«جاء ثان وصبّ على رأسه ملء دلو من سائل اصفر. كان الدلو مملوءاً بالبول. هل يمكن أن يكون الإنسان قد وصل إلى هذا الحدّ من البشاعة؟ وأجاب على سؤاله بأن الفضل كلّه للعقل الذي منحه الله للإنسان. تملّكه الغيظ الذي لا يقدر على تفجيره. فتحدّث إلى نفسه عن العقل الذي حوّل مساره، وبدلاً من أن يكون مثل جرّار يصعد بعربات البشرية إلى أعلى، فإنه يتجه إلى أسفل. أسفل مكان ومكانة! هل لهذا كلّه من نهاية؟ ومن الذي يتعيّن عليه أن يضع النهاية؟ لعلّه الله. مؤكدٌ أنه هو. إذن لماذا يتفرّج علينا ونحن نتردّى؟ ما الذي يجده فينا من جمال وتسلية؟»
«الناس تتعذّب وهي لا تدري. من الذي يتعيّن عليه أن يقول لهم أنهم يتعذّبون وهم لا يحسّون بما يجري؟ يجب أن يتشكّل وفد من البشر ويرفعون عريضة إلى الله مطالبين بتغيرات جذرية في النظام البشري. إنها كما يُقال واحدة من اثنتين: إمّا أنّ ما يجري من فعل البشر فأرجو أن توقفه يا ربّ عند حدّه، وأما أنه من فعلك وصنع يديك، وهذا لا يتناسب مع قدرك. وحاشاك أن تكون؟! فارفع مقتك وغضبك عنّا. وراح في نوم عميق. مجرّد راحة جسدية بين عذاب وعذاب. راح في نوم عميق»
فؤاد قنديل رواية «عصر واوا»
(1)
منذ الصفحة الأولى لروايته «عصر واوا»(1) يضعنا الروائي البارع "فؤاد قنديل" وسط دوّامتها العاصفة حين يستهل حكايته بالقول: «الجسد الممدّد على السرير ساكن تماماً. لا تدبّ فيه أية حركة. يسيطر عليه سكون لا يدانيه إلّا سكون النهاية. حوله الأهل معلّقون بالانتظار والأمل. يتمنون لحظة تصل فيها إليه قطرة من الوعي. بدا كل شيء كأنه ينتظر هذه اللحظة. حتى الصمت نفسه كان يترقب لحظة انبثاق الحياة من الموت». (الصفحة الثانية طباعيا والأولى سردياً).
وهذه التقنية التي تشعل التوتّر من السطر الأوّل أو الأسطر الأولى للرواية، تكون عادة محفوفة بالمخاطر، لأن القارئ الذي سيبدأ شوطه في مسار الحكاية بذروة توتريّة، قد تنطفئ جذوة انتباهته حين تهبط حدّة الإيقاع السردي في الفصول اللاحقة، وهي – من ناحية ثانية حسّاسة – استعانة بتقنيات الرواية البوليسية التي تبدأ عادة بجريمة القتل مثلا ثم "يهبط" الاحتدام الدرامي فيها – إلى عتبة يرسمها الكاتب وليس إلى الصفر طبعاً - عبر التحقيقات، لكشف القاتل، فيعمد الكاتب المُقتدر إلى الحفاظ على الانتباهة التوترية والتحسبات التوقّعية لدى القارئ من خلال حرف توقّعاته بصورة متكرّرة حول القاتل أو المجرم الحقيقي. وبالنسبة لهذا الاستهلال التوتري الذي افتتح به فؤاد قنديل حكايته، نجده يلجأ إلى "تعليق" صحوة الجسد المُمدّد، لتأجيل كشف الفاعل وكذلك طبيعة الفعل وتقديم التفسيرات "مقسّطة" من ناحية، وتشويش ما يكشفه منها بحيث لا يعزّز أي يقين نهائي من ناحية أخرى. وفيما يتعلق بالشطر الأول نجد الروائي يقول إنّ الأشخاص الذين يحرقهم القلق حول حالة صاحب الجسد الممدّد فاقدا الوعي قد خرجوا إلى الردهة «يرتّقون ثوب الانتظار» ومعهم المتلقّون طبعاً:
«وفي منتصف الليل تقريباً تململ الجسد. وصلت كهرباء الحياة. فتح عينيه وأغمضهما. عاد ففتحهما. ابتسم الجميع، واستعدت القلوب للفرحة بتمام النجاة» (ص 2). لكن – وهذا ما يتعلق بالشطر الأول ايضاً – "شريف" وهذا اسم "بطل" حكايتنا هذه، يطيل النظر إلى كل الوجوه المبتسمة والشفاه التي تتمتم بحمد الله، فتنبت في عينيه أسئلة حول سبب الابتسام وسرّ هذا التجمّع: «لعلّه كان وجهاً آخر لنفس الشخص... وربّما أصبح شخصاً آخر... لا أحد يعرف ما الذي جرى؟» (ص 3).
وبفعل الصحوة المشوّشة، كانت الوجوه المتلهفة المحيطة بسرير شريف تتداخل وتغيم، فلا يكاد يميّز اصحابها إلّا بصعوبة في حركات متدرّجة استغلها الكاتب ليقدّم لنا "وجوه" واسماء الشخصيات الأساسية في الرواية: "عم فريد"، والد زوجته سلوى بسمنته البالونية، أخته "أليفة" التي أجهشت بالبكاء وسقطت على ركبتيه فاهتز السرير، "منير البدري" الذي كان يحاول تهدئتها والذي راجع الطبيب المناوب فسمح له بوصفه صحفيّاً، والنقيب "سليمان الملط" صاحب "أكبر شارب في مصر" كما كان يمازحه.
ولكن موجة الفكاهة الهادئة هذه أجهضها الكاتب – بدراية – ليعزّز الشطر الثاني المكمّل من الشحنة الدرامية في تغييب "سرّ" هذا الموقف المتأزّم، فيتركنا حيارى لا نعرف ما الذي جرى. ولا يكتفي بهذا القدر، بل يضاعفه بـ "سرّ" مؤجّل الكشف لدى "سليمان الملط": «تذكّر سليمان أنّ "واوا" هرب من السجن، وكاد يقول لشريف، لكنه أدرك بسرعة أن الخبر كفيل بالقضاء عليه. لحق بلسانه المُندفع في آخر لحظة.» (ص 7). وبدخول إسم "واوا" إلى دائرة التداعيات، يتضح جانب من دلالات العنوان الذي – كما كرّرت كثيراً – لا يكفي ليكون "ثريا" للنص بمعنى كشف مغاليقه إلّا بعد تحليل وقائع الرواية واستكمال "الصورة الكلّية – Gestalt"، ووضعه – أي العنوان – في مكانه المناسب ضمن إطارها.
ومع الإشارة إلى "السجن" يُدخل قنديل "وكيل النيابة" إلى مسرح القصّة. وهنا أيضاً يقوم الروائي بإرباك توقّعاتنا، و"تأجيل" التعرّف الذي سوف يُجهض كل شيء ويهير حبكة الرواية منذ بدايتها، فقد جعل شريف يمارس لعبة "وكيل نيابة" يحقّق مع نفسه تحقيقاً شخصيّاً آخر سمّاه "تحقيق ما قبل التحقيق"(ص 7).. عقله المُجهد الذي راح يدور – ويا له من وصف موفّق – بسرعة كعجلات سيارة تغوص في الوحل لم يستطع التقاط المفتاح المركزي لكل ما يدور حوله من وجوه وأصوات وتساؤلات. لذلك طلب الطبيب من وكيل النيابة تأجيل التحقيق إلى الغد – وهو التأجيل الثالث – ليوغل الكاتب في "تأجيل" التأجيل إذا ساغ الوصف. ثم يمعن في إرباكنا بدرجة أشدّ حين يحذّر وكيل النيابة – وهو في طريقه خارجاً - شرطي الحراسة بأن لا ينشغل عن المُصاب لحظة واحدة، وليقفل حولنا دائرة التساؤلات حين يحذّر النقيب سليمان – بدوره – الشرطي المسكين بأن هناك عصابة سوف تقتل المُصاب!! (ص 8). وبهذا الختام المدروس لهذا الفصل الابتدائي يفلح الروائي في تصعيد وتائر التوتر الدرامي، وتجنّب الوقوع في مصيدة التشتّت أو التراخي في الإمساك بالخيط المركزي الذي – وبخلاف التوقّع التقليدي – شوّش كل ما يجري، وكأنّ حالة التصدّع العقلي التي خلقها فقدان الوعي لدى "شريف" قد انتقلت إلينا فصرنا مثله أو قريبا من حالته المشوّشة المختلطة التي لا نستطيع – وغمامتها تحيط بأذهاننا – أن نحدّد وبدقة ما الذي يحصل حولنا.
كل شيء جاء منسجما لتحقيق هدف الإرباك والتأجيل في جو الردهة المحيط بشريف الذي يغالب فقدان وعيه واضطراب ذاكرته، عدا تلك الإشارة التي انفلتت من "ثامر" - أحد طلبة شريف الثلاثة المتألمين لحالته - عن حصول ناظر المدرسة على موافقة الوزارة على رحلة المدرسة لزيارة السد العالي وبحيرة ناصر، وتعليق زميله "منير":
«رغم كل ما تدّخره من خيرات، فلا يزال هناك من يحرص على عدم الاستفادة منها» (ص 6 و7). فقد فرضتها حماسة الروائي المعروف بانهمامه الشديد بهموم وطنه وأمته، فتأتي هذه الإشارة لتعكس مقدار "صحوته" ووعيه الحاد في ترتيب ممهدات لطروحات اجتماعية وسياسية مُقبلة مُرتبطة أيضاً بالحبكة الأساسية للرواية كما سنرى.
(2)
بعد أسبوع مُرهق أمضاه شريف في المشفى يصارع نوبات فقدان الوعي وتصدّع الذاكرة، ها هو يجلس الآن وحيدا في شقّته، ليبوح لنا الراوي، الآن، بدفعة عن محنته تزيد حالة التوتّر لدينا توتراً. إنها جرعة علاجية ماكرة تسهم في التشويش، وتُدخل متغيراً جديداً في عمليّة "التأجيل"؛ تأجيل "السرّ". السرّ الضروري لأي حكاية، ومن دون وجود "سرّ" لا توجد أي رواية أو قصّة، وحتى أيّ شكل من أشكال الإبداع. وهذا السرّ – وبطبيعة بنيته – يجب أن يكون قابلاً للإفشاء. لا وجود لسرّ إلّا إذا كان قابلاً للإفشاء. لا سرّ إلا إذا كان محتوماً كشفه حتى قبل عملية انكشافه النهائية. وفؤاد قنديل يلعب معنا لعبة سيّدة الحكايات "ألف ليلة وليلة" الخالدة حين يتم إخبار شخص ما – يكون في العادة امرأة – بأن لا يفتح غرفة محدّدة ولكنه يُمنح مفتاحها. تصوّر هذه العبقرية المُلمّة بخفايا النفس البشرية. ويقوم هذا الشخص – كما هو متوقّع وكما تتمنى كل نفس – بفتح هذه الغرفة المُحرّمة ليحلّ الخراب. ومن دون الخراب لا يمكن بناء حكاية. يجب على الحكّاء "تخريب" شيء ما «وفي مطلق الحالات يكون الشيء المُخرّب محرّماً كناية عن المحرّم الأمومي بصورة أساسية أوّلاً، والمحرّم الأبوي ثانياً الذي تتأسس الميول لخرقه بل قتله في الوجدان منذ الطفولة». وأي تخريب هو رسول من رسل الموت؛ الموت الذي بحضوره يشع وجه الحياة ويتألق. فؤاد يقدّم – في استهلال الفصل الثاني - جرعة مُركّبة من "سرّ" حكايته تُشعل في أعماقنا الرغبة بفتح غرفته المحرّمة:
«حاول أن يعرف مكانهم لينتقم، ولكنه للأسف ذهب معصوب العينين وعاد جرياً في الظلام يضرب في بيداء صخريّة متّسقة مع كل شيء. تعثّر في نتوءاتها عدة مرات. إلّا أنه كان ينهض بحثاً عن أي ابتعاد أو أي حياة غير حياة هم فيها. ظلّ معلّقاً بأرجوحة وعيه لحظات، إلى أن تمزّقت الخيوط الواهنة فسقط في مستنقع الغياب قريباً من تخوم النهاية»(ص 10)
لم يبق معه أحد من أقربائه. رفض ذلك لأنه كان يشعر بأن عليه أن يكون وحيدا بعمق غير عادي حتى تتأكّد قناعته بأنه تخلص من هذا العالم (ص 10). كانت أخته أليفة آخر المغادرين وقد أصبحت مسؤولة عن محل العطارة العائد لزوجها الذي اتسعت تجارته مع الأقطار العربية وابتلعته، بعد أن ورث دكانا صغيرا عن والده، لتلحقه أليفة وتكشف عن مهارة غير عادية في استثمار أموالها. نسته ولم تصله خلال العام الأخير مرّة واحدة، في حين قام بزيارتها منذ شهر. وهذه الإشارة وغيرها تكشف جوانب من ركاكة النسيج الاجتماعي وتمزّقاته.
المهم أنّ شريف الآن وحيدٌ في بيته الحبيب، يتفحّص كل شيء فيه بمشاعر "أمومة": «بيته الحبيب. كل قطعة أثاث. كل سنتيمتر من الأرض. الصور والذكريات. اشتاقت إليه. إلى نظرته الحانية الوادعة. كل ما في البيت ينتظر دوره كي يهنأ بنظرة ودّية. بدا على كل شيء أنه جف في غيابه وتشقق. وحان موعد السقيا واللمس الجميل.»(ص 11).
وفي الحركة التالية التي يطفئ فيها شريف سيجارته في المنفضة بعصبية، ويصف الراوي حالته الذهنيّة بالقول: «كانت سجائره تدفعه أمامها محتضنا أفكاره الباردة. وتأخذ بيده من ذكرى إلى ذكرى بينما يقبع الزمن في ركن معتم. تبرق عيناه ولا تهتز فيه شعرة ككلب ضربه صاحبه بقسوة. لكنه لم يفكّر أبداً في الهرب. مع أنه ليس عاجزاً عن الدوران حول الكون كلّه» (ص 11 و12). أقول في هذا الوصف، سيلفت انتباهك - سيّدي القارئ - جملة «لا تهتز فيه شعرة ككلب ضربه صاحبه بقسوة». فهي تشي بزفرة من عدوان مستتر من المؤلف على بطله، خصوصاً عندما تربطها بجملة أخرى وردت ضمن مقطع وصفي آخر قال فيه الراوي عن شريف: «كان يريد أن يكون وحيدا في بيته الذي غاب عنه أسبوعا كاملاً ولا بدّ أن يستمتع بهذه الحرّية اليتيمة. وهو يتمرّغ في رماد الذكريات كحمار لا يقدر على حكّ ظهره»(ص 10).
أين وجد فؤاد قنديل هذا الوصف: «يتمرّغ في رماد الذكريات كحمار لا يقدر على حكّ ظهره؟!»
إنّها واحدة من أكثر الصور الوصفية بلاغة للتدليل على حال إنسان مُحاصر اختلطت عليه الأمور ويبذل كل مستحيل للظفر بمبتغاه (مبتغى ضمن دائرة ذاتية بسيطة)، ولكنه يفشل بصورة محتومة كلّ مرّة. ومع ذلك فإنّ ضرورات المحاولة المستحيلة مستمرة وضاغطة.
لكنها صورة شديدة القسوة، على الرغم من دقّتها "العنيفة" المُعبّرة عن دوافع الراوي – ومن ورائه المؤلّف – "السادية" التي تشتغل من وراء ستار قد لا يعيه المؤلّف نفسه؛ المؤلّف الذي هو الحي الذي لا يموت كما قلنا سابقا في أكثر من مناسبة. وهذه الصورة – مع الصورة التشبيهية اللاحقة - قد تعكسان نفاد صبر المؤلف المُحاصر بصور الإحباط اليومي وهو المفعم بروح عارمة تسعى للتغيير ومقارعة الشر والانتصار للمقهورين بحفزهم على النهوض والتحرّك والرفض، لا أن يحيون ولا تهتز فيهم شعرة مثل "كلب ضربه صاحبه بقسوة"!. وقد يكون هذا التأويل لهاتين الصورتين التشبيهيتين صعب الاستيعاب على ذهن القارئ في هذه المرحلة. لكن الشوط المقبل من تحليلنا لوقائع الحكاية قد ييسّر الأمر عليه أو .. يصعّبه. ولكن على السيّد القارئ أن يكون طرفاً فاعلاً في إكمال ملامح صورة شريف النفسية "الداخلية" من خلال الانتباه إلى دقائق تصرفاته خصوصا حين تكون تصرفاته مقبولة اجتماعياً يتشارك القارئ معه – بحتم الموافقة الاجتماعية – فتقل حساسيته النقدية بسبب "غشاوة" الاعتياد والألفة والمباركة الجمعية.
ولعل أول تطبيقات فرضيّتنا هذه هو ما يقوم به شريف الآن من تفحّص الصور العائلية التي علّقها في ردهة الشقة، وأوّلها صورة كبيرة تجمعه مع أمّه وأبيه حيث تساءل أمامها عن إمكانية عودة عهد "الآباء" من جديد!! فقد كان على ثقة بأن هذا الجيل بالذات من الآباء الذين وُلدوا في الربع الأول من القرن العشرين جيل غير عادي في الكفاح والعطاء وتحمّل المسؤولية (ص 12). وقد لا يلتفت القارئ – لأن هذا المديح مشترك في كل المجتمعات العربية ومُقرّ دينياً وقيمياً – إلى تساؤل نقدي متردّد عن الطرف "الأبوي" المقابل الذي يقوم شريف بمقارنة خصاله بجيل آباء الربع الأوّل من القرن العشرين. إنّه طيف محصور من الآباء يشمل شريف نفسه في دوره الأبوي الراهن. وكحقيقة نحياها في كل المجتمعات العربية، فإن هناك حالة من الترحّم والبكاء على أطلال الماضي – يذكّرك طبعاً بالمقدمة الطللية المحروسة في القصيدة العربية القديمة – ومن بينها أطلال الآباء السابقين. وهي حقيقة لا يمكن نكرانها، لكن علينا أن نلمح وبسرعة إلى حقيقة مغيّبة، سنعود إليها لاحقاً، وترى أنّ جيل الآباء القويّ والمستبد قد أنتج جيلاً "مخصيّاً" من الأبناء.
أمّا الصورة الثانية التي توقّف أمامها شريف، فهي صورة "سلوى" زوجته الحبيبة. صورة كبيرة رائعة تتصدّر الردهة. وعرفيّاً في مجتمعاتنا العربية، أجد أن من الصعب وضع صورة كبيرة للزوجة في صدر الردهة. لقد اعتدنا على وضع صورة الزوجين مثلا أو العائلة والأطفال وليس صورة للزوجة منفردة. لنضمر هذه الملاحظة في أذهاننا لوقت قصير، ونلاحق تداعيات شريف أمام صورة زوجته حيث: «تطلّ سلوى بملامحها الباسمة، تتألق بالجمال والرضا. تُقبّل بطة صغيرة، وفوق صدرها يصعد البطّ الصغير الأصفر. يتشبث بالفستان الأحمر بأظافره الطريّة. بعض البطّات ما تزال تحت الثديين وبعضها صعد ووقف على الكتفين، وشرع يتلفّت واثقاً من قمّته»(ص 12).
وهو وصف مُوهم وحركي، وفي الغالب يأتي هذا اللعب "الرمزي" الخفي معبّراً عن حاجات نفسية دفينة هي أكثر من الحاجة النفسية والجنسية لزوجة. كما ان شريف قد اختار هذه الصورة من بين آلاف الصور التي التقطها لسلوى، وحظيت منه بتقدير خاص واهتمام. لقد التقط لها صورا في كلّ مكان أظهرت براعته في فن التصوير. لكنه في هذه الصورة لم يهتم بالشروط الفنّية الشكلية بل صبّ اهتمامه على مادة الصورة: سلوى الحبيبة وهذا البط الصغير الذي لم يتجاوز عمره اسبوعاً واحداً. تربّى في أحضانها وهام بها منذ خرج من البيض»(ص 12 و13).
