ترجمة: سعيد بوخليط
يعتبر الفنان التشكيلي، فريد بلكاهية الذي وافته المنية يوم 26 شتنبر 2014 بمدينته الأصلية مراكش، من زمرة الرعيل الأول للمثقفين المغاربة، الذين تطلعوا منذ السنوات الأولى لاستقلال المغرب، نحو إرساء دعائم مشروع ثقافي وطني تحديثي. لاشك، أن الأفكار التي أباح بها إلى كنزة الصفريوي، بين طيات حوارهما، ستبقى وثيقة تاريخية مهمة تؤرخ ليس فقط لذاكرة الراحل، أو السياق النوعي لحركة أنفاس، بل أساسا لمسار مجتمعي برمته.
1س-كيف جاء التقاؤكم بالكتّاب؟
ج- كنت مديرا لمدرسة الفنون الجميلة، حيث يشتغل حشد من الفنانين. التقيت أولا الشعراء، مثل عبد اللطيف اللعبي، ثم لاسيما النيسابوري، الذي كنت ألتقيه أكثر، بل من خلاله تعرفت على اللعبي. لقد خصصنا عددا لموضوع الفن التشكيلي، بحيث أجاب التشكيليون على مجموعة من الأسئلة. إحداها، انصب على طبيعة الموقف حيال ما كان ينعت بالتشكيل "الساذج"، وقد كنت واحدا من المدافعين عنه، باعتباره حركة كونية. هكذا، تجاورت في عدد أنفاس، جميع الأسماء الداعمة لذلك الاتجاه التشكيلي، بل إننا عملنا على تموين إصدار أعداد، انطلاقا من مساهمات شخصية ناهزت وقتها مائة درهم لكل شخص. ثم، خلال حقبة معينة، ولأسباب توارت بعض الأسماء نحو الخلف. بدوري، حُذف اسمي من فريق الدعم، برغبة مني، بعد صدور مجموعة من الأعداد. لقد تراجعت إلى الوراء قليلا، منذ اللحظة التي ركزت فيها أنفاس على القضية الفلسطينية، ليس بسبب أني ضد دعم الحركة الفلسطينية، فالأمر يتجاوز ذلك، مادامت رغبتي اتجهت نحو إبقاء مشروع مجلة أنفاس مقتصرا على الوضعية الثقافية بالمغرب. ينبغي التذكير أننا كنا غداة الاستقلال، ورهانات بلدنا قوية جدا.
2س-ماهي مبررات انسحابكم؟
ج-حسب قناعتي، كان ينبغي على المجلة احترام أهدافها. فضلا عن ذلك، فقد نظمنا معارض لدعم القضية الفلسطينية. أنا ملتزم في حدود، بقاء المجلة ضمن المقاصد الثقافية، أما أدلجتها فلا يخدم في شيء، المشاريع التي وضعتها أنفاس لذاتها لحظة تأسيسها، فبقدر جوهرية سؤال الثقافة، كانت أنفاس مهمة جدا. لقد تبينت، أن الانكباب على مشاكلنا الخاصة، يعتبر أكثر فورية وأهمية. تصور، لايعني عدم الانفتاح على السياسة، لكن ضرورة التحلي بالواقعية، وأن لايتجه تفكيرنا أساسا نحو هذا الأمر. أيضا، خلال تلك الفترة صارت القضية الفلسطينية، متداولة كونيا على الوجه الكافي وامتلكت الحركة الفلسطينية مالا وفيرا، مقارنة معنا، حيث كنا مجرد مجموعة صغيرة. مع ذلك، فانطلاقا من سنة 1969، وبمناسبة معرض الفن المعاصر الذي أقيم في ساحة جامع الفنا، برزت التوترات داخل مدرسة الفنون الجميلة. لقد كنت المبادر وكذا المشرف على تنظيم ذلك المعرض. تدركون جيدا، أن مفهوم "الفن في الشارع"، لايمكنه إلا أن يثير اهتمام مختلف الفرق السياسية، حزب الاستقلال من خلال جريدته ''لوبينيون"، ثم أيضا أنفاس وإن بكيفية، غير مباشرة. لكن، المجلة قدمت الحدث كما لو أن التظاهرة بادر إليها أفراد قريبون منها، وهو ليس صحيحا. !فترة قليلة بعدها، تجلى نوع من التطفل داخل مدرسة الفنون الجميلة، بحيث تبنت أنفاس موقفا سيئا إلى حد ما. هكذا، بقي محمد شبعة وحده، صوت المجلة داخل المدرسة. تأزمت الوضعية، بدأ التباعد بين الفنانين، وشخص مثل شبعة، سينقاد وراء أنفاس. لقد، توزعت توجهاتنا حقا.
