الإهداء
إلى كل من فكر بأوجاع الإنسانية
إلى من عاش الموت من أجل الحرية
إلى نبض قلبي (برهان)
إلى أهم اختيار في حياتي.. حبيبتي (إ)
أكل الذات
في وقت سابق كنتُ أحسب أن قلبي قطعة غنية بالفيتامينات والمعادن، ووجبة شهية قد ألجأ لالتهامها من فرط جوعي.. وهو الأمر الذي جعلني أقاوم بصمت واطمئنان عواصف الفقر والأزمات.. إلى ان حان موعد الخضوع للقدر، فوجدتُ نفسي عاجزاً عن أكل خزيني الطارئ لأن حبيبتي أرادت أن تسكن هناك..
احترت في أمري.. وسرعان ما تحولت الحيرة إلى عدوى نقلت لمن حولي، حتى وصلت الى حاكم البلدة، الذي تدارك إحراجه بمنحي قلبه.. غير أني اكتشفت بأنه لا يصلح أن يكون سكناً آمناً لمن أحب ولا ينفع للأكل أيضاً لأنه كان جامداً متحجراً.
غريق
هزّي سكوني، وأذيبي جليد صمتي.. لملمي بقاياي من على جسدكِ الصنوبري؛ واحتفظي بها في صندوق الذاكرة المهمل..
أغمضي عينيكِ وتأمليني مسافراً، تائهاً، ضائعاً بين موجات البحر.. وإياكِ أن تفتحي جفنيك على عجل، لئلا تطفو جثني ويتهمك الناس في غرقي.
معسكر القتلة
قريتنا تنعم بالأمان والاطمئنان، كان ليلها مُناراً بإطلالة القمر، ونهارها دائم الحنان بفضل خيوط الشمس المتدلية بلطف على سكانها..
لم نعرف العيش إلا في بساطتها وألفة أهلها.
كنا نأكل مما نحصد، ونتدفأ ونحتمي في بعضنا البعض، ونتقاسم البسمة واللوعة والسعادة والتعاسة..
وذات يوم.. زارنا أحد الغرباء؛ وأعجب في طبيعتنا وتوسل البقاء بيننا..
طيبتنا أو سذاجتنا لم تمنعه من الاستيطان رغماً عنا.. وكأننا ابتلعنا ألسنتنا يوم جاء..
ظل غريباً عن طبائعنا، ولا يفهم صمتنا ونظراتنا إليه.. وبدأ ينثر أرواحنا كالبذور لزراعته مستعيناً بأصدقائه الغرباء..
حتى غاب الضياء عن ليالينا والنور عن صباحاتنا.. وماتت زراعتنا كلها إلا بذوره التي كانت تُخضر أسلحة نجهلها.. وسرعان ما تحول بيتنا الهادئ إلى معسكر للقتلة والمتشردين..
صحوة مدفون
يداهمني هاجسٌ غريب، يهشم أصنام سكوني، ويعطل أفكاري كلها..
يطالبني بالقناعة والاعتراف بما لا أصدق ولا أستوعب، يحاول إيهامي بين الحين والآخر بإمكانية صحوة المدفون ولو بعد حين..
إلا انه هجرني عمداً وتركني أرمم أصنامي بعد أن رصدني وأنا أكفن ضميري بوشاح أسود وأجهزه لسبات عميق.
إحياء حلم
لا أستطيع تصديق فلسفة حياة أخرى ما بعد الموت، لأنني وببساطة متناهية لا أطيق تحمل حياة ثانية تفترسها التعاسة كتلك التي أعيشها الآن..
وعلى الرغم من كوني لست مُرغماً على الإيمان بما لا أعتقد، فقد عملتُ على إعادة برمجة الفكرة في رأسي فوجدتني أتمسك بها وأصدقها بشدة، عسى أن أتمكن من إحياء أحلامي الميتة.
حاجة
ليست بي حاجة إلى كتاب تاريخ يقطر دماً ويحشد فكري بالعنف والتطرف..
لا أحتاج إلى أن أكون شيخاً أو عالم فقه لأتخذ قراراً يتسم بالعدالة..
لا أبحث عن حرية شكلية بقدر ما أفتش عن رغيف الخبز..
لا أتمنى أن أكون شهريار في عالم لا يقدس حكمة شهرزاد..
لا أود التشبث بالحياة كما كلكامش في زمن مشابه لزماننا الميت..
لا أرغب بوطني أن يكون مقبرة وإنما أتمناه جنة واعشقه انتماء..
