوقف تلك الليلة، ظل ينزل مصحوبا بالحزن، والوقت سحق أرواحنا بمروره الثقيل، الثانية بعد منتصف تلك الليلة، وقفت سيارات عسكرية حمّلت البنادق والعتاد وأرواح الباقين من الجنود المجهدة، ونقلتهم في قلب العاصفة. في صباح اليوم الثاني وجدنا أنفسنا وجها لوجه مع الموت، لا نعرف من أين تأتينا رشقات الرصاص وقذائف الراجمات، الحرب الداخلية تبدو أكثر قسوة وضراوة من الحرب الخارجية، عندما لا تستطيع أن تضغط على الزناد وتدفع بالرصاص إلى قلب أخيك في المعركة، أول من سقط فيها ماهر الذي صحبني معه قبل يومين من الحادثة، كان ينوي أن يشتري حوض اسماك. كانت المرة الأولى التي صحبته بها، خرجنا صباح ذلك اليوم مبكرين ونزلنا في بيتهم. أجلسني في المطبخ وطلب من أخته أن تعدُّ لنا الفطور. كنت أسمع عزفا على البيانو، كانت العائلة تتعامل معي وكأني أعرفها، خرج الأب من غرفته يبحث عن ربطة عنقه، لم يستغرب وجودي المبكر في بيته ألقى التحية وعاد لغرفته، خمنت أن الأم نائمة، والأخت التي تعد الفطور ليست الرسامة التي أخبرني عنها إنما هي الأصغر سنا والتي خرجت توا من الحمام. رحبت بي بميكانيكية أليفة. حين خطوت صوب الغرفة التي دخلها ماهر، وجدت أخوه وجدي يعزف على البيانو، ورأيت ماهر هناك يبحث عن جوربه المفقود، ألقيت التحية على وجدي، رد علي بابتسامة ساحرة وسمَّعني مقطوعات منوعة. كان أصغر من ماهر ويفكر في إنشاء فرقة موسيقية. في ساعتين تعرفت على عائلة ماهر، لم يكن بوسعي أن أكرر زيارتي لتلك العائلة لكن بقي حلم يراودني كلما تذكرت أجواء ذلك البيت أن التقي بهم مرة أخرى. لم يكن ماهر وحده الذي سقط في تلك الأحداث،كانت المقاومة عنيفة في بدايتها، والأوامر العسكرية ترسل وحدات من الجيش لصد الهجوم ولكنها تنكسر أمام العاصفة. كانت فكرة واحدة تسيطر علي، هو عدم قناعتي بما يحصل، فتركت المكان وهربت... حاول أن يتلاشى في طيات الستائر ويغوص في نسيج القماش الناعم أراد أن لا يعيش تلك المعاناة مرّة أخرى أغمض عينيه بشدّة .. كانت هي تراقبه من هناك كان جسمها طافيا فوق السرير كأنها تفترش السحاب البعيد

(5)

لا أتذكر تلك الليلة ماذا أخبرني فقد أثقلني النعاس ونمت. نهضت متثاقلة من الفراش وألم في أسفل رقبتي، لا ادري لعلي نمت بطريقة خاطئة. لا اعرف أين اختفى تركته ونزلت، بعد نصف ساعة من وصولي لمكتبي اتصل هانس يستعجلني للقدوم إلى الفندق من أجل الموعد الذي من المفترض أن يحققه مع شيخ ورجل أعمال. كان هانس يحضر مادته التقريرية اليومية التي يرسلها إلى الصحف الأمريكية وتتألف من المقابلات الكثيرة مع المسئولين في المنطقة.

لم أذهب ذلك الصباح إلى هانس وواصل اتصالاته ورسائله كان يريدني أن ألتقيه في الفندق وكنت لا اعرف ماذا افعل تجاه عناده، لا.. شعرت بالأسى عليه لم يكن ليهدأ ولا للحظة أما أنا فكلما تذكرت رجل الأعمال ينتابني الغضب.

التقيت به في مكتبه عصر ذلك اليوم رجل ممتلئ الجسم بوجه لحيم يشع ازدهارا رخيصا، خداه منفوخان ولامعان، له ذقن مشذبة ومعطرة، على جبينه بقعة سوداء باهتة اقرب إلى لون الرماد، وكان حاسر الرأس يضع خاتمين في خنصره الأيمن وآخرين في خنصره الأيسر، مشذرة بالفيروزي والعقيق. عندما كنت أرفع بصري نحوه أجده يلتهمني بنظراته، استغرق وقتا طويلا وهو يتحدث عن فتوحاته ومآثره وبطولاته بغرور زائف كانت ترتسم على وجهه الشبيه باليقطينة ابتسامة لا تحتمل، هي ابتسامة من يعرف أنه يغلبك في الجدال، وفعلا كاد يغلبني. استطعت من الثواني الأولى أن أعرف مقاصده الدنيئة، كنت متوترة وشعرت بالضيق حينما دخل شاب ضخم يرتدي بدلة بموديل رديء وهناك على خده وحمة بحمرة قانية، أقترب من سيده وهمس في أُذنيه. لم يكن يهتم للموعد بل ركز بحديثه على نفسه، وعلى الفرص التي يستطيع أن يوفرها لي. في البداية تكلم بحديث طويل عن امتلاكه أرضا كبيرة يستطيع أن يشيد عليها قصرا جميلا، يحتوي على مسبح كبير، وسيغرقه بالتحف التي تأتي من الصين والهند، وستكون حديقة ونافورات وأقفاص تضم أنواع الطيور والحيوانات التي سيأتي بها من أفريقيا، فهو يمتلك إضافة إلى مزارعه الكبيرة أرضا واسعة يربي فيها النعام، وعنده معمل صغير لتصدير بيضها، ومعمل آخر لتصدير لحومها، ويضم القصر أيضا بحيرة أسماك صغيرة أستطيع أن أصطاد منها في أي لحظة سمكة وسيكون هناك طاه حاضر يجهزها لي في طبق. كنت أضحك من كلامه ولكني تمالكت نفسي مما جعله يعتقد أني أظهر له سروري، وبعد أن انتهى من تعداد قصوره وحدائقه الرنانة ومزارعه الغناء، واصل حديثه وهو يمسح فمه بورق نشاف، وبارجة كبيرة لتصدير النفط، ومصرفا دوليا كبيرا فيه جميع أرصدته الضخمة، ومستشفى يضم خيرة الأطباء وأحدث الأجهزة الطبية، يؤمه الأغنياء والشخصيات المتنفذة، وكانت أقداح العصير لا تتوقف تأتي مملوءة ومزينة بشرائح من البرتقال أو الأناناس لتعود فارغة. كان كرشه يمتلئ ويهبط وفي أحيان يمسكه بكلتا يديه خوفا من أن يسحبه إلى الأرض.

ـ شيخ ، مطلوب مني أن أنسق معك لقاء عمل ، السيد هانس ...

قاطعني

- أها ، الرجل الأمريكي، سوف نتحدث بهذا لاحقا، اسمعيني، فتاة مثل الوردة، ثمرة يانعة، تفاحة ناضجة، تحتاج إلى أيدٍ رقيقة، لا تبددي جمالك بالركض وراء المشاكل.

ـ انه عملي!

ـ أنت تتعبين نفسك، دعي هذه الأشياء لغيرك من الأغبياء، على ماذا ستحصلين؟ المعلومات قد تكون كاذبة، من يستطيع أن يخبرك بكل شيء؟ لا أحد، لا أحد، أصغي إلي، لقد نسيت الم أخبرك عزيزتي ... اسمك، عفوا نسيته، المسؤوليات كبيرة تفقدنا الراحة ..