3-س-هل تسييس المجلة نحو اليسار الجذري، كان سببا لانسحابكم؟
ج-قبل إدارتي لمدرسة الفنون الجميلة، كنت قد قضيت ثلاث سنوات في بلد شيوعي. توجهت إلى هناك بمحض إرادتي، بعد مرحلة باريس. اعتبرت المسألة مهمة، فيما يتعلق بحياتي الفنية. لقد توخيت معرفة، طبيعة الجواب، الذي قدمته الشيوعية والاشتراكية، لإشكاليات ثقافية. لحظة ذهابي، لم أكن شيوعيا، وحين عودتي بقيت كذلك، الأهم أني لم أكن معارضا للشيوعية. لقد اتضح، أن العديد من الشخصيات التي سافرت إلى دول شيوعية قصد الدراسة، عادت وغدت عمليا رجعية، تغير لم ينطبق علي، لأني أصغيت مهتما جدا، بالتجربة الشيوعية، مواصلا الاعتقاد بوجود ماهو أفضل وكذا حالات مهمة جدا. أخيرا، لم تفهم مجلة أنفاس، أن مقاومة نظام ما، تفرض أولا، القيام بتقيمات، كأبسط مطلب لمقتضيات المستوى الاستراتجي: تقييم قواها وإمكانياتها. هكذا، يصير سلاح الثقافة، أفضل بقدر تكهنيته . لكن، الدخول في مواجهة مفتوحة مع نظام، يمتلك جيشا وشرطة وسجونا، يمثل وضعا انتحاريا، والجميع يعلم ماوقع بعدها. توجه انتحاري عبثي، كهذا لايهمني. كان من الأفضل، لو بقي اللعبي والآخرين، خارج السجن، بدل مكوثهم داخله. أعاتب عليهم قليلا، أنهم أحدثوا التفرقة . لقد، كانت مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، في طليعة ما كان يختمر. لكن مع الأسف، لكل شيء نهاية. مع أخذ مساحة تأملية، يظهر كما لو أن بعض الفنانين والمبدعين، قد وصلوا إلى منتهى مافي جعبتهم، فارتأوا لمسارهم صيغة للانتحار، كي يتمكنوا من الوجود. يلزمنا، في ميدان الفن والفعل المبدع، أن نواصل التقدم باستمرار، هكذا قدرنا الفني. هذا النوع من الانتحار، يعتبر ربما اختيارا لاواعيا، لدى بعض الأفراد كي يواصلوا وجودهم باعتبارهم فنانين. لايمكن، بأي حال أن يصير السجن ميزة، ولن يشكل قطعا معلمة ثقافية.
4 س-مع ذلك، واصل اللعبي الكتابة، حتى ولو كتب فيما بعد أشياء مختلفة كليا؟
ج-على المستوى النوعي، هل سمح شخص لنفسه، من أجل تقييم ذلك؟ لا أحد !مع مرور الوقت، أمكن القيام بذلك. لقد كان هناك بالفعل أشخاص انتحروا، وشعراء اختفوا على الأقل في سن الثلاثين…، كل ماكان بوسعهم قوله، بمعنى طيلة حياتهم، عملوا على مركزته خلال وضعية واحدة. وآخرين، واصلوا العيش عبر ترتيبات، حاذقة وماهرة. بالنسبة إلي، فقد طرحت دائما القضية الثقافية، ذلك مايهمني وسأواصل في هذا السياق مهما حدث… .
