مع الرواية الثانية من الإثنى عشرية (خرائط الروح) نتعرف على بعض ملامح التردي وأفراحه الآثمة في مسيرة ليبيا من البداوة والصحراء إلى إشكاليات التحديث والتبعية والمعاصرة.

حيرة الترحال من حال إلى حال

كتابة النُقصان في أرض اليمبوس لإلياس فركوح

مصطفى كيلاني

حقيقةُ البَدْء والمرجع: لا شيْءَ يكتمل
النُقصان، الهجانةُ، اللاّ ـ مُتجانس، الفوضي، الكارثة، العدم، الفراغُ، المللُ، الشهوةُ وانقطاعاتُها، الحُلمُ المبتورُ...، تلك هي بعضٌ من المُترادفات الكثيرة الدالّة علي الما ـ بيْن، هذا الموقِع الإشكاليّ الذي وَسَمَ روايةَ أرض اليمبوس لإلياس فركوح (1). فتلتقي عَرَضا أو اتّفاقًا مع مفهوم الوجود لدي مارتن هيدغير (Martin Heidegger) حينما عَرَّفَهُ علي كَوْنه الخطر الأعْظم بالنسبة لنا، نحن البشر، والخطر المُحْدِق بجميع الكائنات دون استثناء(2). إنّ هذا الوجودَ الخطر هو الذي أنشأ في ذات المَوْجود (Etant) روح المُخاطرة، كالذي ينكشف بفِعْل الكتابة ذاتِه وبتقلُّبات النصّ الروائيّ عندما تتقاذفه الذاكرة والنسيان، وصف المُطابقة في نَظْم الأحداث بالاسترجاع والاسترسال والإبطان آنَ اعتماد تداعيات الحَدْس الكاتِب الذي يشحن تفاصيل الموصوف السرديّ بفيْضٍ من الحالات.

وكما يحفز الرعب البدائيّ، منذ بَدْءِ مُواجهة الطبيعة، الإنسان علي الفنّ قصْد تأنيس المُتوحّش فيه (3) فقد حملت الذات الكاتبة بعضا من ذلك الرعب وأضافت إليه رُعْبها الخاصّ الذّي تشكّل في عميق النفس منذ بدْء الوعي الطفوليّ، وعبر سِنين العُمر. وما دليل الذات الساردة في أرض اليمبوس، تقريبا، إلاّ تلك الحِكمة التي نطق بها الأب لتستحيل إلي ما يُشبه اللاّزمة (Leitmotiv) في مسار الحركة السرديّة، أو الوالدة الدلاليّة لمُختلف المعاني، حادثها ومُمْكنها عند التأوّل: لا شيْء يكتمل. فكلّ الظواهر، إذن، في أرض اليمبوس تشي بـ اللاّ ـ مُكتَمَل بَدْءًا بالنصّ الروائيّ ذاته الذي هو ضَرب من السيرة الذاتيّة المُشبَعَة أحيانا بالتخييل حينما تصطدم الذاكرة بالنسيان، كأن تحدث فراغات صُغري في الأثناء تستدْعِي ملأً من نوع خاصّ، مثل التوسُّل بالحلم والشعر وكتابة الرغبة القديمة المكبوتة المُستعادَة. وكلّ الظواهر قائمة أيضا في الما ـ بيْن علي غرار ما تعنيه أرض اليمبوس في الاعتقاد الكاثوليكيّ آن التدليل الرمزيّ علي السكن المُؤقّت في انتظار زوال الخطيئة تمامًا أو النقيصة الدالّة علي اكتمال الكيان والإيمان.

خُيوطُ السَدَي
وعند النظر بدْءًا في مُختلِف النصوص ـ العتبات paratextes ـ عَوْدًا إلي العنوان الرئيسيّ (أرض اليمبوس)، وإشارات حيث التنصيص علي الاقتباسات الواردة داخل النصّ (4)، واليمبوس (المُطهِّر)، النصّ ـ العتبة الذي يُساعد القارئ علي فهم دلالة اللفظ تحديدًا في العقيدة الكاثوليكيّة، ونصّ الإهداء حيث الإشارة الصريحة إلي كينونة مستحيلة تنزع الذات الكاتبة إلي مقاربتها في الأساس والمرجع، ليظلّ فعل الكتابة قائما بين الإمكان المُتحقِّق والاستحالة، باعتبارها المدي الأبعد في كينونة لا تُعْرف أصلا بالحدود والقُيود، وبِمثابة التقديم، وهو استعارة اتّخذت لها شاكلة نصّ أصغر (microtexte) ـ حوّله الكاتب من سياقه الأصليّ (دون كيخوته) إلي تصدير لِمُنجَزه الروائيّ: أرض اليمبوس، وغيرها من النصوص الأخري المُظْهَرَة والمُضمرة داخل نسيج الرواية ذاته نتمثّل البعض الكثير من ثقافة السرد في علاقتها بخبرة الذات الكاتِبة في الوُجود. وإذا الواصل الدلاليّ البدْئيّ بين مختلف النصوص ـ العتبات هو اليمبوس الذي استقدَم إليه نصوصا تُراثيّة مرجعيّة من ثقافات مُختلفة لتتنادي صَوتا وصدي في منظومة سرديّة تعتمد في الأساس فكرة التثليث، وقد استحالت إلي ظاهرة جماليّة سرديّة بأجزاء الرواية الثلاثة: السفينة، والأسماء، واليَمْبُوس. 

