محمد مباركي من الأصوات الإبداعية المتألقة على صعيد الجهة الشرقية بالمغرب، استطاع في ظرف أربع سنوات فقط أن يُتحفنا بأعمال غاية في النضج والتميّز بلغ عددُها أربعةً، في مجاليِ القصة والرواية، في انتظار أن تصْدر له أعمال أخرى في قادمات الأيام. ثم إنه من زُمرة مُبْدِعينا الذين يحترمون الإبداع، ويؤمنون بأنه يحتاج إلى أدوات يلزم ضبطها والتمكن منها قبل الإقدام على ركوب مغامرة الكتابة الإبداعية؛ ولذا لم يستعجل نشر إبداعه، بل حَرَص على تجويده وإتقان حَبْكه، وإن اقتضى ذلك منه التأخر في إخراجه للناس إلى حين بلوغه سن الخمسين أو يزيد، والمقصود - طبعاً - إخراجه في أعمال مكتمِلة (مجموعات قصصية – روايات)؛ لأنه قد نشر قبْلُ جملةً من أقاصيصه في عشرينيات عمره. وتوقف مدة طويلةً عن الكتابة الإبداعية متفرِّغاً للعمل، قبل أن يعود من جديد إليها، ولكنْ بصورة أقوى. على أنّ ذلك لم يكن يُثنيه عن المطالعة والقراءة في هذين الجنسين التعبيريين، رغم كونه أستاذاً للتاريخ والجغرافيا. يقول مباركي: "لا أقول إني جئتُ إلى عالم الكتابة صُدفة. فمنذ كنت تلميذاً كتبتُ بعض المحاولات في القصة القصيرة، ونَشرت لي جريدة "البلاغ المغربي" في 1984 – على ما أظنّ – محاولة بعنوان "الجدران الإسمنتية"، ونشرت لي مجلة "المشكاة" محاولة بعنوان "الخفافيش" في 1986. بعدها انقطعت عن الكتابة لانشغالي بديدكتيك المادة التي أدرّسها (الاجتماعيات)، وتعميق الاختصاص فيها. بعد عودتي إلى مدينتي سنة 2005 وجدتُ نفسي أدْمِنُ على قراءة الأجناس الأدبية المختلفة، وخاصة القصة والرواية، وعُدْتُ إلى الكتابة في هذين الجنسين الأدبييْن". فقد أصدر في أحدهما مجموعتيْ "وطن الخبز الأسود" (2010)، و"الرقم المعلوم" (2012). على حين صدر له في الثاني روايتا "جدار" (2011)، و"رائحة التراب المبلل" (2014)، والتي كان المبدع يَنوي، في البداية، عَنْوَنَتها بعنوان آخر يُحيلنا على أحد الفضاءات المحورية فيها، وهو "تِغسال". وقد شكّل صدور هذه الأعمال في أزمنة متقاربة حدثاً فاجأ كثيراً من المتتبِّعين، وضَمِنَ لصاحبها حضوراً مستحقّا في أدبنا المعاصر. لقد كان أشبه "ببركان نائم، خزّن طاقاته الإبداعية إلى حين ليفجّرها فجأة، ودون سابق إشعار"؛ على حدّ تعبير أستاذنا د. محمد يحيى قاسمي في تقديمه لمجموعة مباركي الثانية.
ويتضح من تصفُّح هذه الأعمال تعدّدُ الموضوعات التي عالجتها، وتنوع القيم والأبعاد والغايات التي راهنت على تحقيقها، وغنى مستواها الفني والتقني. ونسجّل، في هذا الإطار، ضغط المكوِّن التاريخي فيها، بوصفه خلفيةً مرجعية طالما ألهمت المبدعين، وأمدّتْهم بسيلٍ من الوقائع استثمروها في نسْج خيوط إبداعاتهم في القصة والرواية ونحوهما، وأضفوا عليها هُوية إبداعية تقوم على تبئير المَحْكي المُتخيَّل. وعلى هذا الأساس، قد نستطيع إدراج إبداع محمد مباركي، ولاسيما الروائي منه، ضمن خانة "التخيُّل التاريخي" الذي يتنزّل – كما يقول د. عبد الله إبراهيم – "في منطقة التخوم الفاصلة/ الواصلة بين التاريخي والخيالي؛ فينشأ في منطقة حرة ذابت مكوّناتها بعضُها في بعض، وكوّنت تشكيلاً جديداً متنوعَ العناصر. ولطالما نُظر إلى التخيلات التاريخية على أنها منشطرة بين صيغتين كُبْرَيَيْن من صيغ التعبير: الموضوعية والذاتية. فهي نصوصٌ أعيد حبْكُ موادّها التاريخية؛ فامتثلت لشروط الخطاب الأدبي، وانفصلت عن سياقاتها الحقيقية، ثم اندرجتْ في سياقات مَجازية. فابتكارُ حبْكةٍ للمادة التاريخية هو الذي يُحيلها إلى مادة سردية. وما الحبكة إلا استنباطٌ مركز ناظم للأحداث المتناثرة في إطار سردي محدّد المعالم".
