القدرُ المرسوم بعنفٍ، والمرمي كحصى أمامك لا يمكنك حتى تجاوزها، بل يبدو التعثرُ بها والانتقال من تعاسة لأخرى تليها هو المحتوم فقط. وستبقى الطيور المتفحمة على ظهرِ هيروكو كعلامة الولادة، أو بصمة الروح، التي لاتزول من كيانها.
هيروكو هي اليابانية الناجية من انفجار ناغازاكي، تنجو وتخسر أهم شخصين بحياتها: الأب، والخطيب الذي كان سيغدو زوجاً عما قريب.
أيةُ أقدارٍ تقودُ هيروكو للهند على متنِ باخرةٍ لتتققى الأثر الوحيد لكونراد، وهي أخته إليزابيث وخادمهما سجاد المسلم الهندي.
يقع سجاد بغرام هيروكو، وكذلك هي، عبر علاقة غريبة لا يفسرها لاحقاً عبر مجريات الرواية المتسارعة والمحتدمة، إلا رغبة كل منهما بإيجاد وطن، وطن يحتمل كل هذا الحنين الجارف واللوعة التي لا تشفى.
يرحل سجاد وهيروكو من الهند في أوج الانفصال والأحداث التي أدت لنشوء باكستان كدولة، ذاك النشوء الذي يفرق أسرة سجاد بين دلهي وكراتشي والكثير من محطات السفر والحنين.
هيروكو وسجاد منفيان في تلك المسافة الرجراجة والغير ممسوكة، ذاك الهامش الضيق فيما تمنحه الأديان والجغرافية من تسامح. لا هو قادرٌ، كهندي، على العودة لدلهي مدينته المحبوبة ولا هي، كياباينة، قادرة للعودة لليابان.
كان مجرد تجاورهما وظهورهما في الشارع مثارَ استغرابٍ دائم لم يخفف منه عيش مسز أشرف (إسم هيروكو لاحقاً) على مدارِ سبعٍ وأربعين سنة في باكستان بعد أن أتقنت الأردية، وامتهنت تعليم الانكليزية واليابانية في مدرسة محلية خرجت أجيالاً عديدة.
رضا -كونراد- أشرف إبن سجاد وهيروكو الطفل المعجزة باللغات والعاجز أن ينجح في امتحان الديانة الإسلامية.
يتهكم غاضباً بعد فشله أكثر من مرة من النظر في ورقة الأسئلة: "أي خراءٍ؟ لما علي اجتيازُ مثل هذه الامتحانات فالله أعلمُ مني بما يدور في صدري بشأنه!"
تخففُ عنهُ الأم المسألة وتقنعهُ بأن يعيد الامتحان مرة ثانية، وتدرك بقرارة قلبها بأن سبب ارتباك رضا الغريب حين رؤيته لورقة الامتحانات مردهُ الأشعة التي تعرضت لها، وهي شابة مما شوه رحمها.
يغامر رضا" المراهق"، والغاضب من عقاب أبيه له بإجباره على العمل في معمل الصابون حتى يرى بنفسه رغبة ثانية لإعادة الامتحان، برحلة متهورة وحمقاء تنتهي به بإحدى معسكرات تدريب الجهاديين في أفغانستان، بعد أن يقنع أو يخدع عبدالله الأفغاني بأنه هزارة أي أفغاني شيعي.
لكن رضا، وبذاك العطب العميق والدقيق في مخيلته، يلتقط برعبٍ أي مخاطرة قام بها بعد أن يتعرف على قائد المعسكر، وغالباً عربي من وصفه في الرواية. يطردهُ القائد من المعسكر بحجة أنه جاسوس صغير.
لقد أخبرنا عبدالله بكل شئ قل لسادتك أن يكونوا أكثر ذكاء "يقصد الأمريكين"
مرسلاً إياه -أي رضا- بأول ِ قطارٍ لكراتشي.
حدث ذلك بعدة أيام كان فيها هيروكو وسجاد قد امتلئا كمداً وقلقاً على رضا، في إحدى جولات انتظار سجاد قرب سوق السمك لأي أفغاني عابر بشحنة سلاح أو حشيش، لأن يدلهُ على عبدالله أو يعطيه معلومة عن رضا، ترديه رصاصة عابثة حمقاء غبية، مغدوراً في عصرِ يومِ انتظارٍ كئيب.
يصل رضا لبيته كي يحتضن أبيه ويقول له كم كان أحمقاً، وكم افتقدَ حنانه، ولن يشفى أبدا إذا تستقبلهُ هاري، ابن إليزابيث بعبارة: "لقد مات وهويبحث عنك".