لكُلّ من هذه الأجزاء نصٌّ مَدْخليّ هو بمثابة التمهيد للجزء. ولئن استغرق كُلّ من الجُزأيْن الأوّل والثاني ستّة فصول فقد اشتمل الجزء الثالث من الرواية علي ثمانية فصول، ليتأكّد بذلك الاستقطاب الدلاليّ لليمبوس، بالعَنونَة وفعل السرد مَعًا. وكأنّ إلياس فركوح بنظام العَنْوَنة المذكور حريص علي لَمْلَمة شتات المَحْكيّ وتأنيس المتوحّش ورد ّ الفوضي المستبدّة بأشياء العالم المرويّ إلي نسَقٍ ما يظلّ إلي آخر كلمة في النصّ الروائيّ مشروعًا للتجانُس في عالم غير مُتجانس أصْلاً، كما أسلفْنا. وكما يُحدّ اليمبوس بالمُختلف عن الجنّة والنار قريبًا من دلالة البـدْء الأوّل، ذلــك الما ـ قبل المَرجعيّ، فإنّ الطفولة الضائعة هي الأبرز حضورًا في دلالات السرد (5). لذلك تظلّ الرواية بمختلف أساليبها ووظائفها السرديّة ودلالاتها المُظْهرة والمُضْمَرة قائمة في الما ـ بين، شأن حياة الموجود السارد ذاته التي هي وجْه للنقصان في كُلّ شيء (6). فما علامات هذا النُقصان التفصيليّة؟ وكيف تصطدم الذات الساردة بحقائقه المفجعة؟ كيف تُغالب وقائعه بالفِعْل الذي هو غيْرُ مُكتمل أيضا؟

إنّ الكينونة الكاملة إمكان مستحيل خلافا للنُقصان الذي هو الكينونة التي لا يتحقّق منها إلاّ النَزْر القليل. ومن هُنا تنكشف ثُنائيّة القوّة والعجز، بمنظور مختلف عمّا ذهب إليه ميلان كونديرا في كائن لا تُحْتمل خِفّته (7)، وإن اتّفقت الروايتان في إقرار الحَدّ الرقيق الشفّاف بينهما، وبتداخُل كُلٍّ منهما في الآخر، إذْ يكمن العجز في القُوّة ذاتها، كما قد يتحوّل العجز إلي قوّة هي الأقوي، بدلالة التغالُب والسيرورة والتقادُم والحدوث. كذا تتحوّل أرض اليمبوس من علياء التمثُّل العَقديّ إلي وضعيّة الكائن والكِيان في مخصوص البنية السرديّة الروائيّة، ليتّخذ الما ـ بين له صفة تموِْقُع الذات الراوية والمَرْويّة في الوُجود والتاريخ الجماعيّ (العائلة ومجتمع الرواية تحديدًا) في المقام الوسط الإشكاليّ بين الرغبة في الحياة وفقدان القيمة أو ضمورها في ما تبقّي من آثار الماضي وذكرياته في الذات الساردة. وإذا نسيج المَرْويّ حَرَكاتُ تجاذُب بين الاكتمال، باعتباره قيمة مُطلقة، والنقصان الذي هو أساس الكينونة ومرجعها، وبين ثِقل القوّة وخفّة العجز القادر علي إخصاب معني بالمَرْويّ ذاته.

لوحة السفينة : الرحِم الذي أنشأ الرواية بأكملها
فالحنين إلي ما كان، هذا الالتفات الاضطراريّ، يُمثّل ظاهرةً إشكاليّةً في راهن الأدب العربيّ، بمختلف فُنونه الشعريّة والسرديّة علي حَدٍّ سَوَاء. وما أرض اليمبوس لإلياس فركوح إلاّ إحدي علامات هذه الظاهرة: كأنّما يوشك علي التصدُّع الآن. لحظةَ اعتكرت روحه، إذْ يستيقظ حنين يمضّه (8). إنّ لوحة السفينة أشبه ما تكون بالرحم الذي أنشأ الرواية بأكملها، كأنْ توقظ في الذات الساردة صُورًا لذِكريات قديمة وتُولِّد حالات شتّي من الحنين إلي أزمنة تقضّتْ، ليصطدم المرويّ منذ البدء بفاجعة الانقضاء (9)، ويندفع بحركة مُعاكسة إلي الوراء. فتتعالق اللحظة (الآن) والمُنْقَضِي الزمنيّ الذي سعت الذات الساردة إلي تجميع شتاته ومُقاربة فيضه العارم وملء فراغاته المستفحِلة في بعض المواطن بسَبب ما تسرّب إلي الذاكرة من نسيان وما أصابها من تفسُّخ وانهدام.

هي الاستدارة، إذن، تقضِي تحويل وُجهة السرد من التمدُّد إلي الانحناء بتوسيع مجال الزمن المُنقضِي وتفكيكه في مسارات زمنيّة صُغري تتغاير أحيانا وتدّاخل أحيانا أخري. فلا حضور، هُنا للمستقبل الذي ينتفِي، تقريبا، لعدم الاقتدار علي لَمْلَمة شتات الماضي، ولانحباس الآن في دائرة شبه مُغلقة، ونتيجة الانفتاح القَسْري علي الداخل: وأراه يُواصل تحديقه (...) خارج زُجاج النافذة المُغلق. داخل الغسق الذي يتشكّل كبُرتقالة مُعَلّقة تلتهب في فراغ يشحب (10). فهذه المكانيّة المُغْلَقة تدفع إلي فضاءٍ جُوانيّ يبدأ في التشكُّل، وبتناظُمه غير المُتجانس يتراكم المرويّ تدريجًا عند استخدام أسلوب التداعيات واسترجاع بعْضٍ مِمّا كان دون الاقتدار علي مُطابقته، لأنّ الذي حدَث لم يعُد قائما في الآن والهنا، بل هو ظلال لوُجوهٍ تلاشت تمامًا في غمرة الوجود المُنقضِي. ولعلّ النُقصان يظهر هو الآخر ضمن هذه الحقيقة البدئيّة: ما كان هو في خَبَر كان، وما يكون هو الكيان الفاقد للقيمة، تقريبًا. ذلك أنّ الذات الراوية والمرويّة محكومة في كُلّ المواقف والأحوال بنفوذ هذا الذي كان، ومدفوعة إلي انتظار اللحظة الأخيرة، ذلك الموت المُؤجّل أو الوشيك يُذكّر بالنهاية المحتومة لِجميع الكائنات وينتصر للحقيقة البدئيّة التي مفادها أنّ حدّي الوجود عَدَم، فأوّله عدم وآخره عدم، وهو المسكون في الداخل أيضا بالعدم، شأنَ صلة الذاكرة العارضة بالنسيان ـ الأصل، والمعني باللاّ ـ معني، والإيجاب بالسلب، والظاهرة، أيّ ظاهرة، بما يحتجب في الما ـ وراء من قوانين تدفع إلي المُراكمة والإبدال، إلي الإنشاء والتفسُّخ وإعادة الإنشاء بأشكال ووضعيّات مُختلفة رغم ظاهر حركة العَوْد الواحِد الأبدِيّ...
إنّ الكتابة السرديّة وجودٌ من نوع خاصّ، هو الوجود الفنّيّ بلُغة السرد في مُغالبة رُعْب الكائن أمام خطر الوجود. وما السفينة، عنوان الجزء الأوّل من الرواية، إلاّ إشارة ضِمنيّة لسَفَرٍ كَانَ وسفر آخر قد يكون، بمُجمل الحكايات القديمة والوقائع الماضية والحادثة في تاريخ الكيان الفرديّ والجمعيّ، كأن نقول الطوفان وحكاية الخراب الأوّل الذي عقبه وجود آلَ هو الآخر إلي التقادُم وتجدُّد حدث الخراب، أو تجربة السفر الخاصّة في حياة الذات الكاتبة عَوْدًا إلي مُجمل تاريخ مُخاطراتها ومغامراتها التي انتهت بانحباس المعني وغياب القيمة والتسليم في الأخير بالنُقصان بعد تتالي الخيبات والهزائم: رأيتُنِي أدخل أرض الرخاوة: منطقة الما ـ بين (...) ورأيتُني أخرج من بُقعة التشكّك إلي فراغ (11).