ولأن "القصة القصيرة فن والرواية علم"، كما أحاول التأكيد دائماً، فإن على الروائي أن يعاود الطرق على "حلقة الوصل" أو "حلقات الوصل" المركزية – أستاذها المبتكر هو الفرنسي "مرسيل بروست" في "زمنه الضائع" - التي تشدّ حلقات الرواية إلى بعضها بقوّة تتيح إحكام سبك نسيج حوادثها أوّلا، وتمنع انسراب انتباهته في مسارات ثانوية مهما كانت أهميتها وتذكّره بالحدث – أو الأحداث – المركزي الذي يعكس جوهر حبكتها ثانياً، وتعيد إيقاظ قدرته على الربط بين موقفه الراهن والموقف الكلّي في الحكاية ثالثاً. وحلقة الوصل المركزية حتى هذا الموضع من الرواية هي صدمة شريف المشوشة بسبب الواقعة التي يبدو أنها جللٌ ومن نمط الشدائد الفاجعة التي لم نعرف كنهها حتى الآن، وها هو شريف يعيد إثارة حلقة الوصل المركزية في أذهاننا، وهو يقف الآن أمام صورة سلوى التي لم ينظر إليها سابقاً إلّا وشعر بالرضا والأمل، ويتساءل: «ما هو شعوره الآن بعد ما جرى؟ هل ما زالت قادرة على أن توحي بشيء. أيّ شيء؟» (ص 13).
ومن صورة سلوى إلى صورة أخرى يثير فزعه اختفاؤها من مكانها مع الصورتين السابقتين: صورة أبويه وصورة حبيبته سلوى، وهي صورة الراحل "جمال عبد الناصر": «الرجل الذي أحبَّه كما لم يحب إنساناً قط. مستحيل. لم يجد الصورة. غريبة أن تختفي هذه الصورة التي لا أظن أنها تعني أحداً. أم أن هناك خطة لنزعه من قلبي. وهل نزع الصورة يحقّق ذلك؟ لقد كان في الصورة منشغلا عن الجميع - بعد رحيله - بلعب الشطرنج منصرفاً بكل فكره وأعصابه إليه. كم أودّ الآن أن ألعب دوراً. لابدّ أن أجد الصورة. حان أن تجمعني معه مباراة. أصبحتُ مثله وحيداً في عزلتي أتأمل الناس والأقدار وأحصي الخسائر»(ص 13).
ولنضع في أذهاننا – كإجراء يمهّد لخطوة انتقالية أوسع – حقيقة أن عبد الناصر هو أيضاً من جيل "الآباء" الذي لا يتكرّر. والوصف الأدقّ له هو أنّه "الأخ الأكبر" الذي تصدّى لدور الأب في انبثاقة فريدة في التاريخ العربي المعاصر، فالتف حوله كلّ الأبناء/ الأخوة الصغار، الباحثين عن حمى "أبوي" يذود عنهم مشاعر الانخصاء، ويلهمهم القدرة على البحث عن سبيل يؤكّد ذواتهم الضائعة. فتأسّس ارتباط عجيب عزّ نظيره، بحيث أنه حينما اختفت "صورة" عبد الناصر – وظهر فعلياً أن اختفاءه كان اختفاء "صورة" وجدانية كبرى طبعت بصماتها النقيّة في الروح العربية – لم يستطع الأخوة الصغار أو الأبناء الذين ضيّعهم الغياب الأخوي/ الأبوي المُركب في لحظة نفسية نادرة، أن يتخلّوا وبسهولة عنها. عن الصورة، فصاروا يعلّقونها حتى في غرف نومهم في ولاء ظاهر عزوم وساخن، ونكوص باطن معوّق وغير قابل للحلّ. في الحقيقة دخل الأبناء مع الذكرى في "لعبة" نفسية لا تنتهي. فكلّما حاصرتهم النوائب وشرور الفساد عادوا لـ"يلعبوا" معها لعبة الشدّ الذاكراتية التي تكشف الحقيقة المؤلمة، وهي أنهم إنما يتعاملون مع "صورة" يطلبون منها المدد السحري للحماية من جور الواقع الساحق. ولعلّ في أعماق هذا الموقف التعبيري الرمزي الذي صمّمه فؤاد قنديل تلوب انحصارات وصراعات شديدة التعبير عمّا قلناه، فالصورة المنزوعة التي يبحث عنها – الآن – بلهفة تهمس لشريف الإبن المفجوع. وتناديه:
«طالت وقفته في حجرة النوم وقد تصوّر أن هناك من يهمس في أذنه: أنا هنا. اصاخ السمع: أنا هنا... تحت السرير. لم يصدّق أذنيه، ولكنه ساير أحلام يقظته التي تتولى شؤونه أغلب أيامه الأخيرة.. أطلّ تحت السرير.. ألفى الصورة والزعيم فيها يفكّر في الحركة الصعبة التي يستعد لها»(ص 13 و14).
وتسلسل النقلات التي قام بها شريف وطبيعة التداعيات التي كانت مشحونة بها: من صورة ابويه، مرورا بصورة زوجته، وانتهاء بصورة عبد الناصر، هي نقلات محسوبة نفسيا رسمتها مخزونات لاشعوره كما سنرى. وإذا كان شريف قد اعتبر همس صورة عبد الناصر الذي جاءه من تحت السرير نتاجاً لحلم يقظة من الأحلام التي استولت عليه مؤخرا بعد حادثه الرهيب، فإن تداعيات أفكاره واستجاباته الانفعالية الآن وهو يفكر في الصورة الملقاة بإهمال (وفيها الزعيم) مفكّراً بالحركة المقبلة في "لعبة الملوك" كما تُسمّى لعبة الشطرنج عادة، ليست من نتاج حلم يقظة بل هي تداعيات واستجابات فعليّة فرضها موقفه النفسي الشائك والمعقّد الراهن: «تأثّر لوضعه. صحيح أن البيت بيته وكل موضع يريحه له مطلق الحرية أن يسعى إليه، ولكنه ولاشكّ توجّس شرّاً فاختبأ. لابدّ أنّه علم بما فعلوه معي ففضّل أن يبتعد عن طريقهم. تأمله لحظات. خالجه شعور بالإشفاق. أعاد الصورة إلى مكانها على الحائط الآخر من الصالة، واطمأن على تثبيتها جيّداً». (ص 14).
وانزواء البطل؛ بطل شريف، واختباؤه، ابتعاداً عن طريق الأشرار الذين آذوا شريفاً، يعكس في الحقيقة انحسار الدور الإنقاذي الذي أنيط بالأخ الأكبر – طبعاً ليس على طريقة الأخ الأكبر في رائعة جورج أورويل (1984) – والشعور الممض أنّ موضوعة العلاقة التاريخية والنفسية الآسرة إنّما صارت علاقة بـ "صورة" أو بـ "صدى" صوت يترجّع في وحشة العالم الداخلي عند الضرورات النكوصية. الصوت والرجولة التي يسترجع شريف حديث سلوى عنها: «أحبّ رجولته وصوته الرنان مع مسحة من شجن. وعينيه السوداوين. نعم في عينيه كل الجمال الحسّي والمعنوي» (ص 14).
وفعلا، كان صوت صاحب الصورة الغائب شديد الفرادة وعجيب التأثير لم يسبقه ولم يعقبه صوت مؤثر لزعيم عربي أبداً. بل قد أبالغ وأقول أنني لم اسمع صوتاً لممثل له هذا التأثير في الروح. إنّ صوت عبد الناصر تمتع بسمة سحرية تتمثل في أنه بديل سحري عن صاحبه من ناحية، وله قابلية عجيبة على النفوذ في الأعماق البشرية ليستثير كل آمالها ويُنهض طاقاتها الثأرية الساخطة من ناحية أخرى. «إن العلاقة الأبوية التي كانت تجمع بينه وبين أبنائه كانت من نمط خاص للغاية. وبمعنى ما، كانت علاقة مجنّسة، ولكن، كما في الميثولوجيات الكبرى، كانت علاقة "حبل بلا دنس"، وفي الحالة التي نحن بصددها كانت علاقة صوت بأذن. ولا ريب أن صوت عبد الناصر كان بحد ذاته معبّراً ساحراً عن المشاعر الجماعية، وترجماناً لأعمق صبوات الأمة. وبكلمة واحدة، كان صوت شعب بلا صوت. ولكن صوت عبد الناصر لم يكن هذا فحسب. ففي كل مهرجان خطابي – وكان كل مهرجان خطابي بمثابة حمّام جماهيري – كان ألوف المسحورين بذلك الصوت، سواء في الساحات العامة أو من خلف المذياع، يتجرّدون من فردياتهم وينسلخون من جلودهم، لينصهروا في كتلة لدائنية واحدة تتشكل وتتموّج في شبه مطاوعة أنثوية لنبرات ذلك الصوت ولإيقاع طلعاته ونزلاته»(2).
وحين اقول أن أدقّ أفعالنا محكوم بحتمية لاشعورية، فإن المقصود من هذا هو أنه لا يبدو عشوائياً أو مرتبطاً بأهداف واعية "ماديّة" على سطح الشعور، بل بمقرّرات ودوافع لاشعورية دفينة تصمّم حتى التسلسلات التتابعية لسلوكياتنا في كسرها لرتابة هذا التتابع. وهذا ما حصل حين قفز شريف - وكان سارحاً - يرنو إلى سلواه والبط الصغير، فقد هبّ واقفاً فجأة، وهُرع صاعداً إلى سطح الشقّة. وهناك صدمه المشهد المروّع: مذبحة الأوز والبط والدجاج.. كلّها نفقت وتمدّدت على الأرض.. إنّها جثث متفسّخة بعد أن كانت كائنات مفعمة بالحياة وبالحركة الصاخبة المنعشة.. حتى الأرانب طلعت عليه من عشّتها رائحة الموت القديم وأمسكت به وهزّته بعنف. إنّها الانفعالات التي اثارتها مشاعر "اليتم" أمام صورة عبد الناصر، وسعّرتها أحاسيس الوحدة الحارقة أمام صورة سلوى وبطها الصغير الذي كان يتسلّق جسدها فرحاً مثلما كان هو نفسه يفعل.. إنّه التماهي البنوي، الذي ترجع أرجاؤه صدى "جنون التماهي" الذي عاشه الابناء مع أبيهم / أخيهم الأكبر في زمن أحاسيس الإقتدار الأوديبي الضائعة. هذه كلّها حفزته فوراً، بدفعة من "الداخل" المصطخب ليرى "أبناءه" هو بدوره، فشهد المذبحة: مذبحة "الأبناء" الذين قتلهم الغياب والإهمال والعجز وروح الإتكال، وها هو يجلس منكسراً بينهم في مشهدٍ مُستعاد ينبض بحشرجات اسى الإنثكال القديم نفسه بالرغم من بساطة ممثلاته وتعبيراته الرمزية، وتحاصره تلك المشاعر المتضاربة العنيفة حين تحوّل الرمز إلى "صورة" تنزوي الآن مرتعدة تحت السرير: «الجميع الآن جثث... نهايات... جلس صامتاً منكّس الرأس.. هل يأسى لمن ماتوا أم يأسى لنفسه؟... أم يندم.. أم يفكّر في شيء آخر.. لم تصدر عنه حركة.. كان متسقاً تماماً مع معالم المكان... كان واضحاً أنه يشعر بالإضطراب لأنه لا يجيد أي طقس من طقوس هذا الاحتفال المتعفن ... بينما كان يعيش آخر يوم في مأساة كاملة دامت نحو شهرين ونصف ... وقد أوشك أن يجهش مودعاً القاعة التي عُقدت بها جلسة الأحزان الختامية والتي أقيمت على شرفه وحده، فهو وحده الجدير بحضور مثل هذا الإجتماع البليغ، بينما هو يستعد ليرحل عن الاجتماع الذي انتهى دون توصيات إلّا وداعاً أيتها الحياة» (ص 15 و16). ووسط هذا الطوفان الهادر من الإحباط - وبسببه - كان من المحتّم أن تتفجّر مشاعر الرغبة في الانتقام الساحق ممزوجة بشيء من مشاعر التعقّل، فذهب يبحث عن صاحبه "شمعة" - ولاحظ دلالات الإسم – وحين أخبره أصدقاؤه المقرّبون أنّ شمعة قد ألقي عليه القبض فجراً انطلق هائماً في الشوارع عازماً على البحث عن أي شمعة .. أي شمعة (ص 17).. بحثاً عن الثأر والإنتقام لا من الباشا ولا الواوا (وإلى الآن لا نعرفهما نحن القرّاء): فلا معنى لهذا الإنتقام.. المسألة أكبر وأعمق.. لابدّ أن تمتد الأيدي وتلتحم القلوب المحتشدة بالغضب» (ص 17).
وها هو شريف الإبن الميتّم والمُضيّع يلوب، لكن تضلّله غيمة الرعاية الأمومية دائماً: سلوى؛ أمامه وفوق رأسه تطوف به كطائر يحاول أن يسكنه. ودائما يحاول الروائي تسليمنا الحلقة الجديدة من نقطة اتصال بالحلقة القديمة تدور – من جديد – حول "تأجيل" الحدث/ السرّ، و"تلغيزه"، وإهاجة تشوشنا بالمشاركة مع بطلنا الحائر وسط دوّامة محنته المدوّخة: «ودائما كان هناك شريط أحداث الشهرين الأخيرين يدور حوله ويطعنه... صورة بعد صورة منذ احتفى بعيد زواجه السابع». (ص 17).
(3)
الآن، تبدأ رحلة استعاديّة (فلاش باك)، يسترجع فيها الكاتب - من خلال شريف - الذكريات السعيدة، مبتدئاً من نقطة صفر - إذا جاز التعبير - قد يعتقد القارئ أنها سوف تسهم في إجهاض أو تخفيف المسار التصاعدي المحتدم لإيقاع أحداث الرواية، ولكنها سوف تفعل العكس، من وجهة نظري، من خلال المقارنة بين "جُرع" الخراب التي زرق الروائي عروق وعينا بها خلال الفصلين السابقين، والطبيعة الآسرة للعلاقة الحبّية الرائعة بين شريف وزوجته سلوى. إنّها البداية الاستدراجية المُطمئنة في حكايا سيّدة الحكايات ألف ليلة وليلة: "كان يا ما كان" أو "بلغني أيها الملك السعيد" التي أخّرها الكاتب، وقدّم بدلا منها النهاية الصادمة والجارحة التي يأتي فيها "هادم اللذات ومفرّق الجماعات" كما تقول أميرة الحكّائين السيّدة "شهرزاد".
كانت سلوى تجلس منبهرة ومأخوذة أمام شاشة التلفاز تتابع أفلام الكرتون المخصصة للأطفال لساعات في هذا الصباح الذي يمثل يوماُ فاصلا في حياتهما الزوجية حيث يوافق العيد السابع لزواجهما. كانت مدمنة على أفلام الأطفال، ولهذا فقد باركت لزوجها هذا اليوم وعادت سريعاً إلى ملاحقة فيلم الأطفال الذي يعرضه التلفزيون. وكان شريف يرصد أدق خلجات تعبيراتها وهي تتابع باهتمام حال البنت الصغيرة التي يطاردها الوحش في الفيلم. كانت تتلوى على كرسيها، وقد علت وجهها سحابة حزن عميق حتى أن ملامحها تداخلت من الألم .. كانت تتأوّه كلّما تلوّت البنت في يد العملاق. وحين بكت البنت وصرخت، فوجئ شريف بالدموع على خدّ سلوى تسيل في صمت (ص 19). وهذه – في الحقيقة - تعبيرات عن جوانب طفلية في شخصية سلوى.. عن تأخر في النضج الانفعالي.. عن مرحلة في التماهي – نوعاً وشدّة – كان يجب أن تكون قد غادرتها منذ زمن بعيد. وهذه المظاهر السلوكية تأتي ضمن حزمة من الأفعال تشير كلّها إلى معاناة شريف "اللذيذة" من طباع سلوى وتصرّفاتها. فامتصاص مشاهدة الفيلم لها عطّل انتباهها لأي شيء آخر: نسيت الغسالة التي ملأتها بالملابس .. وحين نبّهها شريف ألقت في بطنها دورا ثانيا وعادت قفزاً إلى كرسيها التقليدي أمام التلفاز.. وحين رنّ جرس التلفون أسرعت إليه ووضعته في حجرها لتتابع الفيلم .. ونسيت الغسالة وغاصت في الحديث ناسية كل شيء حتى زيارة أبيها لهم هذا اليوم ولم تشتر اللحمة لدعوة الغداء .. وهكذا.. فسلوى امرأة خُلقت من مادة خاصة بها وحدها هي النسيان .. في الواقع كان وجودها يخلق فوضى منزليّة "يأنس" لها شريف الذي كان يكتفي بالنظر إلى السماء معاتباً الله:
-لماذا يا ربّ اخترت لي هذه السيّدة دون كل نساء الأرض!! (ص 21)
وهي لا تنسى نسياناً مطلقاً، بل تمتلك ذاكرة "انتقائية" تلتقط برامج التلفاز وسير حياة الممثلين فقط. إنّ هذا الانشغال بالدائرة الشخصية ورغباتها التي يمكن تأجيلها، على حساب متطلبات الحياة الزوجية، يعكس الكثير المستتر في لاشعور سلوى سنتركه إلى حين. ولكن المهم في ذلك هو هذه الروح الاستقبالية "المازوخية" لدى شريف الزوج. لقد دخل عليها ذات يوم فوجدها ترقص لأن راقصة في التلفزيون ترقص، ولم تقم بهدم بيوت العنكبوت التي ملأت البيت وطلب منها أن تقوم بهدمها.. صحيح أنه كان يحتج ويتذمّر من سلوكها إلّا أنّه كان يعدّ نسيانها أقل خطورة من ذاكرة نساء أخريات يتفنّن بهذه الصفات في خلق الأجواء التعسة في مجال الحياة الزوجية (ص 22). ولم يكتف بذلك حسب، بل راح يحل نفسه بديلاً عن "الله" في البحث عن تفسير دقيق لعدم استجابة الله لشكواه: «كان في البداية يعزو ذلك لأنه يشكوها له ربّما وهو غير طاهر، وربّما لأن الله يدرك أنه غير جاد في مظلمته.. لكنه بعد سنوات اقتنع أن الله لا يريد أن يعبث في مخلوقاته بعد أن أعدهم بهذا الشكل ووزّع عليهم عيوبهم ومزاياهم المتباينة، بحيث تكون عالماً من الناقصين يحتاج فيه كل فرد للآخر. ومادام الله، قد قرّر ذلك، فسوف يظل الأمر كذلك» (ص 22). إنّ محاولة شريف "الحلول" محل المرجعية الإلهية في إيجاد التفسير الملائم لعدم الاستجابة لشكواه من سلوى، فيها قدر من "الروح التحرّشة" التي هي واحدة من أعظم مهاميز الإبداع المتفرّد. إنّ الإبداع في جوهره هو محاولة لتحقيق الامتداد الخلودي للإنسان الفاني في وجه الموت أو المثكل حسب وصف جلجامش العظيم له. في ساحة الإبداع - وليس على أرض الواقع الصخري المسنّن - نستطيع الحصول على امتيازات إلهية صغيرة لا يُسمح، بل من المُحرّم، حتى أن نجرؤ على التفكير فيها في وعينا المُراقب من كل الجهات القامعة – خصوصا الدينية والسياسية منها -. ولكن استثمار هذه الفرصة الكبرى يتطلب روحاً "تحرّشية" وإرادة تعرّضية واقتحامية تطلق زفراتها بلا تردّد. يتكرّر الأمر الآن حين يدخل عم فريد - أبو سلوى - وأمّها، حيث يتفق شريف مع العم على أداء صلاة الجمعة في سيدنا الرفاعي، فتبدأ تداعيات شريف "التحرّشية" عن سبب عدم استطاعته أداء الصلاة في حين يصلّي الكثير من الناس؟! لقد تعلّم الصلاة في صباه لأسباب مصلحيّة، فقد كان يصلّي باهتمام قبل الامتحان وعندما ينجح ينسى الصلاة (ص 24).. وحتى عندما عاد للصلاة بعد الزواج كان دافعه الظروف الصعبة التي أحاطت به التي اعتقد أن سببها غضب من الله لتركه الصلاة!! ثم تتصاعد تلك الروح لتلقي المسؤولية على عاتق الذات الإلهية: «أنت تعلم يارب أني عبدك المطيع الذي لا يفعل ما يغضبك.. فلماذا أجد صعوبة في الصلاة خمس مرات يومياً؟ ولماذا لم تشجع نبيّنا محمد كي يطلب منك أن تكون مرتين؟ لماذا لا تجذبني إليها ولماذا لا تجذبها إلي؟! أنت تجعلها عليّ ثقيلة وتستطيع طبعاً أن تجعلها عليّ خفيفة!» (ص 25).
