يقترب هذا التقرير المفصل لأشغال ندوة علمية نظمت ضمن سلسلة تجارب إبداعية، من أحد المشاريع النقدية الجديدة في المغرب والتي لاقت إصداراتها التفاتة خاصة من طرف المشهد الثقافي في المغرب، مما جعل الفضاء الأكاديمي ينفتح ومن خلال هذه الحلقة العلمية، على مشروعها الفكري والنقدي في محاولة لرصد أسئلتها الخاصة وأفقها المعرفي.

سيمياء التقابل وكيمياء التأويل في المشروع النقدي للدكتور محمد بازي

عبد السلام دخان

استضافت جامعة عبد المالك السعدي وضمن سلسلة تجارب إبداعية التي تنظمها شعبة اللغات بالمدرسة العليا للأساتذة بمرتيل الحلقة 36 الباحث الدكتور محمد بازي للاحتفاء بتجربته النقدية والبلاغية في روافدها الجديدة المنفتحة على جماليات التأويل التي أهلته لنيل جائزة المغرب للكتاب" في صنف الدراسات الأدبية والفنية سنة 2010. عن كتابه: "التأويلية العربية، نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات".

محمد بازي باحث رصين يتنفس من رئة التأويل التقابلي. ويعمل على تطبيق منهاجيته وتجريبها على أنواع كثيرة ومختلفة من النصوص والخطابات. وقد تنوعت أعمالهبين النقد والإبداع وعلوم التربية، نذكر منها: في الدراسات العلمية: "التأويلية العربية"؛ و"تقابلات النص وبلاغة الخطاب"؛ و"نظرية التأويل التقابلي"؛ و"العنوان في الثقافة العربية"؛ وفي الثقافة الشعبية: "الجوهر المكنون في كلام أولاد ميمون"، 2010.وفي الإبداع: "أمواج الجنة"، نصوص أدبية من النثر الشعري، 2010.وفي علوم التربية: "صناعة التدريس ورهانات التكوين"، 2010. وهذه الأعمال النقدية وغيرها تكشف عن مرجعيات ورؤى باحث مجدد شغوف مهموم بقضايا التأويل وأسئلته، وناقد أدبي رصين له جسارة التأصيل والتحديث في الآن نفسه، وأستاذ مُكوّن ومربي رؤوم، حَظيَ بتقدير أكاديمي وتنويه خاص من طرف الباحثين المختصين وطنيا وعربيا، واستحقت كتبه ودراساته النقدية التكريم والإشادة والاعتراف بقيمتها العلمية على حد تعبير الدكتور إبراهيم طير الباحث في التَّواصل وتحليل الخطاب في الأدب العربي القديم. الذي قدم في هذا اللقاء الدراسي ورقة تقديمية رصينة للمشروع النقدي للدكتور محمد بازي من خلال ثلاثيته: "نظرية التَّأويل التَّقابلي"، و"التّأويليَّة العربيَّة"، و"تقابلات النَّص وبلاغة الخطاب": وهي ثلاثيةٌ تتضمن مُقدِّماتٍ أساسيةً لنظرية تأويليَّة تقابليَّة مُوَسِّعةٍ على درجةٍ كبيرةٍ من العمق المعرفي والمنهجي والمصطلحي والأهمية الأدبيَّة والنَّقدية والتَّأويليَّة.