ـ نور

ـ اجل، نور، بالإضافة إلى ما ذكرته فاني أمتلك أسطولا من السيارات، استخدمها لقضاء أعمالي الكبيرة، وكل ستة أشهر أستورد سيارة حديثة، وعندي سيارة شخصية أغيرها كل أسبوع لاحتراز أمني كما تعرفين، أما سيارات زوجتي فهي كثيرة، السوق، الحفلات، الزيارات، فهي في مركز سياسي مرموق، وتقضي أكثر وقتها خارج البلد، خصصت لها حارسا شخصيا أثق به كثيرا، كما أن لي أكثر من حارس، تعرفين أنا لست جشعا، لا أؤمن بالمثل القائل( جوع كلبك يتبعْك)، بل احرص على إشباعهم ـ الكلاب إذا جاعت توحشت ـ أعطيهم رواتب عالية وهدايا ووجبات طعام لا تتوفر حتى في أرقى المطاعم، إن سخائي كبير، عليك أن تجربيني.

بالمناسبة نستطيع أن نخرج الآن لنستريح من تعب النهار، لماذا لا ترافقينني إلى المزرعة؟ سنأكل وجبة رائعة من لحم النعام وسترين بعض مقتنياتي، هناك سيكون العمل أجمل بعدها سألتقي بصاحبك الأمريكي.

بدأت أوصالي ترتجف وشعرت بالرعب، ولكني تمالكت نفسي ولا أعرف كيف خرجت كلماتي بقوة وجعلته يتنحنح خجلا، ثم غير الموضوع عندما أمر بجلب قدح عصير فراولة، وعندما لم يستطع أن يحصل مني على شيء طلب يدي للزواج، لا يمكن لأحد أن يتصور ماذا قدم لي من مهر غال قد لا تحلم به أجمل امرأة، أما أنا فقد كنت أشعر بالضيق والألم حتى شعرت بدوار في راسي، طلبت منه أن أغادر لفرصة أخرى ولكنه أصر علي بالبقاء ..

نهض من كرسيه وكانت كرشه تتدلى مثل صرة ملابس كبيرة، أنقذتها الشيالات التي يلبسها، وظل يردد بأسلوب ماكر:"ابقي يا عزيزتي واسمعي مني، أنا اطلب منك الزواج، سأدخل من الباب، كما ترين، كل ما أملك سيكون لك، سأدللك أي امرأة تحلم أن تحل محلك، والرجل منا يحق له الأربع، وأنا لا أشكو من أي شيء، المال يهب الصحة والقوة".

اقترب مني وكاد أن يمسك يدي، وقتها نهضت بعصبية ووضعت حقيبتي على كتفي. حاول أن يمسك معصمي ولكني رجعت إلى الخلف، "شيخ أعطني وقت، سأفكر بطلبك، أريد أن أذهب الآن". اتّجهت صوب الباب، دخل وقتها كلبه الأجرب، فوجدتها فرصة للإفلات من قبضته، خرجت وكأني نفذت بروحي. لم يعرف هانس وقتها ما الذّي حصل، كان يضيق عليّ الخناق باتصالاته وإصراره على مقابلة الرجل. تركت هاتفي المحمول مغلقا لوقت طويل، لم يكن أمامي غير صده بهذه الطريقة، كنت قاسية جدا معه ولكنها الطريقة الوحيدة لإيقافه.

(6)

تلك الليلة لم ألحظه في الغرفة، بحثت عنه في كل زاوية، أسفل السرير، في خانة الملابس، خلف صورة كبيرة بمترين، توقفت عندها، كانت مرسومة بالزيت، هي لعاشقين يسيران في شارع ضيق، تقيهما مطرية ألوانها ذات ملمس خشن، كنت اشعر بقطرات المطر وهي تبلل أكتافهم، أهداها لي غسان عندما كنت أزور معرضه في "كالري" فتح مؤخرا على شارع الكورنيش وكان أول معرض شخصي له، كان شابا وسيما ومتألقا، وقتها وقفت عند اللوحة طويلا، هي الوحيدة التي أثارتني. سمعت صوته من الخلف "هل أعجبتك اللوحة" التفت إليه ووقعت عيني عليه، كان ساحرا، من اللحظة الأولى شعرت بأني لا أقوى على صده، ولو أنه دعاني للذهاب معه، لما تأخرت.

قلت " كل شيء فيها أعجبني، استطعت أن توهمني بان المطر يسقط في الخارج "

" المهم إنها أعجبتك"

" إنها الحقيقة ، لم أبالغ"

" ستكون اللوحة هدية تعارف "

بعد ثلاثة أيام اتصلت به وطلبت منه أن نتقابل لأشكره على اللوحة، وافق على الفور وطرت وقتها من الفرح، كنت منجذبة إليه بكل جوارحي، التقينا وتكرر الأمر، وكنت في كل مرة أعطيه شيئا يسعده ويسعدني. رسم لي "بورتريه" بالزيت علقتها في غرفة المكتب التي التقينا فيها كثيرا وكنا نتأخر لوقت المساء، لم اشعر معه بالخسارة، وهبته كل شيء بلا ندم. لم اندم يوما ما على تصرفي، هذا ما أريد أن يفهمه الآخرون.

لا أعرف أين اختفى، ليس من عادته أن يغادر الغرفة، لا يمكن أن يتجول الآن في البيت. جلست على السرير وأرحت جسدي من تعب يوم مرَّ ثقيلاً. استسلمت لخيالاتي، لا ادري ماذا فعل وقتها هانس، أو ما الذي خطر في باله، يخيَّل إليَّ أنه مجنون عندما تتعلق المسألة بعمله يكون أكثر حدة، وينسى كل لطفه معي، وفي الوقت نفسه يبدو دبلوماسيا في طلب الأشياء. أكيد لم يكن ليتوانى عن قتلي، عدد المكالمات تسع والرسائل سبع، وقتها لم أفكر بالرد عليه، كنت أرجئه لوقت آخر، ولكن رغبة قوية كانت تدفعني إليه.

مر هواء خفيف على وجهي، فتحت عيني، وجدته أمامي: أين كنت ؟ بحثت عنك في الغرفة، لم أجدك.

ـ لماذا هذه المرة؟

ـ لأنني وحيدة وأشعر بالضيق، أردت التحدث معك.

ـ لا يوجد شيء جديد في حياتي.

ـ تقصد في موتك. وضحكتُ ضحكة مكتومة

ثمّ علقت:"يعني دائما هناك شيء جديد، حتى الأشياء السيئة التي تحصل لنا هي جديدة. أنا مثلا، اشعر بالتعاسة، ولا أرى أنّ سعادتي ليست مرهونة بشيء محدد، لا أعرف كيف تأتي السعادة، والتعاسة أيضا، إنّه شيء ما له علاقة بالقدر.

ـ لا ليس القدر، وإنما له علاقة بك أنت. أفعالك أو لنقل اختيارك، الحقيقة أنّ حسن اختيارك، إن عرفت الاختيار الصحيح، حتما سيقودك إلى نتائج سعيدة.

ـ دائما ما يحصل عكس توقعاتك ويغير صورة اليوم الذي ترسمه، آه نسيت، أنت خارج اللعبة... أردت أن أسالك إن كنت تشعر بالسعادة، أنا آسفة لم اقصد تذكيرك بشيء.

ـ لا يهم .

ـ لو لم تكن أنت معي، ماذا كنت سأفعل؟

ـ أنت أيضا خففت عني، معك نسيت كل شيء.

ـ وبماذا تشعر الآن؟

ـ لست أدري، لا اعرف إن كنت سعيدا، كما إني لست تعيسا.

ـ تعال اقترب.

ـ أين؟

ـ قربي....

ـ هنا؟

ـ تمدد مثلي ...

ـ لماذا؟

ـ اقترب أكثر، لا تتردد، الاختيار صحيح، ستكون النتائج سعيدة.

 ودوى ضحك عال لم يسمعه من في البيت.

(7)

زرت هانس بعد يومين في فندق المربد بشارع الاستقلال، كان ينتظر في الصالة، اقتربت منه وجلست .

