فن الرحـلة أو قـصة السـفر اليــوم من المـجــالات التي لم يولها النـقد الأدبـي عـناية تذكـر. فما زالـت الأبحـاث النـقدية مـنصبة على الحـكاية الخرافـية والأقـصوصة والروايـة إضـافة إلى مختلف فنون الشــعر. ومع أن النتائـج المتحصل عليها في مجـال لا يمــكن أن تنــقل وتطــبق في مــجـال آخـر، فإن بعض النقاد قد انتهوا إلى وجود ما يشبه القاســم المشـترك بين أنـواع القص المخـتلفة أي "نظام ضمني من الوحـدات والــقواعد يضـبط الإنـتاج الســـــردي."(1) ففي مجال القصص مـيز توماشــفسكي في ترتـيب العـناصر الموضـوعية فيما يتعلق بهذا الفن بــــين نوعـين يخـتلفان في درجة خـضوعهما لمـبدأ الســببية: الأول يسـود المؤلفـات القائـمة على الحبـكة من ذلك الـرواية والملـحمة والقصة، والثـاني يسـود المؤلـفات الوصـفية غير القائـمة على الحبكة القصصية من قبيل الرحلة. وينبّه توماشـفسكي إلى أن الحكـاية (أي مـادة القصة) تتـطلب في آن واحـد العنـصر الزمــني والعنـصر السبـبي. ونزعم أن الرحـلة باعتبارها فنا في الكتابة، توفـر العنصر الزمني والعنـصر الســببي في آن: توفـر العنـصر الزمني أي تتخذ شكل متـوالية زمنـية، إذا تناولت حكايتها مغامـرات الرحالة (الشخصية)، أما إذا اقتصرت على عـرض الانطباعات فإنها تتحـول إلى قــصة بلا حبـكة.(2)
ونعتقد أن عدم اهتمام النقاد بالرحلة في الرواية العربية هو الأمر الذي قادنا إلى ضرورة البحث في رواية (الأشجار والاغتيال مرزوق) للروائي العربي عبد الرحمان منيف. واعتبرنا أن الشخصيات في هذا العمل الروائي هي شخصيات مرتحلة في غالب الأحيان. والرحــلة في الأشـجار تجـمع وتؤلف بين الـسرد والوصـف وتسـلسل الأحداث. فهي روايــة قائــمة على الحبــكة القصصية وتنامي الحدث السردي، أو هي رحـلة قائمة على تســلسل الأحــداث وتتابـعها حتـــــى استـحالت العلاقـات بين فصــولها علاقـات سبــبية يستـــدعي الفـصل الفــصل. لذلك اعتبرنا أن رواية (الأشجار واغتيال مرزوق) هي إحدى روايات الرحيل(3) أو السفر إلى الآخر،(4) نروم من خلالها(5) دراسة خصائص اللغة في السرد الرحلي(6) والوقوف عند مبررات تميزها وتفردها، أي ما الذي تتميز به اللغة في الخطاب الرحلي، حتى استحالت اللغة في هذا الخطاب هيئة مخصوصة في الكتابة وفنا نزعم أن له خصائص تميزه عن غيره، يجوز معه أن ننسب هذا الفن إلى روائي معين دون سواه.
إن المتأمل في رواية الأشجار... يلاحظ أن من أبرز الألفاظ المتواترة في هذه الرواية لفظ الرحلة(7)، أو ما يوحي بالسفر(8) كالقطار(9) وجواز السفر والمحطة وعمّال القطار والمسافرين... وجدير بالدارس أن ينصت للنص. وأن يتبين هذه العلامات المشكّلة للرحلة للوقوف على مكوناتها وخصائصها، لما لها من أهمية في هذا العمل الروائي، إذ أنها من الأدوات الأساسية المحيلة علي الرحلة دوما. إنها تقنية عمد الراوي إلى استعمالها. فأكسبها ميزات وخصائص كفيلة بأن تحقق الغاية والمقصد الذي يرومه.
والظاهر أن مصطلح الرحلة وما يوحي بالرحيل استحال من الثوابت اللغوية في رواية الأشجار... "إذ لا يوجد شخص لم تسيطر عليه الرغبة الملحة في الرحيل والسفر. وقلما يوجد شخص لم يسافر إلى مكان من الأمكنة"(10) إذا فالسفر مفصل هام في حياة الناس. والسفر والرحلة في هذا العمل الروائي هو سفر من نوع خاص. يرتبط بالحلم والمغامرة والبحث عن القيم والوطن البديل. سفر في المكان العام وأخر في الزمن الخاص والحميمي عبر الذاكرة وما يشبه حلم اليقظة.