وعلى غرار رواية مباركي الأولى التي تمْزج بين الحكي القصصي والسرد التاريخي، نجد روايته الأخيرة تسير على النهج نفسِه، وتتخذ فضاءَها إطاراً مكانيا لأحداثها أيضا، وتحذو حذوَها في توظيف جملة من التقنيات البلاغية والفنية. وهو ما سنحاول إبرازه في مقالنا هذا بتركيز.
إن رواية "رائحة التراب المبلل" (صدرت بالدار البيضاء، عن دار أفريقيا الشرق، في 255 صفحة من القِطْع المتوسط) تحكي أحداثاً تعود إلى فترتي الاستعمار والاستقلال من تاريخ المغرب الحديث، دارت رَحاها في فضاءين متباعدين جغرافيا، ولكنهما تماسّا وتَعانَقا عبر شخصياتها. وتنقل تجارب وحَيَوات ومصائرَ وعلاقات متنوعة، تتقاطع في جوانب، وتتمايز في أخرى؛ مما يُكْسِب الرواية غنىً واضحا، ويجعلها أشبه بسلسلة من الأقاصيص، دون أن ينفي ذلك ما بينها من صلات ووشائج تيماتيكيا وفنيا.
ولئن كان المتخيَّل الروائي طاغيا على هذا العمل، إلا أن الجانب التاريخي ظل حاضرا، وبثقل أكبر، في عدد من فصول الرواية الخمسة والثلاثين، لاسيما وأنّ صاحبها رجل تاريخ، يشتغل بهذا المجال – منذ أمد بعيد – بحثاً وتدريساً. ولكنّ ذلك لم يكن ليجُرّه إلى إثقال روايته بالمعطيات التاريخية، وتحويلِها إلى وثيقة واصفة لوقائع الماضي، بل أتقن استثمار الجانبين على نحْو بارع، يراعي خصوصية الكتابة الإبداعية المُسْتنِدة على دعامات تاريخية توظّفها لمقاصدَ دلاليةٍ وجمالية.
فمن تجليات حضور السرد التاريخي في الرواية استرجاعُ السارد حادثاً عاشته بعض شخصياتها، وهو وفاة السلطان المغربي مولاي الحسن، وتولية ابنه المولى عبد العزيز عرشَ المملكة الشريفة، قبل أن يُبايع – بعد سنوات – مولاي عبد الحفيظ سلطاناً على المغرب .. هذا ما سمعته حليمة وأخوها من البرّاح في سوق القرية النائية، وحُكي للجيل التالي من أبناء البلدة. وفي الرواية إشارة إلى نشاط تجارة التهريب على الحدود المغربية – الجزائرية؛ بحيث كان يجري – منذ القرن 19 – تهريب المواشي إلى الجارَة الشرقية المحتلة؛ ممّا دفع المخزن المغربي إلى وضع مراكز على حدوده مع الجزائر لاستخلاص الأعشار على الماشية التي تُنقَل إليها.
ويشير الروائي، في بدايات عمله هذا، إلى "الوباء الغامض" الذي حلّ ببعض قرى الشرق؛ فتَسَبَّب في هلاك خلْق كثير، ودفع بمَنْ بقي على قيد الحياة إلى الفرار خارجَها؛ كما هو حال "سعدية" – وهي إحدى شخصيات الرواية المحورية – الطفلة التي مات أبَوَاها "العيد" و"رابحة" بذاك الوباء، فبادرت جدتها لأمها بالهروب بها، بمعية قدّور، إلى قريةٍ أخرى آمَنَ، وهي قرية "سيدي بوعمود"، التي احتضنت أكثر أحداث رواية مباركي التي نحن بصدد قراءتها.