كذا منطقة الما ـ بين هي اليمبوس الأرضيّ حيث الرخاوة أصل ومرجع، شأن الوجود لا يكون إلاّ بالرخاوة. فإذَا استحال إلي صلابة أو سُيولة فقد مرونة الوعي وحركيّته وأضحي جمادًا أو تبدُّدًا غير قادر علي التموقُع في الزمان والمكان. كما أنّ الفراغ هو ضامن الرخاوة علي أن تكون وعيا مُتجدّدًا يستطيع التأقْلُم مع جميع الوضعيّات. وبهذا الانتماء الموقعيّ في الما ـ بين والإقرار المَبْدَئيّ للرخاوة والفراغ مرورًا من الرَيْبيّة المحض إلي ضَرْبٍ من الحيرة المُطمئنّة تنطلق الذات الكاتِبة في مغامرة إنشاء نصّ روائيّ هجين بالقصد الكاتِب الذي لا يعتقد في الثابت الأصيل المُسْتوي المُصفّي، ولا يدين بقداسة المعني، بل يستنير في البَدْءِ والمرجع بحقيقةِ النُقصان. وإذا الكتابة، والكتابة الروائيّة، اعتراف صريح بهذا النقصان، لما للموت من سلطة علي الموجود، وما لحقيقة الوجود من ألغاز تعجز لغة المُطابقة عن أدائه، فيستدعي الأمر مُغالبة ثقل الذاكرة ببعض من النسيان، إذا جازت العبارة، أي التخفُّف من الذاكرة تبعا لنصيحة الآخر الملازم للذات: لا تفعل مثلما فعلت شخصيّة بورخيس، تلك التي ماتت تحت وطأة ذاكرتها. تخفّفْ منها واكتُب فيها لتكتشف أبديّتك!(12)

ولكنّ ثِقَل الذاكرة يظلّ ماثلا منذ بَدْء أرض اليمبوس وفي الأثناء وإلي آخر حدث سرديّ منها، إذْ كُلّما سعت الذات الساردة إلي الفرار من الذاكرة الضاغطة بثقلها الفولاذيّ علي المخيال اصطدمت بالوقائع والحقائق، وكانت اللحظة (الآن) أشدّ اللحظات المَرْويّة ثِقَلاً. فالمُباشِر الذي يُشاهَد ويُسْمَع جحيم لا يُحتمل، والمستقبل الذي قد يكون الوجه الآخر لليأس، كأنْ يتشبّه بـ جنّة ما موعودة يظلّ غائما غيْرَ قادر علي التشكُّل. لذلك يبدو فعل التذكُّر أيسر الأفعال إنشاء وأقلّها أذيً للنفس المهووسة بالموت الوشيك، المزحومة بصُور الرعب الماضية وصُور الحرب التي قد تحدث بل ستحدث (13). فلا إمكان، إذن، لإنشاء مستقبل سرديّ. لأنّ الراهن أعجز من أن يُثمِر زَمَنًا قادِمًا، والملل يظلّ سيّد الحالات والمواقف (14). لذلك ينحصر مجال الكتابة في زمنيْن لا ثالث لهما، تقريبا، أجْملتْهما الرواية بَدْءًا في الذات الساردة تنتصر للماضِي علي الحاضر، وإنِ اهتمّت عَرَضا وعند البدْء والاختتام بالحرب الوشيكة القادمة (15)، وفي نجيب الغالبي رجل الأعمال الفلسطينيّ الذي انتقل من الكويت إلي الأردُنّ بعيدًا عن خطر الحرب القادمة، كاتب المقالات بالجريدة عن السُكّري وغيره من أمراض العصر(16). فيتحدّد ظاهر الزمن السرديّ بالمُدّة الفارقة بين ظروف الحرب المُرْتقبة (17) وحدوثها المُروّع الذي أكمل دائرة الرُعب وأنهي أيّ إمكان لنشأة زمن مستقبليّ ما مُختلِف. 

السرد الروائيّ وثقافة الاعتراف
هو النقصان يتّخذ له مظهرا دَمَويّا كارثيّا بالحرب التي أصابت المكان والكيان، وهو النُقصان الذي يسم الموجود، أيّ مَوْجود، لتتضاعف بذلك المأساة وتضيق دائرة الوضعيّة، فلا يتبقّي للذات الساردة سِوي انتهاج سبيل الذاكرة. ولكنْ، أيّ ذاكرة؟ هُنا يستقْدم السرد ثقافة الاعتراف بتوظيف خاصّ يخترق كثافة الماضِي وتراصّ أحداثه بما يطفو في الأثناء علي السطح حينما تتوسّل الكتابة بذاكرة الجسد تحديدًا: في أوّل اعتراف أدْلَيْت به لِغير الكاهن، كان رأسك في حضن امرأة (18)، وبطفولة الذات البِكْر، مُرورًا في زمَن التذكُّر والاعتراف من امرأة مصر إلي مريم التي هاجرت من عمّان إلي القُدْس لتترك في نفس الطفل ندوبا عميقةً نازفة. وبهَذا تلتقِي الحرب والمرأة، الموت والرغبة في سياقٍ واحد مُشتَرك، لما للتعالُق بينهما من رمزيّة وجوديّة تزخر بها الجسديّة الكاتبة آنَ التداخُل الحميم بين الألم واللذّة في المواطن القصيّة الجامعة بين الحال الإيروسيّة والموقف الباتوسيّ.