ـ صباح الخير

ـ أنت مجنونة، نور.

ـ أعرف هانس، الذي حصل خارج عن إرادتي، كان عليك أن تفهم لماذا فعلت ذلك.

ـ غيابك بهذا الشكل مبهم لا يحمل أدنى لياقة.

ـ كنت مضطرة، لا تعرف بماذا كنت أزج نفسي، السافل أرادني جارية له، لا زال يحلم بالإماء وما ملكت اليمين.

ـ ماذا ؟

ـ لا عليك، ماذا فعلت بغيابي؟

ـ لا شيء، جاءني تهديد على جهازي المحمول من جماعة لا أعرفهم ولكن لهجتم كانت خطرة، البريطانيون لا يريدون أن يتدخلوا، تاركين الأمور تسير بهذا الشكل، نصحوني بان أبتعد عن هذه المشاكل، ولكني رفعت ثلاثة تقارير عن الأحداث في البصرة، عن خطر العنف، وعن الجماعات الإسلامية المتطرفة، وعن الاختراق في الشرطة. الغريب هنا لا أحد يريد أن يصرح بشيء، الكل يخفي الحقيقة، وهذا الصمت لن يطول.

ـ عليك أن تكون حذراً هانس.

ـ لا عليك نور، أنا مجنون، كما تقولين.

ـ وما هي أخبار دكتورة بسمة ؟

ـ اتصلت بها منذ يومين، كانت خائفة جدا، زميلها دكتور في مادة التاريخ، أطلقوا عليه الرصاص عند مدخل الجامعة، كانت قلقة مما يحصل، رهبة الموقف أفقدتها توازنها، ولكني تكلمت معها وأخبرتها أن الذي يحصل طبيعي، وطلبت منها أن تستريح في بيتها فترة كافية.

ـ فهمت

ـ أنت خائفة .

ـ لا، ولكن

ـ تعالي معي

ـ أين ؟

ـ نصعد لغرفتي، أريك شيئا.

كنت متوترة وأنا اصعد معه الغرفة، كنت أشعر بعيون ترصد تحركاتنا، لم أخبر هانس بالتهديدات التي تلقيتها أنا أيضا على هاتفي المحمول، أعرف مصدرها ولكني لست متأكدة. فتح حقيبة جلد صغيرة، وأخرج مجموعة أوراق مكتوبة بخط اليد، كانت فصلا من كتابه الجديد عن البصرة. من خلال تقاريره اليومية استطاع أن يجمع مادة كبيرة، وحاول أن يضمنها صورا عن المدينة والأحداث الأخيرة التي عصفت بها. فرحت كثيرا وقلت: "فترة غيابي عنك كانت مثمرة".

ابتسم بوداعة وهو يقول: "عندما انتهي من كتابي ستكون أول نسخة هدية لك، أنت امرأة قوية استطاعت آن ترافقني في هذا الجنون".

ألتفتّ إلى هانس وأصبحت أتأمله، كان شابا وسيما، له انف طويل، وعينان سوداوان، وبشرة سمراء وكان يحتفظ بشوارب ولحية عربية، خداه غائرين، من يراه لا يشك لحظة انه عراقي.

اقترب مني وضغط على كفي بقوة، ارتبكت مع إني قضيت معه فترة أشهر، هذه المرة الأولى التي تتحرك فيها مشاعره، العمل والمشاوير التي نمارسها لم تترك لنا فرصة للراحة، لا اعرف ربما أراد أن يخفف من توتري الذي صاحبني. ولكنه صار أكثر قربا، حضنني بقوة وقبلني. كنت أعرف أن هناك وقتاً ما سيتفرغ فيه لنفسه، أعرف أنه يفعل ذلك بوعي منه، وأن مشاعره صادقة كنت لا أعرف ماذا أفعل، لست متأكدة من أنه يريدني، وفي لحظة تفكيري المشوشة توقف، اعتذر. شعرت بالاستياء، وقتها أردته أن يستمر، ولكني نهضت مغادرة. مسكني من يدي وقال "نور عزيزتي، أنت امرأة فاتنة، ولكني لا أريد أن أؤذيك، لن أدع أحدا يؤذيك" كنت لا أقوى على الكلام وشعرت برغبة في البكاء، وقتها بكيت، بقيت فترة ابكي.

تخيلت صاحبي أمامي واقفا وكأنه يريد حجزي عن هانس، وكان قلقا ومتعبا وهو يتكلم بعصبية "لا أتحمل بكاءَك، دعينا نخرج من هنا، هذا ليس مكانك، كما أنك تدفعين بنفسك إلى حتفها".

وبدأت أحاوره بخيالي :

ـ لا أستطيع، الآن على الأقل.

ـ هل يعجبك هانس؟

ـ أنت لا تفهم .

ـ كل شيء واضح، أنت مغرمة به.

ـ عليك أن تغادر، سأكون بخير غادر الآن وانتظرني هناك سأعود قريبا.

مسح هانس دموعي وسحبني من يدي بلطف بالغ كأنها أول يد تلامسني، أرخيت له نفسي ونمت معه إلى الصباح، بقيت معه طيلة يومين في الفندق لا اخرج وكنت لا أفكر في أي شيء، صرفت عني كل الأفكار التي تراود الإنسان في حالات الخطيئة. كنت أؤجل فكرة الخروج من الغرفة ولكن ثمة قلق خفي لم يفارقني أثار انتباهه. كنت أعرف أن هذه اللحظات السعيدة المحسوبة من عمري الجديد قد لا تتكرر، إنها ستنتهي في لحظة ما ويعود كل شيء لوضعه القديم مع الموتى. كان هانس يتنقل داخل الغرفة على أنغام موسيقى واطئة بين السرير والمكتب، يتناول مشروبه، يستخدم حاسوبه، يكتب، يقلب أوراق مفكرته، لا يتوقف لحظة عن متابعة يومياته، ولكنه بين فترة وأخرى يرمقني بنظرة حانية ويبتسم، وفي مرات يقترب من السرير ويطبع قبلة سريعة ولكنها كانت كافية لإذابة جبل من الجليد .

(8)

كنت اعرف أن لقائي بـ هانس سوف يعرضني لمخاطر كبيرة، فانا أرافقه في جولاته داخل المدينة، في الفندق والشارع والمطعم والمؤسسات الحكومية وكنت اشعر بالعيون تترصدني.

المدينة مكشوفة لهم، مثل امرأة عارية، وهم لم يتورعوا عن اغتصابها، اغتصوبها.... عيونهم تشعر بها في كل مكان، بدأ هانس يضغط عليهم، تقاريره التي قرأتها بالفندق قبل ليليتين، فيها اتهام واضح، كان يرسلها لصحيفتي نيويورك تايمز" و"كريستان ساينس مونيتر" .انه مجنون لا يأبه لشيء، الحقيقة عنده لها ثمن، حياته، ربما وحياتي، بحسي الصحافي اعرف خطورة التقارير، أنها ضدهم، تكشف بوضوح خطوطهم الحمراء، تسلل الجماعات المتطرفة في صفوف الأمن، وتنامي الأصولية الشيعية في البصرة، كما انتقد القوات البريطانية لتغاضيها عن انتهاكات المتطرفين. المواطن يعرف ولكنه عاجز عن الاحاطة بما يجري في الخفاء، دهاليز مظلمة، وأنفاق تلو أنفاق، حتى تصعب علينا نحن الصحفيين، أن نقف على الحقيقة، وصار الواحد منا يغير اسمه، وينتحل صفة غير صفته، ويهادن، ويجامل، وتعرض البعض للتهديد، والقتل، والتهجير.