وتعود بنا بعض أحداث الرواية إلى زمن دخول المستعمر الفرنسي مدينةَ وجدة، ناقلةً – بكثير من الأمانة – سلوكاته تُجاه الأهالي، وسعْيَه المستمرّ إلى استغلال خيرات بلدهم، وكذا مجهود أبنائه الذين كانوا يُشَغَّلون في ظروف عمل أقرب إلى الاستعباد. ولعل أبرز مثال على ذلك "الرومي" موريس، وهو من أصل إيطالي، نال الجنسية الفرنسية، وانتقل إلى المغرب الشرقي بحثاً عن حياة أفضل؛ فمَكَّنه المحتلّ الفرنسي من أرض واسعة بثمن رمزي، وساعده على تجهيزها ومَدِّها بقنوات الماء من وادي ملوية، إلى أنْ صارت تنتج فواكه ومُنتَجات فلاحية متنوعة تُوَجَّه أساساً إلى التسويق الخارجي. وتصف الرواية تعاملَ موريس مع الأهالي، وهو تعاملٌ يقوم على الاستغلال البَشِع والاستخفاف والازدراء، إلى درجة أنّه كان يتخذ من تصرفاتهم العفوية، ومن جهلهم وسذاجَتهم، مادة خصيبةً للمذكّرات التي شرع في تدوينها. وقد اتضح هُزؤه ذاك لَمّا لاحَظَ ردّ فعل السكان حين شاهدوا سيارته يتنقل على متنها داخل القرية، ولم يكونوا قد رأوا من قبْلُ سيارة! فقد كان موريس أولَ مَنْ أدخل هذه الوسيلة إلى قريتهم، الرابضة عند قدم أحد جبال بني يزناسن على الحدود مع الجزائر، خلال الثلاثينيات. بل إنّ منهم مَنْ تساءل مستغربا ومنبهرا عن الحصان الذي يجرّ هذا "العجب". ومنهم مَنْ كان يَفِد على مقربة من ضيعة "الرومي" بغرض التملّي برؤية سيارته. واستطاع موريس أن يبني لنفسه وأسرته مجداً، وأن يُراكم ثروة مهمة، باستغلال أهالي القرية ببشاعة، وإنْ كان يحاول الظهور أمامَهم، في بعض الحالات والمناسبات، بمظهر المُحْسِن إليهم، المهتمّ بأمورهم، الحريص على مصالحهم؛ إذ كان يُهْديهم بعض الهدايا في أعراسهم ومواسمهم وغيرها كسْباً لثقتهم، وتشجيعاً لهم على مضاعفة الجهد في عملهم الذي يستفيد منه المعمّر موريس، ومن ورائه دولة الاحتلال الراعية له. ولعلّ أظْهر مَنْ يمثل هؤلاء قدور - ابن حليمة "القابلة" -، الذي كان يُخْلِص في عمله بضيعة موريس إخلاصاً أغاظ رفاقه الذين لم يكونوا يَتوانَوْن عن الغش في عملهم، ممّا قرّبه أكثر من المعمّر؛ فأهداه بغلة يتنقل على متنها إلى الضيعة، وخروفاً لَمّا أخبره بقرب زواجه من بنت "محند وَعْلي". وتجاوز الأمر استغلال الأهالي في ضيعات المعمّرين ومعاملهم إلى تجنيدهم في صفوف الجيش الفرنسي للدفاع عن راية البلد المستعمِر، والمشاركة في حروبه القَذِرة.