بديهيّ أن يتجاذب السرد عبر مُختلف أجزاء الرواية وفصولها الرغبة والموت، ليظلّ في الما ـ بين محكومًا بالنُقصان. فيتعيّن اللاّ ـ مُكتمل منذ الولادة بسنة النكبة (1948) وضياع فلسطين، ثمّ تعاقُب الهزائم، لينغرس سِكّين المَلَل في عميق الروح (19) علي امتداد التجربة في الحياة والكتابة. وقد ساعد علي ذلك التردُّد المُستفحِل في جُلّ المَوَاطن والإقامة في الما ـ بيْن، واصطدام الأفعال، كلّ الأفعال، تقريبًا، بحقيقة النقصان.

إلاّ أنّ هذه الحقيقة قد تختلف من شخْصٍ إلي آخر، ومن وضعيّة إلي أخري، رغم هذه الصفة التي تصل بين جميع البشر، دون استثناء. ومرجع الاختلاف ماثل في وعي الشخص ذاته، كأن نُقارن بين كُلّ من الذات الساردة ومريم ونجيب الغالبي أو عزيز رزق الله والأب وخِضر والأمّ والعمّة والرُهبان...، إذ ينظر كلّ من السارد ونجيب الغالبي إلي المكان والكيان والكائن بمنظور مختلِف، بين من يكتوي بنار الكتابة كي يبحث له وبها عن برد الطمأنينة الذي لا يتحقّق في حين تُمثّل الكتابة بالنسبة لنجيب الغالبي تَرَفا معرفيّا يُساعد علي مزيد الوثوق ويُرسّخ طُمأنينة العارف الرافض لثقافة السؤال. ولئن أنْتجت الهزيمة الشخصيْن مَعًا فإنّ وعي كُلّ منهما يختلف عن الآخر، كما أسلفنا، بين من يُفكّر في النُقصان ويتأوّل به ظواهر الوجود وبين من ينظر إلي العالم والأشياء كما هي دونَ تَفلسُف لتتراءي له أقرب إلي الاكتمال منه إلي النقيض، فينعكس هذا المنظور في تمثُّل الحياة والمرأة علي وجه الخصوص وحصر القيمة والرغبة في الأداة والذريعة والمصلحة والشهوة العابرة.

وكأنّنا بالسارد ونجيب الغالبي نشهد تَغَالُبا بين مذهبيْن في الوجود داخل مجتمع الهزيمة وتاريخ انحباس الفرد وتعطّل الرغبة وتلاشي الحُلم الفرديّ والجماعيّ علي حدّ سواء. وليس أدلّ علي الارتباك، الما ـ بين، النقصان من عديد التفاصيل المرويّة المنقولة إلي راهن التذكُّر، كالأيّام الأولي في مدرسة دير اللاّتين بالقدس ورفْض المُؤسّسة وحُبّ مريم وبدء المراهقة والقطيعة العاطفيّة نتيجةَ سفر مريم مع عائلتها إلي القُدْس وعوْدة ظهورها في عمّان بعد ثلاثين سنة من الغياب. 

هو النُقصان، إذنْ، يتخلّل مُجمل السرد ومواطنه الفرعيّة، إذْ تصطبغ كلّ الأحداث بسُلطة فراغه، كأن يؤول التناظُم سريعا إلي تبدّد، والحركة إلي انقطاع، ويصطدم الحُبّ بفيْض من العشق في اتّجاه الذات الساردة، وبالتناسي أو النسيان في الاتّجاه الآخر (مريم)، ليتغالب النُقصان والثِقل حينما يُضحي اليقين شكًّا مدمِّرًا لأهمّ الوُثوقات في حياة الكائن، وتُمسي الذاكرة عبئاً لا يُحتمل(20). فلا مفرّ في مثل هذه الحال سِوي الالتجاء إلي الكتابة حيث يُمكن للذات أن تُمارس بعضا من النسيان، كما أسلفنا، عند استخدام أسلوب التداعيات، بمُحاولة القفز بالذاكرة إلي الوراء البعيد، إلي طفولة الاسم وطفولة المعني (21). وبالكتابة أيضا تُقارب الذات الساردة بعضًا من دلالة النقصان، هذا الأصل المرجعيّ الذي ورثه الابن عن أبيه ليُصبح نبراسه المُعْتم أو عتمته المُضيئة في دروب الحياة ومتاهات الكتابة. وكأنّ خياطة الأب (مهنته الأولي) هي العلامة المرجعيّة للسرد الذي هو ضَرْب آخر من الخياطة بإنْشاء سدي الحروف بَدَلاً عن سدي الخيوط (22)، وبالكتابة يستطيع الموجود السارد ممارسة التفضية أيضا، بتبديد بعض من كثافة الوُجود المتراصّة وإزاحة عدد من الأثقال ومُغالبة تفاقُم الذاكرة أو تعاظُم النسيان، في الما ـ بين حيث تلتقي الأضداد، بما في ذلك أخطرها، كالتخوم القصِيّة التي أشرنا إليها في السالف بين الحياة والموت. وإذا الموت وليد حقيقة النُقصان، بل هو الذي يجعل أيّ وُجود غير مُكتمَل، ويحفز الذات الفرديّة والجماعيّة علي الفِعْل بإرادة الموت ذاته، وبحِكْمته التي تستنهض الحواسّ، كُلّ الحواسّ، ومُجمل القُوي الجسديّة للفِعْل، وللفعل الكتابيّ تحديدًا.