يا أصدقاء لا أحتاج إلى الكثير من هذا العالم المشبع بالتكنولوجيا، لكني أتوسل بمن يساعدني في البحث عن إنسانيتي الضائعة..
إعلان
عرضت نَفسها للبيع مستخدمة أحدث وسائل الإعلان الحديث.. واستعرضت مواصفاتها الجمالية كلها، جسد ممشوق خالِ من السمنة، وعينان كحليتان واسعتان، وشعر ليلي منسدل، وأسنان بيضاء زاهية، وشفاه بطعم التوت البري..
وسرعان ما تجمهر الناس من حولها وابتدأ المزاد بأسعار خيالية ظلت تتصاعد حتى صار الكلام بلغة الأرقام الثقيلة..
من دون أن يدرك أي من المزايدين لهجة الإعلان الخداعة، التي لم تتطرق لحياتها وأنفاسها ونبضات قلبها التي لم تعد تعمل!.
رَسمتُ إلهي
غادرتُ صراع الأديان اللامنتهي، وزحمة التطرف والفتاوى التكفيرية المتشددة التي لا شاغل لها إلا مطاردة فكري وإحساسي.
رحلتُ مع ألواني وفرشاتي إلى عزلة كنت أمني النفس في أن أُنفى إليها..
وفي باكورة حياتي الجديدة رسمتُ سماءً صافية، وأنفاساً نقية.. من ثم لونت الكون بألوان زاهية، وخلقت لنفسي إلهاً يحترم روح الإنسان التي بداخلي..
حاكم
حاكمنا خالد لا يموت، أختطف أرواح أجدادي وأضافها إلى روحه، فيما ورثتُ أنا عنهم صوراً تجمعهم بسيادته في ذلك الحين.
وحش الخوف والقلق يلتهمني كلما أردتُ معرفة ذلك السر الذي جعل وجوده أزلياً..
إلى أن أوهمتُ نفسي بأنه سرق عشب الحياة الذي تمناه كلكامش، غير أن الحقيقة التي كتبها جدي في وصية اكتشفتها مؤخراً أثبتت غير ذلك..
إذ أن حاكمنا اعتاد استبدال دمه كل ثلاث ساعات بدماء أطفال حديثي الولادة..
عَفن
انقضى العمر ومازلت أجَملُ نفسي وألمع ظاهري كما المرآة المتشظية القابعة في حجرتي والتي ألفت وجهي الشاحب..
وبعد عمر طويل وجهد كبير لإقناع الآخرين ببياض قلبي وطيبة روحي..
تبين لي بأن قلبي أشبه بجوراب أبيض لبس ألف مرة من دون أن يغسل.. وروحي تعتزم الهجرة عن جسدي وكأنها فراشة كانت محبوسة في مستنقع آسن..
شوق مُتأخر
أمد ذراعي على أمتداد الكون لاحتضانها، وثوانِ انتظارها أطول من الدهر كله، وأشد بأساً من البرزخ، وأكثر مرارة من العلقم..
كنت أحتضن جليداً من الصبر، وأحتسي مرّ انتظار رؤياها، وأسكر حد الثمالة مع طيفها.. حتى غدوت تائها في صحراء مجهولة البداية والنهاية.
فراقها يتعبني، يقتلني، يرغمني على تمني الجنون وفقدان الشعور.. ببعدها كل العواطف متجمدة، معطلة تماماً، من دونها لا قيمة للوجود.. لا قيمة للأوراق والأقلام، لا قيمة حتى للشوق.
شأني من شأن طفل لا يشعر بالأمان إلا وهو يدفن رأسه بين نهدي أمه الحنون، لا يرغب باللعب إلا بدميته التي يحب ويألف.
لم يكن للعمر إلا أن ينطفئ ويوقف امتداد سرطان الانتظار في رأسي..
وبعد حين، زارتني لتغسل قبري، وتذيب ذراعي الثلجيين بدموعها الساخنة.. وتعتذر عن التأخير..
اكذوبة
مغلوطة هي تسمية الألوان الطبيعية، وناقص عقل من وصف حياتنا زاهية ملونة..
صحيح أن وجوهنا صفراء من الجوع وشفاهنا زرقاء من الخوف وعيوننا حمراء من دخان الحروب.. إلا أن كل شيء فينا مشتق من الأبيض والأسود، بوصفنا أمة لا تعرف سوى هذين اللونين: الأسود لون الحِداد والحُزن.. والأبيض هو رداؤنا الأول والأخير.
زيف
نموت من أجل جمع الدينار على الدينار... ونصف الكلمة يعني "نار"
نقدس الجنس ونمنحه أولوية اهتماماتنا من دون أن نعلم أن فيه "جن"
نحترم كل صاحب مبدأ ونَصفه بالسمو والشرف غير أن في الوصف "سم" و "شر".