تلقيت مكالمات تهديد من جهات عدة لا أعرف مصدرها ولأكثر من مرة. ورميت في وجهي رسائل بلهجات شديدة من أشخاص غرباء بوجوه كالحة ومخيفة تثير الرعب لمجرد النظر إليها، منهم من توعدني بالقتل إن بقيت بصحبة الغريب أتجول في شوارع البصرة. أما أنا فقد كنت منساقة بشكل غريب ومندفعة خلف رجل مجنون يدفعني إلى حتفي، هو أيضا كان من حيث لا يدري يدفع بنفسه أيضا إلى الحتف، أحيانا كان يجتاحني رعب مخيف مجلجل عندما أتابع أحداث القتل التي تنتشر بسرعة في أنحاء المدينة. كل يوم تشيّع المدينة عشرات المغدورين. كانت ثلاجات الطب العدلي تغص بالقتلى، الأجساد المتيبسة الزرقاء ممزقة ومثقوبة بأجهزة ثقب كهربائية وبالرصاص، بعض الجثث تكون مسلوخة الجلد ومكسورة العظام تفوح منها رائحة عفنة، أفكّر دائما بتلك الثلاجات الممتلئة والمختنقة بالجثث وبطوابير من البشر يصطفون على أبواب الطب العدلي، يذهبون ويأتون في دورة محمومة لا تتوقف، الناس يسرعون إلى المستشفى لسحب جثث أبنائهم، هنا كلما اختفى شخص أو تأخر عن بيته توجب على أهله الركض إلى ثلاجة الطب العدلي حيث سيارات الإسعاف لا تتوقف عن نقل الجثث المبعثرة في كل مكان من المزابل والطرق الخارجية ومن الساحات القريبة والبعيدة. البصرة تنزف يوميا جثثا لنساء ورجال وشباب، آثار كدمات على أجسادهم زرقاء وحمراء ودم متيبس، وثقوب سوداء في رؤوسهم. كان كل شيء يجري بصمت في النهار والليل، المدينة مرعوبة والوجوه خائفة تتلفت. ما أن يخيم الظلام حتى تختفي كل معالم الحياة، تتحول المدينة إلى مقبرة كبيرة تعوي فيها الكلاب وتصفر الريح لا تشم سوى رائحة الدم ولا تسمع إلا دوي الرصاص. في الفترة القريبة وأنا اتجه صوب فندق المربد في شارع الاستقلال، استوقفني شاب بسمرة صارخة اللون، وكان دم وجهه ازرق، وشفتاه غليظتان بلون اسود، ملتح، وشواربه كثة، حاسر الرأس، وقد بدا على وجهه لؤم وخبث كبيرين. أردت أن أبتعد عنه ولكني شعرت برعب كبير سمرني في مكاني، وشعرت بخدر في ساقيّ النحيلتين وفي لحظة صمت استمرت ثوانيَ تصورت حركة يده وهي تنزل بسرعة خاطفة أسفل قميصه، صوب الحزام، تنتشل مسدسا، تسحبه وتسدده نحو صدري، وبلا تردد يضغط على الزناد ويطلق رصاصات يرتفع دويها في فضاء الشارع وتهلع قلوب العابرين وتخرج الرقاب من فتحات المحال المرصوصة على الرصيف العريض لشارع الاستقلال، توقعت أن البعض سيدخل ويغلق خلفه الباب ويتوارى، وتخيلت أنّ السيارات ستبتعد مسرعة، فيما سأبقى وحيدة ممددة على الرصيف والدماء تسيل من جسمي، خمنت أنّ القاتل سيعبر إلى الجهة الثانية من الشارع لتقله سيارة تطير بسرعة ويختفي لتبقى عيون المارة ترقب موتي من دون أن تحرك ساكنا. انتبهت له وهو يسألني عن اسم الرجل الأجنبي الذي أرافقه، هنا انتفضت في داخلي وتذكرت جسارتي بالرد على من يقف في طريقي عابثا أو محاولا مغازلتي، قلت له والشرر يخرج من عيني وكنت أكز على أسناني .

 ـ وما شأنك أنت ؟

 ـ اسمعي، أنا أمثل الدولة ونحن نراقبك، أنت تعملين مع شخص أجنبي وهو غريب، يعمل لصالح دولة أجنبية.

 هنا فتح لي طريقا للكلام، أنت غبي لتصدق هذا، الرجل الغريب هو باحث أمريكي وليس جاسوسا كما تظن، وأنا مترجمته، أساعده فهو يعمل على إصدار كتاب عن المدينة، هذا كل ما في الأمر.

ـ الذي وصل لنا غير ذلك، عليك أن تصغي لأوامرنا، سيكون الأمر أكثر صعوبة إذا وجدناك برفقته.

 ـ من انتم وماذا تريدون؟ ليس لي علاقة بعمله، أنا مترجمة، ولا أراه متورطا بأي أعمال مخربة، أو كما تعتقد جاسوسية.

ـ وما أدراك؟ لا شأن لك بما نعتقد، كل ما عليك فعله هو أن تتركيه.

ـ وإن لم أفعل؟

ـ سوف ترين، أنت والإنكليزي صاحبك.

ـ قلت لك أميركي ...

ولكنه انسحب من دون أن يعلق بشيء آخر وتركني مرعوبة، وظلت كلماته ترن في أُذني، وعدت أتصور نفسي مرمية خارج المدينة جثة هامدة، فثقلت خطواتي لم أعد اسمع شيئا ودوى صفير صارخ في أُذني فزادت ضربات قلبي واختفت أنفاسي، شعرت أن الهواء نفد وتملكني الضيق.

أحسست برغبة كبيرة في وجوده معي وقتها، شعرت بحاجتي إليه أكثر من أي وقت مضى، حارسي وملاكي. تملكني هاجس قوي في أن أتوارى أو أختفي كنت دخلت دكانا على الناصية أسترجع كلماته وهو يقول"سيكونون في كل مكان، يراقبونك من دون أن تنتبهي لهم، ولكني سأكون قريبا منك دائما، لا تخافي"، قلت بلا شعور مني، أنت ملاكي الحارس إذن، رد عليَّ "أتمنى لو أكون حقيقة كذلك"

كنت أشعر بأنه يبعد الخطر عني. لو استمر وجودي مع هذا الشاب ثواني لقتلني بدون تردد. بحثت عنه حولي في كل شيء فلم أجده أحسست بالتيه والهلع فاقتحمت أقرب مكان وجدته

 عندما رآني صاحب المحل على هيئة يرثى لها سحب كرسيا وأجلسني، اخرج لي علبة ليمون باردة، مسكتها ويداي ترتجفان. استعدت أنفاسي بعد برهة وهدأت، قال لي الرجل:" اشربي ستشعرين بتحسن، الجو حار والهواء رطب يسبب الغثيان". شكرته قائلة له :"كلما في الأمر أني شعرت بدوار في رأسي". نظر إليّ بطيبة وحنو "اشربي إنه ليمون خالص سيريحك هل تشكين من شيء آخر؟

ـ لا ، يبدو أنّها تأثيرات الجوّ.

ـ كان دخولك غريبا، اندفع الباب ورأيتك أمامي، انتبهت إلى لون وجهك الأصفر وأنت تتحدثين مع نفسك.

ـ هل سمعت ما أقول ؟

ــ لا!

ـ أصبح حديث الناس مع أنفسهم أمراً طبيعيا، أعصابنا تعبت، القتل والدمار اليوميان يضغطان باستمرار.

 استأذنته وشكرته على لطفه معي... امتنع عن أخذ ثمن علبة الليمون.