وبالكتابة تستجلي الذات الشاعرة مرآة الروح كي تبحث في طوايا الاسم عن دقائق المُسمّي، وتكشف في الأثناء عن صميم هذا الذي به كانت الذات وتكون، كأن تعود بالحادث إلي السالف، وبالفرع إلي الأصل، وبالما ـ بعد إلي الما ـ قبل، وبمفاهيم الخير والشرّ والشيطان والتجربة والمسيح والعيد والدم والألم ومريم العذراء ومريم الحبيبة والأمّ الشامِيّة وجورج الأب وقصّة الطوفان والرُعب البدائيّ والرعب الحادث أو المُتجدّد ومشاهد الأمْكنة المُقدّسة كـ كنيسة الروم الأرثوذوكس والخوري سليمان ومراسيم الجُنّاز ووجه داوود الدهّان المُسَجّي إلي حكمة الأب المُتكرِّرة علي امتداد المسار السرديّ: لا شيْء يكتمل. 

الأسماء: عَوْدٌ علي بَدْء وتقليب آخر للمَرْويّ
غير أنّ إقرار الذات الساردة لحقيقة النُقصان لا يعني التسليم بالأمر الواقع والتوقُّف عن الفعل والاكتفاء بانتظار المصير المحتوم. وقد كان بإمكان الرواية أن تنقطع بالسفينة (الجزء الأوّل) بعد تأكيد الوجه الآخر للنُقصان الذي هو الموت(23)، وانغلاق الدائرة بعد أن شهد مسار المَروِيّ انحناء عاجلا قضي توقُّف حركة الاطّراد والعَوْد علي بدْء للتذكير بالساكن ومشهد الموت الذي تُمَثِّلهُ لوحة السفينة. إنّ الأسماء (الجزء الثاني) استئناف للسرد بمُحاولة تقليب المَرْويّ عند الانتقال من استقطاب الذات الساردة للأحداث إلي استقطاب آخر، كأن تكشف الرواية عن بعضٍ من أسرار روائيّتها بالتوقُّف والاستئناف، وبانتهاج سبيل، ثُمَّ تحويل الوجهة إلي سبيل آخر لتتعالق بذلك تجربة الكتابة والوُجود مع الرغْبة في التجريب آنَ مُراجعة الأساليب والرُؤي والرَوَابِط بين الشخصيّات ومُجمل الخُطّة السرديّة (24). هي اللوحة ذاتها تستعيد الذات الشاعرة بها الموقع الأوّل، ولكن برغبة كِتابيّة مُختلفة عن سابقتها، وبقصد ناشِئ آخر، كأن يتّجه اهتمام السرد إلي عديد التفاصيل الخاصّة بحياة الأسرة، بالأب والأمّ والعمّة والأخ والأختيْن، وزيارات الكنيسة في صباحات يوم الأحد، ومعرفة مريم لأوّل مرّة، وتذكُّر المدرسة الأولي والبلل الناتج عن اللعب في الساحة ومُساعدة خِضر شاويش وعديد الصُور الوافدة علي ذاكرة السارد من زمن الطفولة النائي.

ولئن اتّسم السرد في الجزء الأوّل من أرض اليمبوس بواحديّة الراوي والمَرْوِيّ فقد انفتح في الجزء الثاني علي ساردين لمَسْروديْنِ يتداخلان بالقول والكتابة، بما يرويه خِضر شاويش وما ينقله السارد الأوّل إلي مجال البنية الكِتابيّة، بضرْبٍ من السرد المتوازي الذي يُؤالف بين مساريْن مُتغايريْن في منظومةٍ سرديّة مشتركة واحدة. فيتّخذ السرد له شكل التحقيق الصحافيّ الذي ينقطع بين الحين والآخر بتعليقات أنا ـ السارد، واضع الأسئلة، وقد وردت بأسلوب الحوار الذاتيّ. وكما يروي خِضر حكاية الطفل ثمّ الشابّ المُختلِف المُتفوّق علي أترابه، بما يعرضه من تفاصيل الحياة في يافا قبل تحوُّله إلي عَمَّان واشتغاله بالرياضة وصناعة اللعب للصغار فإنّ للذات الساردة حكاية الطفل المُنحدِر من تاريخ الرعب والانتظار، ثمّ الشابّ الذي قرّر الخروج عن دائرة إرثه الثقيل إلي حياةٍ جديدةٍ انتهجت لها في البدء سبيل المُقاومة، ثمّ الالتزام بالكتابة.

تتعدّد الأسماء في الجزء الثاني من الرواية، تختلف، تتغيّر، أو تنفسِخ بعض صفاتها الأولي بِحُكم التقادُم الزمنيّ، كمريم التي لم تعد تلك الـ مريم (25)، والأنا ـ السارد قلّبتْه الأيّام وحوّلتْه إلي مُسَمّي متعدّد في الداخل حدّ الشتات رغم واحديّة الاسم. وكلّ الأسماء تغيّرت بفعل الزمن عَدَا خِضر الذي بَدَا هو ذاته، وكأنّه استطاع بذلك أن ينجُوَ من وضعيّة الما ـ بين، إذْ حقّق البعض الكثير من سعادته الفرديّة رغم فقدان الوطن (فلسطين) والابتعاد عن الموطن (يافا) والتوصُّل إلي تحقيق توازُنه النفسيّ الذي انعدم أو كاد ينعدم لدي جُلّ الشخصيّات في أرض اليمبوس. فيتأكّد مرّة أخري انحباس الأفق في عالم الأنا ـ السارد، إذ ليس له من اتّجاهٍ آخر سوي الاسترجاع عَوْدًا إلي البدايات الأولي، إلي مريم القديمة وجرس راهبات الناصرة وجرس دير اللاّتين في القُدْس والراهب اللبنانيّ فرير إدمون والشبّان المراهقين والانضباط داخل المبيت وعديد التفاصيل الخاصّة بالمراهقة الأولي وميلاد المتعة وتذكّر صُوَر البلل والاغتسال مُرُورًا من الأمّ إلي المرأة الغريبة (26).