ثمّ يخيّر الله بين أن يجعل الصلاة محبّبة إليه مثل سلوى، وبين أن لا يحاسبه عليها يوم القيامة، ويطلب منه أن يُرسل إليه علامة (آية كعلامة أو ملاك يخبره).. ثم يستدرك: "آه.. فهمتُ.. أنا لست موسى ولا ابراهيم ولا أحداً من الصفوة" (ص 25).. وأخيرا انحسرت وتائر همّته الإيمانية في تعبيرها الطقوسي الأجلى المتمثل في أداء الصلاة بتشاغله عن عمد أو غير عمد عن أدائها في اليوم الوحيد المقدّس، وهو يوم الجمعة بعد أن نفض يديه، كما يبدو، من أن تحمل إحدى الصباحات المصرّة على الطلوع، الخبر الذي ينتظره منذ سبع سنوات وهو وصول: ولي العهد (ص 26)..
لعب طفولي في الواقع لا يمتلك جسارته إلّا أولئك "الأبرياء" الذين يتربّصون في أعماق كلّ مبدع، والذين يسحبون الآلهة من ثيابها أو يقرصونها من آذانها، لأنهم لم تنضج في عالمهم النفسي الداخلي تلك السلطة الرادعة والمُهدّدة التي نسمّيها الضمير والتي تنبت فيها عين الآله الحمراء المتوعّدة التي يسمّونها الضمير. "وشريف – كما يعتقد هو – يخبرنا بأنه قد تخلّى عن الكثير من الممارسات "الآثمة" من أجل الصلاة منها عادته التبصّصية المزمنة في "التطلّع إلى مؤخرّات النساء"، عادة فكّر في إحدى المرّات المجنونة لأن يسجّلها في كتاب يخدم فيه الثقافة! (ص 26) يقوم على أفتراض أنّ الله قد خلق المؤخرات لتدمير الرجال والنساء معاً بـ "صنعة لطافة" ودون أن يحسّوا، هم أنسهم، بذلك مستسلمين للإغراء الجميل. وتمتزج هذه الروح التحرّشية المُباركة بتمرير التعبيرات بروح ساخرة كما نرى في أكثر من موضع تعبيري في هذا الفصل. فعلى سبيل المثال يقول الراوي إن شريف قد أصبحو يسهو عن صَلاته ويقلّل عددها ويؤدّيها أحيانا: «دون وضوء وهو يحسب أنّه على طهارته في حين يكون قد أخرج من الريح ما يكفي لدفع زورق شراعي» (ص 26)..
وأحياناً تأتي الروح التحرّشية المبطّنة بالتهكّم بصورة "صامتة" إذا ساغ الوصف، حيث يطلقها الروائي على لسان راويّه بصورة تعليق سريع "محايد" عليك أن تلتقط ما يكمن وراءه من موقف ناقم من التعبير المثير لاشمئزازه. وهذا ما حصل حين التقط صحيفة الصباح بعد أن هنّأته زوجته بعيد زواجهما: «طالعته في قلب الصفحة الأولى صورة رئيس الجمهورية وهو يضحك بملء شدقيه» (ص 16) .. وصحيح لمن يضحك هذا؟.. بل على منْ؟ وتتسع حدود السؤال ودائرة حرقته المضحكة المُبكية ليشمل صور كل الملوك والرؤساء العرب: لمن يضحك هؤلاء؟ وعلى من؟ وهذه الإشارة تفوق اللمحة الإنتقادية التي قالها شريف حين ترحّمت سلوى على روح أبيه لأنه حجز تلفونا للبيت الذي يسكنان فيه، فقد تذكّر شريف أن والده حجز التلفون منذ عشرين سنة، ولم يُركّب إلا بعد وفاته بيوم!!
هذه الإشارات السريعة - وبعضها خاطف - نطالعها كثيراً في الأدب السردي لفؤاد قنديل حتى صارت سمة أسلوبية لفنّه الحكائي، وهي بليغة مؤثّرة وأفضل من الكثير من الشروحات والتوسيعات التي يقوم بها كتّاب آخرون فقدوا الثقة بعقول قرّائهم وقدرتهم على الاستجابة الانتقادية الحيّة السريعة والماكرة. لا يستطيع أيّ قارئ لمّاح درّب بصيرته على قراءة ما وراء الكلمات والسطور تفويت فرصة مفارقة أن تكون جيوب العم فريد مملوءة بكل ما يلزم رحّالة ينوي الدوران حول الكرة الأرضية حسب تعبير الكاتب الموفّق (راديو، بطاقة التموين، بوصلة، سكينة، بطارية، علبة نشوق، زوج جوارب، قصّافة أظافر.. وغيرها) ومعها الخطاب الوحيد الذي تسلّمه من ابنه "أصيل" بعد غياب خمس سنوات في كندا يخبره فيه أنّه اصبح المستشار النووي لأكبر مصانعها، ولا مفارقة أنّ هذا الخطاب قد أرسله ولده الباقي بعد استشهاد ابنه الأكبر "منتصر" في حرب عام 1973.
إنّ هذا المنحى الذي يصف وينقل أفعال وسلوكيات شخصيات الرواية بـ "حيادية" ودون "تحيّز" هو وهذه المواقف التحرّشية والتعبيرات الساخرة الجارحة، تعبر عن انحطاط وضع عام في البلاد، ولكن الناس – ممثلة بشريف وسلوى - تعيشه و "تنكّت" عليه. ولعل هذه الروح التحرّشية الساخرة هي من أدوات البقاء لهذا الشعب بالرغم من أنها قد ابتُذلت كطريقة للتعامل مع القهر والإنذلال، مثلما هي سلاح جمعي في عالم يهدّد وجودنا بالفناء والإجتثاث. السخرية علاج وتسفيه واداة مقاومة في وجه القهر والطغيان وجور الحياة الرهيب. وبالرغم من كلّ هذه العوامل الضاغطة، كان شريف وسلوى يعيشان
مثل طائرين وحيدين جميلين. ففي علم النفس نجد الشخصيات المختلفة تتجاذب والشخصيات المتشابهة تتنافر كما في حال الشحنات المغناطيسية في علم الفيزياء، ولهذا فقد انجذب شريف – وبقوة – إلى سلوى في كلّ ما تقوم به من أفعال نزقة ولا أباليّة مما لم يكن ولن يكون قادراً على القيام به بسبب محدّدات بنيته الشخصية الحاكمة، والإنسراح الطفلي لانتعاشة طاقات ورغبات سلوى في كل تفاصيل تصرّفاتها. كان يعيش شبه متعة مازوخية طويلة المدى مع معذّبته الجميلة. ها هي تلمح غضبه يتصاعد لإهمالها تهديم بيوت العنكبوت، وهي منشغلة بأفلام الكرتون:
«- باقي عشر دقائق وينتهي الفيلم وسأهدم لك كلّ بيوته.
رفع يديه في اتجاه السقف وبكل خشوع قال:
- لماذا يا ربّ من دون كل نساء الأرض زوجتني هذه السيّدة التي...
قاطعته وكأنها تخشى أن يفضح عيوبها لله:
- شريف... قلت لك عشر دقائق..
لم يكن عتابه لله إلّا إعلاناً عن عدم رضاه، إعلاناً متفقاً عليه تفهم منه مؤقتاً ماذا يريد! وهي تعمل بكل وسيلة كي تنفّذ له ما يريد لأن قلبها عامر به تماماً وهي متغلغلة في قلبه» (ص 23).
(4)
مع القسم الرابع يكون القارئ قد تصفّى ذهنه واسترخت أعصابه من آثار محنة شريف التي استولت الانفعالات المرتبطة بها خلال الأقسام الثلاثة السابقة. الآن يتفرّغ تماماً لحركةٍ بطلها ابو منتصر؛ عمّ فريد، الذي يحبه حتى طوب الأرض بسبب روحه الهازلة وقذائف النكات التي يطلقها بلا تردّد نحو كل شيء يصادفه أو يحيط به. فهو يقول النكت على الأطباء والشعراء .. وعلى الصعايدة والراقصات .. وعلى الملوك والرؤساء .. والطير والحيوان.. وها هو يفتتح هذا الفصل بتعليق على قلق ابنته سلوى لأن زوجها شريف قد تأخر أكثر من ساعة ونصف لجلب الخبز بالقول: «ربّما قبضوا على مدرّسي التاريخ.. شريف كثيرا ما يشرد... ربّما وقف في طابور وبعد أن جاء دوره اكتشف أنه ليس طابور العيش» (ص 30).
وهو يؤكّد أنه لا يتلاعب بقلق ابنته ويحرق أعصابها كما تقول زوجته الأم، بل يقدّم تعليقات جدّية. وفعلياً فإن وقائع حياتنا تجري وفق هذا المنوال المضحك المُبكي الذي يختلط جدّه بهزله، فلا تعرف اين حدود العقل اليقظ من غفلة السخريّة. وكالعادة يترك الروائي هذا التعبير المشوّش - لكن الفاصل والحاد - لنا ولا يعلّق عليه. فهو – وهذا هو واجب الحكّاء – ينقل إلينا الوقائع ولا يفسّرها، وحتى إذا أراد أن يحمّلها بتلميحات مسمومة فهو يتركها لتفصيلات الصورة أو دلالات الحوار بين الشخصيات، يصوغها بطريقة تُشعرنا بأنه "تحليل" وكشف دلالة يضيء السياق. وها هو يكشف لنا – وببلاغة – عبر مشهد جديد دقّة مقولة عم فريد بأنه لا يُنكّت، ويحسم الحوار بينه وبين زوجته بأنه يصنع السلطة لجيرانه لتأكيد عرى المحبة والوصال ولا حاجة لأن يفتح دكاناً مختصّاً بها، حين يدخل شريف - بعد ساعتين من الغياب - وقد مُزّقت ملابسه وتعرّض للطعن بمطواة: «البنطلون عليه بقع كبيرة، والشعر أشعث، وعينه اليسرى زرقاء، وعلى شفته السفلى نقطتان من الدم... الخبز على كفّه اليمنى، بينما ذراعه اليسرى مشرعة في الهواء لأن بها ما يعوق نزولها إلى جانبه كباقي البشر/ كل ملامحه تنطق بالألم العميق» (ص 31).
بهذه الهيئة الشعثاء المغبرة والملابس الممزقة، يردّ عم فريد – ومن ورائه فؤاد قنديل طبعاً – على من يشكّك في أن خطابه الساخر الذي لا يستثنى شيئاً ولا أحداً، هو عمليّة "تنكيت" على الماشي .. وليس خطاباً في غاية الجدّية والحزم، مثلما يردّ على ذاته وهو يروّج لتعزيز عُرى الوصال والإنسانية بين الجيران وأناس البلد أجمعين. كما أنّ في هذا المشهد الردّ الناجع على شريف/ الضحية الذي يروّج بدوره للتغيير المُقبل على يد الحكومة "في يوم ما"! ويدعو الشعب إلى الصبر مثلما صبرت شعوب أخرى وتحمّلت!: «-الشعوب كلّها تمرّ بظروف من هذا النوع، وعليهم أن يصبروا لأنها غالباً ما تكون مؤقتة... المشكلة تبدأ على يد المرتزقة عديمي الضمير الذين يتاجرون بأقوات الشعب... إن الحكومة لن تسمح لهم بالنمو واستغلال الأزمة.. إنّها ولاشكّ تعمل وتعدّ العدّة» (ص 32). وحين يسأله عمّ فريد عن السبب الذي يجعله واثقاً كل الثقة في هذا التوقّع، يردّ عليه قائلاً: «المنطق... إن الظروف الحالية لا تخفى على أعمى، ولا يهملها إلّا بليد الحسّ». فيعلّق عم فريد بلسانه المنشاري الذي لا يرحم: «لماذا لا تشتري لك الملابس الخاصة بالطوابير... الخوذة والجاكيت الحديد؟!»
وقد يعتقد الكثير من القرّاء – مع زوجة عم فريد "مكاويّة" – أنّ عم فريد إنّما يمزح وينكّت و"يقفّش" .. ولكن "المنطق" – خصوصاً الأرسطي البليد والمُبلّد الذي يرعاه وعّاظ السلاطين – يؤكّد ذلك من خلال مقدّماته، وأطروحاته الصغرى والكبرى.. صدّقوني إنّه المنطق نفسه الذي يدعو إليه شريف، وهو المنطق الذي تعتمده كل الحكومات العربية الطغيانية التي يضع فيها شريف ثقته ويراهن على أنّها تعدّ وتحسب وتتحسّب ليوم الصولة على المعضلات المزمنة التي تطاولت وتغوّلت وثقلت فأهلكت البلاد والعباد. وذلك التلميح المشهدي والإحالة إلى الصورة والحوار يأتي أيضاً ليمسّ - بخفّة مؤلمة - محنة عقر سلوى وحرمان شرف من الأطفال، من خلال المقارنة المستترة بـ "صحراء" (أخت سلوى) وزوجها "مُفرح"، اللذين أنجبا سبعة أطفال خلال عشر سنوات. ومفرح يصرّ على إقامة "جمهوريّة" من الأبناء يحكمها – وهذه هي مواصفات الحكّام والملوك الآن - في حين أن الأحق بالجمهوريات "منطقيّاً" هو شريف، وليس مفرح الذي يعتاش - وبلا عمل - على ما تركه له أبوه من عمارات ومزارع، في الوقت الذي يأتي فيه شريف مدرّس التاريخ – ولاحظ أهميّة هذه المادة التي تعني وجودنا – ممزّقاً في سبيل الحصول على رغيف الخبز، وقد فتح مفرح للتعمية على الناس "مكتبة" أسفل عمارته كنشاط وهمي، ليعزّز الكاتب مهانة الفكر لدينا من خلال هذا الإجراء التلاعبي التستري. ومفرح يصرّ على أن لا تقوم أي امرأة بخدمة زوجته صحراء عندما تُنجب عدا أختها سلوى، وفي هذا - بالرغم من نكران الراوي - عدوان مبيّت لاواعي على شريف وسلوى في الوقت نفسه، فهو يسحق أعصاب سلوى ويحطّم قلبها. وعمّ فريد يرى – بروحه الساخرة الجادة - في هذه المفارقة بين زوجي إبنتيه كرماً من الله: «-أعطاني الله زوجين لابنتيّ يعيشان في الوهم... واحد متفائل بدون سبب يقول إننا سنعيش قريباً أزهى عصورنا... بعد مئتي سنة فقط! والثاني يبحث عن أيّ شعب ليحكمه.. نفسه يحكم ناس.. وحين لم يصل إلى الحكم قرّر الإنجاب بلا نهاية» (ص 34). والأخير مُفرح يريد كل جمهوريته من إبنته "صحراء" - ولاحظ المفارقة بين الإسم والدور المطلوب - وقد حصلت فعليّاً، في حين أن سلوى المُعطّلة عن الإنجاب من معاني أسمائها في اللغة العربية العظيمة هو: "العسل"!!
يصعد الجميع الآن إلى السطح للبدء بحفلة الشواء المنتظرة. وهنا يحيلنا الكاتب - بعد كل هذه المهزلة البشرية المؤلمة والفوضى التي يصنعها عدوان الإنسان على أخيه الإنسان، الإنسان حاكماً ومحكوماً.. جلّاداً وضحية.. وفوضى العيش والحاجات الحيوانية التي تخنق وجود الفرد المنكسر الروح والمُعذّب الوجدان والمُعتقل الإرادة - يحيلنا الكاتب إلى الله الحنون الطيّب وإلى ابنته المُعلّمة البارّة: الطبيعة، وإلى عطاياها، عطايا الله التي جعلتنا دوّامة الحياة الطاحنة التي يؤججها "منطق" الحكام والملوك السفلة لتلوك حوّاسنا وتخلطها ثم تبصقها على قارعة الطريق لتدوسها أقدام الحاجات الفسيولوجية التي لا ترحم. الوصف المُقبل الذي يقدّمه فؤاد قنديل ليس "قطعاً - Cut" وفق التعبير السينمائي الذي يجيده هو نفسه بفعل خبرته، وليست محطّة وصفيّة عابرة، إنّها درس نفسي ووجودي وفكري وحياتي.. و"منطقي". صعدت المجموعة العائلية إلى السطح لبدء حفلة الشواء.. فـ: «طالعهم النور الغامر والسماء الصافية والشمس الشتوية الحنون، ميدان صلاح الدين يبدو بكامله تحت أعينهم، وترتقع إلى اليسار قلعة صلاح الدين وقباب جامع محمد علي، وإلى اليمين قليلاً مسجدا الرفاعي والسلطان حسن، وإلى جوار المنزل مباشرة مسجد المحموديّة. دعت سلوى والديها لمشاهدة الأرنبة وأولادها... قطعٌ من القطن الناصع تتقلّب حول الأم وتقرص بأفواهها المنمنمة أعواد البرسيم... صورة بسيطة وناعمة للحنان والجمال... نغمة في سمفونية الوجود». (ص 35 و36).
ومع مشهد نتف القطن البيض الأرنبية الغضّة، تشتعل في نفس أم سلوى حسرة عن حرمان ابنتها وهذا السطح الواسع من حركة الأطفال.. وهذا – المشهد – برمّته هو "المنطق" الضائع يا سيّد "شريف" ويا أيها السادّة القرّاء .. هكذا يريد فؤاد قنديل إبلاغ رسالته. والمشكلة أن لا أحد قد التفت إلى لوحة الله أو استمع إلى لغة الطبيعة عدا الاستجابة "المصلحيّة" لحركة الأبناء الأرانب من أم الزوجة. لقد بدأوا بلفّ أسياخ اللحم وإشعال الفحم الذي كانت سلوى – وكالعادة – قد نسيته فأصابه البلل ليصبح (عصير فحم) حسب وصف عمّ فريد وعجز شريف عن إشعاله إلّا بعد أن أُرهق وسقط على ظهره، والعم فريد يهوّي على وجهه بمنديله كما يفعل المدرّب مع الملاكم المهزوم. تحرّكت الأحشاء وغابت دروس الروح، فانتشرت رائحة تحرّك بطون كل السكان الذين يعيشون في مساحة كيلو متر كامل، بدأت الحلوق تستعد، والأمعاء تترقب وصول المؤن الغزيرة (ص 37)، وظلّ شريف مضطجعاً على ظهره من الإرهاق.. مال عليه عمّ فريد فلفت نظره أن جيب الحاج يتقلّب بما يعني أنّ حركة بداخله. ثم برزتْ رؤوس كتاكيت ملوّنة صفراء وحمراء وبنّية.. اختفت ثم أطلّ فأر برأسه.. تلمّظ بفمه الصغير الحقير واهتزت شواربه.. وظهرت بعد لحظات قطّة تتلمّظ. دلك شريف عينيه واختفت القطة، وهبط الجيب المنتفخ (ص 37). ويتساءل شريف عن سرّ هذا المشهد الهلوسي البصري وهل هو وليد اشتعال غريزة جوعه، ويرى أن هذا ممكن، ولكن إذ تؤكّد الكتاكيت الرغبة في الطعام، فإن الفأر والقطّة يكذّبانها. ثم يتساءل بعد عجز هذا التفسير هل لأنّه مُحطّم؟ فيرى ذلك ممكناً، ولكن السلسلة الإلتهامية النهمة لا توافق ذلك، حيث تفترس الفئران الكتاكيت لتأتي القطة فتفترس الفئران، وهكذا يتفرّد القط الأكبر.. وهذه هي حياتنا كما يرسمها "المنطق".. وهنا يصحّ تساؤل شريف الأخير: «ولماذا لا تكون الحقيقة؟ ممكنٌ جدّاً» (ص 38).