خرجت من المحل وأنا أتلفت يمنة ويسرة مترددة وخائفة من مواصلة طريقي إلى الفندق قررت أن أرجع وعدت إلى الشارع، أوقفت أول سيارة تاكسي، صعدت، وفي الطريق اتصلت بـ هانس وأخبرته بما حصل وتواعدنا أن يلحقني في مكتبي الخاص بالترجمة وكنت قد تركته من لحظة مباشرتي العمل معه. قطعت السيارة شارع الاستقلال وبعدها انعطفت يمينا إلى شارع مناوي باشا واستمرت إلى شارع الجزائر وانحرفت يمينا باتجاه شارع البصرة الرئيسي ومن ثم انحرفت يمينا إلى شارع السعدي وأكملت سيرها واستدارت راجعة من الجهة الثانية للشارع، وفي منتصفه انحرفت يمينا لتدخل في شارع ابريهة، وقبل أن ينتهي الشارع بمسافة مئة متر تقريبا نزلت من السيارة، واتجهت يسارا إلى فرع عريض يصل بشارع البصرة الرئيسي ثم انحرفت يسارا مرة أخرى وفي أول الفرع تماما كانت واجهة البناية القديمة حيث كان مكتبي في شقة أرضية. هانس أيضا كان يعرف المكان فقد صحبته معي مرة إلى هناك، أخرجت مفتاح الباب الرئيسي وفتحته، كان المكان هادئا واغلب البنايات هي لأطباء يفتحون عياداتهم عصرا أو شركات أكثر أعمالها خارج مكاتبها. فتحت الضوء وشغلت مكيف الهواء، أوصدت باب المكتب خلفي وتناولت من حقيبتي علبة سجائري وجلست على الأريكة أدخن .

كنت مرتبكة وكان ملاكي معي فهو لا يتركني، روحه تكون معي في كل مكان، هو أفضل خطابي المغرمون.

ــ أنا خائف عليك، أنت لا تعرفين هؤلاء، أنهم أشباح بهيئة بشر، شياطين لا يخفى عليهم مكان ... كان عليك أن تذهبي إلى البيت مباشرة يا نور.

 ــ علي أن التقي هانس، لن يطول لقاؤنا، لا تقلق، سيكون كل شيء على ما يرام ... صدقني إنّهم جبناء ، هم قليلو المروءة، لا ريب أنهم غرباء عن المدينة، لا ينتمون إلى أي شيء فيها، سيرحلون، ستكنسهم مدينتنا لا بدّ أن ترفع عنها هذه النفايات البشرية. صراصير، وزغ، جراد، لا قيمة لهم .. انتباتني نوبة من الجنون وهدأت عندما أحسست باقترابه مني من خلال موجات من النسيم البارد تجتاح خصلات شعري التي تهيجت بفعل جنوني .

ـــ أنت تقولين ذلك ولكنك لا تعلمين ولا ترين ما أرى.

ـ ما تقول صحيح، ولكن اللعبة ستكتشف، وساعتها لن تتاح لهم فرصة الهروب، ستلاحقهم الأرواح البريئة في كل زاوية، وستخرج لهم من كل مكان من الشجر والحجر.

لم انتبه لنفسي، كنت اختنق وكانت يداي ترتجفان، وكنت أطفئ السيجارة بعصبية، دخنت ثلاث سيجارات، محاولة أن أهدئ نفسي، خفت كثيرا، وتخيلت عدّة أمور، أردت أن أصرخ وأفجر كل طاقات الغضب ولكنني أشفقت على مرافقي فرددت بيني وبين نفسي:" ولكني فتاة قوية ولن أكون هدفاَ سهلاَ، هل كان الشيخ وراءهم؟ هل يعقل أن يكون؟

ابن الكلب ... انتفضت من مكاني قصدت الحمام وغسلت وجهي، كانت المرآة غائمة، بإصبعي مسحت الغبار، كان جزء من وجهي يظهر في الخط المجرور بحجم الإصبع، عيناي فقط ظهرتا مطفأتين. أكملت بكفي مسح الغبار، ظهر وجهي كاملا، نحيفا ومتعبا، غسلته مرتين ، واستنشقت هواءً ملأ رئتي، ذهبت إلى البراد وأخرجت قنينة ماء، كرعتها، عدت إلى مكاني، كانت روحه تحوم حولي أحسست أنني مسترخية، وشعرت باني غفوت.

ما أقبح ذنوبي! كان أحمد رائعا معي، قضينا أوقاتاَ سعيدة هنا، كان بهي الطلعة، قوي الشخصية، مرحا، عابثا، وكنت أحب فيه سخريته اللاذعة من كل شيء، سيطر عليَّ بجرأته، في بعض المرات كان وقحا، ولكني أحببته، أحببت تمرده وعناده واستخفافه بالقيم الكاذبة التي يتغنى بها البعض. كنت أراه أصدق من الكثيرين الذين يتحلون بالقيم ولكنهم في دواخلهم ينكرونها، كنت أعرف انه يريدني لنزواته وأنه لن يستمر معي ورغم ذلك طاوعته في كل شيء، معه كنت أشعر بحريتي، بأنوثتي، تعرفت عليه عندما جاء ضمن مجموعة دورة الصحافة للمبتدئين وهي تضم كلا الجنسين، كان مميزا بشكله ، يختلف عن الآخرين الذين يلتصقون بأفخاذ الفتيات، غادرت مجموعة الدورة الصباحية بعد منتصف النهار، وانتبهت وأنا أهمُّ بأخذ حقيبتي ومفاتيحي انه كان واقفا قرب الباب. كان يريدني أن أساعده في التقرير الذي سيعده الطلبة، جلست على الأريكة ودعوته إلى الجلوس، كنت وقتها منشغلة وكان وجهه قريبا مني، كنت اسمع أنفاسه وأتحسس نظراته، كان الصمت كفيلا بسماع وسوسة الشيطان، والخلوة تحفز لفعل الغواية، والظهيرة تدفع نحو الخدر، الأجساد مادة غريبة لها حاجاتها فهي تحيا باللمس، والاحتكاك، والالتصاق، وتموت من الوحدة وتذبل مثل الأزهار.. مسكني من يدي وشعرت بالأريكة تدور في جو غائم وبارد وتعلو بي صوب زرقة صافية.

ـ وقح

ولكنه من دون أي ردة فعل عاودها، وهذه المرة أطال قبلته بطريقة تقطع الأنفاس. مجنون، كان يجيد التقبيل حد الهوس، وكانت أسناننا تصطك ولعابنا يمتزج ولسانانا يتلاعبان مثل هرين صغيرين على فرشة من الحرير، وكانت شفتاه العذبتين تمرغان وجهي وتلتهمان في طريقهما عينيّ وإذنيّ ورقبتي وصدري، وأصابعه الرعناء تفتح أزرار قميصي زرا زرا، واقتحم بكفه حلمة نهدي وألحقها بلسانه يداعبها برفق وانتقلت يداه الرقيقتان تلامسان جسدي الذي صار مثل غصن تتفتق براعمه وتتورد وتفوح روائح أوراقه وأزهاره وكان جسدانا ملتصقين ومحمومين ومتعرقين وظلا ملتحمين في هياج صاخب حتى سكنا وهدأت فورتهما وكان الخدر يتملكني ورميت بجسدي على الأريكة يغالبني النعاس.

انتبهت لطرقات على الباب، أطفأت السيجارة ونهضت إلى النافذة القريبة من الباب، أزحت الستارة فوجدت هانس واقفا بنظارته السوداء مرتديا تي شيرت أسود بلا ياخة وبنطلون جينز أزرق وحذاء رياضي أبيض وبدت رقبته طويلة وحمراء.

(9)

جلس هانس على الأريكة. أخرجت من الثلاجة علبة ماء باردة ووضعتها أمامه على الطاولة، وجلست أمامه على كرسي أتأمل طوله الفارع. مسح جبهته وشرب نصف علبة ماء ثُمّ أعادها إلى الطاولة قال بصوت رطب:"ما الأمر نور"؟

ـ أتعتقد أنك بأمان؟

ـ لا، ولكني لم افعل شيئا يمكن أن يعرضنا للخطر.

ـ أنت واهم، لا توجد نسبة واحد بالمائة تجعلك تطمئن، الأمور تجري هنا خلافا لتصورك، حتى لو كنت منيعا من المتنفذين، أنت تتنقل وحدك بلا حماية في جو مشحون بالموت والترقب.