تقفزُ الرواية زمنياً بسرعة هائلة ومفاجئة من رصد سيرورة النهاية التراجيدية لسجاد، ورحيل هيروكو إلى نيويورك لتقضي أيام شخيوختها مع إليزابيث، التي عقدت معها ذلك الرباط الحميم منذ قرن وأكثر، دون الكثير من العناء وشرح الأسباب.
يفترق رضا عن أمه متحججا بأعمال متفرقة وعديدة بين دبي ونيوييورك بناء على طلب هيروكو من هاري أن يؤمن له عملا لا خطر فيه على حياته وأيضا بعيد عن الارتزاق (وهو العمل الذي نفهم بالنهاية التراجيدية لهاري أنه كان يعمل لصالح شركة أمنية في محمية أمريكية على الحدود الأفغانية الباكستانية). وحماية القتلة في ساحات قتال غير عادلة وعبثية على أية حال. يتصل رضا بأمه بفترات متباعدة كي يطمئنها (غالباً)عبر هاري أنه بخير ويجب أن لا تقلق عليه.
تعقدُ هيروكو صداقاتها الخاصة مع تفاصيل المكان، سائقي سيارات مهاجرون، ونادلو مطاعم ملونين، الحَمَام، مواقف الباصات وأزهار الحدائق، والشرود في شيخوخة إليزابيث، وشيخوختها هي أيضاً.
هيروكو وكيم ابنة هاري تراقبان رحيل الأحبة واحداً تلو الآخر ساخطتين غاضبتين.
تموت إليزابيث، ويموت هاري أيضاً في إحدى مخيمات شركة الأمن التي يعمل لصالحها، ليستلم منافسه ونائبه منصبه محاولاً توريط رضا أكثر بالارتزاق والتجسس، وحين يرفض رضا ذلك محاولاَ الهروب بحجة المشاركة بجنازة هاري، فهو بمثابة أبوه الذي رعاه لسنوات، يهدده النائب بأن يتهمه بقتل هاري .. أيُ عبث!
يجد رضا نفسه وحيداً في مخيمِ ارتزاقٍ أمريكي بدون معينهُ ومساعدهُ الوحيد هاري ومضافاً لتلك الآلام تهمة قتل الشخص الذي أصبح بمثابة أب له منذ سنوات. يخرج رضا "كما لو في حكاية خيالية" من هذه الورطة والتي كادت تقتله هو الآخر عبر نفق سري كان هاري قد دله عليه سابقاً وقد احتفظ بمبلغ مالي هو مجموع رواتبه لشهور كان هاري يحفظها له. وكذلك كتاب القصص المفضل لدى هاري: "أغاني البجعة الأم"، وهو كتابُ القصص الذي خصتهُ به أمهُ أيام طفولته الكئيبة حين انتزعهُ والده من الطمأنينة والمرح اللذان منحمها إياه سجاد في الهند، مستبدلاً ذلك العالم بعالم المدرسة الداخلية في انكلترا، لطالما اعتبرها هاري كسجن.
تنتهي الرواية بسرعة هائلة تشبه تسارع أحداث التي عصفت بأفغانستان والشرق الأوسط بعد أحداث أيلول (انهيار برجي التجارة العالمي)
رحلة رضا الخرافية من باكستان لإيران براً بسيارة خضار، حيث يُحشَر بين صناديق الكرنب، ثم إلى مسقط بحراً، بقارب يضم مهاجرين غير شرعيين، برحلة لا تشبه سوى كابوس يختنق فيه الركاب تقريباً، محرومين من فتح الأفواه لأنهم سيغرقون في الإقياء الممسوك إلى أن تُفتح لهم نافذة كي يتنفسوا، ليتابع رحلتهُ في طائرة تنقلهُ لكندا، حيث تلقي الشرطة القبض عليه كمُشتبه بالإرهاب بعد وشاية كيم ابنة هاري.
ظلال الحنين، الذاكرة، الحرب، الفقدان، الخسارات .. تبدو في لحظة التدوين ظلالاً محترقة كطيور الكومينو الملتصقة بجلد هيروكو. التي ستقضي ما تبقى من حياتها في البلد الذي ألقى القنبلة على بلدتها، وكل ذاك السرد الحميم والمؤلم ما هو إلا تلك النظرة التي تجمدت هناك على الشرفة: هيروكو تراقبُ كونراد الذي مضى إلى حتفهِ مبتسماً كعاشق سعيد..