فالرحـلــة في الأشجار ... إذا، رحـلة مـــــثيرة بامتياز. إذ هي ارتـحال من الــقرية إلي المـدينة، ومن بــلد إلي بــلد، ومن تنـظيم إلي تنظــيم، ومن شـغل إلي شـــغل، ومن شـرق إلي غـرب، ومن الـجنوب إلى الــشمــال، ومـــن عـــالم الواقـع إلي عـالم الهوس والجـنون. تلــك هـي رحـلة منصور عـــبد الســلام والياس نخـــــلة ومرزوق أبطال الرواية. رحـلة تبحث عن جـوهر غامـض. تمحو باطـلا وتنشد الحقيقة واليقين. رحلة تتماهى بالفـجر الصـادق. أو هي استـباق مستمر يجــــب ألا يركــد بطــول المـقام، لذلـك كـان "إلياس نخــلة" مثـــل أمواج البحـر لا يستقر لحـظة واحـدة. أو هـو كالـــماء يجري لا تقـف لـه على طريق، لأنــه إذ استــقر يكـون قــد مــات وانتهى. كل هذا يحضــرنا ونحـن نقــرأ رائعـة عبـد الرحمـان منــيف "الأشجــار واغتـيال مرزوق."
إنها رحــــلة بطولــــية تمارسـها الشخـصية مــن أجـل أن تظـل صـادقة شريــفة. وهـي كذلك تحقـيق لأحلام عـمرها ســنوات وسـنوات، لأن ما هـو كائــن الآن يجعـلها حزيـنة إلي درجـة الجــنون. ولأنـها في هـذه الأرض الـتي تمـثل الوطــن بالنـسبة إليـــها رأت الشخصية القصصية أشـياء لم تكن تتصـور أنها يمـكن أن تقع. فاضـطرت اضطرارا إلى الارتــــحال والسفر. هــي رحلـة الطمـوح. فالشخصية تتألم حينا لما كان يعتريها من فترات الضعف والانهيار. وتثور تروم الانتقام ورد الاعتبار لنفسها أحيانا أخرى. رحــلة يختلـط فيـها الفـرد بالجماعة. يجتــاح بعضـهم بعـــــــضا. بؤس كامـن يطــفح على الســطح من فــصل إلى فـصل. وبــين البدايــة والنـــهاية تنهال علـيك أحداث الرحــلة. رحلـة "إلياس نخــلة" ورحــلة "منصور عـبد السـلام" ورحـلة "مرزوق". فبــدا الارتـــحال صـورة جديـدة لمشــكلة واحـــدة باقيـــة هي مشــكلة النـــظام الاجـتماعي والسياسي كله، ولـذلك استحالت رحـلة الشخـصية رحـــلة تطـهير لـنفس والعزيــمة وابتـعاث للقــلق. ولذلك أيضا اعترف "منصـور عبـد السلام" في الفـصل العشـرين وبعـد الاســتماع إلى قـصة إلياس نخـلة بأنها رحــلة وهـذه نهايتها فخاطــبه قائــلا:
ـ هـذه إذن نهــاية الرحــلة؟
فيجــيبه إليــاس نخـلة:
ـ قـد تكـون النـهاية. وقـد تكـون بداية رحـلة أطـول.(11)
رحلة بحث عن الذات تقودها الشخصية القصصية دون ملل وخوف من العراقيل التي تترصدها في كل زاوية. تروم الشخصية أن تفتح من خلالها منفذا تسري عبره هذه الذات لتؤسس كيانها، وتبلغ مرادها. ارتحال أصبح ضروريا بعد أن استحال الأمر على غير ما تتوقعه هذه الشخصية. فقد أصبح المقام في الطيبة أمرا مستحيلا بعد أن قُطعت الأشجار الخضراء واستبدلت بأشجار القطن، وبعد أن تحولت الطيبة من الاخضرار إلى البياض كان لا بد من الرحيل. إنها رحلة الذات البشرية صاغها عبد الرحمان منيف بلغة تحمل من الخصائص والوظائف ما به تتميز وتتفرد. لغة أصبحت تُنسب إلى عبد الرحمان منيف بفضل ما تتميز به من هيأة مخصوصة ومتفردة.