ويحكي السارد في الفصل 28 حدثاً يؤرّخ لبداية نشاط المقاومة الوطنية في شرق المغرب؛ وذلك بزيارة أحد الوطنيين، من فاس، المنطقةً، متخفيا من الخوَنَة، وهو عبد المجيد القادري، واجتماعِه بعددٍ من الأهالي في منزل المناضل "صالح"؛ حيث حثهم على مناهضة الاستعمار، وعلى المطالبة بالحرية، وعلى التكتل لتحقيق ذلك. كما دعاهم إلى رفض نفي السلطان المغربي وأفراد أسرته بعيداً عن الوطن، وتنصيب آخر كـ"دمية" مكانَه للتحكم فيه، وتسييره بالشكل الذي يريده المستعمِر الفرنسي. وقد كان هذا الاجتماع مناسبة لمعرفة مدى وعي الناس بهذا الأمر، ودرجة استعدادهم للتضحية في سبيل تحرير الوطن؛ بحيث كان منهم – وأقصد بالتحديد قدور – مَنْ لم يدرك أي شيء من خطاب الزعيم القادري، ولم يستوعب أي شيء من كلامه، ولم يُبْدِ أي تحمُّس للانخراط في المقاومة بالمال أو غيره... وهو ما يعكس الجهل المطْبق الذي كان غالبا على قدّور وأضرابه. فأصيب صالح بخيبة أمل، وندم على استدعاء قدور للاجتماع لسَلبيته المفرطة، فتركه بعد أنْ أخذ عليه ميثاقا بعدم إفشاء سرّ ذلك الاجتماع للمستعمر أو للقريبين منه. ولكنّ صالح سيرفض، فيما بعد، الطريقة التي قبلت بها الحركة الوطنية استقلال المغرب، الذي كان يَعُدُّه ناقصا ومغشوشا ما دام قد استُثني منه ثغرا سبتة ومليلية، والصحراء، والجزر المتوسطية... وسيقاطع اجتماعات الوطنيين والاستقلاليين، ثم سيغادر في اتجاه بلجيكا نهائيا، مُوصياً بدفنه هناك.
ولم يغفل الروائي إيراد إشارة تعكس حقيقة تاريخية معلومة، تتمثل في مساعدة المغرب الجزائرَ وقتَ نضالها سعياً إلى التحرر من قبضة الاستعمار الفرنسي؛ حيث ورد في الرواية حادث رُسُو سفينة بريطانية بشاطئ قرية "رأس المَا" محمَّلة بالسلاح الذي تمّ نقل أكثره إلى الثوار الجزائريين، والباقي إلى جيش التحرير الوطني. وستَسُوء العلاقات بين البلدين الجارَيْن في أعقاب حرب الرمال، في مرحلة استقلالهما السياسي عن المحتلّ الغربي؛ كما ذكر السارد لدى حديثه عن توجُّه صالح لتسجيل مولوده الجديد، في مصالح الحالة المدنية، باسمٍ مُختارٍ بناءً على التقدير الكبير الذي كان يُكنّه لأحد زعماء الجزائر التاريخيين ذوي الفضل في تحقيق الاستقلال وبناء الدولة الحديثة في الجارة الشرقية، وهو "بن بلّة"، وقد رضخ المسؤولون بتلك المصالح لرغبته المُلِحّة، رغم محاولتهم إقناعَه بالعُدول عنه، واختيار اسم آخر لابنه؛ لحساسية الموقف!
فهذه جملةٌ من الأحداث ذات المرجعية التاريخية، التي تعود بنا إلى فترة تمتد من وقوع المغرب في قبضة المستعمر الأجنبي إلى ما بعد استقلاله، تؤكّد حضور المادة التاريخية في رواية "رائحة التراب المبلل"، ولكنْ ليس بأسلوب تقريري مباشر تستحيل معه إلى وثيقة تاريخية جافة تنقل بأمانةٍ وموضوعية ماجريات سابقة، ويستحيل معه الروائي إلى مؤرِّخ... بل إنها مادة تشكّلت سرديا، وقُدّمت بلَبوس أدبي إبداعي، يستجيب لشروط الكتابة السردية ومقوّماتها على مستوى الخطاب والصياغة الفنية الروائية بالدرجة الأولى.
ويمكن لقارئ الرواية أن يرصد في مَحْكِيِّها المُتخيَّل جملة من الحَكَايا والأقاصيص المُتمحْوِرة حول عدد من الشخصيات التي ترتبط فيما بينها وَفق شبكة من العلاقات. ومنها قصة سعدية التي نشأت يتيمة بين جدّتها وخالها قدّور، وكانت تُؤْثِر حياة العزلة، وتقضي جلّ وقتها في بيت النول صحبة جدتها، التي تعلّمت منها شتى أشغال المنزل الروتينية. ثم وقعت في شرك حبّ أحد الشبان، وهو "سعد"، الذي تزوّجها لاحقاً، وعاشت معه حياة هانئة وسعيدة، وإنْ قصُرت، وفاجأها الموت بسبب الوضع غير الموفَّق، وترك رحيلها أثراً قاسيا على زوجها، وتأثر بذلك كل أفراد قريتها "سيدي بوعمود".