نعتقد أن شِفاء أمراضنا بالعسل وفيه لفظ لأخطر الأمراض "سل"
نرفض الحرب ونطمح لإيقافها.. غير إن قادتنا اخذوا نصف الكلمة اللفظي "رب" معتقدين إنهم سيحققون رضاه من خلال موت الشعوب.
حياتنا وَهم لا يصدق.. وكل شيء في الكون يمكن أن يكون كذبة لغوية كبيرة.. لا ينجو منها إلا الأميون.
أحلام الجياع
أسكن في عالم الوهم.. أغرف وأتذوق حلاوة الأحلام بشراهة، لأتناسى حنظل الواقع، أتخيل، أتأمل، أتيه في عالم هادئ لأبتعد عن ضجيج معدتي الخاوية التي تتعمد إحراجي بأصواتها الفاضحة.. أمسد لها تارة وأعصرها وأحتضنها تارة أخرى، ثم أكفر بها وبكل مسميات الجوع.. أتوسلها الصبر والكتمان.. إلا أنها كانت تزيد من عزفها المقرف لتكون سبباً في ضياع الحلم وطرد حلاوته.
اعتذارات
لان الاعتذار ينم عن وعي وثقافة وشعور بالمسؤولية..
ومن هذا المفهوم اعتذر من الطفولة لأنني قضيتها متشرداً.. التمس العذر من أيام الشباب لأني لم أوقفْ دورة الزمن، أرجو معذرة الشيخوخة لأني لم أمنحها فرصة النسيان الكوني والتمتع بالزهايمر...
آسف من أحلامي لأني لم أحقق منها شيئاً، أنحني خجلاً من إصراري على المطالبة بالحرية في حياة بلا كرامة، كما أعتذر من دفاني لان جثتي وصلت إليه أشلاءً متعفنة.
قدمت هذه الاعتذارات كلها، وسأقدم المزيد ملتمساً العذر والسماح.. ولكني سأظل مصراً على اعتذار الرب لأنه خلقني في هذا الكون العكسي.
الدفاع عن الرب
اعتقلوا أمي لأنها شقراء وخدودها من الله حمراء ونفوا حبيبتي لأنها سافرة، وطاردوا صديقتي لا لشيء بل لمجرد أنها صديقتي..
قطعوا قدميّ من دون أن أتوجه لسرقة إي شيء.. بتروا كفيّ كما العباس (ع) بعد أن رصدوا زميلتي تصافحني بحرارة.
أحالوا عدالة ورحمة الرب إلى التقاعد، وعينوا أنفسهم حكماء من دون حكمه على هذا العالم.. لتحقيق العدالة السماوية!.
رياح التكنولوجيا
رياح الحداثة عصفت بعالمنا البسيط.. اقتلعت أوصاله من الجذور كنبتة صغيرة اشتهتها الريح..
مع امتداد العاصفة بدعم تكنولوجي اجتاح بيوتنا كلها، هرب المألوف من نفسه خوفاً من تحول غير مدروس، وهو الأمر الذي غيّر موازين الأشياء كلها، وحطم صخور الحضارة على رؤوس المؤمنين بها، مما تسبب في تحويل ذاكرتنا العميقة إلى ذاكرة ضبابية تتبخر كل خمس ثوان.. ذاكرة لا تختلف كثيراً عن ذاكرة الأسماك حتى لا تعود بنا إلى قيم وعادات رجعية.
وبعد هذا الضجيج المدمر.. انجلت العاصفة، بعد أن جمدت دماءنا في عروقنا وحولت قلوبنا إلى مدافن لأسماء عشاق كنا قد زرعناهم في الصميم..
نور هناك.. موت هنا
غاب النور، بعد ان خاصم القمر سماء المدينة.. وإحساس الخوف لا يقاطعه اي احساس، وصافرات الانذار تنشر فوبيا الموت على مسامعنا، والعتمة مخلوق ضعيف.. يهاجم العزل الخائفين بسرعة تفوق الضوء..
وانا أرصد صمتاً كونياً عبر نافذتي المطلة على الشارع..
لمحت بصيص نور يغازل السماء، يظهر خافتاً تارة ويتوهج تارة أخرى.. يقترب، ويشتعل، وينطفئ على هواه..
بقيت متأملاً، مراقباً ولم اشعر بوجوده إلا وهو يمزق الحي وسكانه بالكامل.