(5)
في الفصل الخامس، "ينظّفنا" فؤاد قنديل تماماً من أي تأثيرات أو بقايا لفصول المحنة الافتتاحية، ويغوص بنا بعيداً في مياه الطمأنينة والسعادة الباردة المُنعشة، ويضرب بأنامل رهيفة ورشيقة وحنون على أوتار الدافع الأعظم الذي يغشي كلّ ذكرى أليمة .. أوتار الغريزة الجنسية متمظهرة الآن في شكلها الأنقى والأروع وهو الحبّ الحيي الذي يرسم فؤاد مشهداً من أبدع مشاهده بين بطليه البسيطين: شريف وزوجته الحبيبة سلوى، لم يعد روائيو الحداثة – داخلا وخارجا – قادرين على تصوير مشاهد الحب دون أن يُشركوا النصف الاسفل الوحشي من جسد الإنسان، والمرأة كلّها – وهذه محنة يعاني منها الأخوة الإسلاميون الأصوليون – عورة!! وفي الغرب يسمّون مشاهد الجنس ممارسة الحب.. في حين أن ممارسة الحب لدى فؤاد قنديل كما يعرضها الآن أن يتعرّى القلب لا الجسد – الجسد الذي عليه أن يتحضّر، طبعاً، كما فعل شريف وسلوى حين أخذا حماماً جعل جلودهما زلقة وحساسة لأي لمسة مُكهربة تنغرز في القلب أوّلا -.. هذا الحبّ البسيط هو الذي افتقدناه في حياتنا فصار حتى حبّنا "غربيّاً" مادّياً وبلا مقدّمات.. وساعد على ذلك القهر والتعويذ والهرولة حول حاجات البقاء الذي يحوّل الإنسان إلى أنبوب يمتد من المطبخ إلى المرحاض، فينسى أعظم هبّة كرّم الله بها الإنسان وميّزه بها عن الحيوان وهي: الحبّ. نعم فارق الإنسان عن الحيوان هو أنّه يحبّ.. الإنسان حيوان رومانسي.. حيوان يُقبّل ويُغازل .. ويعتني بلذّته التمهيدية بدرجة أعظم من لذّة الذروة النهائية، وحين يركّز على الذروة النهائية فإنه يهبط إلى منحدر العلاقة الحيوانية. وفؤاد هنا يعرض الحب البسيط العذب المباشر الحيي لناس – مثلنا – لم يتعلموا الحب "المتطوّر".. حبّ بين إنسانين بسيطين: شريف وسلوى، في حيّ بسيط من الأحياء العربيّة، وليس حبّ الأفلام.. إنّه الحبّ "الطبيعي" لا "المصنّع".. وتعاطف فؤاد يجعلك تعتبر حتى تعليقاته الوصفية الساخرة موقفاً حيادياً وحتى "مُنحازاً" لبطليه، فقد دلّك شريف ظهر سلوى حتى اشتعل بالدم، ودلّكت ظهره مطمئنة على عظام ظهره البارزة التي يمكن عدّها بالواحدة (ص 39).. ارتدى شريف الملابس التي ارتداها ليلة الدخلة والتي لا يرتديها ابداً في غير هذا اليوم حتى لو اتسخت ملابسه.. وارتدت هي قميص نوم شفاف.. والإشارات خجول، ولكنها مثيرة، ولا يفهم الكثير من الكتّاب أنّ الإثارة تشتعل بلعبة "الإخفاء" لا "الكشف": «خرجت من الحمّام ترفل في ثوب شفاف، لم يستطع أن يُخفي شيئاً مما تحته، ولم يكن تحته غير قطعة واحدة مشهورة، ما عدا ذلك اللحم الأبيض المتوهّج الذي يكاد يضيء» (ص 39).
وشريف ينتظر قدوم سلوى يجلس مسترخياً في الشرفة، ويشعل سيجارة، فيجعل قنديل الطبيعة وحركة الأشياء تسترخي معه، ويتعمّد أن يُلحم مظاهر انتعاشته النرجسية الفرديّة بأحاسيس غائرة عن نرجسية جمعيّة كامنة عصيّة على التعريف وعلى الفناء بالرغم من كلّ عوامل الخراب والدمار والتفسّخ. ويبدو أّن مشاعر الرهاوة في "الحبّ" على المستوى الفردي.. أي مشاعر الإنسان وثقته بأنه محبوب، ويُحبّ، من قبل "آخر"، لها دور في إنعاش وديمومة حبّ الإنسان لبلاده، وفي نظرته إلى ما يحيط به من مكوّنات الحياة اليومية خصوصا في الليل عندما يعود الفرد والجماعة والمدينة إلى "أرحامهم" بعد عراء النهار "الأبوي" الكاشف:
«جلس شريف مسترخياً في الشرفة وأشعل سيجارة.. أطلق نظراته على القاهرة الممتدة بلا نهاية، وبدون صخب، وهذا ما جعله سعيداً ببيته الذي يقع على أعلى قمة في القاهرة المسكونة.. "القلعة" حيث عبق التاريخ وأحداثه الجسام، ومن بينها تتصاعد أنفاس العظماء، ولازال وقع خطواتهم يتردّد في أبهاء النماذج المتألّقة للعمارة والحضارة الإسلامية .. أخذ شريف نفساً عميقاً وأحسّ بالزهو ... مساكين .. وجديرون بالشفقة أبناء الشعوب الوليدة، لأنهم بلا جذور ولا تاريخ ولا مواقف شامخة ولا فنّ رفيع في الأدب والعمارة .. أمّا أبناء الشعوب التي تملك قدراً وفيراً من ذلك فإنهم يتدلّلون وينامون قريري العيون ويفشلون وهم مطمئنون إلى أّنه عند المنافسة سيتلاشى الجميع أمام الميراث الحضاري الضخم. ها هي القاهرة عملاق يخور بعد أن آب للسكون والدعة .. بحر من الهياكل المُعتمة وقد طرّزتها الأضواء.. السيارات تدور وراء بعضها في الميدان بلا توقّف» (ص 40).
حتى مراجعة شرف لعُقمه الذي حرمه من الأطفال ينظر إليه الآن بلا مرارة .. إنّ عقمه هو الـ "لكن" التي جعلها الله دودة في كلّ حياة، وفي كلّ شعب، وفي كلّ قرار، وفي كلّ قمة، لكي تبدأ على أساسها رحلة النهاية... طالت أم قصرت. إنّه يهادنها بعد أن تأكّد أن العيب منه وجرّب كلّ شيء، فألقى الوزر على إرادة الله.. هي شكل من أشكال الـ "لكن" صُمّمت لحياته لتخز سعادته وتمنع اكتمالها لأن الكمال من اختصاص الله. الكمال موصل إلى الموت. وتهون الطعنة على كبرياء ذاته الجريحة لأن الأطباء شخّصوا إصابة سلوى بتضيّق في الشريان التاجي الذي قد يتسبّب في موتها عند الحمل والولادة! وهو لا يريد فقدان هذه الإنسانة الغالية، الإنسانة التي سبقتها الآن رائحتها وهي تهفو كملاك وتضع يديها على عينيه:
«قالت: من؟
قال: عم فريد..
ضحكت وعانقته .. لقد جاءت بالضبط عندما كان يناقش أو على الأصح لا يناقش للمرة الألف قيمتها عنده ثم يعلن بإجماع كلّ أصواته تفضيلها على الدنيا كلّها. أخذ عدّة أنفاس متلاحقة من سيجارته ليتفرّغ للسيجارة الكبرى؛ السيجارة التي لا يملّ من تنفّسها والإستمتاع بدخانها» (ص 42).
الآن جلست على فخذيه وأطلّت في عينيه، فألفت قلبه ينتظرها على باب حبّه، وحبّه قصر اسطوري يستعد لاستقبالها ويُغلق إلى الأبد عليها أبوابه .. وإذا كان جدّنا جلجامش قد قال بأنّ الأمير والفقير يتساويان في حضرة الموت، فإنّ هناك حالة واحدة مكمّلة يتساوى فيها الطرفان وهي: حضرة الحبّ.
ويبدو أنّ مشاعر الفخامة والإنتعاش النرجسي مرافقة لصحوة موجات الحبّ والإحساس بالأفضلية في أحضان المرأة الأم المطمئنة التي تهب بلا حدود، فالأصل الأنموذج لكلّ حالة حبّ في الكون هي محبة الأم لطفلها .. وهذا الطفل يستعيد تلك النومة المسترخية التي لا تليق إلّا بأمير وسط مويجات الرحم الأمومي المُنعم. لكن في الحقيقة فإن في حضرة الحبّ التي يعرضها فؤاد قنديل يكون كلا الطرفين "فقيرين". وما الإحساس بالإمارة إلّا انعكاس لغيبوبة تتكفّل بها تلك النشوة الغامرة التي توحّد الوجودين وتلغي الفواصل كافة مهما كان نوعها. و "نوع" الحبّ الذي يضمن هذا الإحساس بالوحدة والتساوي مع انتفاخ المشاعر النرجسية والذي يعرضه فؤاد قنديل هو – كما قلت – "الحب البسيط" قبل أن تخرّبه المدنيّة وعواء الأجساد في ظلّ العولمة. لاحظ – من جديد - كيف تكون حتى الإحالات المشوبة بالتهكّم الخفيف وكأنّها جزء من جماليات التجربة يُعتد بها وتكتمل عن طريقها الصورة المُحبّبة للممارسة الحبّية الدافئة. ولنبدأ بمقارنة الشفاه:
«تأمّل شفتيها. كانتا كقلب عاشق مضغوط، تصوّر أن شفتها العليا ذات أجنحة وأنها توشك أن تطير. تأمّلت شفتيه كي تهجم عليه وتقبله، لعلها ترفع درجة حرارته التي لا تزال اقل من المعدّل المناسب في عصر ما بعد رؤيتها مزيّنة ومعطّرة. كانت شفتاه رفيعتين جدّاً كشقّ فتحه الطبيب تحت أنفه، لكنها تحبهما وتشتاق إليهما، وترى أنّهما شكل مُبتكر من أشكال الشفاه» (ص 44). كل نقص يغفره، بل يصحّحه، الإحساس بالامتلاك والاطمئنان والتحكّم والتكامل. وحال الأنف مثل حال الشفاه، يعطّل ليشعل ويطيل التأمّل واللهفة، يؤنسنه الكاتب في إهاجته كرمز للّقاء العاصف المؤجّل خصوصاً حين نعلم أن الأنف له نفس التركيب النسيجي التشريحي الذي للقضيب كما أثبت ذلك العلم، ويجسّده حين يلعب على مكوّن "جيوبه" ليوهمنا بحساب تقليدي لـ "جيوب" أخر: «قبّلته متفادية بمهارة أنفه الطويل الذي كان يتدخّل دائماً للحيلولة دون وقوع أي لقاء من هذا النوع، لأنه فيما يبدو كان يدرك مسبقاً ما الذي سيحدث له ولصاحبه بعد هذه اللمسة السحرية ... كان يعلم بفضل إلهامات فطريّة كإلهامات النساء أن الأنف هو الذي يدفع ثمن هذه اللحظات.. لا الجيوب كما يُشاع» (ص 43).
ثم يقدّم لنا قنديل الحكمة الخلاصة في مجال الحبّ البسيط القادر على حفظ توازن الكرة الأرضية لو وفّرنا له الديمومة ورعيناه، وذلك حين تضع سلوى رأسها على صدر شريف وتشمّ رائحة رجولته وتسأله إن كان يعرف ما هو المهر الحقيقي للمرأة، وحين يجيبها بالنفي، تعلن حكمتها العظيمة: «أن يكون الزوج باعثاً على الطمأنينة، قادراً على تحقيق الأمان.. هذا هو ما يُسعِد امرأة الخفير وامرأة الأمير». (ص 43).
وهنا أيضاً يُدخل قنديل طرف المعادلة المرعب والأثقل القادر بإيحاءاته فقط، وليس بحضوره الفعلي، على تنغيص أي متعة بشريّة، وعلى إفساد لحظات الأمان الإنسانية كلّها: الموت. فها هي سلوى تتنهّد، وقد شعرت براحة لا متناهية لهذا الأمان الإنساني اللذيذ، والذي تتوجّس من عمره القصير. في ذروة الضحك المدوّي يتذكّر الإنسان ويتحسّب وكأنّه أخطأ فيدعو الله أن يجعل هذه النوبة المفرحة الصاخبة تمرّ بخير.. وكأنّه قد ارتكب إثماً كبيرا! الأديان كلّها تحذّر من الضحك والمزاح بل حتى من الفرح وكأنّ الإنسان يقترف ذنباً هائلاً لا يُغتفر! في أحشاء كل لحظة سعادة يتمطّى اللاشعور ويشهق متسيّداً بدوافعه المعروفة التي لا تعرف لجاماً.. هل تذكّرنا لحظات الفرح الشديد بلحظة الظفر الأولى والأصل في تأريخنا التي انتزعها آدم وحوّاء عندما تفتّحت عيونهما وأكلا من الثمرة المحرّمة؟! هل أنّ الفرح الغامر ينسي الإنسان "الغاية" الوجودية الكبرى والوحيدة التي خُلق من أجلها وهي أن يموت؟! إلهذا نتوجّس الآن مع سلوى من الفرح لأن عمره قصير؟ ولأنّه يبعدنا عن الإرادة المرجعية الحاكمة التي – كما تقول " سيدوري " (صاحبة الحانة) - عندما خلقت البشر وزّعت الأنصبة فكتبت على الإنسان الموت وللآلهة الخلود؟! هذه المراوحة الأليمة يزج بها قنديل عفويّاً ليثبت أنّ "التفلسف" الحقّ منبعه ليس دماغ الفلاسفة الثخين بل مخاوف القلوب المُحبّة القلقة وتحسّبات الأرواح الهشّة، ويفلح في التعبير عنها ليس بالحكم والأقوال والمأثورات والتعبيرات الشعرية " الماركيزية " الطويلة والعريضة عن أسرار الكون وأبعاد المصير، ولكن عبر ملاحقة المتغيّرات البسيطة في الطبيعة والمحيط المباشر، فإذ يستمتع شريف وسلوى بتأمل المساء الذي صفا وتطهّر بسرعة من أدران الهياج البشري، تلوح لهما في الأفق البعيد بعض النجوم وهي تحاول أن تخفي سقوطها السريع (ص 44).. وحين يتذكر إصابة عينيه وذراعه اليسرى في معركة الخبز، يكبر البدر الصغير وتتيح له الغيوم فرصة كي ينير ليلة من يتعطشون للضوء المسائي الشاحب.. هكذا يرسم صورة الصراع الكوني بين إرادة الموت وإرادة الحياة من خلال هذا الإنصهار المُبارك بين قلبين صغيرين وبسيطين. وكلّما كانت الحركة الحبّية والتقرّب الحسّي بسيطاً كلّما كانت حرقة الفقدان أعلى وطعنتها أمضى:
«وقف شريف بنظراته على خدّيها المتوترين بالشوق.. قبّل الخدّ الأيمن وتوقف ليتذوّق، فأشارت له على خدّها الأيسر:
-هذا سوف يغضب.
قبّله بعناية خاصة حتى لا يغضب حقيقة. ثم عاد وقبّل الأيمن حتى يتحقّق العدل» (ص 44).
وليس عبثاً أنّ الفيلسوفة "سيدوري" وهي فيلسوفة بحقّ قد دعت جلجامش إلى أن يدع رحلة البحث عن الخلود، ويترك القلق من الموت، ويعود ليحتضن زوجته .. الحبّ والزواج هو أعظم البلاسم التي تقدّمها الحياة لمواجهة قلق الموت وتأمين الامتداد الخلودي الذي جعل الإنسان يخطئ في الفردوس الأول وهو تحت أنظار خالقه وبالرغم من تحذيراته. حينما يجد الأنا "أناه" في "أنا" الآخر تنطفىء – وإلى حدّ كبير كل نيران الخوف من الفناء، وتتعزّز في الروح إرادة البقاء:
«سألته بوله: هل يمكن أن نعيش العمر كلّه هكذا يا "أنا"؟
أجابها شريف متطلّعاً إلى السماء:
لن يسمح الله بذلك يا "أنا"
سألته: وماذا سيفعل؟
قال: سيأمر النهار بالطلوع.
تململت قائلة: أنا لا أحبّ النهار.. الليل أجمل.
شرد قليلاً ثم قال:
-كانت كلمة الخلود إلى وقت قريب كلمة وهمية أو مجازية لكن حينما يجمعنا الليل معاً في مثل هذه الأوقات أشعر شعوراً عميقاً بطعم الخلود» (ص 44 و45).
ولكي لا يُتّهم فؤاد بالتعالي الثقافي، وأنّه "يتثاقف" على العالمين وهو المرض السردي الحداثوي الذي حذّرنا منه قبل قليل(ولاحظ عبقرية اللغة العربية المظلومة: فثقِفَ الخلُّ اشتدت حموضته وصار حرّيفاً لاذعاً )، فإنه يلتفت هو نفسه إلى المأزق الذي وضع فيه بطلته الإنسانة المصريّة البسيطة "سلوى" فيسارع إلى القول وبعفوية منسابة مع تيّار النصّ الهادئ ويقول: «ارتاحت بإحساسها فقط لكلماته، دون أن تعي تماماً مدلولها، أمّا هو فكان يحسّ أنّه لا يملك معها إلّا أن يكون رومانسياً رقيقاً يحمل قلبه دائماً على كفّه ويقرأ لها منه» (ص 45).
ومن جديد يراوغ فؤاد قنديل بمكر في التعبير عن الحقائق الوجودية الكبرى من خلال التصرّفات العاديّة وحتى الساذجة لبطليه، ليمرّر خلف استار هذه الأفعال البريئة التي تعبّر عن غفلة القلوب العاشقة وإصرارها العذب على نسيان أو تناسي الملثّم المكروه الرابض خلف الباب، نزوعنا اللاهث والأبدي نحو الثبات والبقاء والعصيان على الفناء. يتجلّى ذلك – ودون أن نعلم – في أدقّ سلوكياتنا التي قد تأخذ شكل اللعب الطفلي الذي بلا طائل بالرغم من مظاهر رشدنا وتنفّجاتنا نضجنا العقلي. ففي حديقة الحرّية ذكّر شريف سلوى بالشجرة التي حفر عليها اسميهما أيام الخطوبة والحب، ثمّ عادا بعد شهرين ليجدا «أن المسؤولين عن الحديقة قد اجتثوا الشجرة وأخفوا كل آثار الخطوط النزقة وأقاموا مكانها نافورة.. فحاول لاشعورهما الالتفاف على ضربة المُثكل المُصنّعة فـ "تأمّلا النافورة وهما يتصوّران اسميهما بذرّات الماء الفضّية» (ص 45).
وللأسف، لا يدرك الناس عندنا بسبب انرباطهم إلى طاحونة البقاء الحجرّية المدوّخة أن حياتهم كلّها ما هي إلّا هذا الصراع الدائب الهادئ والعنيف، المستتر والمعلن، الباطن والظاهر، بين الموت والحياة، وأنّ الطغيان ما هو إلّا ممثل للموت والخراب. بعد أن تأكّد شريف أنّ الشجرة – إبنة الطبيعة ورمز الإلهة الأم كما يصفها الباحثون الأسطوريون – ما هي إلّا أداة هشّة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، ولا حفظ اسميهما "الخالدين"، لجأ إلى "الحديد".. فأي حديدة الآن في ظل حضارتنا "العظيمة" هي أكثر خلوداً وعصياناً من أي مكوّن طبيعي.. لا شجر ولا نهر ولا جبل يقف أمام الهياج التحضرّي البشري المزعوم. قرّر شريف – كما يقول لسلوى - أن يسجّل اسميهما على شيء "لا يستطيعون هدمه أبداً ولا حذفه"!.. قرّر أن يخطّ اسميهما على حديد الجسر، مستخدماً ملقاط شعر حبيبته. ويصمّم الروائي نوعاً من الإحتفاء الجمعي المبسّط للإحتفاء بهذه الخطوة التي سيقدم عليها شريف.. إحتفاء تشارك فيه الطبيعة والبشر في إحساسهما بالقدرة على الديمومة والنماء، فقد كانت تحيط بهما وهما يتهاديان في موكب البهجة على كوبري قصر النيل، النسمات العفيّة التي تشرب من النهر، وتهجم على المارّة فترفع ثياب النساء، وتقضم آذان الرجال، وتحمل الأطفال حملاً على العدو والفرح (ص 46). ووسط هذا الإحتفاء الكوني المصغّر بالولادة المتجدّدة، وثبات "الإسم" – والإنسان بلا إسم محض وجود "لحمي"، والإسم هو الذي "يقولبه" ويمنحه ملامحه الشخصية – قام شريف: «بحفر الاسمين داخل قلب واحد وسهم كيوبيد يمرّ به، والحبّ يسيل قطرة قطرة ولكنه كفيل بإغراق الآخرين» (ص 46). فمن قال بأن جريان الدم رمز للموت دائماً؟! إنّه "فداء" الحياة وأضحية النزوع الحمايوي الذي نلهث خلفه طوال أعمارنا.