إنَّه مشروعٌ معرفيٌّ واسعٌ في مجالاتِ الفهم والتَّأويل وتحليل الخطابات بشتى أنواعها؛ مُؤَطَّرٌ بمسلمة "التَّقابل الكوني" من خلال قيام الوجود في بُعديه المادي والمعنوي على عمليات تقابلية بين عناصر ثنائياته وأزواجه، ومُستنِدٌ، في أساسِه النَّظريِّ المتينِ، على مرجعيَّاتٍ عربيَّةٍ إسلاميَّةٍ قديمة، ومرجعيَّاتٍ غربيَّةٍ حديثةٍ، ودراساتٍ وأبحاثٍ عربيَّةٍ حديثةٍ؛ وخلفيَّاتٍ تأويليَّةٍ قائمةٍ على نظريَّاتِ القراءةِ والتَّلقي، ونظريَّاتِ النَّصِّ والخطابِ. وشموليَّةُ العلومِ التي استفاد منها الباحثُ في تقعيدِه لهذا المشروعِ، توحي برغبتِه في تأصيلِ "التَّأويليَّة التَّقابليَّة" بديلاً قويًّا وناجعاً وشاملاً للمناهج الأحاديَّةِ، في مقاربة النُّصوص والخطابات على اختلاف مرجعيَّاتها، وأزمنة إنتاجها ومقصديَّات مُنتجيها.وترجع أهمية هذه "التأويلية التقابلية" إلى كَوْنيَّتهَا، وجدَّتها، ورصانتها، وغِنى قوتها المصطلحية، وتكاملها التحليلي، ومرونتها المنهجية. فالتقابل، عند د. محمد بازي، هو آلية إدراكية وتواصلية إنسانية يتوسل بها الأفراد لبناء المعاني وتحصيلها.فقد نَقَلَ الباحثُ مفهوم التقابل من مجاله الضيق المرتبط -أساسا- بعلم البديع في البلاغة العربية، إلى مفهوم تأويلي قوامه العملُ على محاذاة المعاني بعضها ببعض والتقريبُ بين العناصر والمستويات ذهنيا عبر إحداث تواجه بين بنيتين أو وضعيتين أو موقفين. وانطواء جميع النصوص والخطابات على طاقة تقابلية مُعبِّرة.ويُعتبر النص عنصرا مركزيا، في نظرية التأويل التقابلي؛ ولمَّا كانت معظم التصورات الحديثة حول النص تصورات تجزيئية، حيث أن الكل يحاول تحديد ماهية النص خدمة لمنطلقاته النظرية والتطبيقية؛ بيّن د. محمد بازي أنَّ كُلَّ نص هو بناء تقابلي أو هو كون لغوي متقابل، يعكس الخطاطات الذهنية الأولية المتقابلة للمعنى عند منتجه؛ أيْ بنية تقابليَّةً قائمةً على الحضور التَّام أو الجزئي، بين مجموعِ التَّقابلاتِ المعجميَّةِ والدلاليَّةِ والسياقيَّةِ المنتظَمَةِ في الخطاب الذي تحمله، والمحيلةِ على الكونِ المتقابلِ والفسيحِ.

وتبعًا لهذا، فالنَّصُّ ليس تامَّ المعنى إلاَّ بحضورِ قوةِ تلقٍ افتراضيَّةٍ وتأويليَّةٍ بانية؛ فالمعنى في التَّصور التَّقابلي غيرُ تامٍّ دائماً، إنما توحي به المكوناتُ النَّصيَّةُ وتُتمِّمُه القراءةُ والفهمُ؛ فالنَّصُّ ليس كلماتٍ وجملَ مترابطةً فحسب، وإنما مجموعُ مصاحباتها السياقيَّةِ التي يُشير إليها، والعناصرُ التَّأويليَّةُ المستحضرَةُ والمؤَوَّلةُ تقابليًّا.كما توقَّف د. محمد بازي طويلاً عند "نصية النَّصِّ" باعتبارها منطلقًا أساسيًّا في التَّأويليَّات التَّقابليَّة. وبعد أنْ عَرَضَ لتصورات الغربيِّين وتحديداتهم "للنَّصِّ" و"اللَّانص" و"الخطاب" و"الأثر الأدبي"... وأشار إلى النَّظرة التَّجزيئيَّة التي طبعت بعض هذه التَّصورات، وبيَّنَ نوعَ القصورِ الذي حملته بعض هذه التَّعريفات، خاصةً تلك، التي تنظر إلى جانب اللغة والتَّدوين في إثبات "نصية النَّص"؛ خَلُصَ الباحثُ إلى اقتراحِ "التَّقابلِ" ضمن لسانيات النَّصِّ بوصفِه عنصراً من عناصرِ النَّصيةِ.