هُنا يلتقي الحلم والاسترجاع عند الحرص علي فسْخ الأسماء وإعادة إنشائها بواسطة الذاكرة والمخيال السرديّ مَعًا، بماضِي الطوفان الضارب في القِدَم وذكريات الأمطار الغزيرة في أَحَد المواسم من زمن قديم، ليتعالق بذلك الأصل العَقَديّ عَوْدًا إلي طوفان النصّ الإنجيليّ والطبيعة الثائرة، ليستلزم ذلك الإيفاء بالنذْر (27). كما يتضمّن الاسترجاع تفاصيل أخري للألعاب واللُّعب في حياة الأنا ـ السارد الشجرة ـ الأمّ بعد المسخ الذي أصاب المرأة الآثمة(30). كما تعمق هذه المأساة لدي أنا ـ السارد بوضْع الما ـ بيْن باعتباره امتدادًا لمشهد الهجانة، كـ مورها التي هامت بأبيها سيريناس وخطيئة حملها منه واختيارها أن تكون في موضِع وَسَطٍ بين عالم الأحياء وعالم الأموات، أو كَمَوْقع الكائن إجمالاً بين الحياة والموت أثناء الحياة ذاتها، وكتردُّد الأنا ـ السارد تحديدًا بين امرأتيْن: أبتاه: لماذا جعلتني في الوسط بين امرأة أولي هي أمِّي التي كانت، وامرأة مهما بلغ اندساسي فيها لن يتحوّل، إلي امرأة سواها؟ لن تتحوّل إلي مريمي أنا! (31).

الكتابة، إذن، هي الملاذ الأخير المتبقّي للأنا ـ السارد. الكتابة هي الأمل أيضا. الكتابة هي الإصرار علي البقاء بمغالبة الموت والنسيان. الكتابة هي الحِكمة في مُواجهة العبث المستبِدّ بالمكان والكيان. الكتابة هي تحويل لوُجْهة الملل من مدار الرغبة في الانتحار إلي وعي الموت الذي يقضِي الاستمرار في الحياة بمُكابرة من يرفض التسليم بالأمر الواقع وينتصر لِثقافة المُخاطرة علي الاستسلام. الكتابة هي محاولة لتجميل القبيح الكارثيّ المستبِدّ بأشياء العالم آنَ نقل أيقونته إلي مجال الحرف. وإذا الأسماء وجه آخر للمعني الذي سرعان ما اصطدم بنقيضه الذي هو العبث، كأن يلتقي العدم والوجود، ويستقطب الفساد إليه كُلّ الحيوات دون استثناء. غير أنّ هذه الأسماء تُمثّل هي الأخري علامة بَوَارٍ، كاللّغة تقريبا حينما يستبدّ وهْم العلامة بالشيْء، لتغيب مرجعيّته بحُكْم عادة التداوُل والتكرار. فكيف يُمكن للكتابة، إذنْ، أن تتحرّر من مُسْبق القيمة، والمُسَمَّي من ثابت الاسم؟ 

الأنوثة إمكانٌ، شأن الكتابة، لتأنيس المتوحش
وكما ينزاح الفرع عن أصله والاسم عن مُسَمّاه تصطدم الكتابة بالرُعب البِدائيّ، بفاجعة الكيان، بوحشيّة المكان. فلا تمتلك من الحلول عدا الإسهاب المُتعمَّد في التذكُّر بمزيد الاستذكار لتتولّد في الأثناء حِكَم تليها حِكَم، كماهيّة الاسم التي قد تعني أَحَدَ وُجوه بلاهات العالم الغافل عن نفسه (32)، هذا العالم الأصمّ الأبكم المنفصل منذ بَدْئيّته المُفترَضة أو بدائيّته الأولي عن المعني، أيّ معني، عَدَا ما ظهر لاحِقًا وفي الأثناء عند نشأة الوعي وانغراسه كسِكّين قاطع في جسد الكثافة المتراصّة. وإذا الكتابة انخراط في هذا الوعي بفِعْل التطويف في التخوم القصيّة للحياة والموت والتجويف في قيعان الرغبة بتبديد البعض من فراغ الكثافة أو كثافة الفراغ.كذا هي الكتابة إقامة في الما ـ بين، حيث كلام الصمت وصمت الكلام، الوضوح الغامض أو الغموض الواضح، بالمُشترك بين عجز اللغة ومَدي اقتدار لغة الاستعارة علي بعض التكلُّم، للتوصُّل إلي حِِكمة جميع الحِكم، إذَا جازت العبارة، في مسار أرض اليمبوس السرديّ: أبي، يا أبي: أصحيح أنّ الموت كمال والحياة نقص؟ (33). والكتابة هي، بمنظور آخر، حالُ فرار من الصمت إلي الصوت، ومن وحشة الخلاء/الفراغ إلي ضرْب من الامتلاء العارض (34). فنستأنف بـ اليمبوس (الجزء الثالث) حركة السرد مَرَّةً أخري، بعد انغلاق الدائرة الثانية وثبوت الغياب المستقبليّ كالسالف.

فيستعيد السرد لحظةَ البدْء، حيث لوحة السفينة والمكان الفيزيائيّ المُغلق والانفتاح علي الداخل بفِعْل الإبطان، ليتأكّد للأنا السارد، بمُختلف الأدلّة الناشئة عن الكتابة ذاتها، أنّ ثقل الروح هو سيّد الموقف، ولا إمكان للخِفّة، للتبدُّد، للاندفاع صَوْب زمن آخر جديد قادم. لذلك يتخفّف فعل السرد من بعض الثِقل بمقاربة الرغبة البدائيّة. وإذا الأنوثة إمكان، شأن الكتابة، لتأنيس المتوحِّش أو لعلّها والكتابة تستطيعان الاستماع لنبض الزمن الغائب الذي هو المستقبل، ذاك الدفين داخل مستنقع الاستحالة: صرت الآن في الخمسين. مررت بسلام بين سِتّ حروب، وقلبك لا يزال يستجيب كُلّما قرعته امرأة تدعوك للمستقبل، أو تستعيدك من ماضيك...    (35).كذا الأُنوثة رمْز للقوّة أو ما تبقّي من قوّةٍ في قلبٍ مُعَنّي تداولت عليه الخطوب.

