عندما استمعت إلى أغنية «Ma solitude» George Moustaki لأول مرة أعجبت بها. من خلالها فهمت أنه من الممكن أن يشعر المرء بالوحدة حتى و إن كان محاطا بالناس، مثلما من الممكن ألا يشعر بها حتى و إن كان يوجد بمنأى عنهم، فلازمة الأغنية تقول:Non, je ne suis jamais seul avec ma solitude.
فموستاكي في هذه الأغنية يرى في الوحدة صديقة وفية. فهي بمثابة ظله، إذ تحل معه أينما حل، وترتحل معه أينما ارتحل، في كل أنحاء العالم، و من ثم فهو لا يشعر بالوحدة. وفي أغنية أخرى بعنوان«Ma liberté» يقول موستاكي أنه منح لحريته كل شيء، حتى أنه من أجل نيل ثقتها غير بلده، وفقد أصدقائه. ويعترف موستاكي أن هذه الحرية هي التي دفعته إلى محبة الوحدة. بيد أنه سرعان ما اعترف بخيانته لها، عند ولوجه "سجن الحب"Une prison d’amour . لكن أليس من الممكن أن يجد المرء حريته في السجن؟ لنتذكر بهذا الصدد بطل رواية "سمرقند" لصاحبها أمين معلوف.
هاتان الأغنيتان تطرحان في الواقع جملة من الأسئلة الشائكة، من قبيل -على سبيل المثال لا الحصر-: هل العزلة جبر أم اختيار؟ سجن أم حرية؟ سعادة أم شقاء؟ حياة أم موت؟
إن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه حسب أرسطو، والذي يعيش خارج المجتمع لا يمكن أن يكون إلا حيوانا أو إلها. لقد كان المجتمع القديم يقدس الجماعة على حساب "الفرد"، إذ لم يكن للفرد من معنى خارج جماعته. لكن على الدوام كان ثمة أفراد يتم عزلهم عن الآخرين، لأسباب قد تكون فيزيولوجية (مرض معد مثلا) أو طبقية، أو دينية، أو عرقية. فاليونانيون مثلا كانوا يرسمون علامات مميزة على جسد العبيد والمجرمين، لتمييزهم عن الآخرين، وبالتالي نبذهم وتهميشهم اجتماعيا. و لعل هذا ما يحيل عليه الوضع الذي يعبر عنه مصطلح «stigmate».
في مثل هذه الحالة لا يمكن أن نتحدث عن العزلة كاختيار، وإنما هي إجبارية مادامت تفرض من الخارج، بمعنى أن إرادة الأفراد لا تتدخل فيها، طالما أن إرادة الجماعة هي التي تقررها. فإذا رأت الجماعة في فرد ما مخلصا لها من أزمة ما حلت بها (وباء فتاك مثلا)، فهي لا تتردد في التضحية به. نتحدث هنا عما يسميه روني جيرار بـ"كبش الفداء" Le bouc émissaire، الذي قد يكون فردا، أو أقلية دينية أو عرقية.
هذه العزلة ليست هي ما نود الخوض فيه في الآتي من الفقرات، وليست تلك التي تنشأ عن عوامل سيكولوجية، أو اجتماعية، أو هما معا، هي المعنية، وإنما العزلة المقصودة هنا هي التي يلجأ إليها "الشخص" بدافع الاختيار.
لقد استقطبت هذه العزلة الأخيرة اهتماما مهما، سواء كموضوع للكتابة، أو كنمط عيش. فمن الناحية الأدبية نجد أبو العلاء المعري، مثلا، قد عاش في عزلة، وكتب عنها الشيء الكثير أيضا. كما أن هناك الكثير من المسرحيين والروائيين تناولوا هذا الموضوع من جوانب مختلفة. تكفي الإشارة هنا إلى كابرييل كارسيا ماركيز، صاحب جائزة نوبل 1982، الذي نالها عن رائعته «Cien años de soledad».