5-س-هل كان لديكم شخصيا التزاما سياسيا؟
ج-لم أنخرط قط بين صفوف حزب سياسي. ابتغيت، أن أعيش حرا. أختار الانحياز إلى جانب من أريد ومتى أريد، مع تحملي لمختلف ما ينتج عن موقفي. كان لدي مجموعة من الأصدقاء اليساريين، المنضوين ضمن أحزاب سياسية، تجبرهم لحظات من باب التضامن، كي يبدوا دعمهم لمواقف، لا يؤمنون بها. على الدوام، رفضت أن أصادف نفسي في سياق كهذا، ولم أصادفه قط، لأني تبنيت المبدأ منذ البداية وتمسكت به حتى الآن. ليس ذلك بالهين، بل صعب للغاية، لأنه يسهل كثيرا الانضواء ضمن نظام، مثل خروف وسط قطيع. هو، وضع ممتع أن تجد نفسك دائما، متبنى من طرف حزب أو تعيش تحت كنف أمومة جمعية ما، إلخ. لكن عندما تكون وحيدا، والمسؤول الأوحد، على سفينتك التي تمخر عباب أمواج مستحيلة، ثم تعثر لها على اتجاه، فليس ذلك بالأمر البديهي. على امتداد فترة اشتغالي، إلى الآن، حافظت دائما على قناعاتي، هذا لايعني أني لم أغير أبدا رأيي. لكن، تحت سقف إشكاليتي، حيث أشتغل وأطور نفسي.
6-س-ماذا كانت وظيفة المجلة؟
ج-لا أمتلك ذكرى واقعية، عن نقاشات جماعية. بل مجرد سجالات فردية، دون أن ترتقي نحو موقف جماعي. خلال تلك الحقبة المفصلية من تاريخه، غداة الاستقلال، كان المغرب في حاجة إلى ذاك الجيل الأول من الفنانين وكذا ديناميتهم، مع إعادة التفكير في كل شيء على المستوى الثقافي. بيد أني، أعلنت عن اعتراضي، ما إن اتجهت المجلة كي تتمحور حول الإشكالية الفلسطينية.
7-س-هل القضية الفلسطينية، أكثر من منعطف تنظيم "إلى الأمام"؟
ج-إني أتحسر، على واقعة التسييس المطلق، لمجلة قامت على معطيات ثقافية.
8س-مع ذلك فقد طورت أنفاس منذ البداية مفهوما أساسيا للثقافة؟
ج-بالتأكيد، أنا لا أدعي العكس، لكن لنبقى في إطار الثقافة!حين بلغت سن الخامسة أو السادسة والعشرين، سافرت إلى تشيكوسلوفاكيا، وقضيت مدة ثلاث سنوات بمدينة براغ، فشكل إلي ذلك مناسبة كي ألتقي هناك، عددا من الأشخاص والأدباء مثل أراغون وإيلزاElsa و بابلونيرودا ثم سينمائيين وفنانين تشكيليين، إلخ، كانوا يدعمون النظام كليا. في المقابل، تعرفت على فنانين من قبيل الكبير ترنكا Trnka، فنان العرائس، الذي رفض حضور حفل رسمي كي يتقلد وساما رفيعا، ثم مخرجين سينمائيين ومسرحيين، إلخ. أو أيضا، أستاذي البالغ وقتها عقده السادس، والشيوعي حتى النخاع قبل الثورة، لكنه سيتراجع بعد الانتفاضة التي عرفها النظام التشيكي سنوات1960، معلنا ذلك صراحة أمام العموم !لقد شاهدت بلاغات علنية، وسط مقاهي ممتلئة بعناصر الشرطة السرية. عاينت، على الأقل، لثلاث أو أربع مرات، داخل مقاهي ومطاعم، مزدحمة بالناس، مساءلة حقيقية للنظام القائم آنذاك. نهض أستاذي من مكانه، صارخا في وجه الحاضرين : ((لكن ماذا يعني هذا النظام !إننا نفتقد إلى الحرية !والثقافة تحتاج الحرية !))، فساد صمت الأموات. . . إذن، في مكان ما، أجاز هؤلاء المثقفون لأنفسهم القيام بذلك، وجازفوا لأنهم كانوا الناطقين باسم المجتمع. بدوره، الأخير وبطريقة غير مباشرة و لامرئية، يضمن لهم الحماية، بل لم يكن ليمسهم العقاب، فقد كانوا محترمين جدا ومعروفين جدا ومكرسين جدا، داخل النظام الثقافي التشيكي. صار، النظام مصغيا بدقة. حين رجوعي من براغ، أدركت أنه كيفما كان النظام، يساريا أو يمينيا، فعندما يمتلك شخص شهرة في مجال اشتغاله، لاسيما الميدان الفني، يصبح محصنا، لأنه يشكل جزءا من المخيال الجماعي، والسلطة تضع في الحسبان رمزية المثقف. إجمالا، هذا مالاحظته في بلد ينتمي إلى أوروبا الوسطى، وأعتقد أن هذا اشتغل بطريقة أو أخرى، على امتداد كل الأقطار التابعة للاتحاد السوفياتي.