1 - الـلغة الرمزيـــــــــة في السرد الرحلي:
الرحلة في الأشجار... رحلة رمزية بامتياز "فرحلة القطار التي تبدأ من الجنوب إلى الشمال، من الصحراء إلى البحر هي بمعنى ما رحلة رمزية."(12) إذ مثّل الرمز في كثير من الأحيان منفذا تسري عبره الدلالة أمام عجز اللغة الصريحة والمباشرة على تبليغ المراد. فتنهض آنذاك الرمزية بوظيفة التعبير عن التمرد الفكري والاجتماعي داخل المجتمع. ولغة الرمز لغة تنفتح من خلالها الذات المرتحلة على عالم جديد. وتسعى إلى تشكيله. فتعيد صياغته منذ البداية. فإذا هو ذلك العالم الأول البكر وقد شكلته الذات المتلفظة وإحاطته بهالة من الرمزية. فبدا من صنعها يحمل خصائصها وميزاتها - وفي البدء كان الرمز.
ورواية الأشجار.... عمل روائي ينتسب إلى السرد الرحلي ويمكن أن يندرج ضمن ما نسميه بالرمزية الفنية. ولعل ما تمتاز به هذه الرمزية كونها تعمد إلى التفصيل في تقنيات القص وآلياته من سرد ووصف وحوار ورسم للشخصيات وإحاطتها بهالة من الغموض والضبابية والجنوح إلى الإشارة والتلميح. ولهذه الأسباب كانت الأسماء في الرواية مثلا أسماء رمزية بامتياز تنهل من الرمز وتتخفي وراءه. فتتدافع الدلالات وتتكاثر لتلتبس بمختلف المجالات.(13) إنها رمز لاغتيال الحرية في المجتمع العربي، اغتيال هذا المجتمع للقيم السامية فيه من قبيل الخير والشموخ والعطاء الذي تمثله الأشجار. ذلك أن الأشجار حتى وإن ماتت وانتهت فهي تموت واقفة شامخة. وهذا الاغتيال للحرية مثّل دافعا للشخصيات القصصية ومساعدا على الارتحال والبحث عن وطن بديل ومجتمع آخر لعله يبدو أكثر وضوحا في مخيلة الشخصيات تتحقق فيه حقوق الإنسان. وتنتفي فيه كل الممارسات الوحشية التي يتعرض لها. فكانت الأشجار ... رحلة الذات الباحثة عن عالم تنشده ومجتمع تحلم به بل إنها تسعي إلى تأسيسه.
أما شخصية "الياس نخلة" فإن المتأمل في تركيبة هذا الاسم يلاحظ ما تحيل عليه المفردة الأولى "الياس" من دلالات على اليأس والإحباط لما تعرض له من قهر واضطهاد. فأصبح نموذجا للإنسان العربي. يسعى بكل ما يملك إلى أن يتدبر قوتا به يضمن استمرارية العيش رغم اليــأس والقهر. ولذلك فإن المفردة الثانية (نخلة) لم توضع بطريقة اعتباطية. وإنما هي ملازمة للاسم الأول على الدوام. ولا يخفى على المتمعّن في هذا الاسم من دلالات على الاخضرار والخصب والشموخ. إن الياس نخلة هو "ذلك الرجل الصالح الذي يقوم بأفعال يبدو ظاهرها للناس وكأنها أفعال مستنكرة أما في حقيقتها فإنها عين الحق والصواب ولا يكتشف الناس صحة هذه الأقوال ولا صوابها إلا بعد حين."(14) إن أفعال وتصرفات اليأس نخلة على تنوعها - وإن بدت مستنكرة ومستهجنة في الظاهر - فهي تبعث على الحيرة والتساؤل لما يشوبها من غرابة أحيانا، إلا أنها تبقى هي الحق والصواب لمن يمعن النظر فيها ويتأمل الملابسات التي تشكلت من خلالها هذه الأفعال، إذ هو الوحيد الذي يعيش حياته كرجل فاعل يسعى من خلال ذلك إلى إثبات ذاته. فخاض مغامرة الحياة كما خاض مغامرة الرحلة اليومية عبر القطار.