ثم لاَحَظَ قصورَ المنظور الثنائي للتَّقابل عن الإحاطة بكل مستوياتِ تماسكِ النَّصِّ، لمحدوديَّة الثنائيات التَّقابليَّةِ، في حين لو نُظِرَ للتَّقابل نظرةً مُوسَّعةً، تُدمج البنياتِ العميقةَ، لَحَصَلَ توسيعٌ في مظاهرِ نصيةِ النَّصِّ.ولعل مصطلحَ "التَّقابلِ" من أكثر المصطلحاتِ ورودًا في دراساتِ الدكتور محمد بازي؛ فهو لا ينفك يُردِّده ويُقلِّبه في أوجهٍ متعدِّدةٍ، مركزاً عليه بشدة، لكي تَرْسَخَ في الأذهان ميزاتُه في الوضعِ والاستثمارِ، بما يجعل المفهومَ متمكِّناً تمكُّنًا تأويليًّا. فقد كان ومازال مفهومُ "التَّقابل" أو "المقابلة" يستقطب اهتمامَ الباحثين والدَّارسين؛ مثل: غريماس، وأمبرتو إيكو، وطه عبد الرحمان...إلاَّ أنَّ ما جاء به الدكتور محمد بازي يُعَدُّ إضافةً خالصةً وغيرَ معهودةٍ، أسهم بها في إغناء مفهوم التَّقابل وتوسيعِ أنماطِه؛ لأنَّنا لا نجد هذه التَّقابلات عند القدماء ولا عند المحدَثين ممَّن اطَّلعنا على إنتاجاتهم. والباحثُ بذلك يكون قد فتح آفاقًا واسعةً للإحاطة بالنُّصوص من مختلف جوانبِها الدَّاخليَّة والخارجيَّة. وخلص الدكتور ابراهيم طير غلى القول أن ماقدمه يشكل إلماعات يسيرةً جداً بخصوص قضايا تأويلية كبرى عالجها د. محمد بازي بتؤدة رصينة وندية كبيرة، لا شك أنها تطلبت من كاتبها جَهْدا فكريا ومنهجيا.. وأنها أُنضجت على نار هادئة حتى استوتْ إنتاجا معرفيا التفتَ إليه أساطين البلاغة والتأويل في المغرب وخارجه.

وساهمت المداخلة التي قدمها المحتفى به الدكتور محمد بازي  والموسومة ب"في رِحابِ الكَوْنِ المُتَقابِل، نحو نَموذَج تقابلي لتَحْليلِ الخِطاب. في الاقتراب من الملامح العامة لمشروعه التأويلي من خلال التركيز المحطات الكبرى والتطورات انطلاقا من محطة الدراسة والاستكشاف وتحليل الخطاب كتاب:التأويلية العربية: نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات، ومحطة الاستقراء وتتبع مظاهر التقابل في النصوص والخطابات:كتاب: تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي. جاعلا من سؤال ما الَّذي يُحَقِّقُ لدى المتلقي تأويلا بليغا كما تحققتْ لصاحب النَّص بلاغةٌ إنتاجية؟منطلقا للبحث والتقصي العلمي الدقيق.ومحطة البناء النظري الموسع كتاب: نَظَريَّةُ التَّأْويلِ التَّقابُلي: مُقَدِّماتٌ لِمَعْرِفَةٍ بَديلَةٍ بالنَّصِّ والخِطاب. وهي رصد للتحول التحول من التساند إلى التقابل. فالتأويل التقابلي تتميم للنموذج التساندي. والتقابل خاصية كونية، وإنسانية، ومعرفية، وتأويلية . وقد وجد محمد بازي له في النصوص وأفعال التأويل ما يجعل منه مشروعا قرائيا كبيرا. فضلا عنإخراج التقابل من معناه الجمهوري المعروف في البلاغة العربية إلى معنى شمولي مُوسَّع. وتعزيز عناصره وتفريعاته بأمثلة موضِّحةمتنوعة لتأكيد صلاحيته لتأويل أشكال شتى من النصوص. وارتباطا بمرجعيات التصور المقترح ركز محمد بازي على التقابل وتجويد صناعة التأويل كمقترح يسعى إلى تجويد صناعة التأويل،فرحابة صدر التقابل تتسع  للبلاغتين معًا. وعلى التقابلتفاعل تواصلي وإدراكي وتأويلي قائم على التواجه وعلى التقريب بين المعاني ذهنيا وتأويليا لبناءعلاقات دلالية.  وسعى في الوقت نفسه إلى تقديم التقابلات الموسَّعة، والتقابلات الكائِنَة والمُمْكِنَة ،وإلى تقديم خرائط جديدة لتحليل الخطاب لينتهي إلى خلاصة مفادها أن النموذج التقابلييرمي إلى تحقيق انسجام خطاب التأويل الفردي أو الجماعي، ثم محاصرة القصدية بعدد من الأدلة النصية، والسياقية، والعقلية لبلوغ الحقيقة المفترضة والمعاني المقصودة، ولا يتم ذلك إلا بوضع معاييرللمقبولية ترفع العملية الـتأويلية إلى درجات التأويليات العالمة أو البليغة.وذلك هو مقام التملك.