ولكن حتى هذا الإجراء "الحديدي" المُتحسّب لم يكن فاعلاً في تأمين الحماية للاسمين/ الوجودين، في التحامهما الناجز. فبعد شهر حملهما التسكّع والبحث فوق النيل إلى أن يمرّا على سجل الخلود الذي نقشا فيه اسميهما: «فلم يستطيعا تحديد مكان الصفحة الحديدية التي ستذكّر القرون القادمة بعاشقين تعاهدا بكل عمق الحبّ على مقاومة الزمن والظروف، والحياة إلى الأبد برغم الحياة والموت» (ص 46).
لكن يد الفناء القاسية امتدت من جديد، ومسحت أثر وجوديهما الصغير؛ كان لون الكوبري أخضر والآن هو أحمر. لم يعثرا أبداً على الإسمين ولا على القلب ولا حتى على سهم كيوبيد.. أُعيد طلاء الكوبري وتغطّى تماماً كلّ ما كان به من ندوب أو خدوش أو قلوب تبحث عن نافذة وهميّة لحياة مختلفة (ص 47). هكذا هي حياتنا .. ضربة ألم وتربيتة وداعة وحنان .. دمعة وابتسامة.. حزن وفرح.. صرخة عذاب وتنهيدة شوق .. شهقة احتضار وزعقة وليد .. صراع الفناء ضد الخلود .. قلق وأمان .. وأعظم تعريف للحرّية الإنسانية هو " الحياة بلا قلق" .. وفي مجتمعاتنا الحقيرة القائمة على القهر والاستلاب والتغريب والمهانة لا يوجد مكان تستطيع التمتّع به بحريّتك الشخصية وتحيا بلا قلق غير غرفة النوم أو المرحاض.. وحتى هذه بدأ رجال الدين الجُدد الأشاوس يدخلونها معنا كي يعلموننا كيف " ننيك " زوجاتنا "على الطريقة الإسلاميّة"!
فلسفة غرفة النوم التي أوصلنا فؤاد إليها الآن هي فلسفة الحياة .. فلسفة سيدوري .. فبعد أن استعرض شريف أمامنا فشل كلّ محاولات حفظ "ذكرى" قلبين وخلودهما على الخشب والحديد، قال في حركة إيهامية توريطيّة تبدو لك وكأنها تجري أمام الناس على الكوبري: «نهضا وتعانقا أمام العالم، ثم مضيا إلى الداخل .. هي إلى المطبخ، وهو إلى حجرة النوم» (ص 47). جاءت بالموز واليوسفي، وأسعدها أن تجده قد عثر على اللحن الذي يتسق مع لحظات خالية من الزمن.
وقفة:
لقد قال جلجامش لسيّدة الحانة وقد سألته عن سرّ «الحزن الذي يغمر قلبه وعن خدّيه الغائرين، ووجهه الذي هو كوجه مسافرٍ آتٍ من بعيد، يعاني البرد والحر في ملامحه؟!»:
«صديقي،
الذي أحبّه تحوّل إلى طين،
فهلّا يكون عليّ أيضاً أن أرقد مثله،
بحيث لا أقوم بعد ذلك إلى الأبد وأبد الأبد؟ (...)
منذ أن ذهب لم أجد الحياة،
فرحتُ اتجوّل كصيادٍ وسط السهوب.
والآن أيتها السيّدة، وقد رأيتُ وجهكِ،
لا تدعيني أرى الموت الذي أرتاع منه»
وتجيبه المرأة الساقية، واسمها كما هو معروف "سيدوري" (أي "الشباب الدائم" ولاحظ عبقرية المؤلّف)، تجيب جلجامش:
«إلى أين تهيم يا جلجامش؟
فالحياة التي تبحث عنها لن تجدها.
لأن عندما خلقت الآلهة جنس البشر،
وضعوا إلى جانب البشر الموت،
وأبقوا الحياة في أيديهم لهم هم،
أمّا أنتَ يا جلجامش فاملأ أحشاءك،
إجعل كلّ يوم من أيّأمك عيد فرح.
إغسل رأسك، ونظّف بدنك بالماء.
أعطِ اهتمامك للطفل الممسك بيدك.
واجعل زوجتك تتمتع في أحضانك.
ذلك هو قدر الجنس البشري»
وهو «طرح فلسفي عميق، يصلح لكل العصور والمجتمعات، فهل هناك خلاص من عبثية الموت، عبثية الموت كقدر لكل الناس؟ لقد أجابت المرأة بحكمة وواقعية. وجوابها كان لسان حضارة كاملة ينطق من فم وعي التجربة الإنسانية. وقد ضخّم مؤلّف الملحمة المشاق والدوافع التي واجهت جلجامش ليبرز أهمية هذا الجواب البسيط الذي يكون بمتناول كل إنسان على السواء: "إنّه قدر الجنس البشري"» (3).
عَوْدة:
ومع مجيء سيدوري/ سلوى من المطبخ، تحمل الثمار اللذيذة على صحن الجسد المورّد، تنطلق من فم شريف شرارة تحرّشية يسّر انفلاتها استرخاء عين الأنا الأعلى المُراقبة في حركة مقايضة مع كرم الإرادة الإلهية، هذه العين الراصدة المُعاقبة التي تستطيب الرشى النرجسية والتصافق الذي يسوّي بين مصالح الجهات النفسية الثلاث: الهو والأنا والأنا الأعلى: «رآها تطلع عليه من داخل الثوب الوردي الفضفاض نهماً مُجتاحاً فتذكّر دعاءه: يا ربّ مادمتَ قد قضيت عليّ بأن لا أنجب، فلا تحرمني من الشهوة أبداً، ومُرْ عصبي دائماً بالإستجابة كما أمرته... وكان قد أتاها في فترة حيض، وإذا به يتعطّل بعدها شهرين، لو أُدخل جهنم لما عانى من العذاب قدر ما عانى.. يا ربّ ما دمتَ قد.. وسرعان ما انتشر ونهض، فتلقاها بين أحضانه.. وقبّلها قبلة ناعمة ومُدلّلة، لكنها امتدت أكثر مما ينبغي، ودنا الجسدان في اتجاه التوحّد، وشرعا يرحلان إلى عالم آخر. تعالت الموسيقى المتئدة وتوتّرت» (ص 47).
ومع تعالي الموسيقى كجسد أنثويّ يتلوى يقوم فؤاد بـ "تجنيس" الموسيقى و"موسقة" الجسد، يوحّدهما: إيقاع الموسيقى وإيقاع الجسد في تناغم حرّ ساخن متصاعد وصولاً إلى الذروة الجسديّة الحسّية النهائية الغامرة، وتتكفّل الكلمات المحوّمة وطاقاتها الإيحائية المشحونة بإفهام المتلقّي بما يجري، وعليه أن يتصوّره بحرّية عبر غلالة الموسيقى أو يستقبل موجاته المُكهربة النافذة، يستقبلها "فرديّاً" من دون أي تأثير خارجي جمعي أو مادي مهما كان .. يغوص معه في لحم الإحساس .. في روحه المرتجف .. في خفقات الوجدان .. مع النغمات الهلامية الغير محدّدة التي صارت لحماً متعرّقاً نازفاً ملتهباً .. والعكس حيث أصبح اللحم البشري المُرتجف نغماً يرجّع ذاته و " يشبّقها ".. فيشهق الجسد والنغم نحو الله ليتصالح معه ويقرّ ويسجد.. دعونا نقرأ ما سطّره فؤاد قنديل وهو يصف ممارسة بطليه " الجنسموسيقية " الباهرة:
«ألقى بالفلسفة بعيداً حين صرخ النغم فجأة، وارتجفت الأوتار من هول الأعصاب المحمومة وتأوّهت من عنف الإيقاع .. لو كان لها الآن أن تتمنى لتمنتْ أن يُؤجّل موتها لحظات حتى تكمل اللحن الخالد .. أيّ سرٍّ في هذا اللحن الأثير؟! تحوّلت الحجرة السابحة في الأسرار والدفء إلى تفّاحة كبيرة تأكلها آلاف الشفاه .. اللعنة لو لم يكن لهذا اللحن الرائع نهاية، ولم يكن منه شبع، لا شكّ أن الذي وضع هذا الكونشرتو كان يبغي أن يُجنّ العالم بفنّه، وأن يأسرهم بحكمته وجبروته العبقري. وفي الحركة الأخيرة انشال المايسترو وانحط، وتوتر اللحن المحموم، وأسرع يدور حول نفسه بعنف ويوشك أن يحطّم الأوتار الملهمة.. ثم علا وعلا.. وواجه أقصى قمم اللذة التي صدمته بلا رحمة، فاندفع نحو الأرض بقسوة إلى أن أرتطم بها وسكن، وتفجّر البهاء على الملامح المنهمكة واستسلم العالم لغيبوبة الرضا والسعادة. بعد لحظات اقترب نحوها ورآها متألقة في الضوء الوردي المتواري.. كان في جسده.. وهي في جسد آخر. العينان في العينين والشفاه مُنهكة... دنتْ الأصابع من الأصابع وتشبثت بها... هذا فقط ما يُستطاع والساعة الآن الثالثة حبّاً بتوقيت حجرة النوم في شقّة شريف أبو العلا موسى، وعلى المقيمين خارجها أن يضبطوا أزمانهم عليها إذا استطاعوا » (ص 48 و49).
الآن، أدّى المايسترو العظيم دوره في قيادة "عمليّة" الخلق الكونيّة المصغّرة .. عزفَ كونشيرتو قصّة الخليقة الذي نفّذه شريف وسلوى ببراعة، ونقله لنا فؤاد قنديل عبر الكلمات التي صارت لحماً مختلجاً وموسيقى .. هبط الإلهان الصغيران إلى الأرض .. وحان موعد "المسرّات الصغيرة" .. تبادل هدايا عيد الزواج .. قدّم لها خاتماً كانت قد حلمت بشرائه منذ عام وظلّ ينتظر المدد إلى أن جاءه أستاذ قبل اسبوعين ليخبره بأنهم كسبوا قضية الحوافز المُستحقة لهم منذ أربع سنوات بواقع جنيه واحد و85 قرشاً في الشهر .. وأهدته روباً غريباً من قماش غريب صنعته بأناملها الحاذقة من ريش الديوك!!:
«خطرت لي الفكرة بعد عيد زواجنا الماضي مباشرة .. أي منذ عام. جمعتُ ريش الديوك التي أربّيها لمدّة ستة اشهر، ثم بدأتُ في صنعه .. نسجته من خيوط الريش الرفيعة بعد أن نزعتُ من الريشة عصبها الأوسط!!» (ص 50) ارتدى الثوب الغريب.. انتفخت نرجسيته وطافت به مشاعر إله صغير متلمّظ .. مشاعر أرادتها له الحبيبة من كلّ قلبها .. تخفّف قليلاً عن صلاته الأرضية في حضرة حبيبته وكانت مسحورة به كالعبّأد الراضخين بقناعة .. أحسّ أنه يريد أن يصيح ويوقظ الفجر .. وهنا، وكما هو الحال في ايّ حركة بشرية تتململ فيها حفزات اللاشعور الإنساني نحو الألوهة الضائعة التي يستميت في سبيل استعادتها: «هاجمه العدو اللدود الذي تعوّد أن يتربص بلحظات هناءته.. وفكّر في سعادتها الناقصة.. وسرعان ما قاوم الإستدراج نحو الإعتراض من جديد على حكمة الله قائلاً يكفي أننا نُقبل على نزواتنا بلا مخاوف، وهناك أناس يدفعون ثمنها غالياً.. وتمضي بهم رحلة الحياة ولا همّ لهم إلّا ملء البطون» (ص 51)..
ولكي يدق فؤاد جرس الختام بعد أن تلاعب – طويلاً - ببطليه وبنا – وهذه من عطايا الإبداع في توفير الرهافة والسيطرة الموصلة لمشاعر الألوهة – يعيدنا إلى الأرض بصورة نهائية .. إلى أرض شقة شريف الصلبة لتذهب سكرة العشق الخالق، وتأتي فكرة المعي النهم، يحترق اللبن فتهرع سلوى إلى المطبخ عريانة تماماً. وحتى هنا لا ينسى فؤاد تراف الفن وطرافته فيصف مؤخرة سلوى الكبيرة بالمشمشة: «غمرته فجأة رائحة غريبة ... تشمّم الهواء متوجّساً .. صرخت سلوى:
-اللبن..
أسرعت عريانة تجري في الشقّة كجنّية خرجت من البحر والمشمشة الكبيرة خلفها تترجرج» (ص 51).
(6)
يخرج الأستاذ "عبد الرحمن شمعة" من السجن بعد أن ثبتت براءته من تهمة المشاركة ضمن جماعات دينية لقلب نظام الحكم. رآه شريف مهزولاً شاحباً كأنّه لم يأكل منذ عام. كان شمعة كتلة ناقمة على كل شيء في البلاد، لا يملّ من إدانة الناس، لكنّه الآن – وبعد تجربة السجن المريرة – صار بركاناً هادراً بالنقمة والغضب بالرغم من هدوئه وخفوت صوته. كان شريف يندهش - ليس لكثرة الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة التي يستحضرها شمعة لتبرير نقمته على كل شيء حسب - ولكن لتوفّر آية أو حديث لكل حادث مهما كان بسيطاً أو حتى حديثاً من منتجات عصر التكنولوجيا (ص 53). كان شريف – كما رأينا – "منطقي" يرفض التعميمات والتبريرات والإدانات الشاملة. فهو يرى أن الناس – بخلاف ما يراه شمعة – هم في الغالب طيّبون إلّأ قلّة قليلة، وهذه القلّة لا تقصد الخطأ أو الإساءة. في حين كان عبد الرحمن يرى غير ذلك، ويعلن بحماسة أنّ القضية أكبر: «لقد عبث الساسة بالتكوين الأصيل للإنسان المصري، شوّهوا معدنه، ودفعوا بالناس إلى طرق غريبة لن توصلهم إلى الأمان أبداً، والمشكلة الأنكى أن أجهزة الإعلام وخاصّة الصحافة تروّج لكل أقوال الساسة وأفعالهم وتبتكر من التحليلات العبقرية ما يبرّر للناس صواب كلّ ما يدعو إليه الساسة» (ص 53).
ولا أعلم كيف يمكن أن يكون الناقد موضوعياً مصنوع الوجدان من الحديد الخالص غير القابل للطرق، لكي يحقّق أطروحة البنيويين في "الناقد الموضوعي" المُحايد الذي ينقل ويحلل ويفسّر ولا ينحاز إلى طرف. هذا ناقد نباتي في الحقيقة. أمّا الناقد "الإنساني" الذي يستعر لحم قلبه ويتمزّق منفعلاً بالآلام والعذابات الجسيمة التي ترزح تحت مطارقها الشخصيات التي يرسم المبدع حالها المُحزن المدمّر، فلا يستطيع أن يكون موضوعيّاً .. ولابدّ أن ينفعل وينحاز ويؤلّب قرّاءه الذين ينتظرون منه موقفاً بدورهم. وإلّا قلْ لي كيف يستطيع الناقد نقل إصرار شريف على أنّ التجربة الديمقراطية في البلاد إيجابيّة ولا تخدم السلطة .. وأن انهيار أوضاع البلاد هو جزء من أزمة عالمية .. وكيف لا يؤيّد الناقد ما يقوله عبد الرحمن شمعة بالرغم من معارضته لنقمته التي بلا حدود حين يفسّر اللعبة الديمقراطية الكريهة بالسماح لصحف المعارضة بالنشاط:
«يبدو أنّك لا تدرك أن الغرض الحقيقي من وراء التصريح لصحف المعارضة بالنقد ليس إلّا للثرثرة فقط والتنفيس .. أي تفريغ الشحنة..
- لكنها وسيلة كشف
- هذا إذا كان أحد من المسؤولين يريد أن يكشف شيئاً ... هو مرتاح في موقعه وراضٍ عن كل ما يجري حوله ... إنّه مناخ كامل كوّنته طبقة سميكة من السعداء المتكاتفين .. بصرف النظر عن الخطب .. أنتَ نائم في العسل» (ص 54)..
وشريف فعليّاً، ومن خلال ما يعكسه سلوكه "المتفائل" أبداً، من النائمين في العسل وسط جحيم الخراب .. ويحتاج إلى من يوقظه. هذه كانت قناعة شمعة، وهي – كما تشير القرائن وكما ستبيّن الوقائع المقبلة – قناعة الروائي الذي صمّم شخصيّته. ولعلّ شمعة كان من عوامل ذلك الإيقاظ الأوّليّة البسيطة لكن المهمّة، فقد حرّكت حماسة الأخير وغضبته العارمة وتجربة سجنه وإعلانه عن أن العدّ التنازلي لانهيار الأمّة وضياعها قد اقترب، وأنّ هذا أمرٌ لا يجوز السكوت عنه، استجابة أوّلية في نفس شريف حين سأل شمعة بصورة مفاجئة:
- هل أنتَ ممّن يسعون لتشكيل حكومة دينية؟
وكانت استجابة غريبة لأنها خارج سياقات حياة شريف وانشغالاته "البيتيّة" .. حتى شمعة نفسه اندهش لذلك السؤال لأنّ معناه أن شريف يريد أن "يقترب"، هو الذي كان ديدنه أن "يبتعد". أمّا الإستجابة الأوّلية الثانية التي أثارتها تجربة شمعة فهي أيضاً سؤال شريف المفاجئ له:
- هل آذوك في السجن؟
وقبل أن يجيب شمعة على هذا السؤال أعدّ الروائي "المكان" لتعزيز الفعل النفسي للإجابة: «تطلّع شمعة أمامه، وتأمّل الطريق الطويل الذي يمتد بلا نهاية، تحوطه العمارات الشاهقة كالحرّاس العمالقة» (ص 56) وكأنّ الروائي "يحذف" الكثير من الجمل المقبلة التي سيصف بها شمعة سجن "الداخل" من خلال وصف سجن "الخارج" الذي يخنق البلاد ويكتم أنفاس العباد. ردّ شمعة:
«- لن يضيرني أن أقضي عمري كلّه بالسجن.. ولعلمك نحن لا نحسّ به، ولكن يضيرنا أن يعيش الناس في سجن»
ولأن شريف قد بدأ يتململ في "العسل"، وتخرق وخزات "شمعة" جلد ضميره المستريح، فقد ثارت في ذهنه تساؤلات مضاعفة حول جملة شمعة:
(- لعلمك نحن لا نحسّ بالسجن!)
وراح في توسّع لدائرة الانفعال والتأثّر والمشاركة يتصوّر نفسه داخل السجن في زنزانة حقيرة صغيرة تجمعه مع عشرة، يأكلون الخبز الجاف ويتبوّلون في دلو، ويشربون من آخر، تتنقل بينهم الحشرات، يتبادلون الأفكار السود، وتُوزّع عليهم سخافات السجّانين من السبّ إلى الضرب.. طابور طويل يفضي إلى هدفٍ واحد هو محو الآدميّة» (ص 57)
راح شريف "يتدرب" عبر مخياله على عذابات السجن حيث القلق على الأهل سرطان يأكل المخ، والساعات طويلة مملة، والنهارات بلا قلوب تسلمهم لليالٍ بلا نجوم .. وهذا التدريب – وهذا من نتائج التواصل الإنساني العظيمة – يقوم بـ "ترقيق" دفاعات الشخص النائم في العسل، ويعمل على استنهاضه ولو بجرع بسيطة قد تفضي إلى يقظة أكثر عزماً عن طريق التراكم. وقد دُمّر هذا المنفذ التواصلي العظيم بصورة محسوبة لصالح الإنترنت والفضائيات. وليس من الممكن أن يتفاءل أي قارئ مُراقب بنجاح مثل هذا الفعل التراكمي البطيء في التأثير في شخصيّة شريف وتغيير سلوكه القائم على التفاؤل حتى والعالم على وشك الإنفجار كما قال له شمعة، وكما ثنّى هو على هذا القول بالقول وهو يتنفس بعمق:
«- أجمل ما في الحياة حسنُ الظنّ بالأيام» (ص 57)
ولكي يؤكّد لنا الروائي أنّ شريف لن يقنع أبداً بأن "هناك من يتربّص بأيامه" كما قال له شمعة، وأنّ طريقة التحفيز التدريجي هذه لن تُفلح مع شريف، وأنّه سيبقى طافياً على سطح غيمة من عسل، فقد جعله يودّع شمعة بحرارة، ويُهرع إلى سطح بيته حيث الدجاج والبطّ والحمام والأرانب .. وحيث يوغل الكاتب في عرض مستوى الطمأنينة الإجتماعية المُغيّبة ومسالمة الراهن الفاجع من خلال انهمام شريف في اكتشافاته: الطيور بلا اسنان، تلتقط الحب وتبتلعه ويبقى في حواصلها، الضغط على رقبة البطّة بالعصا يكشف حبّات الذرة المكوّمة أسفل رقبتها.. وعلى هذه المكتشفات البسيطة تتجلى له عظمة الخالق: «اقشعر جسده من قدرة الخالق، وأحسّ بضآلة الإنسان الذي يعتبر نفسه السلطان الأوحد» (ص 59).