أما شخصية "منصور عبد السلام" فإن المتأمل في اسم هذه الشخصية يلحظ حضور اسم المفعول فيها المتجسد في "منصور" فهو يكاد يكون شخصية مفعولا بها في كامل رواية الأشجار ... إذ لا يمتلك هذا الأخير إلا شرف المحاولة، شرف الرحلة من أقصى الجنوب إلى الشمال. فهو رجل سلبي هارب أو منفي من وطنه. يقابل شخصية الياس نخلة التي تسعي إلى أن تكون فاعلة مؤمنة بحياتها. فتحياها بعمق رغم هاجس اليأس الذي ما انفك يطاردها ويلازمها. فمنصور عبد السلام هو نموذج الشخص المثقف والإنسان العربي عموما المضطهد والمطارد في كل مكان. ويمكن القول أن شخصية "منصور عبد السلام" تتماهى مع شخصية مرزوق في هذا الإطار. فهي شخصية غائبة لا تظهر بوضوح إلا في يوميات "منصور عبد السلام" في آخر هذا العمل الروائي. ومع ذلك فقد بدت شخصية مرزوق مثيرة للجدل،إذ هي شخصية مستباحة ومغدور بها، وقع اغتصابها بل اغتيالها وإنهاء وجودها تماما. لعلها تكون الوطن المغتصب. ولعلها تكون الإنسان المضطهد في وطنه. بل إن مرزوق" ليس واحدا. مرزوق كل الناس. مرزوق شجرة. مرزوق ينبوع. مرزوق هو اليأس نخلة الذي لا يموت"(15) إنه قيمـــــــــة. ولعلها أيضا المثيل لشخصية منصور عبد السلام نفسه. هذا التماثل كامن حتى في الصيغة الصرفية فمرزوق ومنصور هما صيغتان واضحتان من حيث دلالتهما على المفعولية والسلبية " فمنصور المثقف الذي يفترض أن يكون مثقفا طليعيا فاعلا هو رجل تقتله أحزانه ويتواري خلفها ليترك لغيره الفعل."(16)
أما مدينة الطيبة فهي رمز لمدن كثيرة في العالم العربي مدن قامت فوق جثث الناس وانكسار أرواحهم مدن غير قابلة للحياة بدون ماء، بدون أمطار. فبعد أن قُطعت الأشجار ماتت الطيبة لأن الغيوم لم تعد تتجمع في سمائها.(17) والقحط الذي أصاب الطيبة دفعها إلى الجنون وحول الصحراء إلى قبر كبير.(18)
وهذه العلاقة المتوترة هي التي أوجبت الرحلة والبحث عن المدينة والوطن البديل. وهذه العزلة هي التي تبرر محاولة الشخصية الدائمة للسفر والرحيل واكتشاف العالم من حولها، أي أن هذه العزلة أنتجت شعورا بالانفصال متمركزا في الذات، كان دوما دافعا ومشجعا على الرحلة. إن الارتحال في هذه الرواية بحث عن "بشر من نوع جديد يأتون من صلب عالم آخر، لكي يطهروا هذه الأرض التي تعلوها الآن طبقة سميكة من القذارة والتفاهة."(19) وقد كان للشجرة في هذه الرواية أكثر من دلالة فهي" ليست أعوادا خضراء طويلة وإنما هي بشر من طبيعة الأطفال والأمهات"(20). إن الأشجار كالنساء" يتفجرن باللهب الصاعد من أعماق الأرض(21) وهي كالأمهات "لا يتكلمن كثيرا ولكنهن يعبرن عن أنفسهن بالزهر أيام الربيع وبالثمر أيام الصيف."(22) أو أن الأشجار كالأطفال " الذين يرعاهم الله حين ينظر إلى الأرض من خلال أشجارها. فإذا قطع الناس أشجارهم فإن الرب يتركهم ويعطي المطر لغيرهم لمن عندهم أشجار."(23) وقد حاول عبد الرحمان منيف إبراز منزلة وقيمة الأشجار في مواطن عديدة. ولعل مزيدا من هذه الدلالات يمكن أن نستخلصها من صورة الشجرة ودلالاتها في الفقرات التالية المقتطفة من هذه الرواية.