ويحكي السارد، في أكثر من فصل، قصة عسو/ سعد المؤثرة، التي كان الشقاء عنوان بدايتها ونهايتها، والسعادة عنوانَ ما بينهما. فعسّو جاء إلى الدنيا نتيجة علاقة جنسية غير شرعية بين "زهور" و"لَحْسَنْ وَسْعيد"؛ ابن كبير قرية تغسّال، الواقعة في حضن جبال الأطلس الشامخة، ورفض "أبوه" الاعتراف به، وإلحاقه بنسبه، تحت ضغط والده "الكبير"؛ ممّا اضطر أمّه إلى مغادرة القرية للعمل في فرقة موسيقية؛ تبيع نبرات صوتها، وتهزّ بطنها وردْفيها في الأعراس، مقابل فرنكات معدودات تعيش بها، وتوفر لابنها وأبويْها بعض الحاجيات. وبدأت معاناة الصغير عسّو تكبر، ولم يعُدْ يطيق تحمّل كلام أقرانه وتساؤلاتهم عن والديه؛ فاضطرّ إلى ترْك قريته تغسال إلى الأبد، والهروب من ظلمها قاصداً دولة مسلمة يحتلها نصارى كان قد سمع بها (لانجيري)، إلا أن القدر انتهى به بين يدي رجل نبيل أصيل، اسمُه "محند وعلي"، رحّب به، وأكرمه، وجعله واحداً من أبنائه، وعاهده على أنْ يحفظ أسراره، وغيَّر اسمه بآخرَ، هو "سعد"؛ فاشتغل لديه راعي غنم مقابل بضع نعاج للسنة. وقد سَعِدَ في كنفه، وأحسّ بأنه قد وُلد هناك "ولادة ثانية". ولَمّا استوى رجلاً، اقترن بسعدية اقترانَ زواج في حفل بهيج شهدته قرية سيدي بوعمود، وفرحت به أيَّما فرح، وعاش الاثنان في سعادة ووئام (وقد أحسن الكاتب اختيار اسميْ شخصيتي سعد وسعدية ليتناسبا مع هذا الجو الحياتي السعيد) في منزل مستقل، إلى أنْ توفيت سعدية؛ فشكّل هذا الحادث منعطفا في حياة سعد، التي انقلبت رأساً على عقب؛ فلزم بيته، واعتزل الناس، قبل أن يغادر هائماً على وجهه، تائها، فاقدا عقلَه، إلى أن ضاع واختفى، وقد تضاربت روايات الناس حول مصيره؛ كما ورد في آخر الرواية.