القدرُ المرسوم بعنفٍ، والمرمي كحصى أمامك لا يمكنك حتى تجاوزها، بل يبدو التعثرُ بها والانتقال من تعاسة لأخرى تليها هو المحتوم فقط. وستبقى الطيور المتفحمة على ظهرِ هيروكو كعلامة الولادة، أو بصمة الروح، التي لاتزول من كيانها.
هيروكو هي اليابانية الناجية من انفجار ناغازاكي، تنجو وتخسر أهم شخصين بحياتها: الأب، والخطيب الذي كان سيغدو زوجاً عما قريب.
أيةُ أقدارٍ تقودُ هيروكو للهند على متنِ باخرةٍ لتتققى الأثر الوحيد لكونراد، وهي أخته إليزابيث وخادمهما سجاد المسلم الهندي.
يقع سجاد بغرام هيروكو، وكذلك هي، عبر علاقة غريبة لا يفسرها لاحقاً عبر مجريات الرواية المتسارعة والمحتدمة، إلا رغبة كل منهما بإيجاد وطن، وطن يحتمل كل هذا الحنين الجارف واللوعة التي لا تشفى.
يرحل سجاد وهيروكو من الهند في أوج الانفصال والأحداث التي أدت لنشوء باكستان كدولة، ذاك النشوء الذي يفرق أسرة سجاد بين دلهي وكراتشي والكثير من محطات السفر والحنين.
هيروكو وسجاد منفيان في تلك المسافة الرجراجة والغير ممسوكة، ذاك الهامش الضيق فيما تمنحه الأديان والجغرافية من تسامح. لا هو قادرٌ، كهندي، على العودة لدلهي مدينته المحبوبة ولا هي، كياباينة، قادرة للعودة لليابان.
كان مجرد تجاورهما وظهورهما في الشارع مثارَ استغرابٍ دائم لم يخفف منه عيش مسز أشرف (إسم هيروكو لاحقاً) على مدارِ سبعٍ وأربعين سنة في باكستان بعد أن أتقنت الأردية، وامتهنت تعليم الانكليزية واليابانية في مدرسة محلية خرجت أجيالاً عديدة.
رضا -كونراد- أشرف إبن سجاد وهيروكو الطفل المعجزة باللغات والعاجز أن ينجح في امتحان الديانة الإسلامية.
يتهكم غاضباً بعد فشله أكثر من مرة من النظر في ورقة الأسئلة: "أي خراءٍ؟ لما علي اجتيازُ مثل هذه الامتحانات فالله أعلمُ مني بما يدور في صدري بشأنه!"
تخففُ عنهُ الأم المسألة وتقنعهُ بأن يعيد الامتحان مرة ثانية، وتدرك بقرارة قلبها بأن سبب ارتباك رضا الغريب حين رؤيته لورقة الامتحانات مردهُ الأشعة التي تعرضت لها، وهي شابة مما شوه رحمها.
يغامر رضا" المراهق"، والغاضب من عقاب أبيه له بإجباره على العمل في معمل الصابون حتى يرى بنفسه رغبة ثانية لإعادة الامتحان، برحلة متهورة وحمقاء تنتهي به بإحدى معسكرات تدريب الجهاديين في أفغانستان، بعد أن يقنع أو يخدع عبدالله الأفغاني بأنه هزارة أي أفغاني شيعي.
لكن رضا، وبذاك العطب العميق والدقيق في مخيلته، يلتقط برعبٍ أي مخاطرة قام بها بعد أن يتعرف على قائد المعسكر، وغالباً عربي من وصفه في الرواية. يطردهُ القائد من المعسكر بحجة أنه جاسوس صغير.
لقد أخبرنا عبدالله بكل شئ قل لسادتك أن يكونوا أكثر ذكاء "يقصد الأمريكين"
مرسلاً إياه -أي رضا- بأول ِ قطارٍ لكراتشي.
حدث ذلك بعدة أيام كان فيها هيروكو وسجاد قد امتلئا كمداً وقلقاً على رضا، في إحدى جولات انتظار سجاد قرب سوق السمك لأي أفغاني عابر بشحنة سلاح أو حشيش، لأن يدلهُ على عبدالله أو يعطيه معلومة عن رضا، ترديه رصاصة عابثة حمقاء غبية، مغدوراً في عصرِ يومِ انتظارٍ كئيب.
يصل رضا لبيته كي يحتضن أبيه ويقول له كم كان أحمقاً، وكم افتقدَ حنانه، ولن يشفى أبدا إذا تستقبلهُ هاري، ابن إليزابيث بعبارة: "لقد مات وهويبحث عنك".