وشم
صنعت من قلبي وشماً واستعجلت تقديمه لحبيبتي ليكون تذكاراً أزلياً مني.. قدمته إليها فيما الفرح أخفى جرح القلب ونزيفه.
وبعد وقت قصير، عَملتْ على التخلص منه بصورة بشعة، مفتتة ذلك الوشم المتأجج بالأحاسيس مستخدمة مادة عالية التفاعل شوهت جسدها للخلاص منه بوصفه صار قديماً ومملاً.
حلول
احتشد الناس في بقعة واحدة كما لو أنهم في يوم الحشر واللقاء الموعود مع الرب..
تجمعوا بانتظار وفد رفيع المستوى كان قد وعد سكان الحي بزيارة لحل مشكلاتهم.
كل من كان بالانتظار، صار يبتلع أطنانا ً من الهموم الثقيلة..
وفور وصول الوفد المنتظر.. انهالت عليه الشكاوى والتوسلات، وتوزعت الطلبات مابين القضاء على الجوع والعطش والبطالة وامكانية صناعة الامل في هذا الحي المنهمك بالمآسي وظلت الطلبات تتلاحق إلى ان أشار مسؤول الوفد بيده مطالباً بالصمت الجماعي.. قائلا:
- تمر بلادنا العزيزة في وضع استثنائي انتقالي، تتطلب منكم الصبر بعض الوقت..
من كان منكم جائعاً؛ عليه ان يأكل من خزين صبره، ومن احس بالعطش عليه ان يشرب من دموعه.. أما من بحث عن البسمة فلينظر الى نفسه ملياً.. ليجد نفسه في هيستريا الضحك اللامنتهي.
لا تتعاملوا مع اسيادكم بالجشع، ولا تطالبوا بغير الابقاء على انفاسكم، واحذروا ان ترفعوا ايديكم إلى السماء لانها قد تمطر عليكم مشانق ومن دون ان تبصروا وباءً.
طوابير
تطايرت روحي الى السماء، حلقت من دون استشارتي أو إعلامي، وابتعدت عن فوضى الارض ومن فيها.
وهو الامر الذي حولني إلى مشاهد عادي له حق التأثر لا التحكم بتلك الروح.
أزمة الموقف ابعدتني عن الجدل وأرغمتني على متابعة الامر على صعوبته.. والروح مازالت تحلق فوق طوابير الارواح الرابضة في السماء تنتظر تصفية حسابها مع الرب..
تجول لتجعلني التهب خوفاً من أصوات تقلبات الحرائق الجهنمية وآلام من فيها، ومن ثم تغير مسارها الى أنهار الخمر والانتعاش اللامنتهي..
في ذلك الزحام والضجيج تعالت علامات الاستفهام على اختلافها.. الكل يسأل: هل من حياة اخرى، هل من جنة، هل من عودة.....؟
الى ان جاء الجواب صارماً من بداية أحد الطوابير:
- عليكم الالتزام بالهدوء والاصطفاف في الطوابير لحين وصول الموظف المختص بسحب الاستمارات..
لحظتها.. عادت روحي الى جسدي ووجدت نفسي انتظر كعادتي فرصة عمل.
اشتعالات التغيير
في محاولة للاعتراض على مجريات الواقع اليومي الذي أعيشه في بلاد يسودها الشؤم والقلق المزمن.. أشعلت الحماس في المقربين من صحبتي، وشكلت منهم قوة مدنية تطالب بالحياة..
وسرعان ما تعالت الاصوات كما الوباء ضد السلطة.. وما هي إلا برهة من الزمن حتى تمكن رجال الامن من تفريقنا بسبل السلطات القمعية..
عدتُ أدراجي خائباً، مكبلاً بالفشل والضعف.. تأملتُ ما يحيطني بطابع من الكآبة، أقلب ذكرياتي الرثة المأزومة والممزقة التي لا تختلف كثيراً عن ثيابي البالية، التي زادت اتساخاً بعد التظاهرة.. تنبهت لحديقتي التي لا أحصد منها إلا الشوك المتكاثر، وبيتي الذي لا يختلف عن حجرة الاعدام إلا بالتسمية..
لحظتها.. زاد إصراري على متابعة الاحتجاج فأضرمت النار في روحي لاحقق رغبتي في التغيير.
احتشام العرايا
مابين اللباس الرجعي الموروث من المجهول، والانغلاق اللامحدود والحجاب والخِمار والقفازات القماشية السوداء، والموضة العصرية الصاخبة التي تبرز مفاتن الاجساد دونما حياء.. وَجدتْ حبيبتي تطالب بالحشمة وهي عارية في زحمة الطرقات.