وأورد الروائي، كذلك، قصة مَنْ كانا سببين في هذا المصير التراجيدي لعسو/ سعد. فزهور ولحسن أتَيَا الفاحشة، في ليلة ملعونة بغابة مجاورة، تمخّض عنها مولود/ ضحية لم يتحمّل سياط ألسنة الناس ولا نظراتهم، فهرب من قريته مستجيراً كما ذكرنا آنفاً. ورغم استعداد "لحسن وَسْعيد" للاعتراف بجريرته، إلا أن أباه أبى ذلك؛ لخشيته من العار، ومن المسّ بسمعته في القرية، وهو كبيرُها؛ فعمد إلى نفي ابنه لحسن اضطراريا إلى المدينة، مانعاً عنه زيارة تغسال إلى حين؛ فعاش في شقته بالمدينة حياة العَرْبَدة والسكر والضياع، وكان لا يتوقف عن السؤال عن ابنه الذي تركه قسْراً، وإيصاء أمه خيراً به. وتولت الأم زهور، رفقة أبويها الفقيرين، رعاية الطفل عسو البئيس، وكانت تغيب أسابيع عدةً بحُكْم ارتباطها بالفرقة التي تعمل ضمنها؛ هذه الفرقة التي خلَفت زعيمَها الراحل على رياستها، فكانت تُدعى "الرايسة زهور". واستطاعت أن تشتري منزلاً متواضعاً بحيّ هامشي ودّت لو تعيش فيه صُحبة ابنها عسو الذي كان قد هرب من تغسال، دون أنْ يَدْري أحدٌ وجهته ومُسْتقرَّه. وبوفاة أبويها تباعاً في ظرف أقلّ من أسبوع، أرسل لحسن "رقّاصاً" إلى المدينة لإخبار زهور بذلك. وبمجرد علْمها بتلك الوفاة، قدِمَتْ على تغسال في جنج الظلام، وزارت قبريْ والديها، وترحّمت عليهما، وذرفت دمعاً مدراراً، وانسحبت وهي تلقي نظرة وداع أخيرة على هذه القرية المشؤومة في نظرها، فاعترض سبيلَها لحسن يطلب المغفرة عمّا بدر منه تجاهها وتجاه عسو الذي سأل عنه، ويُعْرب عن استعداده لفعل أي شيء لاستعادة حبهما الأول، ولكنها طردته ككلب، وعادت أدراجها إلى المدينة وإلى حرفتها. ولمّا ضاقت الدنيا، بما رَحُبَتْ، بلحسن وسعيد، واشتدّ عليه تأنيب الضمير، ساءت حالته نفسيا وجسديا، وأصيب بنوبة جنون، وهام على وجهه تائهاً، وخرج باحثاً عن زهور، فاهتدى إلى مكان وجودها، في عرسٍ بإحدى قرى الأطلس المتوسط. ولما ألْفتْه في تلك الحال التي يُرْثى لها، تيقنت من صدق حبّه لها، ومن عزمه على طيّ صفحة الماضي، والتكفير عن خطيئته، أشفقت عليه، وسامحته؛ فأخذته إلى منزلها، واعتنت به، إلى أنْ بدأ يستعيد عافيته؛ فقرّرا إقامة حفل زواج بسيط لتوثيق علاقتهما الزوجية، والإشْهاد عليها. وأتاهما، بعد وقت قصير، نبأ مرض "الكبير"؛ فكان لا بد من أنْ يزور لحسن والدَه، قبل أن يفارق الحياة، واصطحب معه زوجته زهور؛ فأدركاه وهو في النزع الأخير، فطلب المسامحة منهما بعد كلّ ما سبّبه لهما من متاعب عانيا منها كثيراً، وما يَزالان. وبما أنه كان كبير القوم، ذا جاه وثروة، فقد خلّف، بعد مماته، أراضيَ شاسعة، ومواشيَ كثيرة، وغيرها من الممتلكات؛ فاستفاد أكبر أبنائه، وهو لَحْسَنْ، من حصته من ذلك الإرث، وقرّر – بعد موافقة زوجته – العودة إلى تغسال لفَلْح أرض الأجداد، والاستمرار على نمط حياة الآباء في القرية. وتمكّن من ابْتِناء دار أشبه بقصر، عاشا فيها الهناءة والسعادة، لا ينقصهما شيء سوى ابنهما، الذي كانت ذكراه وطَيْفُه يخيّمان عليهما، في يقظتهما ونومهما؛ الأمرُ الذي جعلهما يَعْقدان العزم على البحث عنه، والوصول إليه أينما كان. ورأت زهور أن الرجل الأقدر على القيام بهذه المَهَمّة، بحظوظ نجاح وافرة، هو ابن عمّ زوجها (حمّو)، فاقتنع لحسن بالفكرة، وعرضها على ابن عمه واعداً إياه بمكافأة عظيمة في حال الاهتداء إلى مكان وجود عسو. وهي مهمّة نجح فيها بعد رحلة طويلة شاقّة كاد أن يهْلك فيها. ولكنه لم يستطع إقناع الابن بزيارة أبويه في تغسال، بل اكتفى بإقرائهما السلام، ودعوتهما إلى زيارته في سيدي بوعمود إنْ رَغِبا في رؤيته. ولكنهما حين زاراه تفاجَآ بأنه راحلٌ عن القرية إلى وجْهة غير معلومة، من دون رجْعة، وخاب أملُهما في العثور على فِلْذة كبدهما.