الفقرة الأولى: "لم أرد أن اقطع الأشجار، فأنا الذي غرستها مع أبى، وما زلت أتذكر كل شئ،كان أبي يقول ونحن نغرس الأشجار: يا الياس هذه الأشجار مثل الأولاد، أغلى من الأولاد، ولا أظن أن في الدنيا إنسانا يقتل أولاده، فاحرص عليها إذا مت، أنا أتركها أمانة في رقبتك، فإذا قطعت شجرة قبل أوانها فان جسدي في القبر سوف ينتفض."(24)
الفقرة الثانية: "لقد ساعدت أبي كثيرا ونحن نغرس الأشجار. وكنت أراها تنمو يوما بعد يوم. وخلال حياة أبى أثمرت وأصبحت تزهو على كل أشجار البلدة. منذ ذلك الوقت نمت بيننا صلة غامضة، ولما قطع جيراننا أشجارهم حزنت لذلك كثيرا."(25)
للأشجار في هذا العمل الروائي دلالات نستوحيها من هاتين الفقرتين. فهي مثل الأولاد أو هي أغلى من الأولاد فلا يجب أن نفرط فيها. فقطعها وإهمالها هو إهمال لأعز ما يملك الإنسان. شرفه، كرامته حريته، وطنه. فلم تعد الشجرة ذلك الشكل الذي نراه ونصوره في مخيلتنا. بل استحال كائنا مخصوصا يرتقى إلى درجة الآدمية بما يتميز به من مشاعر وأحاسيس. فتحولت الأشجار تبعا لذلك كائنا له خصوصياته يبحث الناقد في دلالاته ورموزه.
هذا الفهم المتفرد والمتميز للأشجار وهذه المنزلة المرموقة التي تحتلها هذه الشجرة، لا شك انه يقابلها تصور آخر ارتبط بالمال والربح والخسارة، على أساس أن أشجار القطن مربحة في حين أن بقية الأشجار لا تنهض بهذه الوظيفة. لذلك فإن إزالتها وقطعها واستبدالها وسيلة للثراء وجمع المال. ومرة أخري تجد الشخصية نفسها غريبة في مجتمع غريب لا يقدر الأشجار. ولا يوليها الأهمية والمنزلة التي تستحقها. فكان الهروب إلى الجبل. إنه سفر انفرادي آخر وشكل آخر من أشكال الرحلة تنهض به الشخصية. فكثيرا ما كان التوتر في العلاقات بين الشخصية وبقية الناس دافعا ومساعدا على الرحلة والهجرة والسفر إلى مكان آخر لعل الشخصية تكون بذلك قادرة على تعديل المفهوم وتصحيحه وإيجاد مفهوم جديد للأشجار يحترم خصوصية هذا الكائن. إن الرحلة في الأشجار.... بحث دائم عن صياغة جديدة للموجودات. وإيمان بأن الذات المرتحلة اقدر على فهم هذه الموجودات وبلورة مفاهيمها. إنها ذات مجرّبة. لذلك مثلت الأشجار صورا ورموزا متعددة. وتحولت إلى كائن حي وجب احترامه وتقديره وإبلائه المنزلة التي يستحق. إن هذه اللغة الرمزية قد حاولت في أكثر من مناسبة أن تبلور مفهوما جديدا للأشجار يتجاوز ذلك المفهوم الذي يحيل عليه شكل الشجرة – الدال والمدلول - الذي نعرفه بفضل ما تتميز به هذه اللغة من سلاسة وشعرية ومراوحة بين الحقيقة والخيال.