9-س-لكن مثل هذا التصور لاينطبق على المغرب؟
ج-بلى!لقد شكل المجتمع دائما سندا للفنانين والمفكرين، لنستحضر نماذج مثل أحمد البيضاوي وفويتح وكذا بعض المسرحيين مثل الطيب لعلج والطيب الصديقي، بل ورياضيين كابن مبارك وعويطة على سبيل الذكر، ثم غير بعيد عنا مجموعة ناس الغيوان. في المغرب، لم يتبلور ذات السياق كما أوضحته سابقا، بسبب طبيعة النظام، فلا ينبغي نسيان أننا ننتمي إلى دول العالم الثالث. لكن تاريخنا الطويل، أفرز شخصيات صنعت ذات الأمر. مثلا، إذا أخذنا حالة مدينة مراكش، يبرز نموذج "سبعة رجال"، وهم حماة المدينة. إذا قرأتم مابين السطور، ستلاحظون أنهم كانوا جميعا معارضين للنظام بكيفية ما، وفي نفس الوقت هم علماء أفذاذ. بعد انقضاء قرون، صار هؤلاء الرجال مبجلين ومحترمين بفضل علمهم. إذن، كيفما هي طبيعة النظام، تظل خاصية "البشر"حاسمة.
10-س-كيف تفسرون أن المسار لم يتم على النحو ذاته، في المغرب؟.
ج-لأننا، غادرنا التقليد، لكن دون ولوجنا الحداثة كليا، مادمنا افتقدنا لكل المميزات المطلوبة، فأظهر نظامنا وجها ديمقراطيا مخادعا، بالتالي، كانت الإساءة إلى اللعبي والسرفاتي وآخرين مجهولين، ثم معتقل تزمامارت… . الجهل، الذي ميز السلطة السياسية وانعدام الثقافة لديها، انعكس سلبيا على الكثيرين، أحلم بسلطة تمنح إمكانية التعبير إلى أفراد، يفتقدونها أساسا، كي يقترحوا أشياء بديلة. هكذا، تشتغل السلطة الديمقراطية الحقيقة. لقد تكلمت عن نظام، والذي بالرغم من مختلف ما يمكن قوله وكذا جميع المظاهر، سيكون مضطرا، كي يضع الفنانين موضع اعتبار. حاليا، في الولايات المتحدة الأمريكية، يوجه السينمائي مايكل مور، أصابع الاتهام إلى بوش. مواقف من هذا النوع، تبقى ممكنة ومهمة. خلال الفترة التي عاشها المغرب، لم يكن بوسعنا وأيادينا عارية، مجابهة من يمتلك سلاحا ناريا وهراوات…. تقييم الوضع على هذا المنوال، يعتبر موقفا ذكيا. من البديهي، مع التدليل أنه في إطار الثقافة، والبقاء تحت سقف "الشرعية "ثم الذهاب من أقصى طرف إلى أقصاه، سنكون أكثر قوة ضد النظام. على النقيض، عرض الذات بتلك الطريقة، يمثل الوضع الأكثر ابتذالا ولا فاعلية. . . ماذا، كانت النتيجة؟ هل خلق ذلك بالفعل، تطورا على المستوى السياسي؟ لست أنا من يحدد. ينبغي، على مختصين، أن يضعوا علاقة الفعل الثقافي بالسياسي. أشياء كثيرة، تمت على المستوى الثقافي، لكنا فعلا تبددت كليا. من جهة ثانية، فشلت الحركة بسبب من كانوا على رأسها : أمام العدالة، لم يدافعوا عن مواقفهم بناء على الخلفية الثقافية، بل السياسية والأيديولوجية، بالتالي أضحوا عاديين . ربما، خدم السرفاتي بوجهة نظره أهل أنفاس؟ ثقافيا، خلق ذلك وضعية فقدان الذاكرة كما نحياها حاضرا، وهذا ما أتحسر عليه. بينما، لايمكننا التطور ثقافيا، إذا لم تكن لنا نقطة استدلال. حاليا، ماهي المعالم؟ بسبب هذا الصمت، يحاول شباب اليوم كل في ميدانه، اغتيال من كانوا قبلهم. ببساطة لنتأمل الغرب، لقد وضع الفلاسفة الجدد، جيل جان بول سارتر، موضع تساؤل مع الإقرار له بمكانته. يستحيل محوه بعلامة تشطيب، بل معاودة مساءلة منظومة أفكاره. هذا مايطور الأشياء، … . في المقابل، من عندنا ساءل ثانية اللعبي أو الآخرين؟.