وتحكي الراوية قصة أخرى مدارُها حول "زبيدة"؛ هذه الفتاة التي ستصير فيما بعد وليّة عابدة، تنحدر من قرية "رأس الما"، أهداها أبوها زوجةً لفقيه قرية سيدي بوعمود "سي أحمد بلقاسم" لتكون زوجه الثالثة، دون علمه طبعاً بأنه متزوّج باثنتين سابقا؛ ففرض عليها ملازمة البيت وخدمته، ومنع عنها زيارة أهلها. وقد ظلت كذلك مدة عشر سنوات إلى أن رأت في منامها الولي "سيدي محمد لَغْريب" يدعوها إلى ركوب جواد، والفرار على صهوته. فما كان منها إلا أن خطّطت للهروب، حتى انتهى بها الأمر إلى مغارة مُخيفة بمساعدة أحد الرُّعاة؛ فسكنتها معتكفةً تعبد الله تعالى، وتذكره ليل نهار، وتصلي وتصوم... إلى أنْ شاع خبرُها بين الناس، فأخذوا يتوافدون على مغارتها طالبين قضاء أغراضهم على يديها؛ فكانت تُحْسِن إليهم، وترْفق بهم، وتدعوهم إلى الاستغفار والتصالح مع بارئهم. وانتشر خبر العابدة "زبيدة" وكراماتها حتى وصل إلى شتى المداشر والقرى؛ فأتاها الناسُ من كل حدب وصوب، بمَنْ فيهم أبواها، وضَرَّتاها اللتان كانتا، بمعية زبيدة، تحت عبد ظالم، وسعدية، وغيرهم كثير. ورغم دعوتها إلى ترك المغارة، والعودة إلى بيت زوجها الهالك غَمّا وحزناً على فقدانها، أو إلى مسقط رأسها بقرية "رأس الما"، إلا أنها أبَتْ مفارقة المغارة، التي رأت أنها قد وُلدت "ولادة ثانية" فيها؛ فلازمت مكانَها، تأْدِبُ الناس إلى عبادة الله وحده، والإحسان إلى بعضهم البعض... فأثّرت فيهم تأثيراً غائراً؛ كما اتضح مثلاً من أثرها العميق في سعدية لَمّا زارتها صُحبة زوجتي الفقيه "سي بلقاسم" الأولَيَيْن، وفي نيتها أن تبقى بجوارها، بعدما كانت قد رأتها في المنام. ولم تترك "للاّزبيدة" المغارة إلا بعد أن عاود زيارتها أبوها، رفقة عدد من أهل قريتها الذين ألحُّوا على أبيها لإقناعها بالأَوْبة لتستفيد قريتها الأصلية من بركتها وكراماتها؛ فطلبوا إليها العودة، ولكنها لم تجبهم إلا بعد أن استخارت وغفت فرأتْ في منامها الإشارة بالرحيل عن المغارة، فما كان منها إلا أن نفذت ذلك، وعادت إلى مسقط رأسها وسط فرح عارم لدى أهاليه.
ونختم حديثنا عن المتخيَّل السردي في رواية مباركي، وهو الغالب عليها كما ذكرنا، بحَكْي قصة قدور؛ خال سعدية، الذي عُرف، بين أبناء سيدي بوعمود، برزانته وهدوئه وطيبوبته وسذاجته جميعاً. فقد كان يشتغل في ضيعة موريس، وكان اهتمامه منصبّاً على عمله هذا، لا يدري ما يجري حوله، ولا يعلم شيئا عن قضية وطنه ومقاومته الاستعمار! وسيتزوّج "الصافية" بنت "محند وعلي"، ويعيش معها رفقة أمه وابنة أخته، ويُرزق منها بمولود.