والأنوثة هي الأصل المرجعيّ الذّي انحدرت منه الذات، فكانت وتكون. والأنوثة أيضا هي الأمومة وجُموح الشهوة وتجدّد الرغبة وبدْءُ الأمل وآخره ما دام للقلب اقتداره علي النبض عند الحدّ الأخير الفارق بين الحياة والموت. فكُلّ شيْء يتبدّل: المكان، الإنسان، الذاكرة، القيمة، الأسماء عَدَا الأُنوثة ـ الرمز والكتابة والموت، أو الكتابة القائمة في المقام الوسط بين الأنوثة ـ الرمز (الحياة) والموت إلاّ أنّ الكتابة قد تنحبس في دائرة ثِقل الذاكرة إنْ لم نتوسّل بالحُلم، باستعادة الرغبة في إمكانِ حياة جديدةٍ، رغم ما تُثبته الوقائع، ما ظهر منها وما خفِي من استحالة، كأن نقول حُلم يافا القديم الذي يمرّ إلي الذات الساردة عبر ذاكرة العمّة وخِضر شاويش وماضي فلسطين، أرض البدايات الأولي، القريبة رَمْزًا من الجنّة الضائعة، ومريم الطفلة والحبيبة الضائعة في زحمة الأعوام. ولأنّ الحُلْم غير قادر علي التمدُّد، لِضغوط ثِقل الذاكرة ووقائع اللحظة فهو سُرْعان ما يستعيد خواء اليقظة، لا لِيتوقّف فِعل الكتابة، بل ليستمِرّ دَوَرَانًا في الذاكرة حيث ثقوب النسيان تتّسع لتدفع النصّ الروائيّ إلي مزيد من التكرار.

خاتمة القول: كتابة النُقصان أو حيرة الترحال من حالٍ إلي حال
فتكتمل بذلك الدائرة الثالثة بالحرب الوشيكة (36) والجنس المبتور وخيانة الجسد لتتساوي الحال الإيروسيّة والحال الباتوسيّة، المرأة والحرب: ما تاريخك مع الحرب، وما تاريخك مع المرأة؟(37) وما صلة التاريخ الأوّل بالتاريخ الثاني؟ ما المُشترك، تحديدًا، بينهما؟ الحرب تزحف، والموت رابض هناك في موطن قريب. والأمل لا يزال حيّا رغم كلّ الخسائر. لأنّ الحياة لم تتوقّفْ عند الضجعة السريريّة وخيالات الارتفاع إلي الملكوت الأعلي، كأن تَمْثُل تلك الماسّة، صاحبة اليد البيضاء كالقُطن، ليؤكّد الواقع أنّ حَدَث الموت لا يزال مُرْجَأً، ووضعيّة الما ـ بين لا تزال قائمةً في خاتمة النصّ الروائيّ، بل تستمِرّ حياة أرض اليمبوس بتأجيل الاكتمال (الموت)، والاندفاع بقوّة العجز، بالذاكرة والنسيان بالرغبة ونقائضها في أداء المزيد من دلالات النقصان بكتابةٍ/كتابات أخري، وبجديد الاعترافات، وتوصيف تجربة الذات الفرديّة والجيل الذي تنتمي إليه، ومُجمل تاريخ الأمّة المُعمَّد بالدّم.

وإذا أرض اليمبوس لإلياس فركوح أشبه ما يكون بمسار تطوُّر لَولبيّ يتّخذ له، كما أسلفنا، حركة دوائر ثلاث، كلّما أفضي السرد إلي انغلاق دائرة كان التحوُّل إلي دائرة ثانية فثالِثة، كي يحدث الانغلاق الأكبر بالحرب الوشيكة المُرْتقَبة بَدْءًا وانتهاءً. إنّها رواية الاستمرار في سرديّة الإبطان(38)، بمزيد من رغبة البوح بالمُخبّإ في النفس، وبأسلوب التذكُّر وتداعيات الحال القلِقة المُتوتِّرة في الخفاء، وبلسان يصل بين التجربة الفرديّة وواقع جيل بأكمله خَبر المغامرة في الوجود والكتابة مَعًا، واصطدم بعديد الهزائم والانكسارات دونَ فِقدان الأمل. فكان التزامه بِحَرَكة التاريخ مجالا واسِعًا للتناصّ بين ثقافة الإيديولوجيا ومعرفة الوجود وجماليّة الفنّ، هذا الجيل الحداثيّ باستحقاق الذي تعلّم من سابقيه عِشق التراث ليكتسب في اللاّحق فنون العِناد الجميل والمغامرة الفاعلة تأسيسا واختلافًا. لذلك فَقَدَ طُمأنينة الظاعن، واستبدّت به حيرة التِرحال من حالٍ إلي حال.
الطِفل (28).

إلاّ أنّ استرجاع البعض من ذكريات الطفولة القديمة يُولِّد في الذات الساردة فيْضا من حزن غامض، لعلّه ذلك المَوْروث عن أقدم السُلالات، المُنغرس في الروح منذ فِطام المشيمة قبل الرضاع، المُتعاظِم بوعي الموت السالف، موت الأخ والأخت قبل الولادة، ووعي الموت الحادث بدلالتيْ الراهن والمُرْجَأ. هو الشعور الحادّ، إذن، بالفقدان والانفقاد تتّسع خرائبه في الروح منذ الهجْر القسريّ الذي حَدَث لعالم البدايات، المكان ـ الأصل بمُختلِف أشيائه ورموزه وقِيَمِه ومُتَعِهِ وعذاباته الجميلة (29). فتحمل الذات الساردة تُراث مأساة ضاربة في القِدَم، كالمخاض الصعب وعذابات مريم ثمّ المسيح. وقد تعود بتاريخ هذه المأساة إلي ماهو أبعد من مريم والمسيح، إلي دلالات شجرة المُرّ وأدونيس المنحدر من هذه الشجرة.

