أثناء أولى سنواتي بالمدرسة كنت أدرس، إلى جانب باقي زملاء الفصل، مادة سمتها وقتئذ مقررات التربية الوطنية بـ الدين، يخصص لها معلم اللغة العربية جدولاً زمنياً متواتراً مع باقي المواد استظهار ونحو وصرف وإملاء ورسم وأنشطة ترفيهية.
اتسمت الفترة التاريخية على مستوى نظامها المعرفي، بحرب ضروس بين تطلعات المنظور اليساري التقدمي التحرري، وشذ من طرف الارتداد الرسمي الرجعي. صراع،لم أكن أتبين بعضا من شفراته، بحكم صغر سني، إلا بالتقاط همسات هنا وهناك، سواء داخل الأسرة أو من لدن إشارات متناثرة على ألسن المدرسين.
أذكر جيدا، معلم اللغة العربية المشرف على تلقيننا قواعد الدين ومبادئه، كان بدوره صاحب قناعات يسارية جلية، لكنه استمر تأكيده من خلال شروحاته لأركان الإسلام الخمسة، ومبادئ الطهارة ونواقض الوضوء وكيفية الصلاة..، أن ما يميز الإسلام عن باقي الديانات السماوية التي تعرضت متونها للتحريف، هو كونه دين مسلكه سليم، أقرب إلى الفطرة البشرية، يجسد في كنهه علاقة خاصة جدا بين الفرد والله، متجردا بالمطلق من كل عقائدية وطائفية وطرقية ومذهبية ووسائطية، بحيث لاإكليروس ولا توثين ولا تجسيد ولا رياء ولا ادعاء ولاصنمية ولامغالاة ولارهبنة. أستعيد خطابه كصبيحة اليوم فقط، أن الإسلام دين يؤخذ بالعقل والتدبر والقراءة العميقة للقرآن والسنة النبوية، ثم بعدها لمن شاء أن يؤمن أو يكفر، فذلك اختياره الشخصي ولاوصاية لأي عليه، وبأن أقرب طريق لمعرفة الله، في غاية الاختصار، تقتضي فقط أن يحسن الواحد الوضوء، ثم ينزوي عند أقصى ركن داخل بيته، مترنما بلغته الخاصة التي لا يتقاسمها مع الآخرين.
تصور ذاك المدرس، يعكس في حقيقة أمره، مفهوم جيل بأكمله، ظلت عنده المسألة الدينية فردية بامتياز تتجلى بين تجاويف العوالم الباطنية للشخص، ينضجها ماهويا، ملاحقا في العمق مدارج التهذيب الروحي والخلقي، والسعي إلى بلورة ذلك مجتمعيا وعلى أرض الواقع، بالكشف عن سلوك متحضر. لكل مجال من المجالين، منظومته المفهومية واللغوية والتأويلية، بالتالي تمثل المجتمع التدين بحق، في أبعاده الذاتية والعفوية، لكنها الأصيلة والبناءة: الدفاع عن المصلحة العامة،التفكير في الآخر، الجد، الاجتهاد، التكافل، القناعة، الكفاف، الشعور بالمسؤولية، الكرامة، احترام الجميع، الوفاء، قيم الأسرة والمدرسة والعلم والكد والاستحقاق والجدارة..، لم نصادف وقتها ولو شذرة يتيمة عن تكفير ولا إرهاب ولاذبح ولاسلخ ولاشيخ يفتي ولاشيخة تهذي ولافضائية لتيسير زواج المسلم..
فيما بعد وجراء سلسلة اغتيالات النظام الرسمي العربي للعقل حفاظا على احتكار السلطة السياسية، سيتراجع لصالح اللا-عقل، وستضيع الشعوب، لبنات حضارية ميزتها خلال عهود المد اليساري والقومي، وترنو نحو عوالم أخرى هشة جدا، لايصلح لوصفها غير كلمتي التسطيح الأجوف.
في هذا الإطار، لا داعي كي أستحضر ثانية الحديث الشائك المكرور، بخصوص سلبيات الطفرة النفطية التي أرست مؤسساتيا دعائم التخلف عبر توظيف حقائب الدولارات لاقتلاع جذور التنوير، وتأثيث المنظومة العربية بصحارى قاحلة تزهر معها الموت في كل مكان. المآل الحتمي سديم وخواء الوضع الحالي بتفاصيله الكبرى، فما بالك بالصغرى.
يقال، بأن الحل الأنجع، الذي بوسعه إرجاع التوازن، لمنظومتنا التي لم تعد تخرج من جوفها غير العنف بمختلف أصنافه، والجريمة بشتى أنواعها، والحقارة في أقصى تجلياتها، والدعارة في منتهى تشكلها، يحتم ضرورة الترويج لثقافة التصوف بغية التشبع بقيم التسامح والرحمة، والإخاء، إلخ. دعوة، تتداول أكثر من ذي قبل، وتسلط عليها الأضواء بشدة،مع حلول مناسبة الاحتفال بالمولد النبوي:
أولا-التطرف، تطور غير طبيعي، ينم عن اختلالات هيكلية، ماديا وروحيا، مما يستدعي أولا وأخيرا، الإسراع نحو الدفع بمشروع مجتمعي تنويري متكامل الروافد يستثمر القيم الكونية الكبرى، التي يستحيل الوجود بدونها، يعيد التفكير في كيفيات اشتغال المؤسسات السياسية والثقافية والاقتصادية والتربوية والحقوقية، قصد وصل المجتمع ثانية بمرتكزات قيمية يتوحد حولها الجميع.