فالظاهر من هذه الأقاصيص، التي وردت بين ثنايا الرواية، أنها نَتاجُ خيالٍ مبدعٍ خلاّقٍ واسع، يُجيد لعبة السرد، ويُضفي عليها غير قليل من المتعة واللذة اللتين تشُدّان القارئ شَدّاً إلى قراءتها إلى نهايتها. إن هذه الحكايات لَتؤكّدُ أننا أمام مبدع "بروميثي شقّ لنفسه طريقاً خاصّة، مليئة بالشيّق من السرد، والجيّد من الإبداع... ويمتلك قدرة فائقة على عملية السرد والحكي ونقل تجارب مختلفة إلى القارئ"؛ على حدّ قول د. رشيد سوسان في مقالٍ كتبه عن إحدى قصص مباركي القصيرة جدّا. وعلى الرغم من ذلك، كان الروائي حريصاً على أنْ يُضَمِّن عملَه هذا جملةً من العادات والتقاليد الأصيلة التي امتاز بها أبناء الشرق المغربي، والتي كانوا يمارسونها في مناسباتهم وغيرها. كما أنها – من ناحية أخرى – تعكس مدى تشبُّع الروائيّ بثقافة المنطقة المتجذرة، المحافظة والبدوية. وهو أمر ملحوظ، كذلك، في روايته الأولى "جدار". يقول ذ. حسن بعودة في كلمةٍ دبّجها عن هذه الأخيرة، ونشرها في مجلة "عود النّد": "إن الكاتب، وهو يسرد أحداث هذه الرواية، يمتح من ثقافة أصيلة، بدوية الطبع، تستمرئ الفن البدوي في مختلِف تجلياته .. ثقافة تُفْصِح عن نفسها في المناسبات التي أبى الكاتب إلا أن يوظف بعضاً من فصولها في الأعراس والمناسبات التي تعرفها المنطقة الشرقية؛ حيث تنزاح الكلمة مع اللحن والإيقاع، مع الرقص؛ فتُحدث في النفس إمتاعاً .. وهي ثقافة جماعية استمدّت حضورها من تاريخ مشترَك بين بلدين جارَيْن كثيراً ما اخترق أصحابه الجدار للانتقال به أو إليه في البلد الآخر".
خلاصة القول أنّ "رائحة التراب المبلل" عمل روائيّ ماتع ومتميز على أكثر من صعيد، استطاع أن ينقل تجارب وحيوات ونماذج بشرية عدة، عكستها الأقاصيص التي كانت مدار حكي السارد، ولعل قصة سعدية وسعد تشكل البؤرة التي اتصلت بها سائر القصص بشكل أو بآخر .. هي قصة أمٌّ – إذاً – تعانَقَ فيها فضاءان متباعدان جغرافيا، ولكنْ متقاطعان في أكثر من جانب؛ هما قرية تغسّال الأطلسية التي هرب منها عسو هروباً إلى الأبد، وقرية سيدي بوعمود على الحدود المغربية – الجزائرية؛ حيث كانت تقيم سعدية، التي احتضنت عسو، وأعادت إليه الاعتبار، وأعطته اسماً آخرَ يتواءمُ مع حياته الجديدة، قبل أنْ تختم إكرامها له بتزويجه بسعدية اليتيمة. ولكنّ طيف تغسال ظل يراوده، ويملأ عليه تفكيره، قبل أنْ يهتدي إلى مكان وجوده، ويتبعه محمَّلاً برائحة التراب المبلل. ويمتاز هذا العمل الروائي، كذلك، بغنى مقوّمات خطابه الحكائي، وتنوعها بين ما هو تقليدي مألوف وبين ما هو جديد يستفيد من تقنيات الكتابة الروائية الجديدة. ذلك بأنّه يتّسمُ بتعدده اللغوي والأسلوبي المنفتح على سِجِلاّت ومرجعيات كثيرة، وبنَأْيه عن لغة التقرير المباشر في اتجاه الاقتراب من اللغة الشاعرية في جملة من الأحيان، وبتشغيله آلية التناصّ التي أتاحت للرواية الاغتناء بحمولة ثقافية شديدة التنوع، سواء أكانت من التراث الفولكلوري الشعبي أم من غيره، وباستثماره منطق الثنائيات وبنية الحلم وأسلوب المُفارَقة ونحوها في نسْج خيوط عدد من حكايات عمله هذا، وبعدم احترام خطّية الأحداث وتعاقبها بين الفصول، بل إنه كان يتعمّد تكسيرها – أحياناً كثيرة – لرغبته في التجديد على مستوى تقنيات بناء الرواية... فهذه جملةُ سماتٍ تجعل عمل الأستاذ محمد مباركي مُغايِراً لكثير من روايات كُتابنا اليوم، وتضْمن لقارئه فائدة ومتعة مؤكَّدتين.