ناقد وباحث جامعي من تونس


1 ـ إلياس فركوح، أرض اليمبوس الأردنّ: دار أزمنة، ط1، 2007. 
2 ـ Martin Heidegger، ''Chemins qui mnent nulle part''، Gallimard، 1962، p336. 
3 ـ T. W. Adorno، ''Th orie Esth tique''، France : Klincksieck، 1974، p74.
4ـ أحال إلياس فركوح في هذا الحيّز علي الكتاب المقدّس، وملحمة كلكامش، والكوميديا الإلهيّة، وحرف الحرف: مختارات من النثر الصوفيّ لطاهر رياض، والكتابة لمارغريت دوراس، وحوار مع الكاتبة الهنديّة أنيتاديساي، ترجمه فركوح إلي العربيّة، ومدوّنة يوميّات عاصفة الصحراء نشرها الكاتب في جريدة الدستور الأردُنيّة تحت عنوان: أوراق حرب لم تحترق.
5 ـ اُنظر موت أخي السارد وأخته في سِنّ مُبكّرة واعتقاد العائلة في اليمبوس وحُضورها في الصورة الشمسيّة، بدلالة الذاكرة والمِخيال مَعًا، ما تراه الذات الساردة بالعين المُجرّدة وما تبطنه من حالاتٍ شتّي تُقارب حافّة الرعب.
6 ـ ورد في بمثابة التقديم لِميغل دي ثربانتس: أودُّ لهذا الكتاب، لأنّه وليد عقلي، أن يكون أجمل وأروع وأظرف ما يُمكن تخيُّله. بيْد أنّي لم أقْوَ علي مُخالفة نظام الطبيعة الذي يقضِي أن يلد الشيء شبهه، أرض اليمبوس، ص9. 7 ـ ميلان كونديرا، كائن لا تُحتمل خفّته، ترجمة ماري طوق، لبنان ـ المغرب: المركز الثقافي العربيّ. 
8 ـ إلياس فركوح، أرض اليمبوس، ص13. 
9 ـ ها هي، دون إرادة ربّانها وبحّارتها الموتي تغطس بكامِل بهائها العتيق. تغرق في بحر خُضرة مُتوحِّشة لم تنل منها شموس الزمن، السابق. 
10 ـ السابق. 
11 ـ السابق، ص14. 
12 ـ السابق، ص15.
13ـ اجتماع طارق عزيز بجيمس بيكر، وتلك المُصافحة اللّدودة التي انتشرت عبر العالم (...) شاهدت هذا وانتقلتُ إلي المكتبة لأستكمل تدوين يوميّات الحرب التي لم تقع بعد...، السابق، ص17.
14 ـ اُنظر وصف حاوية القُمامة شبه المعطوبة ورائحة العفونة والقطّة...، السابق، ص18.
15 ـ حرب الخليج الثانية تحديدا.
16 ـ أرض اليمبوس، ص21.
17 ـ يُشار إلي 15 كانون الثانِي (يناير) 1991.
18 ـ السابق، ص26. 
19 ـ أُصاب بالملل أحيانا، ويركبُنِي همّ أنْ لا طائل من وراء عالم لُوّثت جيناته بسخام الحروب، السابق، ص30. ملول، ولا أعرف الوقت، السابق، ص31.
20 ـ أمّا أنا، فقلت أنْ ليس ثمَّةَ أثقل من الذاكرة نحملها فينا، السابق، ص64.
21 ـ بالكتابة تنجلي معالمي وتتصفّّي ملامح مريم العتيقة، وخِضر شاويش، والبيت الذي سَكنّاه، والقُدس، والكنائس، والأرض الحرام. الكتابة (عدت أطمئنُنِي) ستُعيد للحكايات أجزاءها الناقصة وإلاّ سأبلغ عمر أبي دون أن أترك كلمةً تدلّ عليّ، السابق.
22 ـ يُشير السارد إلي مهنة الأب، وهي الخياطة للسيّدات.السابق، ص65. 23- هل نرشّ علي الموت سُكَّرًا ليحلي؟
هل ننثر علي الحياة مِلْحًا، لتطيب؟، السابق، ص82.
24 ـ كنت تُخطّط لِكتابة رواية، فهل ما فعلناه حتّي الآن، حتّي هذا السطر، ليس غير المُراكمة لمادّتها الخامّ، ليصير لنا، أو لأحدنا، إعادة ترتيبها لتكون كذلك؟لتكون روايةً، أعني؟، السابق، ص88. 
25 ـ السابق، ص132.
26 ـ فجاءت المرأة الغريبة لِتُعلّمه معني الحنين ولَذْعته العاجلة، السابق، ص137.
27 ـ اُنظر إطالة الشَعْر وإرجاء قَصِّه خَوْفًا علي الأنا ـ السارد من الموت المُبكِّر، كالذي حدث للأخت والأخ قبل ولادته. ويُعتبر هذا الحدث مرجعيّا لِمَا لَهُ من تأثير بالغ في حياة الأسرة وما غرسه من خوف داخل النفس. 
28 ـ من لُعَب خِضر التي يُتقن صناعتها، كالطائرة الورقيّة والطبلة الصغيرة...
29 ـ لكنّ العالم تخلّي عنك، والمسألة لن تتجاوز الشهر حتّي ينفوك عنهم. أهلك. يُبعدونك إلي مدينة هي القدس. يسجنونك في مدرسة ستنام فيها، وتأكل وتُصلّي، وتلعب، وتدرس. أنت لا تحبّ المدرسة أصلا،. فما بالك...، ومريم، وخِضْر، وأمّك، وأبوك، وأختاك، وعمّان، وسينما الفردوس ودُنيا، والبترا، وطيّارات الورق؟، السابق، ص153. 
30 ـ د. بديع محمّد جمعة، أسطورة فينوس وأدونيس، لبنان: دار النهضة العربيّة، 1981. 
31 ـ أرض اليمبوس، ص155. 
32 ـ السابق، ص172. 
33 ـ السابق، ص173. 
34 ـ الصمت يُفزعنِي، فأندلق رغما علي الورق بلا حساب.
الصمت يُفرغنِي، فأبوح طَوْعًا بما كان. وإذا ما طال الصمت، فلسوف أزيد بلا ندم، علّ أمْرًا يكون. السابق. 
35 ـ السابق، ص187. 
36 ـ التذكير مرّةً أخري بتاريخ يوم الثلاثاء15 كانون الثاني (يناير) 1991.
37 ـ السابق، ص231.
38 ـ مصطفي الكيلاني، فتنة الغياب، إلياس فركوح وإبداعيّة النصّ المُتعدِّد الأردنّ: منشورات أمانة عمّان الكبري، ط1، 2005. ُنظر الفصل الثانِي من هذا الكِتاب: الرواية وسرديّة الإبطان