وهذه السلامة النفسية المسبوكة التي لا تخدشها أشدّ الأهوال تعود إلى بنية الشخصية من وجهة نظري .. وإلى سطح اللاشعور الهاديء المُتصالح مع شعور الفرد. أمّا أولئك – مثل عبد الرحمن شمعة - الذين يحلفون بأن العالم سيبلغ نهايته الوشيكة، وأنّ الدنيا ستنقلب، والكون سيتفجّر، فهم يُسقطون هذه الرؤى من الجحيم المستعر في لاشعورهم وصراعاته البركانية الناقمة على العالم المُحيط بهم والذي يُقدّم لهم المادة البنائية للمشاهد بفوضاه وظلماته وتفجّراته. ومثل هذه الشخصيات – شخصية شريف – لا "تصحو" من سرير العسل وتنهض منه بسهولة.. تحتاج – في العادة – إلى تجربة مدوّية مرعبة ومزلزلة تدمّر لا سرير العسل حسب، بل وجود الفرد الغافي عليه بأكمله.. وهذا ما أعدّه له فؤاد قنديل.
(7)
يستهل فؤاد قنديل الفصل السابع من روايته ببداية لا صلة لها – في الظاهر - بكل مضامين الفصول السابقة وخصوصاً الفصل السابق – السادس – حيث عوّدنا الكاتب على أن تمتد الوشائج بين حلقة كل فصل والفصل الذي يليه، يستهله بوصف حركة سيّارة تخفض سرعتها تدريجيا، وتقف في منتصف طريق يكفي وصف وحشته وظلامه وعزلته ليجعل فأر التوجّس يلعب في العبّ الإدراكي للقارئ، فهو طريق خالٍ مظلم، صامت موحش، يرتفع فجأة فتقع من جانبيه الوديان السحيقة، وينخفض فجأة فيختفي بين تلال متجهّمة (ص 61). قدم السائق عذراً لعطل السيّارة لا علاج له سوى أن توافق الشابة – التي أخفى عنّا الروائي اسمها وغيّب هويّتها عامداً – على أن تنتظر إصلاحه وهي في السيارة من قبل الكهربائي الذي لا يبعد أكثر من خمسين مترا في الجهة المجاورة .. عرض السائق مقترحه بصورة حرّة تاركاً لها الاختيار، لكن أين تذهب؟ ومن سيقف لها في هذه الأرض المنعزلة والشارع مخيف؟
دفع السيارة بيديه وترك الطريق المعبّد وهبط في طريق ترابي مسافة مئة متر تقريباً، وأوقفها أمام مبنى مظلم .. تركها واختفى لدقيقتين وعاد ليخبرها بأنه أيقظ الكهربائي من النوم، ويرجوها أن تنزل لأن "العدّة" تحت الكرسي الذي تجلس عليه .. ما إن نزلت حتى انقضّ عليها ليغتصبها .. لم يكن إنساناً .. بل حيواناً .. فشلت كل محاولاتها .. صرخت .. خمشته .. عضّته .. أوهمته بأن زوجها ضابط .. عفّرت وجهه بالتراب .. دسّت التراب في عينيه وفي فمه .. أمسكته من اذنيه .. أكلت وجهه أكلاً .. نهشت لحمه .. رفسته .. لكن لم يفلح معه كلّ شيء:
«لم يطل الوقت حتى أصبح فخذاها منفصلين، سرعان ما دخل بينهما (...) كان الأمر قد انتهى، وانطلق السهم الذي لا يمكن أن يعود إلى موضعه» (ص63).
مزّقها هذا الوحش، ثم قاد سيارته، مبتعداً، وتركها، منهارة محطّمة، على قارعة الطريق. وإلى هنا، وحتى قبيل نهاية فصل الكارثة هذا، لم يفصح الروائي عن اسم الضحيّة.. إلى أن يجعلها تقول وهي تبحث عن حلّ لمصيبتها:
«أسهل الحلول أن أموت قبل أن تحفر أظافر الفضيحة في صدور أهلي وزوجي شريف .. مستحيل أن تمسّ ثوبه ذرّة من ترابي .. لابدّ أن أموت» (ص 64) إنّها سلوى .. وإنّها لمفاجأة كبرى صامة لنا لأن الروائي قد هدهد توقّعاتنا نحو سلوى في ختام الفصل السابق حين جعلها تتصل بشريف لتخبره بأنها ذاهبة إلى أختها "صحراء" الموشكة على الولادة، وحين جعل شريف يأكل برتقالة من مخلفات الاحتفال السنوي بعِيد ركوبه السرير في الليلة الحمراء الفائتة.
نعم إنّ الضحية الملقاة الآن على قارعة الطريق هي سلوى .. سلوى شريف!! سلوى صديقة البطّ الأصفر والحمام الأبيض والأرانب القطنية.. وشريف المتفائل الذي يرى أنّ «أجمل ما في الحياة هو حسن الظنّ بالأيام» فرتّب له السرد هذه النهاية الفاجعة.
(8)
فصل الانتظار والقلق .. حيث شريف يتقلّب على جمر التوقّعات المفتوحة تحاصره عشرات الأسئلة عن مصير زوجته.. نحن نعلم بما حصل لها وهو لا يعلم، ونتلذّذ بعدم معرفته .. رهاوة وتحكّم .. وهواجس قدرة كلّية على الورق وفي فضاءات التخييل .. فيا لخطورة هذا الإبداع والتخييل.. وضرورتهما لصحّتنا النفسية وسط مشاعر العجز والإهمال التي تحاصرنا من كل حدب وصوب.
ودائماً تأتي "حركات" الروائي – المقتدر وليس أي روائي – متسقة ومشحونة بالقصديّة العالية، فمع نزول شريف بالروب – هل هو روب الديكة أم روبه القديم؟! – إلى الشارع يوقظ الكاتب غرائز العدوان في كل شيء، ليعدّ شريف لاستقبال الشدّة الفاجعة المقبلة، فالمعارك تدور بين القطط بلا رحمة .. في لمحة عين تتحوّل القطط من جنس إلى جنس إذا ظهر الطعام، وتدخّلت المعدة لتحكم العالم الذي تهبط عليه الظلمة والقمامة ... الكلاب تعدو في إثر بعضها وتعبث بودّ دون مبالاة بأحد، وقد أحسّت بأنها تمتلك الليل.. الكلاب ملوك الليل.. وهناك كلب امتلك هذه الليلة واستفرد بسلوى وعبث بها بلا هوادة.. صار ينظر إلى السماء يسألها عن سلواه الغائبة! وها هي تطرق باب الشقّة بعنف لتدخل كائناً ممزّقاً تشوّه وجهه برك الدموع والوحل.
هل سينفع شريف تفاؤله؟ هل سينقذه حسن ظنّه بالأيام؟ «من الذي سيعيد إليه شرفه؟ هل الله نفسه يستطيع؟» (ص 69)
هذا الإنسان الذي لم يكن يمشي على الرصيف بل تحته كما يقول .. وليس بجوار الحائط بل في الحائط نفسه، امتدت إليه مخالب الخراب العامة التي تلتهم البلاد، والفساد الذي يدمّر نفوس العباد: «لقد طبع الكلاب بصمات الدنس على كل مليمتر من حياته» (ص 70). الآن، بلغ توتّرنا النفسي الحناجر، ووصلت الحبكة الروائية ذروتها القصوى التي لن يحافظ الكاتب على مستواها إلّا بحدثٍ أكثر هولاً وتمزيقاً، وهذا صعب الحصول لأن الحياة فيها وقائع محدودة تتصف بسمات الشدائد الفاجعة مثل الاغتصاب. ولهذا كنتُ أتمنى أن يختم فؤاد هذا الفصل عند نهاية المقطع الذي يحاول فيه شريف الإفلات من دوّامة الكارثة الرهيبة فلا يجد ملاذا، وتتسفّه من حوله كل الرموز التي استبطنها وتتساقط حيث تقف عاجزة .. ومجرد صور .. صور: «حانت منه التفاتة، وهو يجلس على أحد كراسي السفرة إلى صورتها وهي تبتسم وعلى صدرها البط الصغير الأصفر، وفي الجانب الآخر صورة عبد الناصر يضع رأسه بين كفيه مفكّراً في الحركة التالية، وقد اشتعل فؤاده من حرارة الموقف الصعب» (ص 70).
وحتى الجملة الأخيرة: (وقد اشتعل فؤاده من حرارة الموقف الصعب) يمكن التخلّي عنها لصالح عملية "الإغلاق" .. إغلاق حدث الشدّة الفاجع كي ينطوي على ذاته مكتفياً بذاته السوداء، لأن أي إضافات خارجية – مهما كانت – ستبغي الحلول، وهنا ستضعف طعناته الساحقة. وهذا ما حصل عندما استنجد شريف بالنقيب سليمان الملط، وعاد به وهو شبه نائم يُطلق النكات والتحليلات على السلالم.
(9)
الآن، يُلقى شريف معصوب العينين في حضرة "الباشا" اللواء السابق في الجيش وتاجر المخدّرات الحالي. تتبع ذلك الكثير من المشاهد المُصمّمة "سينمائياً" يبدو أن ثقافة فؤاد قنديل السينمائية الوافرة قد ألحّت عليه بها، وأسعفته بمادّتها. نحن كقرّاء عرب "سمّمت" السينما المصريّة، ولعقود طويلة جداً، عقولنا بمثل هذه المشاهد المكرّرة التي صارت ممجوجة حيث ترمي المصادفة إنساناً بريئاً في درب "الباشا" أو "القرش" فيفسد إحدى صفقاته .. ويبدأ الصراع المُكرّر والمُمل. والكيفية التي رمى بها القدر شريف في درب الباشا، وجعله يُفسد صفقة عمره بالهيروين الذي تحوّل إليه من الحشيش ووضع فيها كل ما يملكه، هي مصادفة عجيبة. فالوحش الذي اغتصب "سلوى" هو شخص اسمه "واوا" هذا الشخص كان مُكلّفاً بنقل شحنة الهيروين لتسليمها إلى الباشا. لكنه قام بتصرّف أربك العملية كلّها، وقلب مساراتها، ودمّر حياة الباشا، وذلك حين قام بفعله الدنيء واغتصب "سلوى"، ووقوعه في قبضة العدالة.
ولكي تعود العمليّة إلى مسارها المرسوم، ويطمئن الباشا على أمواله التي استثمرها في الصفقة (10 ملايين دولار)، صار لزاماً إجبار شريف على التنازل عن الدعوى التي رفعها ضد "واوا" لكي يُطلق سراح هذا الأخير ويوصل المخدّرات إلى الباشا. وها أنتَ ترى – سيّدي القارىء – أنّه سيناريو ارتحل بثيمة الرواية بعيداً عن دوائرها الرائعة والخطيرة التأثير التي رسمها فؤاد قنديل بمهارة .. دوائر الفساد السياسي والانحطاط الاجتماعي والفوضى السلوكية، وخصوصاً الكيفية الفذّة التي أوصلنا بها فؤاد – من خلال محنة شريف طبعاً – إلى القناعة بأن الإنسان – وحسب الوصف الأرسطي الموفّق – هو "حيوان سياسي" وليس حيواناً ناطقاُ أو اجتماعياً حسب بالرغم من أهمّية تلك التعريفات. الدرس الأعظم هو أن الإنسان في هذه البلاد يصبح سياسيّاً "بالضرورة" .. وكلّما ابتعد عن السياسة مُطمئناً ذاته بحسن الظن بالأيام، وتمسّك بأهداب التفاؤل، وسار وفق قواعد "المنطق" كما فعل شريف، ليُبعد نفسه عن السياسة، فإن غولة السياسة التي يتفنّن في غلق الأبواب في وجهها، ستدخل عليه من الشبابيك، ليس بعد أن تطرقها أو تفتحها بهدوء خبيث، بل بتحطيمها وتهشيم كل ما يقف في طريقها، مشعلة النيران في قلوب سكان البيت قبل أثاثه، ومخرّبة مجريات حياتهم، وسالبة وجودهم.
وبالنسبة لكارثة شريف "الإنسان الغير مزعج" كما وصفه نقيب الشرطة "سليمان الملط" بمعنى أن لا شأن له في السياسة، ولهذا لا يسبّب إزعاجاً للدولة، هي نتاج وضع سياسي فاسد ومُختل. فالنظام السياسي الطغياني الذي يحتقر الإنسان ويمسخ إنسانيته هو الذي ينجب مثل هذه الوحوش البشرية أمثال "واوا". والنظام السياسي القائم على الكذب والتزوير والاستغلال هو الذي يطوّح بأخلاقيات البشر ومواضعاتهم الإنسانية التي جبلهم عليها الله ويسحقها ليضع بدلا منها أخلاقيات جديدة قائمة على احتقار الإنسان واستغلاله وهدر كرامته بلا رحمة. وحتى بعد أن أفلح النقيب "سليمان" – وبنخوة عجيبة أدهشت شريف – في القبض على هذا الوحش، تبرّع حماة العدالة لتزوير العدالة وتخليصه بشتى الأدلّة المزوّرة، ليحيلوا قضيّة تحطيم وجود سلوى المسكينة إلى "رغي" قضائي وثرثرة جلسات تدوم شهورا وسنوات بلا طائل. وهذا نتاج تزوير النظام السياسي لإرادة القضاء واستخفافه بها في بلد صارت فيه أعداد الجرائم تفوق عدد السكان في البلاد.
صارت الجريمة أنموذجاً سلوكيّاً يُقتدى للعيش والرفاه .. كانت في السابق مصدر عار، وصارت الآن مصدر فخار .. يرفل مقترفها بالأبّهة والعز ويلعب بالأموال .. والسبب الأكبر سياسي، وهو أن المُجرم الأكبر – أبو المجرمين ورأس "الواوات" - والأشدّ خطورة منهم كلّهم موجود "هناك" .. نعم "هناك" فوق .. فوق .. فوق الجميع. مُحصّن ومحمي ومرفوع على الأكتاف والهامات .. إحدى الدول العربية التي عصف بها إعصار الربيع/ الخريف الدموي العربي، كانت مدينة بما يقارب 30 مليار دولار، وظهر بعد سقوط رئيسها أن ثروته 70 ملياراً من الدولارات .. الأمّة مقيّدة .. والشعب جائع .. وهو لا يصرف دولاراً لمساعدة هؤلاء الجياع وإنقاذهم وإنقاذ عوائلهم من السقوط والتشرّد. شوّهوا معنى القيادة كتضحية، ومعنى المسؤولية كأمانة.. شوّهوا كلّ ما قاله الله عن ولي الأمر .. وكل ما أوصى به محمد والمسيح عن الأخوة والإنسانية .. يُحذّر منهم لأن نعمهم وافرة.. "وما رأيتُ نعمة وافرة إلّا وكان بجانبها حقّ مُضيّع" كما يقول علي بن ابي طالب .. ضربوا للناس أبشع قدوة في الكيفية التي يقوم بها المسؤول الذي يسلمه الوطن دفة قيادته ومركب ثرواته في تدمير هذا الوطن وسلب ثرواته واحتقار مواطنه المسكين (أو الأحمق) الذي أودعهم ثقته.
فما هي نسبة الباشا المجرم الذي يطارد شريف إلى هؤلاء المجرمين الرؤساء والملوك الخنازير؟! وما معنى أن يغتصب "واوا" سلوى المسكينة، والحاكم ينيك الأمّة الأم ويغتصبها علناً أمام أعين أبنائها كلّ لحظة؟! لقد اغتصب واوا سلوى في طريق مظلم وولّى هارباً .. في حين أن الحاكم يغتصب أمّنا كل لحظة في الساحات العامة وأمام أنظارنا!! هذا هو الدرس الأعظم من "عصر واوا"، وأعتقد أن هذا السعي المخلص هو الذي لمسته في أغلب أعمال فؤاد قنديل القصصية والروائية. وقد أفلح في هذا العمل الروائي أن يوسّع الإيحاءات المباشرة والدلالات الرمزية لهذا الصراع بصورة مؤثّرة تهزّ الأعماق. فشريف يقف الآن أمام "الباشا"؛ والأخير لواء شرطة سابق من رموز السلطة العسكرية القمعية التي تتقاعد لا لتريح وتستريح، ولكن لتوظّف كل المهارات والخِبَر التي اكتنزتها في وظيفتها الرسمية لقيادة وإنجاح ما كانت تحاربه والاتجار به، وهو أخطر المخاطر على عقول الشعب – خصوصاً شبابه – وشخصيّته من خلال تهديم وجوده بالمخدرات التي يعدّ الكيان الصهيوني اللقيط من أكبر المروّجين لها. والباشا يرشي وكيل الوزارة، وهذا يرشي الوزير .. سلسلة من السفلة العاهرين .. وتصوّر أن الرشوة كانت قروشاً وجنيهات، فصارت – على يد الباشا وفي ظلّ الديمقراطية – وهي ديمقراطية الخنازير الأمريكان الفعليّة الذين تقاسموا جسد العراق كالضباع المسعورة – صارت عمارات وعِزّباً وفيللاً وجنينات!!
وأمام هذا الباشا المجرم المستهتر بكل قيمة، يقف إنسان صغير حيث يضع الله قدرته في أضعف خلقه .. إنسان بسيط يسير في "الحائط" وتحت الرصيف .. هو شريف .. استاذ التاريخ .. يا لروعتك يا فؤاد قنديل .. جعل التاريخ كلّه وهو أوراق ومحابر وذكريات يقف أمام الباشا رمز الفساد والطغيان المحصّن بالحرّاس الوحوش .. في البداية وقد ألقي شريف على السلم الحجري معصوب العينين ومقيّد اليدين، كان صاحبنا يوهم نفسه: «تخلّص من غضبه الذي كان عليه حتى قبل دقيقة، ومعاملتهم له كأنه مجرم مع أنهم لا شكّ يعرفون أنّه استاذ .. لا .. هم لا يعرفون، وإلا ما كانوا قد أحضروني هنا .. الأمر به لبس واضح لأن مثل هؤلاء الرجال يكونون في العادة – كي يُحسنوا الخدمة – بهائم» (ص 78).
ولم يقم فؤاد بعرض شريف كبطل خارق، بل جعل مقاومته وموقفه الرافض ينموان بصورة طبيعية مثلما يحصل الأمر لدى أيّ إنسان عادي بيننا: يجبن ويضعف وينخذل، ثم يصرخ ويزعق وينسعر في وجه السلطة، مهما كانت قدرتها الباطشة، ليعود ينكسر، تمهيداً لموجة رفض جديدة. كان شريف مُحاطاً بمجموعة من البهائم البشرية التي مسك الباشا بأعنّة قلوبها لا وجودها فصارت لعبة بيده .. طلب منه الباشا أن يقوم بسحب البلاغ الذي قدّمه ضد واوا، ولم يكن شريف يفهم عن أي بلاغ، وأيّ واوا يتكلّم الباشا، فاعتقد الباشا بأن شريف يلعب معه ويناور، وبدأ بشتمه ووصفه بالصرصار والحشرة. وحين أخبره الباشا بأنه يقصد بلاغه ضد "أنور القرش" صعق وانذهل وعرف من هو المقصود، وأن المطلوب التنازل عن الدعوى ضدّ من اغتصب زوجته الحبيبة:
«دارت الدنيا بالفتى الوحيد، إذ تذكّر مقوّض أحلامه .. مصدر تعاسته الأوحد .. كان يتمنى أن يموت هذا المجرم كيّاً بالنار، على أن تعود إليه الحياة، ثم يُدخل في مؤخرته خازوق لا يخرج إلّا من رأسه ليموت اياماً، وبعدها يموت تمزيقا بقطع الزجاج .. ثم بالكهرباء .. ثم بالزفت المغلي» (ص 79) هكذا كان يتخيّل ميتات لا نهائية لمغتصب زوجته، وإذا بالباشا يطلب منه التنازل عن البلاغ ضده، وإطلاق سراحه من أجل صفقة العشرة مليون دولار. أعلن شريف للباشا بأنه يرفض سحب البلاغ .. فابتدأت رحلة التعذيب .. لكن شريف اصرّ على أن يعرف السبب أوّلا .. وهي حركة التفافية جريئة منه .. اضطر الباشا لإخباره .. رفض شريف من جديد فعادت دوّامة التعذيب.