11 –س-كيف اشتغلت مدرسة الفنون الجميلة؟
ج-اتصل بي المحجوب بن الصديق، رئيس الاتحاد المغربي للشغل. كانت براغ إذن، مرحلة مفصلية : من يذهب إلى بيكين أو موسكو يمر عبر براغ. نقابيو اليسار، يعلمون بوجود طالب مغربي، هو أنا. ذات يوم، تلقيت برقية من أحدهم، تقول :((هل يمكنكم العودة، وتتسلموا مسؤولية الإشراف على مدرسة الفنون الجميلة؟)). لم أكن أعرف ماذا أفعل، هل أعود إلى فرنسا، أم أبقى في براغ…. لكني ظننت أن ثلاث سنوات في براغ، كانت كافية، تمكنت خلالها من الإلمام العميق بالأمور. ثم جاءتني، الفرصة كي أخدم بلدي المستقل، فقفلت راجعا. بيد أنهم، سلموني مدرسة بلا أساتذة، وفضاء فارغ، دون سياق موصول بما أنجز سابقا. الشخص، الذي أشرف على المدرسة قبلي، استغني عنه، بسبب مشاكله مع البلدية. سعيت بكيفية ما، إلى تكوين فريق يضم أشخاصا أعرفهم وآخرين لاعلاقة لي بهم. لم يكن مثاليا، لكن الموقف حتم المبادرة إلى فعل شيء ما، لذلك حاولت الانطلاق، والحلول تطرح بقدر نوعية المشاكل . توخيت، بهدف هيكلة المدرسة العمل بتبصر، فانطلقت من مبدأ بسيط : محاولة، أن أجنب خضوع التلاميذ لكل الجوانب التي رفضتها في النظام المدرسي الغربي. لم نكرس منظومة تأديبية، بل فقط ضرورة احترام جدول المواعيد، والانتباه إلى أبسط موقف عنصري، فهذا مدخل لا يقبل النقاش، لأنه كانت عندي ثمان جنسيات وثلاث ديانات. هكذا، سارت الأمور على نحو ما، وكانت أيضا طريقة لإعطاء التلاميذ معنى المسؤولية، والذين تراوحت أعمارهم بين السادسة عشر والخامسة والعشرين.
12-س-من أين قدم التلاميذ ؟
ج-عليكم تخيل كل شيء وافتراض جميع الاحتمالات !لم يكن الأمر سهلا !كانت المدرسة تشبه إلى حد ما، مزبلة :كل الرؤوس العنيدة، الفاشلة مدرسيا، والذين أراد آباؤهم مواصلة الاستفادة من الإعانات العائلية، حطوا الرحال عندي. كثيرون، أتوا من أحياء هامشية بالدار البيضاء، لكن أيضا جاء آخرون من حي أنفا. وضعت فوق مكتبي، خمسمائة طلب، من أجل ثلاثين مقعدا فقط، مما طرح أمامي مشاكل عديدة، لكن كان ينبغي قيادة السفينة والسعي إلى القيام بما هو أفضل.
13-س-ماذا عن طبيعة التدريس؟
ج-فيما يتعلق بالتدريس، كانت الثقافة المغربية غائبة كليا. ارتكز، نظام الفنون الجميلة، على تعلم الرسم انطلاقا من منحوتات جبسية، قوالب حية ومن طبيعة ميتة. فقد درس "طوني ماريني"، تاريخ الفن والرسم المعاصرين. بينما "بيرت فلينت"، ولأني أعلم مايجريه من أبحاث حول المجوهرات و الزرابي وكل التراث المغربي، فقد أدركت من المهم، دعوته قصد الاستماع إلى مداخلاته بهذا الخصوص. أيضا، أنشأت داخل المدرسة، ناديا سينمائيا، بالتنسيق مع الطيب الصديقي الذي كان وقتها مديرا للمسرح البلدي، بهدف تمكين الطلبة من ولوج المسرح بثمن رمزي في حدود درهم واحد.