وبالاضطلاع على سير الأنبياء يتبين أنهم عرفوا العزلة جميعهم. فالرسول الكريم اعتزل طويلا في غار حراء قبل أن ينزل عليه الوحي. وقبل معجزة المشي على الماء، تخبرنا الأناجيل، أن عيسى عليه السلام صرف تلاميذه وصعد إلى الجبل ليصلي في العزلة، وأنه كان هناك وحده عندما حل المساء، ولم يلتحق بهم إلا قبل الفجر، وأنه بعد عشاء الفصح استشعر دنو اعتقاله، واقتراب أجله، فانتابه الشعور بالكآبة والحزن حتى الموت، وطلب من تلاميذه الإثني عشر أن يسهروا معه، لكنهم خيبوا أمله. فربما بحكم كونه إنسانا -هو الذي كان يطلق على نفسه اسم "ابن الإنسان"- تحركت داخله، كأي إنسان، غريزة البقاء. هل الموت شيئا أخر غير صمت ممتد و عزلة طويلة الأمد.
إن علاقة العزلة بالتجربة الدينية علاقة وطيدة. وتبرز هذه العلاقة بجلاء في التصوف، باعتباره زهد في الحياة وزخرفها، والتدرج في سلم الكمال، إلى أن يتحقق "الفتح"، حيث يفيض الله بنوره الآسر على قلب العارف به. وفي مجاهداته الروحية يحتاج المتصوف إلى العزلة، التي تعد شرطا مهما، إن لم تكن هي الشرط الأهم لتحقيق المراد. وتسمى العزلة في قواميس الصوفية عادة بـ"الخلوة"، التي تدوم في عرف المتصوفة أربعون يوما، يكون قوت المتصوف فيها، حسب بعض الطوائف، الخبز والملح. ومن أبرز المتصوفة الذين يضرب بهم المثل في الخلوة نجد "ابن عربي"، الذي كان يقر بفوائدها، رغم أنه جعلها مقترنة بالتعلم، أي أن المريد يمكن أن يتعلمها، ولم يكن ينصح بها من لم يتعلمها.
إن ما ينشده الصوفي هو الفناء في الله، لأن هذا، في نظره، هو "الطريق الملكي" إلى السعادة، لاسيما أن الله، كما جاء في الحديث القدسي، لم يسعه مكان ما خلا قلب العبد المؤمن. و بما أن الأمر كذلك فالصوفي يفرغ قلبه من كل حب عدا حب الله، ويفرغ حياته من كل مشاغل الحياة، فينشغل بالله، وبالله وحده، حتى أن الصوفي لا يرى قلبه يصلح لشيء دون حب الله، يقول سمنون بن عمر المحب في هذا الصدد:
فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل * * * فلست أرى قلبي لغيرك يصلح
في نفس المنحى يقول الحلاج:
للناس حج ولي حج إلى سكني * * * تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي
إن التجربة الروحية الصوفية لا تلتزم بطقوس وعبادات معينة وثابتة، ومن تم فهي، في نظر بير ديائيف، الطريق الوحيد إلى تجاوز العزلة والارتقاء بالذات الإنسانية نحو الكمال، خاصة أن الدين يعني الدخول في علاقة اجتماعية مع الجماعة الدينية، ومن تم فهو لا يجعل الإنسان يتجاوز عزلته.
وعندما أتيحت لي الفرصة أخيرا لقراءة كتاب فريدريك نيتشه "هكذا تكلم زرادشت" وجدتني، على غرار كل من قرأه ببعض التمعن، مأخوذا به. فهو كتاب متميز بكل المقاييس. كتاب يمكنني أن أنعته بـ"شعري-فلسفي" poètiquo-philosophique، حيث يعرض أفكارا فلسفية عميقة الأغوار في ثوب شعري حريري، مؤسسا بذلك لكتابة جديدة في الفلسفة، هي ما يمكن أن نسميها بـ"الكتابة الشذرية".
لن أخوض في تفاصيل الكتاب، الذي أثار الكثير من النقاش بين المفكرين الذين تناولوا الإرث النتشوي. ما سأركز عليه هو المديح الذي خص به نيتشه العزلة في هذا الكتاب. ففي ملحق الكتاب، الذي ترجمه إلى العربية فيلكس فارس(2009)، يعترف نيتشه في مذكراته أن اختراعه للإنسان المتفوق تم في العزلة، حيث يقول: "لقد سادني الإضطراب بين الناس، فقد كنت أود الحياة بينهم، ولم أجد ما يرضيني فيهم، فذهبت إلى العزلة، حيث انفردت بنفسي، وأبدعت الإنسان المتفوق (...) تشع عليه أنوار الظهيرة".