2 - اللغة الشعرية في الخطاب الرحلي:
لعل من أهم السمات التي تتميز بها الرواية الحديثة هي محاولتها أن تنهض بدورين أساسيين في أن واحد: دور النثر فتحيل بذلك على جنسها وانتمائها إلى فن القصص. ودور الشعر فتحيل بذلك على هيأة الكتابة فيها وورود الكلام الروائي على لسان السارد بكيفية مخصوصة ومتميزة يجوز معها أن ننسب الكلام لهذا الراوي دون غيره. وذلك هو التفرد والتميز في طرائق الكتابة. فيستحيل آنذاك النص الروائي نصا مكتسبا لجمالية وغنائية روائية إن في التلفظ به وجريانه على لسان المتلقي، أو في سُبل تدوينه وإخراجه إلى القارئ مكتوبا. ذلك أن الرواية تروم أن تنهض إلى جانب دورها الرئيسي كنص نثري بوظيفة الشعر لما يحقق لها من مقاصد وغايات فحواها الوعي بالمكونات النحوية في النص الروائي وطريقة انتظامها وتواترها. وهذا يتطابق مع الرأي القائل بأن الشعرية في بعض مفاهيمها إنما تحقق العذوبة والسلاسة. فيستحيل النص الروائي مطاوعا سهل التلقي وذلك بفضل هيئة استعمال اللغة حتى ذهب البعض إلى القول بأن " الأدب لا يمكن أن يكون إلا ضربا من بسط بعض خصائص اللغة وتطبيقها"(26)
ونستطيع أن نلاحظ هذه الخصائص ونحن نتتبع الأحداث وتعاقبها في رواية الأشجار ... إذ تتداخل الحقيقة والخيال في مجمل الأحداث، بل أنها تطال الشخصيات والأمكنة والأزمنة وحتى اللغة. فالقارئ لهذه الرواية لا يستطيع أن يميز بين حقيقة منصور عبد السلام وبين خيالية هذه الشخصية. هل هو شخصية واقعية أم شخصية خيالية ؟
هل الحمار(سلطان) الذي يصحب إلياس نخلة هو حمار حقيقي أم هو حمار خيالي رمزي؟ "إنها عناصر روائية تتشابك فيها الحقيقة مع الشعر وخيالاته. ولقد أضفت عليها اللغة الشعرية التي يستعملها عبد الرحمان منيف بكثافة كبيرة مزيدا من الغموض"(27) إن عبد الرحمان منيف قد حاول في الأشجار ... أن يطبق مقولة أن الشعرية الروائية تعتمد على مدي قدرة الروائي على منح المظاهر الطبيعية التي تحيط به قوة وعاطفة شعورية من خلال عملية التمثل لها كما في هذا النص:
"كنت أجلس عند كل عود أنظر إليه بلهفة مجنونة أحدثه أسأله إن كان يشكو من عطش أو عذاب وألح عليه أن يجيب كنت أسأل دون تعب حتى إذا جاء الدفء رأيت كثيرا من الأعواد النحيلة تحمر عقدها وتتكور"(28)
إن هذا النموذج من نصوص الرواية يقدم لنا صورة شعرية متتابعة. والتتابع هنا ضرورة فنية هامة كما يذهب إلى ذلك ميشال بيطور الذي يؤكد "أن الرواية الشعرية لا تكون شعرية بالمقاطع فحسب بل بمجموعها."(29) لقد تحولت الموجودات حول الشخصية الواصفة إلى كيانات حية بفعل تلك الشاعرية والإحساس المرهف. فتحول العود إلى كائن يسأل ويتحدث إليه ويشكو العطش والعذاب. فأسندت إليه صفات اقترنت بالإنسان (النحيلة.. تحمر...تتكور) ومن هنا تتحقق الوحدة بين العناصر الطبيعية وما يضيفه الراوي من رموز شعرية هي من صميم إحساسه وشاعر يته فتحولت الشمس رمزا للقوة والضعف في نفس الوقت والسماء رمزا للخير والأرض رمزا للشقاء.
إنّ الكلمات التي ينتقيها الراوي في هذا النص هي كلمات ترشد القارئ إلى هيئة الحدث الروائي وتسلسله لكنها في نفس الوقت تحرك فيه شاعرية غير معهودة يدركها الناظر والمتمعن في دلالات اللفظ ومعانيه ورمزيته، لذلك كانت سمة الشعرية ميزة تكسب النص الروائي عند عبد الرحمان منيف بعدا عادة ما ارتبط بالوجدان والعاطفة. فاستطاع هذا النص الروائي بما اكتسبه من خصائص أن يظل متجددا دوما ومحبذا في الآن نفسه من قبل المتلقي وإذا برواية الأشجار عمل روائي تجد فيه ما ترومه العاطفة والوجدان وما يبتغيه العقل من تفحص ومتابعة للواقع السياسي وأبعاده الاجتماعية والاقتصادية زمن كتابة الأشجار.