سرقة
انتفضت من نومي فزعاً، فأكتشفت سارقاً في عقر داري.. كان ينهش مقدساتي، يفتش عابثاً عن أي شيء ذا ثمن. ودونما تهديد ولا إكراه سَلمتُ نفسي لرغباته كوني كنتُ متأكداً بأني لا أملك ما أخسره حتى روحي..
ظل يبحث ويحاول اختيار الغنيمة الانسب والافضل..
وبعد طول تخطيط وتفكير اتجه لسرقة عقلي تارة وقلبي تارة أخرى..
إلا انه استغنى عنهما معاً بعدما وجد قلبي أسود وعقلي متطرفاً.
مقبرة الصمت
غادرت النطق إلى الأبد.. وشيدت من صمتي مقبرة، دفنت فيها جملة أحاسيس جميلة كانت تتجول في داخلي، مثلما دفنت فيها الحب والمشاعر التي ماتت في قلبي.. وحفرتُ قبوراً ضيقة لأحلامي وآمالي..
بقيتُ ساكتاً، خانعاً، خائفاً من نبضات قلبي وأصوات أنفاسي.. خائفاً حتى من صمتي.
كل هذا كان كابوساً بَشعاً في الليلة السابقة، ابتدأ بعدما اصغيت إلى صوت معدة طفلي وهي تصدر أصواتاً غريبة تعلن جوعها وتشكل موسيقا عنوانها الجوع.
العرس والمُفتي
أغانٍ وموسيقا صاخبة وزغاريد ودبكات ورقصات ووجوه تضحك في عرسي..
وإذا بالمُطرب يقاطع أجواء الطرب ويصرخ فجأة: سكوت.. جاء المُفتي.
وسرعان ما أمطرت أيدي الحضور علب البيرة وتناثرت زجاجات الويسكي.. وعم الارتباك المتواجدين كلهم في القاعة، وتحول الجميع إلى صورة جامدة لا روح فيها..
وإذا بالمُفتي جاء ليفتي.. ليحول زوجتي أختي.. ويخيرني ما بين حياتي او موتي..
تنازلت كثيراً واخترت الاسهل فسلبتُ حياة المُفتي واستعجلت إقامة عرسي.
سجين الحياة
مُضْطَهَد انا منذ ان كنت جنيناً في أحشاء أمي، حُكم عليّ بالسجن في داخلها من دون ان اقترف اي جرم او ذنب وهو الامر الذي ابقاني تسعة اشهر على ذمة التحقيق في بطنها...
خرجت إلى الحياة بعد ان سُلبت مني كل الاعترافات في تلك الزنزانة الصغيرة والمعتمة.
توقعت بأن الامر قد انتهى، وان العالم المتحرر يفتح ذراعيه لاستقبالي.. لكنني تبينت ان الحياة سجن أكبر.
تحريض الموتى
نَبش الدفانُ أحد القبور المشيدة حديثاً، نبشه على نحو وحشي خالِ من الانسانية.
أخرج الجثة من اللحد ورمى بها خارج المقبرة، حتى كانت وجبة سريعة متخمة لكلاب الشوارع التي كانت تبحث عن العفن.. وهو الامر الذي دعاها الى تقطيعه ومن ثم افتراسه من حيث تشتهي..
وبعد أيام قليلة جاء ذوي الميت لزيارة القبر، فوجدوا.. قبراً منبوشاً وكفناً كساه لون الغبار..
وعند سؤال الدفان عن الاسباب، أجابهم قائلاً:
- فقيدكم يستحق أكثر من ذلك، لانه كان يحرض الموتى ويحشدهم للمطالبة بإنارة المقبرة وإخراجي منها.
صراع (ج) و (س)
عالمنا المشوه قائم على حرف (ج) ننحني باتجاهه جميعاً كما الاله.. فهو سابق لشهواتنا في مجتمع ذكوري غريزي ويأتي أول حرف من كلمة (جسد) التي اسقطت آدم من الجنة..
ولأننا نهاب حاكمنا؛ وضعنا قبل اسمه لفظة (جلالة الملك).
ومن اجل ان نعبر عن خوفنا من الحرية اسميناها (جرأة) وكذلك سوغنا لأنفسنا القتل بوصفه حق الدفاع عن النفس، بينما لو دافع الغير عن انفسهم لأسميناها (جريمة)!.
جبروت (ج) سيطر على الحروف لا بل على العالم اجمع.. إلا الحرف (س) آبى الخضوع والانسجام مع هذا الحرف الدكتاتوري..