14-س-لكننا لاحظنا تراجعا، لبيرت فلاينت، نتيجة شعوره بالتهميش لكونه أجنبي، بناء على إشكالية تحرير الثقافة من الاستعمار؟
ج- مهما صدر عن "بيرت" خطأ أو صوابا، فيحق لكل واحد أن يدافع عن موقفه، مادمنا لم نخلق جميعا من نفس الخلطة، فلكل واحد أفكار بوسعه اقتراحها. لكن، وسط هذا الفريق، وجب التحسب دائما لتوضيب ترتيبات، فقد ضم بالفعل أشخاصا، لا ينتسبون قطعا، حميميا إلى بنية الفكر المتمثل في الاهتمام المحض بالجانب الوطني. كان هناك أستاذان أو ثلاثة فرنسيان، لم يلمسهم ذات الإحساس، بنفس الحدة، كما الشأن معي وكذا الأساتذة المغاربة. ينبغي، الإقدام على الخطوات أولا بأول، لكني امتلكت إمكانية وكذا حرية، أن أتقدم مشاطرا أفكاري مع الآخرين، والاستماع لباقي المدرسين. أخيرا، استدعينا كل الفنانين الذين مروا من مدرسة الفنون الجميلة (مدرسة الدارالبيضاء). مع ذلك، هي مدرسة، لم نعكس داخل فصولها، وعيا بنفس الكيفية نحو إسهامنا على المستوى الفني، فلكل تصوره، ويقوم بعمله. لقد مارست دائما مهمتي، وجيبي يطوي طلبا جاهزا قصد إعفائي من المهمة، بمعنى متى شعرت أن الأمور تجاوزت حدودها، سأقول :((أيها السيد المسؤول المباشر، بما أنكم لستم مرتاحين بخصوص عملي، فإلى اللقاء إذن)). استمر الوضع على هذه الوتيرة، طيلة اثنتا عشر سنة، حتى اليوم، الذي قررت فيه الرحيل. كذلك، فالميدان الفني يستنفذ ممكناته، ومن المهم أن يأتي آخرون، مقتنعين بمبادئ وأفكار جديدة. للأسف، ماحدث بعد ذلك، وأنا أتابع الأمور عن بعد، لم يرتق إلى المستوى المطلوب.
15س-كيف تبلورت فكرة تنظيم معرض جامع الفنا؟
ج-جاءت تجربة معرض جامع الفنا، بالتفاعل مع معرض ببلدية مراكش، نظمته وزارة الثقافة، التي كان يشرف عليها آنذاك محمد الفاسي. المفارقة، أنه عند مدخل عتبة بناية البلدية، تواجد حارسان ببندقيتين، وكل مواطن يأتي إلى هناك لقضاء مصلحة، عليه أولا أن يرشي "الشاوش"…، بالتالي فالناس لا تزور ذلك المكان عن طيب خاطر، لذلك لم يكن بالفضاء المناسب للمعرض. لقد بذلت كل ما في وسعي، كي أخمد همة وزارة الثقافة، بهذا الخصوص، لكنها تمسكت بتصورها نظرا لتزامن تنظيم مهرجان الفنون الشعبية، خلال ذات الفترة. لذلك، توجهت لمقابلة، باشا مراكش، كي أقول له:(( سيكون رائعا، أثناء التظاهرات، تنظيم معرض بجامع الفنا))، ثم تبلور المقترح على أرض الواقع. لكنها، كانت التظاهر الأولى والأخيرة، مادام قد تبين لهم حسب وجهة نظرهم بالتأكيد، أن تجربة كتلك تعتبرانقلابية.
16-س- ماذا يعني، في مجالكم تحرير الثقافة من الاستعمار؟
ج-أولا، مامعنى أن الثقافة المغربية كانت خاضعة للاستعمار؟لا أعتقد ذلك. فالثقافة المغربية، هي تاريخ طويل، قياسا إلى تاريخ استعماري قصير. أنا لا أتكلم، إلا على مستوى مدرسة الفنون الجميلة، حيث استوعبت ما يجري . لقد تعايشنا، داخل وضعية فوضوية، لكن مع وجود ضوابط. الفوضوية، هي شكل ما للحرية. يأتي، كل فنان بأفكاره ثم نحاول خلق تآلف بين كل ذلك. أنتج السياق معجزة، لكنها كانت عابرة.
المصدر :
Kenza Sefrioui :La revue Souffles(1966- 1973)**
Editions du sirocco 2013. Pp335- 342