إن الراوي يمنح النص الروائي ما به يكون هذا النص شعريا بما يستعيره من وسائل تكون مساعدة على أن يتميز الملفوظ بهذه الخصائص لعل أبرزها التراكيب المتكررة التي يمكن أن نرصد نماذج منها في فترات مختلفة من الرحلة.(30)
لقد كان لفظ القطار لفظا رئيسيا تتآلف حوله مستويات الكلام الروائي. فهو يتكرر باستمرار. والتكرار سمة من سمات الشعرية كما يذهب إلى ذلك جاكوبسون حينما أشار إلى أنه في الشعر كل مبني على التناسب والتوازي. إن الراوي وهو يكسب نصه ميزة الشعرية يحاول تقريب هذه الأحداث القصصية إلى نفس المتقبل. إنه يرغبه فيما يكتبه. ويدعوه إلى تتبع هذه الأحداث.
وخلاصة القول أن اللغة في الكتابة الروائية هي مادة البناء الروائي والأساس الذي تتشكل به هذه الكتابة" واللغة بالإضافة إلى ذلك ليست أداة لتوصيل الأدب وحده ولكنها الوعاء الحامل لكل فكر الإنسان وعلمه وثقافته"(31) إن اللغة الروائية في الرحلة بما تتميز به من خصائص ووظائف (صوتية ... معجمية ... شعرية ... رمزية...قصصية) تحيلك على هيئة في الكتابة الروائية عند عبد الرحمان منيف وهيئة تشكلها بما يؤسس في نفس الوقت لهيئة متميزة ومتفردة في الدلالة هذه الهيئة في الكتابة الروائية وهذه الوظائف المتميزة للغة في الأشجار ... أصبحت سمة من سمات الفرادة عند عبد الرحمان منيف. فإذا باللغة عنده مجال رحب تكتسب من خلاله الشخصية لغة خاصة ينسبها هو إليها فتكتسبها وتصبح كاشفة عنها ومحيلة عليها. خاصة وأن عبد الرحمان منيف يرى الرأي نفسه فعنده " أن لكل شخصية لغتها الخاصة ولو اقتصرنا في الحديث على الرواية نجد أن الرواية بتنوع شخصياتها وعوالمها وبتطور هذه الشخصيات تتغير اللغة فيها تبعا للحالة أو اللحظة أو الموقف"(32)
المصادر:
عبد الرحمان منيف رواية الأشجار واغتيال مرزوق: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. المركز الثقافي العربي للنشر. الطبعة العاشرة 2000.
المراجع العربية:
- أحمد جاسم الحميدى: البطل الملحمي في روايات عبد الرحمان منيف ـ دار الأهالي دمشق الطبعة الأولى
- شاكر النابلسي:مدار الصحراء: دراسة في أدب عبد الرحمان منيف الطبعة 1991. المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
عبد الرحمان منيف: الكاتب والمنفى. المركز الثقافي العربي المؤسسة العربية للدراسات والنشر2000.
- عفيف فراج - البطل الهارب إلى الشمال يعود إلى مواجهة الجنوب ( أدب عبد الرحمان منيف الروائي ) مجلة الفكر العربي المعاصر - وجه البطل في الرواية العربية المعاصرة ـ مركز الإنماء القومي عدد 24 - 1985.
عبد المحسن بدر: نجيب محفوظ الرؤية والأداة: دار الثقافة للطباعة والنشر القاهرة 1978.
- نجمان ياسين: عبد الرحمان منيف: الرواية هي فن عصرنا المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الاولي 1994.
المراجع الفرنسية:
Roland Barthes - Introduction à l’analyse structural du récit. editions du Seuil 1973
Eco (Umberto)- les limites de l’interprétation - Ed Bernard Grasset Paris 1992
TZVETAN TODOROV: POETIQUE DE LA PROSE. EDITION DU SEUIL. PARIS.1965.
- MICHEL LEIRIS: REALISME MYTHOLOGIQUE DE MICHEL BUTOR –la modification.LES EDITIONS DE MINUIT
- -RAYMAND DEBRAY GENETTE: METAMORPHOSES DU RECIT AUTOUR DE FLAUBERT SEUIL 1988.
أستاذ باحث من تونس
هوامش:
Roland Barthes - Introduction à l’analyse structural du récit. editions du Seuil 1973. p2(1)
(2) - التمييز الذي يشير إليه توماشفسكي مزدوج في الحقيقة فمن جهة أولى هناك تضاد بين الرحلة والرواية: سرد حر+وصف = رحلة / تسلسل + الأحداث = رواية - ومن جهة أخري هناك تضاد بين المغامرات وسرد الانطباعات: سرد مغامرات = حكاية قائمة على حبكة / سرد الانطباعات = حكاية بلا حبكة.