فصنع من نفسه كلمات غيرت ميزان العالم كالسلام لمن يريد السلام والسنابل لمن يريد الحياة والسجن والسلاسل للعقاب.. وهو الامر الذي جعلنا نعيش صراعاً دائماً بين الحرفين.
أمي عانس!
لا أعرف كيف ولدتني أمي من دون رجل...
كبرت واحتشد السؤال في فكري.. صار يشكل جيشاً من التناقضات، وأساطير من الاسئلة..
افكر دائماً عن امكانية تشابه حالتي بنبي الله (عيسى بن مريم) (ع)، ولكن صفعة قوية كانت تغير مسار السؤال، لان زمن الانبياء انتهى، وبات جزءً من الارشيف.
نمت الفكرة في داخلي وصارت عقدة تتطلب الحل.
يستحيل أن يكون الرب استحدثني نبياً في هذا الزمان، كما يستحيل ان تكون أمي عاهرة لان مؤهلاتها الجسدية والجمالية لا تدل على ذلك، كما استبعد ان اكون لقيطاً أيضاً لأني كنت احس بالدفء في أحضانها.
بقيت اشعر بالنقص وهو الامر الذي اضطرني الى استدراك امي واحراجها ببضع تساؤلات، إلى ان صارحتني قائلة:
- افتقدت احساس الرجل طوال حياتي، بعد ليلة واحدة قضيتها مع والدك الذي قتله الجوع وخلفك.
أنا مازلت عانساً حتى اللحظة، وانت لست أول من يلده الجوع والحرمان.
جنون الضحك
امتهنتْ كتابة الفكاهات والقفشات التي تروق لكل سامع، أصبحت صانع البسمة الأوحد بين كل سكان عمارتنا، إلا بوابها الذي كان يمتاز بطابع من الكآبة الثقيلة..
كان يشكل لي عقدة نفسية لدرجة انه صار هدفي الوحيد في الحياة ورؤية اسنانه على سبيل الضحكة.
وذات مساء ساكن.. طرقت مسامعي قهقهات عالية وضحكات جديدة لم أستطع تشخيص صاحبها، وهو الامر الذي زادني فضولاً مما شجعني على التطفل لمعرفة من اطلق تلك الضحكة.
هرعت مسرعاً كوني المسؤول عن البهجة في العمارة.. وإذا بي ارى البواب في موقف لا يحسد عليه.
كان يحمل طفله الصغير بين ذراعيه وهو يقطّر دماً.. ويطلق ضحكات بأعلى صوته ومن دون توقف..!
احتشدت الكلمات في رأسي من هول وغرابة المشهد.. وعلى نحو مرتبك حاولت ان أسأله عن حالة الطفل واسباب الضحك في مثل هذه الحالة المأساوية؟
إلا انه ركض إلى خارج البناية تتبعه نظراتي البلهاء ونقاط الدم على البلاط!
مضت الايام وبدأت افتقد كآبته، لانه صار يضحك على غير عادته دونما اهتمام باي مخلوق.
وبعد اقل من اسبوع.. لم أعد أراه، مما ارغمني على السؤال عنه لاستقبل إجابة جاري التي جعلتني اتذوق طعم البكاء لاول مرة في حياتي:
- لقد نقل إلى مستشفى الامراض العقلية بعد ان قُتل طفله الوحيد بين احضانه في شظية الانفجار الأخير.
الحقيبة
سُجن كلٌ من الورقة والقلم والمسدس مع بعض الملابس في حقيبة سفر، تجمعوا من دون ان يعرف أحدهم الاسباب، إلا صاحب الحقيبة.
كان كل من في داخل الحقيبة يتوجس خيفةً من هذا التجمع، وهو الامر الذي جعل القلم يغازل الورقة أمام أنظار المسدس:
- اقتربي يا حبيبتي لنرسم طيوراً في السماء، لنكتب قصائد تعشق الحياة.. كوني فوق رأسي دائماً لنسطر اروع ما في الوجود...
مشاعر القلم أشعلت غضب المسدس مما دعاه لمقاطعة اجواء الغزل قائلاً:
- أرسموا طيوراً، وأكتبوا قصائد، فالكل عندي ميت..
ارتعشوا خوفاً من صمتي.. وتعبدوا لرصاصاتي.
انطوت الورقة على نفسها من شدة الخوف، فيما تجاهل القلم ما سمعه من المسدس، وظل يدغدغ مشاعر الورقة ويحثها على الحياة.. إلى ان فُتحت الحقيبة، ليسحب صاحبها القلم والورقة على عجل..