كانوا يغطّونه ببرميل خمر ممزوج بسوائل استحمام الباشا .. وبين نفس طالع ونفس هابط كان شريف يهزّ رأسه رافضاً .. كان الباشا يكشّر عن أنيابه محتقن الوجه، وكان الرجال القساة يشفقون على هذا الولد العنيد من سوء ما سيلقاه. تجتاح شريف – والروائي يعبّر عن تحوّلات نفس إنسان أمام الرعب وليس سوبرماناً – مشاعر بالضآلة الحقيقية والخوف. أدرك وهو السادر سابقا في مراهنته على طيبة البشر، أن الإنسان يمكن أن يتحوّل إلى وحش في ايّ لحظة .. أدرك أنّ عليه أن لا يقيم تقييماته للبشر على أساس مجموعة المدرّسين والطلبة والناس البسطاء الذين يسيرون في الشوارع. لقد تبيّن جهله التام حتى برسالة الإنسان على الأرض، فإلى جانب رسالته المقدّسة الشهيرة التي يدرّسونها للتلاميذ في المدارس، هناك رسالة أخرى ينهض بها العتاة أمثال سعادة الباشا(ص 84).
إن جولة التعذيب والمهانة والإذلال هذه حملت في طيّاتها عمليّة " غسيل دماغ " حقيقية لمعتقدات شريف ومبادئه السابقة القائمة على الأحكام النظريّة بسلامة النيّة؛ صار يشعر بأن رسالة التخويف والقهر والسيطرة ضرورية حتى يتم تحقيق التوازن المطلوب بين الخير والشر، ويبدو أن غلبة الخير بالصورة التي كان يتخيّلها سوف تكون نهاية سينمائية بلا معنى. لقد انقلبت ثوابته الفلسفية التي عجز شمعة والآخرون عن زحزحتها جذريّاً، وقفزت أفكاره إلى مناطق أخرى بدأ معها يجد معنى للعبارات التي كان يسمع عنها مثل السمك الكبير والقطط السمان ورجال الدولة وحماة النظام .. لم يعد الجيش والمخابرات حماة النظام.. الحيتان والغيلان وأمثالهم هم الحماة الحقيقيون (ص 84).
لقد "تطهّر" شريف.. نعم .. لم يعد شريف ذاك الكائن المسحور بالتوازنات الدقيقة التي رسمتها الإرادة الإلهية، وعجائب الخلق المدهشة التي تذهله وهو يلاحق حركات البط والأرانب والحمام على السطح.. أدرك أن اللاتوازن والتجبّر والقسوة هي نواميس الحياة المحيطة به والتي لم يكن يرى روحها السوداء، وأن القوّة، لا " المنطق "، هي التي تسيّر هذه النواميس .. وأخيراً: «وأخيراً .. وبعد رحلة الأفكار المدهشة والاكتشافات المرعبة التي دامت نصف دقيقة .. لا يعرف أحد، ولا شريف نفسه كيف قال بثقة شيطانية وغير شرعية:
- إذا كنتَ أنتَ لواء........ فأنا أستاذ» (ص 84).
وبهذا الموقف التاريخي من أستاذ تاريخ، تكون كل سبل التراجع قد أغلقت .. ولا خطوة واحدة إلى الوراء .. قوّة مجهولة كانت تحرّك أستاذ التاريخ الضئيل هذا ليقول للباشا وبحدّة:
- أنتَ لا تملك أي شيء!!
والقوّة المجهولة هذه – كما صمّم فؤاد قنديل ذلك – هي قوّة التاريخ. نعم .. قوة التاريخ .. في أيّ لحظة يؤمن فيها الإنسان – أي إنسان، ومهما كان – بأنه "أستاذ تاريخ" فإنه سوف يتحوّل إلى قوّة تاريخية. أتذكر أن الكلب هنري كيسنجر كان يطلب من الوفد المصري المفاوض في عام 1973 أن لا يحدّثه عن مصر القوة التاريخية ذات التأثير المعنوي لأن هذه مفاهيم لا يمكن "حسابها"، بل عن مصر القدرات والإمكانات الواقعية المحسوبة، لأنه يعلم أن مصر الإمكانات المحسوبة محصورة ومدمّرة، بينما مصر التاريخ قوّة عظمى .. وكلّنا – وهذا درس مُضاف هائل الأبعاد والمرامي من فؤاد – نتحوّل بالتاريخ إلى قوى عظمى مثل أولئك الشباب الذين غيّروا وجه التاريخ في ميدان التحرير مثلاً. ولهذا تخطط أنظمة القهر والفساد دائماً لجعل الإنسان يفكّر بوجوده ضمن دائرته المادية المباشرة التي ستضيق لتصبح دائرة حيوانية .. إنّها تبذل المستحيل كي لا يرفع رأسه ليرى آماد التاريخ في الخارج على أرض البلاد، ولا ينظر عميقاً في ذاته ليتعرّف على اللقى التي أودعها التاريخ في سمائها التي أظلمت بفعل المهانة وضغط ضرورات البقاء.
نعم، "القوّة المجهولة" هي التي جعلت هذا الإنسان النحيف الذي كانت زوجته سلوى تحسب أضلاعه حين تفرك ظهره في الحمّام، والذي انرعب من فكرة أن يتصوّر نفسه سجيناً سياسياً مثل شمعة هو الذي كاد يُجنّ لأنه في أثناء عمليّة الزائدة قضى ليلة بكاملها ممدّداً على ظهره ومستيقظاً حتى الصباح وحيداً، إلى أن جاءت زوجته ظهر اليوم التالي (ص 56)، يصرخ في وجه الباشا:
- أنت لا تملك اي شيء..
لقد كسر شريف حاجز الخوف بعد أن وقف أمام غولة القهر وجهاً لوجه، وعرف ما الذي تبغيه منه، وما الذي ستفعله به إن هو تراجع أو بقى على قناعاته المغيّبة السابقة. لم يعد – بعدُ - مثل أولئك الذين يدخلون المغارة المرعبة في إحدى الحكايات الخرافية ويخرجون وقد فقدوا القدرة على النطق. لقد قام الغيلان بأقصى وأقسى ما في جعبتهم .. لقد اغتصبوا زوجته .. ودمّروا حياته إلى الأبد .. فما معنى أن يهدّده الباشا بأن 26 من رجاله القساة سوف يغتصبونه، فيضمنون تخصيبه لينجب بعد تسعة أيام لا تسعة شهور؟! فعلاً تهديد سخيف بالنسبة لشخص هو أستاذ في التاريخ ينظر من فوق كتف الباشا السافل أو رأسه ليرى ذاته وهو يحدّث تلاميذه عن عرابي: «أخطر شيء يا إخوتي إرضاء شخص أو اشخاص على حساب المبادئ، ولو تأمّلنا حركة التاريخ سنلاحظ إن الذي يحرّكها ويحتل أنصع الصفحات فيها هم من دافعوا عن المبادئ، لأنها الكرامة. ولو دقّقنا النظر في كل الأحداث التي يسجّلها التاريخ لن نجده يقيم وزناً إلّا لكل حركة كانت تسعى لتحقيق الكرامة، مثلاً أحمد عرابي .. دوره النضالي محدود ومع ذلك فقولته "لا" الشهيرة في وجه الخديوي توفيق جعلت التاريخ يحتفي به .. لابدّ من "لا" عالية واضحة وغير مُخنّثة أو تقبل المساومة ... عبد الناصر قال "لا" مدوّية للتخلف وللرجعية والاستعمار والفقر.. "لا" للجهل وللتمزّق» (ص 86).
لقد دمّر الأشرار وجود شريف .. واجتثّوا وجود زوجته الحبيبة سلوى .. ومزّقوا حياتهما العائلية شرّ ممزّق. وفي النهاية التي رسمها فؤاد لسلوى دروس وعبر وعمل رمزي بليغ، فقد جُنّت سلوى وصُعِقت يوم أحست بتأخر مجيء دورتها الشهريّة. ولاحظ كيف نقل لنا الروائي هذه المعلومة. لقد أوصلها إلينا عبر حركة هادئة جميلة اسهمت في إنزال قارعة الصحوة. استخدم فؤاد مشهدا مألوفاً وأليفاً من الحياة اليومية ليضعنا في مقابلة مع احتدام خرابي عصف بوجود سلوى: «كانت تصنع لها فنجاناً من القهوة.. سمعت طفلاً لا يستطيع التحكّم في فيض ضحكاته .. تحوّلت إلى نافذة المطبخ، وكانت عليها ستائر رقيقة ترقص وتعانق نفسها بمداعبة الهواء» (ص 106) وكأنّ فؤاد قنديل، الحكيم، يريد أن يذكّرنا كل لحظة بما قدّرته الآلهة علينا من أن نحيا تحت وطأة هذا الصراع المزمن الذي لا يكلّ هدير رحاه بين الموت والحياة .. الحياة ممثلة بضحكات هذا الطفل – الذي لم تنضج قواه العقلية بعدُ ليمسك بزمام انفعالاته فتراه لا يستطيع السيطرة على ضحكاته مثلنا. وحتى حركة الستائر وطبيعة مادّتها جعلها خدرة منشغلة بذاتها مثل هذا الكائن الذي لم يشعر بوخزات الفناء حتى الآن فانطلق يضحك في وجه الحياة بلا حساب. وسلوى المثكولة المُهدّمة الروح والمكسورة القلب تقف الآن تطل من النافذة على المشهد وكأنها تنحني بأسى على مشهد حياتها الصغير الغائب والمعطّل: الإنجاب وضحكات الطفل المُنتظر الذي حُرمَتْ منه: «من وراء الستار أطلّت سلوى .. رأت أمّاً تلاعب وليدها في الشرفة، تكاد تُجنّ به، ولا أحد في الدنيا غيرهما».
وجنون الأمّ المجهولة، الظاهر، بطفلها، وانشغافها به حدّ نسيان العالم المُحيط بها بأكمله، هو شكل موازٍ لجنون مكتوم في أعمق أعماق سلوى بالطفولة المفقودة التي انتظرتها طويلاً .. وهو، أيضاً، مقلوب حالة جنون ستجتاح سلوى بعد قليل رفضاً لطفولة ستُفرض عليها قسراً لتكون وصمة عار سبّبها الأنذال ممثلين بواوا الوحش الذي اغتصبها والذي – كما تعتقد – قد علقت منه نُطفة دنيئة برحمها البكر الطاهر: «حملت الأمّ وليدها ودخلت، وضعتْ كوب القهوة الفارغ واستدارت عائدة إلى الشقّة لتُفاجأ بذاكرتها ترفع أمامها علم الطمث الأحمر ... الطمث؟! يا نهار أسود» (ص 106).
لقد أمضت سنوات طويلات وهي تنتظر مثل هذه البشارة؛ أن ينقطع طمثها الشهري علامة على بدء بوادر الحمل العزيز.. بشارة نذرت عمرها كلّه لها.. لكنها الآن - وبعد فاجعة اغتصابها - لم تعد بشارة .. إنّها نذير شؤم .. وزلزال مرعب .. كان غيابه لو حدث قبل شهر .. شهر واحد فقط يعني أروع حدث في العالم .. لكنه الآن – وبعد شهر من الحادث المشؤوم – يعني كارثة الكوارث. وليس غير الله تعاتبه هو القادر المقتدر على كلّ شيء فكيف يسمح بهذه المفارقة التي لا يزنها عقل ولا منطق: «هل هذه إرادتك يا ربّ؟.. إرادتكَ أن يمرّ على زواجي أكثر من سبع سنين فلا أحمل من زوجي الذي أحبّه، ولا أتمنى رجلاً في الدنيا سواه.. وأحملُ من هذا الجلِف القذر.. لا أظنّك ترضى بهذا يا ربّ؟» ( ص 106).
خوف .. ورعب .. وتمزّق .. ويأس وألم .. والإرادة العليا تتفرّج عليها من علّيين، ولكنها لا تنفض يديها من تراب الأمل. فقد تربّت على سلسلة من المعجزات الكبرى التي يجترها الجميع، ولا تنتظر سوى "مُعجزة" صغيرة جدا .. بالعكس هي ليست معجزة بل إجراء بسيط يفكّ عقدتها الخانقة. قد تحدث المفاجأة الإلهية وتكتشف أنها الآن نائمة، وأن كل ما أرعبها وجثم على روحها هو أضغاث أحلام وكوابيس. لكن لا أحلام ولا كوابيس .. وصخرة الواقع المُسننة تضرب جبينها كل لحظة لتثبت لها أن طمثها قد انقطع وأن كارثة أخرى أكبر ممثلة بحملها من الواوا المجرم ستنتصب على رأس جبل الكارثة السابقة الممثلة باغتصابه لها. وتقف أمّها أمامها الآن لتؤكّد لها أن دورة النساء يمكن أن تتأخر، وهو أمر معروف علميّاً وتؤكّده التجربة. ولكن الأم كانت تعرف أنها تكذب وابنتها تعرف أن أمّها تكذب، وأنّهما ما تخدعان إلّا نفسيهما لتعطيل هبوط الطعنة المميتة. كانت أمّها - وبالعادة ووفق محدّدات تربيتها المعروفة – ترى أنّ الله موجود وهو قادر على حلّ كلّ العُقد المستعصية. ما قيمة هذه المحنة تجاه محنة يونس الذي ابتلعه الحوت؟! هكذا يعلموننا منذ نعومة أظفارنا .. وسلوى ليست مثل شمعة الذي يريد قلب النظام وتغيير الحكّام. مشكلتها لا يمكن أن تُعلن ابداً.. هي مشكلة ورجاء منكسر ولكنه مصيري بينها وبين الله. ولهذا سرعان ما جدّفت – بسذاجة اليائسين - وأعلنت شكّها في الجهة التي يأتي منها الحلّ فدعتها أمّها للإستغفار والهدوء. ولكن أمّها بالرغم من مكابرتها كانت - بدورها - تنهار في الداخل وتتهدّم إرادتها وتتخلخل ركائز موثقاتها الإيمانية:
«انكسر قلب الأمّ الصامد لنشيج ابنتها. فرّت الدموع من عينيها وهي ترى ابنتها تتمزّق أمامها .. انكفأت سلوى على السرير.. لم تحاول أمّها أن تواسيها. بدا لها الأمر لا يحتاج إلى مواساة ولكنه في حاجة ماسّة لبكاء لا يتوقف، فانهارت هي الأخرى باكية يمزّقها شعور بالأسى والإشفاق على ابنتها مشوبٌ بسؤال لا تجسر على توجيهه إلى الله» (ص 109). ولكن هذا السؤال المرعب الذي لا تجسر عليه قد تمّ توجيهه وانتهى الأمر بمجرد طوافه سريعاً في سماء الذهن كخاطر نضحه وجدان مكلوم. لقد أطلقه اللاشعور الناقم وتقبّله الشعور المهزوم، ولن يُردّ إلى مواضعه أبداً، ولكن يمكن أن يُلحق بالاستغفار وما أيسره على الروح الجريح التي تشفّت من مصدر الخذلان:
«- ألم يكن يكفي أن زوجها حرمها من الولد حتى تصيبها هذه المصيبة فتهدد حياتها إلى نهاية العمر؟!
حاولت أن تطرد هذا السؤال الغاضب بما فيه من شبهة اعتراض على حكمة الخلّاق العظيم.. عادت إلى قواعدها الدينية على عجل قائلة وهي تمسح دموعها التي بلغت شفتيها وشربت منها بضع قطرات:
- أستغفرك يا ربّ» (ص 110)
لكن بقي هناك طرف آخر اكتسحت وجوده الكارثة وقد يكون القارئ قد غاب عن ذهنه الالتفات إليه، وهو العم فريد الذي أفهمنا الروائي أنّه اختصاص نكات، وأنّه سيطلق النكات والطرائف حتى وهم يدفعونه يوم القيامة إلى جهنم، محاولين أن ينزعوا معطفه الأسطوري!! لقد أجهزت الشدّة الفاجعة على روحه المشاكس وحوّلته إلى "بؤجة" ملابس مُهملة.. مُظلم الوجه باهت الملامح لا ينطق بحرف ولا يأتي بحركة، وكان لا يفتأ يداعب الذباب الذي يقف على وجهه (ص 110). لقد دمّرت فعلة واوا الجميع .. مثلما دمّرت فعلات واوا الأكبر - بدءاً من الباشا – أمّة كاملة وتعيد تدمير روحها كل لحظة، فصارت أمّة مظلمة الوجه باهتة الملامح لا تنطق بحرف ولا تأتي بحركة، وتكتفي بمداعبة الذباب الذي يقف على وجهها منتظرة الفرج. وحتى الله لا يرضى بمثل هذا الانتظار! وقد أفلح فؤاد قنديل في تمزيق معاذير هذا الانتظار وركل هذه الروح الاعتمادية القميئة، بقوّة، على لسان أو في أعماق الجميع. نفضت سلوى يديها من موضوعة الانتظار السلبي لتدخّل الآلهة، وتبعتها أمّها.. ثم أبوها.. أمّا شريف فها هو يعيد الكرّة عليه وقد ألقى به رجال الباشا مقيّداً في حفرة نائية مظلمة يلقون عليه صفائح القمامة والبول بين وقت وآخر فتتراكم على وجهه أسراب الذباب الدبق الذي يقف على عينيه وأنفه وأذنيه.. والفئران تتسلّل إلى صدره بلا تحفّظ وتقضم أطرافه وأذنيه، أو تركب على شفتيه وتأخذ بلعقهما بخفّة موجعة ومقزّزة. ووسط دوّأمة العجز واحتقار الذات ونكوص الإرادة تشتعل مديات التفكير السحري وتتسع فيتساءل شريف ممسكاً باذيال الأب الأكبر:
«ألا أستحق ان يهبط ملك من السماء فينقذني من الشياطين؟ ينزل حصان لا مرئي أمتطيه ويحملني بعيداً، فيُنقذ إنساناً من بطش أخيه؟! لماذا لم تعدّ تحدث هذه المواقف العظيمة للبسطاء من البشر الذين لا يملكون إلّا قلباً طاهراً؟ هل لابدّ أن يكون نبيّاً حتى يحظى بالرضا والمساعدات المتميّزة؟ لم يعد هناك أنبياء .. وها أنذا وحدي مع البشر السادة؟» (ص 115). والبشر السادة الذين يتبوّلون على رأس أستاذ التاريخ شريف صاروا هم أصحاب المعجزات ويمسكون بأيديهم مفاتيحها مع مفاتيح سياراتهم الحديثة. وحوش سفلة نصّبوا أنفسهم بديلاً عن الله يتحكّمون في مصائر البشر ويسحقونهم كالصراصير، وها هم يتبوّلون على أستاذ التاريخ الذي أمضى عمره يحسب الأمور بذرّات المنطق وبمثاقيل العقل الذهبيّة، فإذا به يُفاجأ أنّ هذا العقل الذي يعتبره وكيل الله صار أداة للشيطان:
«جاء ثان وصبّ على رأسه ملء دلو من سائل اصفر.. كان الدلو مملوءاً بالبول .. هل يمكن أن يكون الإنسان قد وصل إلى هذا الحدّ من البشاعة؟ وأجاب على سؤاله بأن الفضل كلّه للعقل الذي منحه الله للإنسان .. تملّكه الغيظ الذي لا يقدر على تفجيره .. فتحدّث إلى نفسه عن العقل الذي حوّل مساره، وبدلاً من أن يكون مثل جرّار يصعد بعربات البشرية إلى أعلى، فإنه يتجه إلى أسفل .. أسفل مكان ومكانة! هل لهذا كلّه من نهاية؟ ومن الذي يتعيّن عليه أن يضع النهاية؟ لعلّه الله .. مؤكدٌ أنه هو .. إذن لماذا يتفرّج علينا ونحن نتردّى؟ ما الذي يجده فينا من جمال وتسلية؟» (ص 112 و113).