(3) الأشجار واغتيال مرزوق: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. المركز الثقافي العربي للنشر. الطبعة العاشرة 2000. نزعم أنها حلقة في سلسلة من روايات الرحيل
(4) ونذكر من هذه الروايات على سبيل المثال:عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم. قنديل أم هاشم ليحي حقي.الحي اللاتيني لسهيل إدريس. موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح.الوشم لعبد الرحمان مجيد الربيعي. الثعبان لصنع الله إبراهيم.
(5) - قمت بدراسة مسألة الرحلة في رواية الأشجار واغتيال مرزوق لعبد الرحمان منيف دراسة كاملة سنة 2004 في إطار رسالة الماجستير ونشرت سنة 2007 عن دار نهي للنشر والتوزيع بعنوان فن الرحلة في الرواية العربية من خلال الأشجار واغتيال مرزوق لعبد الرحمان منيف.
(6) - نفتصر في هذه المناسبة على مسألة اللفة في الخطاب الرحلي.
(7) - تكرر فعل سافر أو ما دل على معناه في الأشجار.... (السفر , السفرة , أسافر.....) 43 مرة
(8) - تكرر فعل رحل أو ما دل على معناه (الرحيل , الرحلة , الارتحال ,.....) 31 مرة
(9) - تكرر لفظ القطار مفردا أو مركبا بالإضافة أو بالنعت... (محطة القطار , صوت القطار , سير القطار , وجهة القطار...) 27 مرة هذا بالإضافة إلى معينات أخري من قبيل: غادر , وصل , رجع جواز السفر , العربة المجرورة , الحدود , تلويحة الوداع ,حقيبة السفر , عمال المحطة....
(10) --RAYMAND DEBRAY GENETTE: METAMORPHOSES DU RECIT AUTOUR DE FLAUBERT SEUIL 1988. P237.
(11) - الأشجار.....: ص 176
(12) عبد الرحمان منيف: الكاتب والمنفى. المركز الثقافي العربي المؤسسة العربية للدراسات والنشر2000. ص.191.
(13)- Eco (Umberto)- les limites de l’interprétation - Ed Bernard Grasset Paris 1992 p128
(14) - أحمد جاسم الحميدى: البطل الملحمي في روايات عبد الرحمان منيف ـ دار الأهالي دمشق الطبعة الأولى ص. 159 - 160 -
(15) - الأشجار.... ص. 349.
(16) - أحمد جاسم الحميدى:البطل الملحمي في روايات عبد الرحمان منيف- ص – 160.
(17) الأشجار... ص ـ 26
(18) الأشجار... ص ـ 24
(19) - الأشجار... ص ـ 25
(20) - عفيف فراج - البطل الهارب إلى الشمال يعود إلى مواجهة الجنوب ( أدب عبد الرحمان منيف الروائي ) مجلة الفكر العربي المعاصر - وجه البطل في الرواية العربية المعاصرة ـ مركز الإنماء القومي عدد 24 - 1985.
(21) - الأشجار..... ص 45
(22) - م , ن ص ـ 53
(23) - م, ن ص 23
(24) - م , ن – ص-47.
(25) - م,ن. ص.47
(26) - TZVETAN TODOROV: POETIQUE DE LA PROSE. EDITION DU SEUIL. PARIS.1965. P32.
(27) - شاكر النابلسي:مدار الصحراء: دراسة في أدب عبد الرحمان منيف الطبعة 1991. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ص 240
(28) - الأشجار... ص 117
(29) - MICHEL LEIRIS: REALISME MYTHOLOGIQUE DE MICHEL BUTOR –la modification.LES EDITIONS DE MINUIT P284
(30) - تتردد في رواية الأشجار....تراكيب تحافظ على هيئتها النحوية كأن تكون جملا اسمية من قبيل ـ القطار في مكانه لا يتحرك ـ أو جملا فعلية من قبيل صفر القطار.. تحرك القطار... وقد تكرر هذا الصنف من الجمل في أكثر من مناسبة حتي استحال ظاهرة جديرة بالاهتمام والدرس.
(31) - عبد المحسن بدر: نجيب محفوظ الرؤية والأداة: دار الثقافة للطباعة والنشر القاهرة 1978.ص 116.
(32) - نجمان ياسين: عبد الرحمان منيف: الرواية هي فن عصرنا المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الاولي 1994... ص 17.