وبعد لحظات عاد الاثنان منكسران، يخيم عليهما طابع الكآبة الثقيلة.. مما أثار تساؤل المسدس والملابس عن الاسباب.
بقي الصمت يخيم عليهما.. حتى أطلق المسدس ضحكاته مقهقها بعدما قرأ على الورقة عبارة (التنفيذ برصاصة واحدة كاتمة للصوت).
حليب الديمقراطية
بعد التغيير، أرتوينا جميعاً من الديمقراطية، حتى جدي الذي سرق عمر من حوله وغدا كمومياء هربت من الاهرامات، عاد صبياً تملأُه الحيوية والنشاط مع أول رشفة من حليب الديمقراطية.
بدأنا نتذوق طعماً جديداً للحياة، وصارت عيوننا تبصر الحداثة والتكنولوجيا مثلما تبصر الموت في شوارع بغداد الحزينة.. وهو الامر الذي جعلنا نحس بالغربة ونحن في بيوتنا، بين احضان اولادنا، حتى الامهات غدون غريبات عن اطفالهن..
إلا ان حجم سعادتنا بالحليب الذي طالما حلمنا بطعمه، همشت احساسنا بالصورة الحمراء التي نعيش إطاراً لها.
ربيع شاحب
علمتني طفولتي ان الربيع فصل للورد، وللحب ايضاً..
ولكنه جاء في وطننا العربي من دون خضرة ولا أريج، من دون موعد غرامي ولا قبلة بين اي حبيبين، فصحح لي الربيع معلومتي التي كانت تحمل مغالطة كبيرة..
حَل الربيع علينا متقدماً.. متجاوزاً على كل ما قد تعلمناه... فتح بابه على مصراعيه ليزرع في مشاتل أزهارنا شواهداً من قطع المرمر نخلد فيها اسماء من ارتضينا خساراتهم من اجل ربيع صحراوي شاحب!
ربيع مُظلم
فُتحتْ الستارة معلنةً بدء العرض المسرحي.. انفتحت على نحو كامل، إلا ان المسرح ظل حالك السواد صامتاً يفتقر للاضاءة والموسيقا والممثلين..
لم يكن الانتظار آنياً، وإنما طال أكثر من اللازم مما أشعل التشويق والترقب لدى الجمهور..
ظن البعض بأن المُخرج يعتمد رؤية إخراجية حداثوية تستحق الاصغاء والانتباه، واعتقد البعض الآخر ان هناك مشكلة تقنية او فنية تسببت في تأخر العرض..
بعد مرور نصف ساعة من الانتظار، بدأ صبر الجمهور يتلاشى وغص المسرح بالثرثرة وغاب الصمت بعد ان كان سيد المكان مما وَلد فوضى التساؤلات..
وهو الامر الذي دعا أحد النقاد المسرحيين للصراخ مطالباً بحل المشكلة.. وفي اللحظة ذاتها اشتعلت إضاءة المسرح بالكامل، وركزت على ظهور المُخرج على الخشبة وهو يصفق ويبتسم للجمهور قائلاً...
العرض الذي شهدناه قبل قليل، هو أفضل عرض مسرحي قدمته في حياتي.. عرض كتبت أفكاره من الواقع وانتم من جَسدتم شخصياته..
آسف لأنني وظفتكم شخصيات لمسرحيتي.. على أمل ان لا تنسوا عنوان العرض (ربيع مظلم).
لكنهم!
في أوطاننا فقط..
تُعالج الشعوب من أمراضها بالدعاء، لكن لسعة دبوس إذا لمستهم فتلك مصيبة تتطلب عناية مركزة وسفرة طبية عاجلة لاوربا للاستجمام والاسترخاء..
في اوطاننا فقط..
تُعالج ازمات البطالة والجوع بالسكوت والصبر، لكن سوق البورصة اذا مس أسهمهم فذلك هو البلاء..
في اوطاننا..
كل امهاتنا عوانس وعواقر.. إلا نساءهم حسناوات وولادات.
في أوطاننا..
يشتكي الهم على الهم.. وتبكي الدموع على عيون بكتها بعد ان مات قانون الضعفاء..
في غيبوبات نومنا.. تاهت الفروقات بين الاحلام والكوابيس.
حلم او كابوس بالرخاء.. والحكم بالسواء.. وبلد بلا فقراء!.
رموز البكاء
نبكي بالصلاة والدعاء، نبكي تضرعاً وخشوعاً، نبكي على تغريد البلابل المذبوحة في صباحاتنا، نبكي من دون الحاجة الى عزف العود وإثارة الشجن، نَبكي حينما نشتاق.. والشوق لا يختلف عن الشوك كثيراً، كلاهما يحمل ألماً لا يطاق..