ـ أسدي لي خدمة نور، لا تشغلي بالك .

ـ أنت مجنون .

ـ هل حصل شيء جديد ؟

ـ نعم، استوقفني أحد القتلة وسألني عنك، إنه يريدني أن اترك العمل معك كما يعتقد أنك جاسوس تعمل لدولة أجنبية.

ـ أنت تعرفينني، هذا هو المهم، لا عليك إنّني أقترب من النهاية.

ـ والذي يحصل من حولنا ألا يشغل بالك أبدا؟

ـ هل تريدين أن تنسحبي ؟

ــ لا، بالطبع لا، كيف يخطر هذا على بالك؟ كما أنّني لم أصغ لسخافاته، تركته ومشيت، ولكن المثل يقول (إذا هبت عاصفة فنحنِ لها) .

ـ جميل منك أن تقلقي، ولكن لا تجعلي القلق يشوش أفكارك.

ـ أنا مشوشة فعلا.

اتجهت للنافذة وأزاحت الستارة كان الجو في الخارج هجيرا والشوارع فارغة، بحثت عن صاحبها في الأرجاء ولكنه اختفى، وثمة كلب يشاكس قطة في نفاية مكومة قرب الزاوية، هربت القطة ولحقها الكلب مزمجرا مخلفا عاصفة ترابية وعاد وهو يتشمم الأرض ليقف قرب النفاية، التف حولها، رفع ساقه وبال، انتبهت لهانس وهو يسألها إن أكملت له طباعة التقرير الأخير عن رجال الشرطة ودورهم في استتاب الأمن.

ـ نعم هانس ؟ وجلست قربه في الجهة الثانية من الأريكة .

ـ التقرير .

ـ نعم أكملته البارحة.

 اتجهت صوب المكتب، وفتحت جهاز الحاسوب، نقلت التقرير في قرص، وعدت إلى الأريكة وناولته القرص. نظر إلي نظرة ساحرة، كنت لا أزال متوترة ولكني استعدت حيويتي وشعرت بالدم يصعد إلى وجنتي، كنت في غاية السعادة وثمة دمعتان ترقرقتا، حين قبلني. اعتدلت في جلستي ووقفت على الفور وطلبت منه أن نغادر.

 كانت السيارة تمر بنا عبر شوارع المدينة الضيقة وقرب الفندق أنزلته وأكمل السائق طريقه إلى البيت.

(10)

دخلت غرفتي وركضت إلى السرير، أزحت الشرشف وهويت بجسدي ولم أفق إلا في ساعة متأخرة من صباح اليوم التالي.

قلت إنّني لن أفيق إلا في ساعة متأخرة من صباح اليوم التالي، لا، اقصد إني أردت أن اخفي ما حصل تلك الليلة، ولكني نسيت كل شيء من كثرة اختلاط الأحلام مع كوابيس النهار. لا اعرف الوقت بالضبط، لم يكن موجودا في الوقت الذي دخلت فيه الغرفة، ربما بعد نومي في الفراش، عادة ما أنام نصف عارية،كانت الإضاءة خفيفة، فتحت عيني على صوت طرقات بركن السرير، رأيته واقفا وصعقت، فقد كان عاريا. انتبهت لنفسي كنت عارية أيضا، سحبت الشرشف إلى صدري، صعد السرير، ومدد جسده بقربي، كان ينظر نحو السقف، أغمض عينيه وهو يتنفس بقوة كانت أصابعه تتلمس جسدي، مررها على بطني فشعرت بدغدغة دافئة، بعدها كنت اشعر باللذة والغضب في آن واحد، هل يعقل في مثل حالتنا أن نشعر باللذة؟ لم استطع أن افعل شيئا غير أن أصيح به وهو فوقي: هل أنا عاهرة؟

كانت أنفاسه تحرقني وهو يضغط على جسدي، يمرر شفتيه على رقبتي، وجسدي يرتعش من اللذة. حاولت أن أبعده عني، ولكن قوتي خمدت. كان يطوق جسدي بذراعيه، وكنت اشعر بضعفي وهو ينظر لي، هذه المرة بعينين فارغتين قلت: هكذا أنت عنيف!

ــ ....

ـ عندما تراني مع آخرين تستعر نار غيرتك .

ـ كنت تنتظريني.

ـ عندما دعوتِكِ تلك الليلة، كنا نلعب لعبة.

ـ وما الضير أن نكمل لعبتنا هذه الليلة.. من يشعر بوجودنا ونحن محصوران هنا، أنت قدري، القدر ساقني إليك، لن أغادر من دونك. الروح ترغب والجسد يستجيب، رأيت ذلك في عينيك، كنت عارية مثلي في الفراش، وعندما نمت قربك رفعت الغطاء عن جسدك ورأيت سحر بياضه وشممت عطره، صعقت، كيف لمثلي أن يقاوم هذا الجنون؟

شعرت بجسدي يتفتح مثل وردة الصباح وهو يلتصق به ، وبدت تتحفز ذرات جسدي وتغلي، كنت منساقة له بكل جوارحي، وشعرت معه بالنهاية، وان لا شيء بعده، كان كمن يشغل فيّ طاقة السعادة من جديد، ويبعث في الجسد تلك الطاقة على التحول، ، كنت في عمق اللحظة الحميمية نسيت روحي، فوق تعانقه بينما جسدي هنا يكتنفه رعاش غريب، لم أجربه من قبل.

(11)

أفقت من حلم ثقيل. نهضت من السرير، وسرت صوب النافذة، أزحت الستارة. كانت الشمس قد ملأت ساحة المقبرة. دخلت الحمام وأزلت عن جسدي كل ما علق به من حلم البارحة .

في الأسفل كنت اسمع صوت أبي، كان يتحدث عن شيء أزعجه، ربما مع أمي، فهما غالبا ما يتحدثان بعصبية، وإذا ما تحدثا قليلا، تبدأ خلافاتهما بالظهور، مثل شياطين، ويتصارخان، ليعودا في وقت لاحق، صافيين، قلت: ما الذي يبقيه في البيت إلى الآن، ألم يخرج؟ كانت أمي تعمل في تنظيف البيت، تبينت ذلك من سماعي صوت المكنسة الكهربائية، كان صوت سيارة الإسعاف يعلو سريعا، صراخ وعويل، لعنات وشتائم تخرج من أفواه عديدة، وبعدها يسود الصمت، عرفت انه يتابع الأخبار.

(قتل أربعون شخصا بينهم نساء وأطفال بانفجار سيارة مفخخة وأصيب آخرون بجروح، و أسفر الحادث عن أضرار مادية وقالت مصادر الشرطة إن الحادث نجم عن انفجار عبوة ناسفة كانت مزروعة في مولدة صغيرة داخل سوق شعبي وسط المدينة).

أصوات الإسعاف ترتفع مرة أخرى ...

"إحنا مساكين شنسوي نترزق على باب الله وهذوله المجرمين..

 الله يقبلها محمد؟ مو احنا اسلام ...

الانفجار صار الساعة السبعة الصبح، على غفلة وما حسّينا إلا انفجار، شوف الضحايا، شنو ذنبهم...

 إحنا ليمته نظل هجي؟ وين الحكومة خلي تجي تشوف ... الله اكبر ..... الله اكبر على الظالم ...

(ونقلت مصادر طبية أن الحادث تسبب بقتل ثلاثين شخصا أكثرهم من النساء وأكثر الإصابات كانت بحالة خطرة ) .. قطع .

لعل أبي أطفأ التلفاز.

ـ هذا ما يجري كل يوم .

ـ أنت!

ـ نعم

كنت اعتقد بأن الكابوس انتهى بدخول الدبابات وقلت أخيرا تحررنا من دكتاتورية بغيضة. والأمل ارتسم على وجوه الكثيرين.