ثانيا-أفضل وسيلة للترويج للتصوف، هو محافظة الأخير على معناه الحياتي الأصيل، على اعتبار أن أهله الحقيقيين، اكتفوا فيما مضى من سلطان الدنيا بلبس الصوف وتناول خبز الشعير ممهور بقليل من الملح، يكسبون قوتهم من عمل أياديهم، ويتحلون سلوكيا بسبعة خصال هي: السخاء والرضا والصبر والإشارة والغربة والسياحة والفقر. الدلالة من السلوك الصوفي الصادق المترفع عن الشوائب، والتطلعات الدنيوية الصغيرة، أنه ليس بمواسم ولامناسبات ولا أضرحة ولاشيوخ ولا مريدين ولاخرافات ولامعجزات ولاتقديس للبشر ولاموائد طويلة حبلى بما لذ وطاب من الأكل ولا ولائم ولاتحصيل للأموال والعطايا ولا تسييس ولافنادق من الصنف الممتاز ولاتوسيع في الممتلكات العقارية ومراكمة الأرصدة في البنوك، إلخ. التصوف، بالقطع يناهض كل ذلك، قدر مناهضته لتبخيس قيمة البشر، إنه علاقة في منتهى السرية والإخلاص بين الفرد والله، مستحضرا في سكناته وحركاته المرجعية الربانية، كي يقوم بواجبه الدنيوي المطلوب منه على الوجه الأكمل، عبر جدلية النظر والعمل، فيدرك مقام الإحسان وهو أعلى مرتبة من الإيمان.
ثالثا-السماد الخصب الذي ينعش جينات التطرف عموما والديني ضمنه، يكمن في تقويض لبنات رؤى عقل الاختلاف والسجال والتحاور والتناظر والإقناع والاقتناع والبناء المشترك للحقيقة والاستدلال والبرهنة، لصالح هيمنة الرأي الواحد وما يتأتى عنه من تكريس للدوغماطيقية الجامدة والعقيدة المتحجرة.
في المقابل، عندما ننتبين، أن التصوف في ينبوعه الفياض غير الملتبس بالايدولوجية، يتهذب أساسا منسابا منسجما مع هويته الواضحة، باعتباره مسارا فرديا ينبني على مكابدة دائمة لأرق السؤال بحيث يتشوف المتصوف القح، حقيقة لن تكون، إلا سؤال لانهائيا. بالتالي، فدوغما الزاوية والضريح والشيخ والولي، كاكتمال مفترض لتلك الحقيقة، يتنافى مع كنه رحمة وتسامح وأدبيات الأسانيد المؤسسة للتصوف. والحال كذلك، هل نحتاج في المغرب إلى مزيد من الزوايا والأضرحة، أكثر من زويا وأضرحة الأحزاب والنقابات والهيئات التقليدية والجامعات والجمعيات وسجل المناصب؟
رابعا-أعتقد بأن متصوفة هذا الزمان الصعب،هم:
- تلك النسوة اللواتي، يغادرن بيوتهن مع أولى خيوط الفجر، وأجسادهن تتراقص من شدة البرد، يلاحقن الخطى نحو أقرب مكان لتجمع المياومين، بهدف تدبر عمل يومي، يستمر في أفضل الأحوال حتى بداية مساء ذلك اليوم، مقابل سبعين درهما لاغير، ثم يعدن إلى حضن أطفالهن بقليل من الخبز والسكر والشاي، لكن بكثير من التعب وقسوة المجتمع. مع ذلك، في اليوم الموالي، يعاودن ذات المقاومة، دون أن يخطر على بالهن ولو للحظة، خلع ملابسهن لرجل، كي يختصرن طريق اللقمة.
- ساكنة تلك الدواوير النائية والمنسية، المتوحدة شتاء وصيفا بطبيعة لاتكون كل يوم رحيمة، حيث يقبع هناك في الظلمة الموحشة، نساء وشيوخ وصغار، لايملكون من زاد العالم، إلا طيبوبتهم، ولايعرفون من أحوال مايجري في هذا العالم، غير هدير محرك حافلة مهترئة، قد تتوقف ذات ظهيرة على مقربة منهم، فتقذف من جوفها، واحد من شبابهم، قدم من بعيد جدا، كي يمدهم بما يسد رمقهم.
- أخيرا، هؤلاء الذين يساعدون ويساعدون في الخفاء، دون أن يعلم أحد قط بصنيعهم.
(المغرب)