تقفزُ الرواية زمنياً بسرعة هائلة ومفاجئة من رصد سيرورة النهاية التراجيدية لسجاد، ورحيل هيروكو إلى نيويورك لتقضي أيام شخيوختها مع إليزابيث، التي عقدت معها ذلك الرباط الحميم منذ قرن وأكثر، دون الكثير من العناء وشرح الأسباب.
يفترق رضا عن أمه متحججا بأعمال متفرقة وعديدة بين دبي ونيوييورك بناء على طلب هيروكو من هاري أن يؤمن له عملا لا خطر فيه على حياته وأيضا بعيد عن الارتزاق (وهو العمل الذي نفهم بالنهاية التراجيدية لهاري أنه كان يعمل لصالح شركة أمنية في محمية أمريكية على الحدود الأفغانية الباكستانية). وحماية القتلة في ساحات قتال غير عادلة وعبثية على أية حال. يتصل رضا بأمه بفترات متباعدة كي يطمئنها (غالباً)عبر هاري أنه بخير ويجب أن لا تقلق عليه.
تعقدُ هيروكو صداقاتها الخاصة مع تفاصيل المكان، سائقي سيارات مهاجرون، ونادلو مطاعم ملونين، الحَمَام، مواقف الباصات وأزهار الحدائق، والشرود في شيخوخة إليزابيث، وشيخوختها هي أيضاً.
هيروكو وكيم ابنة هاري تراقبان رحيل الأحبة واحداً تلو الآخر ساخطتين غاضبتين.
تموت إليزابيث، ويموت هاري أيضاً في إحدى مخيمات شركة الأمن التي يعمل لصالحها، ليستلم منافسه ونائبه منصبه محاولاً توريط رضا أكثر بالارتزاق والتجسس، وحين يرفض رضا ذلك محاولاَ الهروب بحجة المشاركة بجنازة هاري، فهو بمثابة أبوه الذي رعاه لسنوات، يهدده النائب بأن يتهمه بقتل هاري .. أيُ عبث!
يجد رضا نفسه وحيداً في مخيمِ ارتزاقٍ أمريكي بدون معينهُ ومساعدهُ الوحيد هاري ومضافاً لتلك الآلام تهمة قتل الشخص الذي أصبح بمثابة أب له منذ سنوات. يخرج رضا "كما لو في حكاية خيالية" من هذه الورطة والتي كادت تقتله هو الآخر عبر نفق سري كان هاري قد دله عليه سابقاً وقد احتفظ بمبلغ مالي هو مجموع رواتبه لشهور كان هاري يحفظها له. وكذلك كتاب القصص المفضل لدى هاري: "أغاني البجعة الأم"، وهو كتابُ القصص الذي خصتهُ به أمهُ أيام طفولته الكئيبة حين انتزعهُ والده من الطمأنينة والمرح اللذان منحمها إياه سجاد في الهند، مستبدلاً ذلك العالم بعالم المدرسة الداخلية في انكلترا، لطالما اعتبرها هاري كسجن.
تنتهي الرواية بسرعة هائلة تشبه تسارع أحداث التي عصفت بأفغانستان والشرق الأوسط بعد أحداث أيلول (انهيار برجي التجارة العالمي)
رحلة رضا الخرافية من باكستان لإيران براً بسيارة خضار، حيث يُحشَر بين صناديق الكرنب، ثم إلى مسقط بحراً، بقارب يضم مهاجرين غير شرعيين، برحلة لا تشبه سوى كابوس يختنق فيه الركاب تقريباً، محرومين من فتح الأفواه لأنهم سيغرقون في الإقياء الممسوك إلى أن تُفتح لهم نافذة كي يتنفسوا، ليتابع رحلتهُ في طائرة تنقلهُ لكندا، حيث تلقي الشرطة القبض عليه كمُشتبه بالإرهاب بعد وشاية كيم ابنة هاري.
ظلال الحنين، الذاكرة، الحرب، الفقدان، الخسارات .. تبدو في لحظة التدوين ظلالاً محترقة كطيور الكومينو الملتصقة بجلد هيروكو. التي ستقضي ما تبقى من حياتها في البلد الذي ألقى القنبلة على بلدتها، وكل ذاك السرد الحميم والمؤلم ما هو إلا تلك النظرة التي تجمدت هناك على الشرفة: هيروكو تراقبُ كونراد الذي مضى إلى حتفهِ مبتسماً كعاشق سعيد..