اتصل هانس وطلب أن يلاقيني عصر اليوم في الفندق. نظر إلي وقال: الأمريكي ثانية؟

ـ واعدني عصر اليوم.

ـ ستذهبين إليه ؟

ـ سأذهب.

ـ أنت تقتربين من حافة قبرك، قدمك ستنزلق وتأتين إلي، ساعتها سنكون معا والى الأبد.

ـ ربما، الأمر غير مستبعد، ما دمت ترى الأشياء بعيون الموتى. لأنك خسرت حياتك، تريد أن تسجنني معك في هذه الغرفة، أقضي حياتي مع شبح، تريدني ميتة.

ـ مذ أول لحظة وقعت عيني عليك، شعرت أني أعرفك، وان روحينا ستأتلفان، اهتمامي بك أخذ منحى آخر كان يفرحك، عندما تضيق بك الحال تستنجدين بي، أتذكرين يوم جئت والدموع تملأ عينيك، كنت متعبة، وطلبت مني أن أرافقك إلى مقام أحد الأولياء وسط المدينة، تركت كل شيء وصحبتك. في شارع ضيق على جانبيه تمتد بسطات ودكاكين عشوائية، يزدحم الشارع عادة بالنساء والأطفال والباعة والمعوقين والمشوهين والمتسولين، اقتربنا من الباب وكنت أطوقك بذراعي وكانت رائحة الضريح مدوخة، اجتزنا الباب واستقبلتنا ظلمة خفيفة والنساء كن يقتعدن الأرضية يقرأن الأدعية، أوصلتك إلى القفص الذي يحمي الضريح، كنت أتأملك وأنت تقفين عنده، وكنت تبكين بصمت، رأيت دموعك تنزل على خدك. اقتربت منك، ومسحتها بأصابعي. نظرت إليّ. كل شيء فيك كان يصرخ بالجمال، وجهك الطفولي، حاجباك المرسومان بعناية، عيناك السوداوان، شفتاك الورديتان، صدرك، جسدك الرشيق، رغبت بضمك إلى صدري، ولكني نسيت في ربكة الخجل كل شيء، دائما ما أتأخر في اللحظة الحاسمة التي تتطلب مني فعل شيء ما، كان وجودك قرب الضريح قد قتل اشتهائي بضمك إلي، عندما نكون معا، تتصرفين بحرية، تضحكين بلا حرج، وتتحدثين عن كل شيء بثرثرة لا تدوخ، وتدخنين بنفس عابثة مرحة، لا يوجد ما يعيق رغباتك، معي وحدي، كيف يمكن أن أفسر ذلك الآن ؟

كنت تعرفين أن التمنع الأنثوي المعهود أمام رقصات الذكر المحمومة حالة مختصرة وأن طبيعة الرجل الطلب و طبيعة الأنثى القبول.

 ـ الأمر يختلف الآن، كيف سأشرح لك، هانس يحتاجني أكثر من أي شيء آخر .

ـ وأنا ؟

ـ أنا لم اعد كما كنت، شيء لا يمكن أن أبوح لك به الآن.

ـ أنت تزيدين حيرتي.

ـ أرجوك ، لا تصعب الأمر عليَّ، ما حصل لك ، ولي، هو انتهاك روحينا، إذا لم أمت ، هذا لا يعني إني أعيش كما يعيش الآخرون أو الأخريات..أنا ميتة، مت منذ زمن، في الرضوانية. أنت تريد أن تؤخرني، لست ملزمة أن أشرح لك كل شيء.

ـ ولكنني اخترت أن أكون معك.

ـ لا ينفع... طريقنا يختلف، أنت قتلت مرة وارتحت، وأنا أُقتل كل مرة، أنا لا أنفعك حتى لو كنا ميتين، مع أن الأمر يضحكني، عندما نكون هناك في الأسفل، في عالم سفلي حيث لا يمكن أن نشعر بشيء.

كيف تؤدي معرفتنا بالموت إلى تخفيف حدة فكرة الموت،أو تأخير حدوثه؟ عندما ندرك أننا فانون، فمعنى ذلك في الواقع أن نموت مرتين. سمعتك تذكرين الرضوانية؟

ـ هذا موضوع طويل لا وقت لدي لشرحه، اعذرني.

ـ فهمت، تعرضت للاعتقال؟

ـ .......

 ـ أريد أن أخبرك أن الحرب منذ أن بدأت والخوف يتلبسني بشكل مريع، الخوف من الموت، يعطل كلّ شيء فيّ، حواسي ومشاعري ورغباتي، صرت كائنا آخر لا يشبهني، أراقب الأطفال وهم يلعبون ولا يخيفهم الموت، الشباب يضحكون ويتصرفون بشجاعة، حتى الرجال والشيوخ كانوا يتجمعون ويتحدثون عن الحرب وكأنها لعبة كرة قدم عندما أتوحد مع نفسي، محاولا الفكاك من سيطرة فخ الموت، واشبع نفسي باليقين، اقرأ القرآن، والأدعية، ولكن شبح الموت تغلغل في أعماقي، وروحي جمعت داخل صرة، وكنت لا اشعر بالهواء، لا بشهيقه ولا زفيره.

انتظرت أن ينتهي كابوس الحرب قبل أن يخطفني الموت، تمنيت ذلك بكل ما املك من قوة، صليت كثيرا، وكان لساني لا يتوقف عن التوسل والدعاء. بينما الحرب تنشب على مداخل المدينة، وتكتسح في طريقها القرى والمناطق بقوتها المدمرة، تقتلع كل شيء يقف في طريقها. كان مسجد الحي يغص بالمصلين، شيوخا وكبارا وشبابا وأطفالا وكان المصلون يقفون بصفوف عديدة، يرفعون اكفهم بالدعاء يؤمنون على دعاء إمام الصلاة الذي كان مصحوبا بالبكاء وكنت اسمع نحيب الشيوخ كانوا يريدون للدعاء أن يدمر الأعداء ويغرق أساطيلهم وأن يمزق صفوفهم ويهلكهم وفي كل مرة يدعون كانت جيوش ومعدات القوات المشتركة تتقدم بسلاحها المرعب وتمسح من على وجه الأرض جيوشنا وعدتنا. وفيما دعا الإمام بالصلاة رفع كفيه وأمَّن وراءه المصلون، أنزلت يدي، ولعلي ضحكت للمرة الأولى في سري، إذ كيف يغرق أساطيلهم ويدمرهم وهم على مقربة منا.

هانس جاء إلى العراق ليعايش حقائق الحياة والموت اليومية في تقاطع نيران الحرب على الإرهاب. يرسل تقاريره الجوهرية لفهم أعداء أميركا وحلفائها في الصراع الحرج ولكن المضطرب ضد الإسلام المتطرف.

ـ ما الذي يجعل رجلا أمريكيا يجازف بالمجيء إلى الجحيم؟

ـ هذه المرة الثانية التي يزور فيها العراق، على حسابه الخاص وهو يسافر بلا تأمين أو صلات رسمية، يعيش بشطارته.

ـ انه مجنون.

ـ اعرف، فقد أخبرته بذلك. الحقيقة شيء مهم تستحق المعاناة والمخاطرة، هذا ما يقوله لي دائما، لذلك سأذهب إليه، انه يشعرني بمسؤوليتي.