ووفق هذه الخطة الاستدراجية المُحكمة والصبور "ينظّف" فؤاد قنديل شخوصه الأساسيين، وخصوصاً بطله الرئيسي: شريف، من هذا الاعتماد الاتكالي المتوارث على الماورائيات المعطّلة .. ينظّفهم من أي اختلاجة أمل بخلاص ٍ يأتي من خارج نفوسهم، وتسهم فيه جهة أخرى مهما تعالت واقتدرت وأعجزت؛ بدء بسلوى، ومرّ بأمّها وأبيها، وانتهى بشريف .. والأخير هو أسّ التغيير، لأنّ أستاذ التاريخ لابدّ أن ينفض يديه من أيّ عوامل تفسّر التاريخ وتحوّلاته بقوى خارج إرادة الإنسان الحديدية مهما كانت فرادة هذه العوالم ودرجة الاتفاق الجمعي عليها. وهنا تتجلى رؤية مُضافة محسوبة لفؤاد قنديل حين جعل بطله مختصّاً بمادة التاريخ وأزاحه بصبر ولكن بخشونة وعنف من تعلّقاته السلبيّة السابقة بالمنطق البارد والحسابات العقليّة الباهتة وحتميّات الطيبة البشرية المُضلّلة وأقدار التغيير التي ترسمها الإرادات الخارقة المتعالية، ليوصله إلى سدّة الرؤية السديدة الصافية وإلى منبع كلّ تغيير: نفسه الحرّة الغير هيّابة، وإرادته العزوم، وكانت آخر محطة توقف عندها قبل أن يرتقي سدّة النضال بلا تراجع هي محطة التساؤلات الفلسفية التحرّشية الأخيرة التي ثارت بعد أن أُصيب بكارثة الإنثكال الأخرى التي جعلها فؤاد قنديل قرباناً وضريبة دم وفداء على شريف أن يدفعه ليصل إلى المستوى الإنساني المقاوم الجديد. فقد كان في رعاية رَحِم دائم منعم تكفّل بكل حاجاته النفسية والاجتماعية والعقلية .. من الرحم الأمومي .. إلى "رحم" الرعاية الزوجيّة الذي وفّرته سلوى الحبيبة، فرحم الأنموذج السياسي الممثل بعبد الناصر، و"رحم" الاستكانة المعرفيّة والنفسيّة الذي لا تزعجه أي تساؤلات، والذي من دون هذه التساؤلات يصبح فردوس للتفاؤل ولتحقّق الفروض السلوكية اللاشعورية "المنطقيّة": أنا طيّب .. أمّي ترضى عنّي، والتي لخّصها حين فكر بغضبة عبد الرحمن شمعة بعد خروج الأخير من السجن: «أحسّ أنه مرفّه برغم تواضع حالته المادّية، وتأكّد أن أفكاره رغم جسارتها لن تُفضي به إلى الصدام مع النظام، ولا مع أيّ إنسان .. أمّأ شمعة فيستحق أن يقلق من أجله، لأنه مقاتل عنيد من أجل أبسط الأمور، ولا يقبل الحلول الوسط». (ص 57)..
وهذه الكارثة الثكلية الهائلة حصلت بعد أن تيقّنت سلوى من أنها قد حبلت من الوحش "واوا" الذي اغتصبها، أقنعتها أمّها واقتنعت هي بأن عليها أن تستأصل ابن السِفاح هذا بأن تُجهض نفسها لدى واحد من الأطباء، وكانت النتيجة أن تحطّمت صحتها، وماتت ومات معها الجنين. وفي المأتم الذي أُقيم في الشقّة، وقف شريف – وللمرّة الأخيرة – في محطّة التساؤلات التي أربكت حياته طويلاً: «الناس تتعذّب وهي لا تدري .. من الذي يتعيّن عليه أن يقول لهم أنهم يتعذّبون وهم لا يحسّون بما يجري؟ يجب أن يتشكّل وفد من البشر ويرفعون عريضة إلى الله مطالبين بتغيرات جذرية في النظام البشري. إنها كما يُقال واحدة من اثنتين: إمّا أنّ ما يجري من فعل البشر فأرجو أن توقفه يا ربّ عند حدّه، وأما أنه من فعلك وصنع يديك وهذا لا يتناسب مع قدرك .. وحاشاك أن تكون؟! فارفع مقتك وغضبك عنّا .. وراح في نوم عميق .. مجرّد راحة جسدية بين عذاب وعذاب.. راح في نوم عميق» (ص 126).
وكان من الممكن أن تنتهي حكايتنا السوداء هذه عند هذا الحدّ، فأيّ استطالة - وقد وصلنا حافة ما بعد الفجيعة - تعني التدحرّج السردي على منحدر تخبو فيه القدرة على إثارة الانفعال في نفس القارئ والشخوص بعد أن استنزف الروائي عواطفنا حدّ ثمالة الوجع. لكن الروائي يحتفظ في جعبته بمفاجأة أخرى قاصمة ستؤجج نقمتنا على الأشرار والحكومات و"الواوات" والحياة والموت والأقدار، وعلى أنفسنا الجبانة أيضاً. "إذا رأى الناس ظالماً ولم يأخذوا على يديه اوشك الله أن يعمّهم بعقاب منه" .. أليس كذلك؟
لقد أصرّ شريف على أن يقوم المشفى الذي ماتت فيه زوجته بتحليل نسيج الجنين الميت ويقارنها بعيّنة منه ليتأكّد من صلته به، وهل هو فعلاً إبن الوحش "واوا"؟! وها هو الطبيب يخبره بأن الجنين ليس إبن واوا بل هو إبنه من صلبه .. والرواية صادرة في عام 1993!! حيث لم تكن هناك تسهيلات مباشرة لا في مصر ولا في بلداننا لفحص الحمض النووي لغرض التأكّد من الأبوة. وفي مئات النصوص الإبداعية يجترح وجدان المبدعين حلولاً وإجراءات وأفكاراً يلحق بها العلم بعد عقود، ويكفي سوفوكل أنّه اكتشف عقدة أوديب قبل معلّم فيينا بخمسة وعشرين قرناً. لقد عُطّلت قوى شريف الإخصابية لسبع سنوات استسلم فيها لواقع أنّه "مخصي" بمعنى القحل والعقر والخيبة في تخصيب رحم حبيبته سلوى التي انتظرت ضحكة الطفولة التي تُجنّ بها طويلا. لقد أوقعه الأطباء في هذا الوهم.. خرّبوا حياته وعطّلوا امتداده الخلودي من خلال الأبناء فالأحفاد وخَلْق جيل يطعّمه بأفكاره ويربّيه على استقامته الخلقية ورفضه للشرّ. جعل الأطباء سلوى لا تضع أي احتمال أن يكون هذا الجنين من صلب زوجها، وليس من صلب الوحش "واوا". فمن المسؤول عن هذه المأساة؟ كلٌّ هؤلاء مسؤولون.
كلّ من هؤلاء: الأطباء وواوا ومن معه تشاركوا في قتل سلوى وجنينها وتضييع شريف من مقتربين مختلفين يلتقيان في النتيجة!! فأي جحيم فساد هذا الذي نُشوى على ألسنة لهيبه؟! وأيّ شجرة زقوم اسمها الحياة نأكلها لتملأ منّا البطون؟! لقد تحوّل الجنين المقتول إلى رمز للقضيّة التي يشوّش الطغيان صلة الإنسان المقهور بها حتى أنّها تضيع منه فلا يعلم هل هي له أم عليه؟! وحين يعلم بأنها له، وأنّه "مسؤول" عنها بصلة الدم؛ صلة الموت والحياة، يكون قد فات الأوان، وضاع كلّ شيء. ولن تفيد بعدُ حالة الهذيان والتصدّع العقلي التي اجتاحت شريف حينما أمسك بالتقرير الذي يثبت أبوّته وبدأ يهتف في الشارع وبنادي المارّة:
«- اقرأوا التقرير. لقد استلمته الآن فقط .. آخر تقرير عن ولدي الذي اغتالوه» (ص 128).
ثم بدأ يمزّق التقرير، ويعطي كلّ من يقابله قطعة من شهادة التقرير التي تُثبت قدرته على الخلق. أمّا مكمّلات المشهد هذا من تسلّق شريف لأحد الأعمدة واستمراره بالهتاف إلى أن تجلّت له سلوى -مهلوساً طبعاً - محاطة ببنات جميلات، وحواره معها، فقد كانت استطالة ثقيلة اضعفت فعل المشهد الأساسي، لأنّها جعلت شريف "المجنون" يتفاهم ويتحاور بعقل ومنطق. لكن الأمر كلّه يظهر – في الختام – عبارة عن كابوس تنقشع غمامته السوداء حينما يدقّ جرس الباب. وهنا يُدخلنا الروائي في ربكة حقيقية من ناحية تداخل الأزمان في الرواية.
ففي هذا الفصل (الرابع عشر) الذي يُختم بصحوة شريف من الكابوس لا نعرف حدود هذا الكابوس أبداً، ومن أين بدأ؟ فعندما يجلس شريف في المأتم في الشقة ويخاطب الله في الموقف الذي وصفناه قبل قليل، يغطّ في نوم عميق. ثم يقول الكاتب مباشرة أنّ طبيب المشفى قام بتحليل نسيج الجنين فتأكّدت صلته بشريف الذي تصدّع عقله ثم ظهر أنّه يحلم. أي أنّ شريف كان في الشقّة، وأنّه في بداية الفصل تمّ استدعاؤه إلى المشفى بسبب خطورة حالة سلوى الصحّية بفعل عملية الإجهاض. لكن في الفصل السابق (الثالث عشر) كان شريف في قبضة الباشا ملقىً في حفرة يتبوّل عليه فيها الأشرار ويخبرنا عبر تداعياته بأنه قد مضى عليه شهران ونصف في رحلة العذاب هذه. ثم يأتي الفصل اللاحق (الخامس عشر) فيخبرنا الكاتب بأن شريف في قبضة الباشا (أخرجوه له فضربه بعنف) (ص 130)، وينتهي الفصل بهروبه من الحفرة. وقد يعتقد السيّد القارئ أنّ موت سلوى يُمكن أن يُزج به كحدث فاصل وفق أيّ تسلسل زمني، لأن الأحداث الروائية الفاصلة تُربك الزمن السردي وتخيّم ظلالها على كل متغيّر فيه، وتتحكّم بمسارات الوقائع، لكن شريف كان، وهو في الحفرة، يحدث نفسه عن فقدان سلوى. فكيف حضر مأتمها وهو تحت رحمة الباشا؟ وإذا كان الروائي قد ضمن التسلسل الكرونولوجي للزمن فلماذا قدّم وأخّر بالفصول وتلاعب بتسلسلات الحوادث تقديماً وتأخيراً فأربك ملاحقتنا لتماسكها الزمني؟!
المهم .. بل الأهم من كلّ ذلك، هو الفصل الأخير، وأنا أعتبر الفصل السادس عشر، لا السابع عشر المُقتضب، هو الختام الفعلي والضروري للرواية فنّياً وفكريّاً ورؤيوياً، وسوف أبيّن المجال الأخير الخطير. فقد خرج شريف، الآن، من المشفى بعد أن أمضى أسبوعاً كاملاً مشوّش الوعي والذاكرة كما بيّنا في بداية هذه الدراسة. لم يكن يفكّر في أيّ شيء غير الانتقام بعد أن اتسعت دائرة رؤيته لطبيعة هذا الانتقام. فلم يعد مطلوباً منه الانتقام من الباشا أو من "واوا".. بل لا معنى لهذا الانتقام الذي يتعامل مع "نتائج" الفساد والشر ويغفل أسبابها: «المسألة بدت أمامه أكبر وأعمق، والساحة التي يلعب فيها الفساد لعبته، بانورامية طولها طول الوطن .. وعرضها عرضه. لابدّ أن تمتد الأيدي وتلتحم القلوب المُحتشدة بالغضب، وتمضي خلف العقول التي تؤرّق أنوفها رائحة العفن ذي الألوان الناريّة البراقة» (ص 140) (4).
مرّ بعبد الرحمن شمعة فلم يجده، فقد ألقوا القبض عليه – وكالعادة – فجراً .. مضى من شارع إلى شارع يتحدّث إلى نفسه وإلى الناس وإلى الله .. ومن الطبيعي أن تمرّ – أو تنتهي – هذه الجولة الهائمة المشحونة بالغضب والسخط في المكان الأمومي الأثير الذي يحمل دلالات الحماية، وتحت خيمته تنتعش قدرات الأبناء على الفعل حتى لو كانت في صورة ذكريات مُحتبسة في الوجدان .. مكان شهد ثورات الأبناء من قبل؛ الأبناء الذين اصبحوا جيل آباء لا يمكن نسيانه .. مكان شهد الشرارات التاريخية الكبرى المُعبّرة عن روح أبناء هذه الأمّة حين تكون الأمومة مقدّسة وصحّية وصحيحة: شرارة ثورة 1919.. ومظاهرات 1935 .. وثورة الخبز عام 1977 وغيرها .. وهو ميدان التحرير الذي سوف يشهد ثورة مصر العظيمة المُباركة في الخامس والعشرين من يناير عام 2011. وهي ليست نبوءة من فؤاد قنديل – وروايته هذه صادرة في عام 1993 - بالرغم من أنه لا يدّعيها من ناحية، وليست عصيّة عليه، هو المتشرّب بروح ودم شعبه ونبض وطنه من ناحية أخرى، ولكن من المؤكّد أنّها "استشراف" محقّق لما سوف يحصل من تفجّر وغضب طوفاني سببه الظلم والطغيان والفساد .. تفجّر يستخدم لغة جديدة .. لغة فعل تكسّر قيود التمنطق البارد والاعتمادات الماورائية والحتميات القدريّة، وتكتب للتاريخ تأريخاً جديداً .. لغة تاريخ عرف أسرارها أستاذ التاريخ، شريف، الممدّد الآن في ميدان التحرير بين قدمي تمثال "عمر مكرم" الناظر إلى العلا بجلال ومهابة، لغة يتسمّع شريف الذي عركته الخسارات الجسيمة وقهر الفاسدين وظلم الواوات، لهدير إعصارها الآتي من البعيد، والذي سوف يصل الميدان حتماً:
«في ميدان التحرير توقّف وتأمّل التمثال المهيب .. تخطّى السور الشائك .. سار على الحشيش المُبتل .. دنا من التمثال المهيب الذي كان صاحبه ينظر إلى أعلى .. تنهّد وهو يحسّ بالخور والانهيار .. تهدّل جسده إلى الأرض .. وضع رأسه تحت قدمي التمثال وتمدّد .. ساد هدوء نسبي وسكينة، وكأن العالم ينتظر لغة أخرى. كأن الكون يرهف السمع .. وينتظر أن ينطق أحد بحرف وبأي لغة» (ص 140).
تحيّة للمبدع فؤاد قنديل!
اقتباسات دالة:
# «أدرك وهو السادر سابقا في مراهنته على طيبة البشر، أن الإنسان يمكن أن يتحوّل إلى وحش في ايّ لحظة .. أدرك أنّ عليه أن لا يقيم تقييماته للبشر على أساس مجموعة المدرّسين والطلبة والناس البسطاء الذين يسيرون في الشوارع. لقد تبيّن جهله التام حتى برسالة الإنسان على الأرض، فإلى جانب رسالته المقدّسة الشهيرة التي يدرّسونها للتلاميذ في المدارس، هناك رسالة أخرى ينهض بها العتاة أمثال سعادة الباشا»
# «وأخيراً.. وبعد رحلة الأفكار المدهشة والاكتشافات المرعبة التي دامت نصف دقيقة ... لا يعرف أحد، ولا شريف نفسه كيف قال بثقة شيطانية وغير شرعية:
-إذا كنتَ أنتَ لواء ... فأنا أستاذ»
# «ألا أستحق ان يهبط ملك من السماء فينقذني من الشياطين؟ ينزل حصان لا مرئي أمتطيه ويحملني بعيداً، فيُنقذ إنساناً من بطش أخيه؟! لماذا لم تعدّ تحدث هذه المواقف العظيمة للبسطاء من البشر الذين لا يملكون إلّا قلباً طاهراً؟ هل لابدّ أن يكون نبيّاً حتى يحظى بالرضا والمساعدات المتميّزة؟ لم يعد هناك أنبياء... وها أنذا وحدي مع البشر السادة؟»
# «جاء ثان وصبّ على رأسه ملء دلو من سائل اصفر.. كان الدلو مملوءاً بالبول .. هل يمكن أن يكون الإنسان قد وصل إلى هذا الحدّ من البشاعة؟ وأجاب على سؤاله بأن الفضل كلّه للعقل الذي منحه الله للإنسان.. تملّكه الغيظ الذي لا يقدر على تفجيره.. فتحدّث إلى نفسه عن العقل الذي حوّل مساره، وبدلاً من أن يكون مثل جرّار يصعد بعربات البشرية إلى أعلى، فإنه يتجه إلى أسفل .. أسفل مكان ومكانة! هل لهذا كلّه من نهاية؟ ومن الذي يتعيّن عليه أن يضع النهاية؟ لعلّه الله .. مؤكدٌ أنه هو .. إذن لماذا يتفرّج علينا ونحن نتردّى؟ ما الذي يجده فينا من جمال وتسلية؟»
# «الناس تتعذّب وهي لا تدري.. من الذي يتعيّن عليه أن يقول لهم أنهم يتعذّبون وهم لا يحسّون بما يجري؟ يجب أن يتشكّل وفد من البشر ويرفعون عريضة إلى الله مطالبين بتغيرات جذرية في النظام البشري. إنها كما يُقال واحدة من اثنتين: إمّا أنّ ما يجري من فعل البشر فأرجو أن توقفه يا ربّ عند حدّه، وأما أنه من فعلك وصنع يديك وهذا لا يتناسب مع قدرك.. وحاشاك أن تكون؟! فارفع مقتك وغضبك عنّا.. وراح في نوم عميق.. مجرّد راحة جسدية بين عذاب وعذاب.. راح في نوم عميق»
# «في ميدان التحرير توقّف وتأمّل التمثال المهيب .. تخطّى السور الشائك .. سار على الحشيش المُبتل .. دنا من التمثال المهيب الذي كان صاحبه ينظر إلى أعلى.. تنهّد وهو يحسّ بالخور والإنهيار.. تهدّل جسده إلى الأرض.. وضع رأسه تحت قدمي التمثال وتمدّد.. ساد هدوء نسبي وسكينة، وكأن العالم ينتظر لغة أخرى».
# «كان الكون يرهف السمع... وينتظر أن ينطق أحد بحرف وبأي لغة»
# «تناول غداءه وحيداً في منقوع الصمت»
# «يتمرّغ في رماد الذكريات كحمار لا يقدر على حكّ ظهره؟!»
# «تبرق عيناه ولا تهتز فيه شعرة ككلب ضربه صاحبه بقسوة»
# «أسرعت عريانة تجري في الشقّة كجنّية خرجت من البحر والمشمشة الكبيرة خلفها تترجرج»
# «من الذي سيعيد إليه شرفه؟ هل الله نفسه يستطيع؟»
# «شريف: أجمل ما في الحياة حسنُ الظنّ بالأيام»
# «لقد عبث الساسة بالتكوين الأصيل للإنسان المصري، شوّهوا معدنه، ودفعوا بالناس إلى طرق غريبة لن توصلهم إلى الأمان أبداً»
# «هاجمه العدو اللدود الذي تعوّد أن يتربص بلحظات هناءته.. وفكّر في سعادتها الناقصة.. وسرعان ما قاوم الإستدراج نحو الإعتراض من جديد على حكمة الله قائلاً يكفي أننا نُقبل على نزواتنا بلا مخاوف، وهناك أناس يدفعون ثمنها غالياً.. وتمضي بهم رحلة الحياة ولا همّ لهم إلّا ملء البطون»
# «خطرت لي الفكرة بعد عيد زواجنا الماضي مباشرة.. أي منذ عام. جمعتُ ريش الديوك التي أربّيها لمدّة ستة اشهر، ثم بدأتُ في صنعه.. نسجته من خيوط الريش الرفيعة بعد أن نزعتُ من الريشة عصبها الأوسط!!»
# «نهضا وتعانقا أمام العالم، ثم مضيا إلى الداخل.. هي إلى المطبخ، وهو إلى حجرة النوم»
# «قبّل الخدّ الأيمن وتوقف ليتذوّق، فأشارت له على خدّها الأيسر:
- هذا سوف يغضب.
قبّله بعناية خاصة حتى لا يغضب حقيقة. ثم عاد وقبّل الأيمن حتى يتحقّق العدل»
هوامش:
(1) عصر واوا – فؤاد قنديل – رواية – دار الهلال – 1993.
(2) المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي – جورج طرابيشي – دار رياض الريّس – بيروت – الطبعة الأولى – 1991.
(3) جماليات الحكمة في التراث الثقافي البابلي – يوسف الحوراني – دار النهار – بيروت – 1994.
(4) ولاحظ قصديّة الكاتب العالية وحدّة انتباهته حيث استخدم على الصفحة (140) الختامية هذه العبارات التي هي نفس ما استخدمه التي استخدمه على الصفحة (17) الابتدائية.