وفي نفس المذكرات يقر نيتشه بفوائد العزلة على الإنسان، فهي في نظره ضرورية للذات حتى تستطيع أن تتسع وتمتلأ، وتشفى من عللها، وتتقوى عزائمها. إلا أن العزلة التي تستطيع فعل ذلك ليست عزلة مطلقة، وإنما هي، كما يسميها نيتشه نفسه، "عزلة إلى حين".
لهذا لا ينبغي أن نتناسى ما عانه نيتشه من حياة قاسية، زادها الشعور بالوحدة قسوة، جعلت حياته لا تحتمل، أليس هو القائل في إحدى رسائله التي بعث بها إلى أحد أصدقائه، كما ورد دلك في مقدمة الكتاب: "الآن لم يعد يحبني أحد، فكيف أستمر في حبي للحياة".
مع بداية الجزء الأول من الكتاب يقدم نيتشه نوعا من الـ"بيوغرافيا" عن زرادشت، حيث يخبرنا أنه هجر وطنه لما بلغ الثلاثين من عمره، وأقام في الجبل لمدة عشر سنوات في عزلة، قبل أن يقرر ذات صباح أن ينشر ضياءه على غرار الشمس، التي كان يوجه خطابه إليها. السؤال الذي يمكن أن يثار هنا هو: هل يبدأ اهتمام الإنسان بالفلسفة، حسب نيتشه، في عمر الثلاثين سنة؟ يمكن أن نجد جوابا على هذا السؤال في مقدمة الكتاب، حيث نجد أن المسيح بدأ دعوته عندما كان في عمر الثلاثين سنة، وأن نيتشه حاول أن يجعل من زرادشت مسيحا جديدا. لكن هل كان من قبيل الصدفة أن يتوافق ذلك مع السن الذي حدده سقراط للفلسفة، حيث قال لألسبياد ذات مرة: "يا ألسبياد لقد بلغت ثلاثين سنة فاعرف نفسك بنفسك"، داعيا إياه بذلك، صراحة، إلى رحاب الفلسفة.
وبالإضافة إلى تلك السنوات العشر في العزلة، نجد زرادشت، على امتداد صفحات الكتاب، يدخل بين الفينة والأخرى، في مونولوغ Monologue يقصر حينا ويطول حينا أخر. كما كانت تعتريه حالة خاصة، يمكن أن نسميها "حالة الإلهام"، فيبدو كنبي يوحى إليه ما ينبغي أن يبلغه إلى الناس، قبل أن يتوب إلى رشده، ويستعيد حالته الطبيعية، ويتحرر لسانه من عقاله، فيبث في الناس أفكاره.
لا يبدو أن زرادشت يستقر بمقام، فهو دائم الترحال، يكره المنبسط من الأرض والأشياء التي يسهل الحصول عليها، ويعشق المرتفعات وكل ما هو منيع. فالأرض التي تدر اللبن والعسل، بالنسبة له، لا خير فيها. وهو في كل الأحوال ليس له وطن يستقر فيه ما خلا عزلته، حيث يناديها قائلا: "أنت وطني أيتها العزلة".
وفي نظر زرادشت ليس كل الناس مؤهلين لأن يعيشوا في عزلة. ويرى أنه من الخير أن نمنع الكثيرين من سلوك هذا السبيل في الحياة. وهو يعتبر أن القديسين الذين يتنسكون في الصحراء أكثر دنسا من غيرهم من الناس. وهو أمر يتماشى مع التوجه النتشوي الذي يدافع عن فكرة موت الله، ويدعو، على لسان زرادشت، إلى هدم الأصنام والشرائع السابقة، في أفق ظهور الإنسان المتفوق، الذي سيبدع شرائعه الخاصة.
خلاصة القول أن كتاب نيتشه هذا هو في الواقع قصيدة مدح لأشياء يذمها الناس عادة. فهو لا يمدح العزلة فحسب، وإنما يمدح كذلك الجسد والليل والرقص والضحك والحرب والجنون، فهذه الأشياء تصبح مطلوبة كلها إذا نظرنا إلى الحياة، على غرار نيتشه، من منظور مأساوي، وبدون هذه الأشياء تكون الحياة فقيرة، وبدون معنى، وربما لا تستحق أن تعاش أصلا. فقط فالأمل في عودة زرادشت من جديد، أو ولادة "نبي" جبران خليل جبران "المصطفى" من رحم امرأة أخرى، هو الذي يجعلها محتملة Supportable.