أحسست أنّ روحي الخفيفة المرفرفة مع الستائر قد أرهقها التعلق في مهب الرياح ارتخيت فسقطت أرضا، لم أستطع أن أجمع نفسي لأطل على سريرها كان السقف مكتظا بالأرواح منها المعلقة ومنها السائبة المرفرفة في الفضاء الضيّق انتبهت إلى وجود روح رشيقة تتنقل بين زوايا السرير الأربعة كان لها بريق غريب لمحتها وهي تنتقل صوب النافذة وتوصدها بقوة حاولت أن أتبيّن ملامحها وكان ذلك أمرا عصيا بسبب الظلام جلست تلك الروح على حافة السرير كانت لشاب في مقتبل العمر على ما يبدو نظر إلى نور ثمّ التفت إلى النافذة وطوّح بنظره بعيدا قبل أن ينطلق في سرد الأحداث التي توقفت نور عن سردها حاولت وقتها أن أصرف انتباهي عن دبيب الأرواح الهائجة التي تزدحم على حافة النافذة أردت أن أعرف تفاصيل الحكاية وجدت أوصالي تتدحرج صوب الشاب الذي خمّنت أنّه حارس نور وملاكها أردت أن أسألها عن ذلك ثمّ أحجمت عندما اشتعلت الغرفة وكادت روحي المغدورة أن تزهق ثانية من الخوف كان الشاب يشعل سيجارته وبينما كان الدخان يخترقني متجها صوب النافذة كنت أحاول أن أتجاوز ببصري شكل تلك الروح العريضة لأرى نور وهي شاردة تحصي الأرواح الهائمة فوق سريرها... توقفت عن محاولاتي عندما سحبني صوته بعيدا إلى أماكن أخرى

(12)

دخلت نور الفندق قبيل الغروب، خائفة من أن يلحقها أحد وهي لا تدري أن هناك ألف عين وعين، كنت أعرف أن مصيرها سيكون على أيديهم. كانت سيارة (بيكب أب) بيضاء واقفة على ناصية الشارع قرب مدخل الفندق، كانت تقلّ أربعة أشخاص، تعرفت على اثنين منهم.

كان الشارع هادئاَ، وهناك بعض محال مفتوحة، عندما يحل الغروب تصبح المدينة مقبرة، تذكرت تلك الليلة التي استلت فيها أيديهم روحي، ظلام المقبرة، الريح، نباح الكلاب، شعرت بقلبي وهو يخفق، تسارعت نبضاته وانقبضت روحي... بعد نصف ساعة خرجت نور مع صاحبها الأمريكي، بدا وسيماَ رغم انه يبدو في الخمسين من عمره وكان طويلا ورشيقا، يحمل حقيبة جلد صغيرة بحمالة طويلة معلقة بكتفه اليمنى، كانت نور هادئة ومتماسكة بدا على مشيتها الصلابة وكأنها تحتمي بأيقونة أسطورية.

سارا بضع خطوات وانحرفا إلى الجهة التي كانت تقف فيها سيارة الموت، تفصلهما عنها بضعة أمتار، دخلا محلا لتصريف العملة، لا شك أن الأمريكي كان يريد تحويل بعض المال بقيا وقتا قصيرا، خرجا بعدها وهما يبدوان كزوجين اتفقا على التسوق.

صعقت نور حالما لمحتني وأنا أتبعها حاولت إمساكها وإبعادها لكن دون جدوى سمعت نور صراخي ولم تتراجع :" نور لنترك المكان، إنهم هنا " كان الرجلان قد ترجلا من السيارة واقتربا، "سوف يغدرون بك كما غدروا بي، اركضي يا نور" كان الأمريكي وقتها في قبضتهم يحاول التملص منهم وهم يدفعونه صوب باب السيارة، أدخلوه بالقوة بعد أن فلتت فردة حذائه قرب الرصيف.

صرخت نور وهي تُنتزع مني بقبضة أحدهم، حاولت أن أخلّصها منهم ولكن لا فائدة، حُشرت داخل السيارة التي انطلقت بسرعة تاركة علامة سؤال على الوجوه التي أطلت من أبوب المحال القريبة.

في عمق الصدمة التي انتابتني لم أنتبه إلى الهوية الملقاة قرب مكان السيارة كانت مقلوبة على وجهها العربي تحمل صورتها، صورة قديمة وبدا وجهها نحيفا، ولكن بقيت عيناها تومضان بالفتنة.

 الاسم/ منتهى عبد العزيز

المهنة/ مترجمة

الجهة/ منظمة بي ار تي الأمريكية

لم استطع التقاطها، تركتها على وضعها ومشيت، كانت الأحداث تبث الرعب في قلوب الناس وهم يتسابقون لمغادرة المكان. وبعد ساعات انتشر خبر الاختطاف، تناقلته وسائل الإعلام، في تلك اللحظة المشدودة، حلّقت صوب المنزل كان الأب يراقب التلفاز، وحده، وكانت والدة نور في المطبخ، تحضر وجبة العشاء، كان صوت مذيع الأخبار ينقل الحدث:

عُثر على صحفي أمريكي مقتولا بالرصاص في مدينة البصرة بجنوب العراق. وقالت مصادر أمنية "إن مسلحين مجهولين اختطفوا الصحفي ستيفن فينسنت ومترجمته ثم أطلقوا عليهما النار".

وأضافت المصادر قائلة إنهما اختطفا في سيارة شرطة فيما كانا يغادران متجرا للصيرفة في وسط البصرة.

وقالت المصادر إنه عُثر على جثة فينسنت في وقت لاحق قرب مقبرة الانكليز في منطقة الحكيمية حيث وٌجد أنه تلقى رصاص في الراس والكثير من الرصاص في جسده.

كان يسمع تفاصيل الخبر... «"أقترب منهما رجلان وأمسكا بهما وألقياهما في السيارة البيضاء التي انطلقت مسرعة إلى جهة مجهولة، وينقل شهود عيان إن المترجمة منتهى عبد العزيز أسقطت بطاقة هويتها في الشارع الذي اختطفت فيه وذلك ما مكّن البريطانيين فيما بعد من التعرف عليها وقد عثر على جثتيهما وهما معصوبا الأعين وموثوقا الأيدي في ساحة مكشوفة قرب مقبرة الانكليز».

لم أتأثر بما حصل لعائلة نور، صعدت إلى غرفتها، اتجهت صوب السرير، نشرت جسدي فوقه، شممت عطرها، رائحة جسدها، خزانة ملابسها، وجدت كل شيء على وضعه، عطورها، فساتينها، حقائبها، أحذيتها. عند النافذة، كانت السماء حالكة الظلام وثمة لون أحمر قاتم كأنه الدم، كانت الريح تحمل أصوات الموتى، طرت إليها، كانت قريبة منه، وجدتهما متلاصقين، كان الصحفي منكفئا على وجهه وقد نخرت رأسه وصدره أربع رصاصات، وثمة بقعة دم تجمدت أسفل رأسه، بينما نور ثُقب صدرها بثلاث رصاصات ورأسها منكفئ قرب رأس هانس.

انطفأت السيجارة واشتدت اهتزازات الأقدام خارجا ثمّ انفرجت تلك النافذة واجتاحت تلك الأرواح الغرفة، وجدت نفسي في كوكبة كبيرة من الأرواح ارتفعت نور عن السرير ورأيت جسمها الياسمين ينسل من تلك النافذة صوب مقبرة الإنكليز، لا أعرف ما الذي يحدث الموتى يغادرون القبور هل هو فجر القيامة؟ وجدت نفسي في الصفوف الأولى للمغادرين أمامي نور وحارسها الأمين وبرفقتها صاحبها الأمريكي.

تجمّع الموتى بأعداد لا حصر لها، أجسادهم تنضح دما قانيا، كانوا في موكب مهيب، يغادرون مقبرة الإنكليز، متجهين صوب المدينة، في تظاهرة غريبة أشد غرابة مما يحصل لي، قد لا يصدق أحد هذا الذي يحدث، حتى إن أهل السماء ضجوا بالسؤال وهم ذاهلون، لم يصادف أن شاهدوا من قبل هذه الجحيم الأرضية، واصل هانس سيره إلى جانب نور وعندما رآها تبتسم له برضا أمسك كفها الناعمة، كان حارسها يطوف حولهما، يلفهم نور أزرق كأنهم ملائكة.