نعم.. نبكي بحرقة مجهولة الاسباب، وواجب علينا إدمان البكاء..
نُقبل أقدام الضحك باذلال وتوسل عله يمر بنا لحظة وإن كانت عجولة، نمني أنفسنا بالضحك، فنضحك على انفسنا، من ثم نخاف من اسناننا وقهقهاتنا، نرتعد من ابتساماتنا، فندمع آسفين يتلبسنا الخجل على ما اقترفنا..
لنعود الى تنهيداتنا ودموعنا التي رضعناها من أثداء امهاتنا ولم نفطم منها الى يومنا هذا.
الربع الأخير
تقاسم الجوع والفقر والجهل ثلاثة أرباع عمري، ولم يتبق من حياتي سوى الأيام الشاحبة.. لحظات اتوسل الزمن ان يطيلها، لا لتشبثي بالحياة ولا لأجل تعويض الخسارات والقضاء على السلبيات وإنما لأوفر للذل فرصة السيطرة على الربع الأخير من عمري.
شيخوشة الموت
بعد ان أعلن الموت سيطرته المطلقة على بلادي، تنبه السكان إلى انه لا يتوق إلا لسماع صوت الصمت والسكوت..
وسرعان ما تغير كل شيء في البلاد والعباد، وصار الكل صُم وبُكم، وتحول الجميع إلى موتى، وإلى اجساد بلا أرواح، كما تغيرت تصاميم الازقة والشوارع، وانطمرت في الارض كل البيوت، وغدت القبور قصوراً تشكل خصوصية في طرازها المعماري..
كان الكل يعي بأن الموت لا يموت، وبأن أي حاكم لا يموت، وهو الامر الذي أرغمهم على الرضوخ لدكتاتورية الموت دونما تفكير في اي بديل.
دارت الايام وانقلب الزمن، ودخل الموت في سن الشيخوخة، وبدأ الخرف يأكل ثلاثة أرباع عقله، وأكثر ما كان يزعجه افتقاره لتلك السعادة والمتعة والقدرة على الاحتفاء باستقبال جثمان جديد.
السيرك
حياتنا.. سيرك مفتوح، نلعب فيه بخطورة فيقتل بعضنا البعض الآخر من دون مبالاة لحجم الخسارات الثقيلة المترتبة على اللعبة.
نصفق بحرارة لأسود تنهش فينا بلا رحمة، نبكي تارة ونضحك تارة اخرى من أجل إثارة الجمهور.. إلا اننا اكتشفنا انه ما من مُشاهد يهتم بموتنا!
البصيرة والطاعة العمياء
ولدتُ بغير علمي، ومن دون موافقتي على التواجد في الحياة.. دخلت هذا العالم لأكون عاجزاً عن النقاش في الدين والدولة والسياسة وحتى الجنس الذي هو سر تعاستي ووجودي في هذا الكون.
توارثتُ العيبَ والحَرام والممنوع، ومفردات اخرى تلاحقني كما اللعنة..
صرتُ عبداً لهذه الكلمات.. عبداً للطاعة العمياء على الرغم من قدرتي على الإبصار.. لأُرغم بالرضا عن أبي وإن كان قواداً وعن أمي وإن كانت عاهرة وعن وطن يأكل بي بدلاً من إشباعي.. وعن تفاصيل أخرى يقشعر منها البدن.
إلا انني كنت متمرداً على كل المتوارثات التي وجدتها تغتصب حرية الحياة التي أتوق إليها، لاقرر إخصاء نفسي أولاً حتى لا يرث الاخرون خنوعي ومخاوفي، وأقطع لساني حتى لا ينطق الممنوع، وأقتلع عيناي بكل بشاعة حتى لا أبصر عيوب وضعف من حولي، مكتفياً بالعتمة لا بل راسماً فيها ألواناً للحرية.. وكما أريد..
استقالة ابليس
كل المصائب والنوائب في عالمنا من تحت رأس إبليس اللعين...
الهم والجوع والفقر والكفر والعدوانية .... ابليس..
ولا بديل لعباراتنا المستهلكة: (لعن الله ابليس، ابتلانا الرب بأبليس، ليغفر لنا المقدس زلات أبليس..)
لدرجة انه انتفض وقرر تقديم استقالته واعتذاره للرب والعباد في آن واحد والرجوع عن الظلالة والسجود لآدم.
إلا انه طلب بعد إعلان التوبة حق المشاركة في الحياة والدخول في إطار حكومة الشراكة الوطنية!.
رشوة القدر
تلاحقني رغبات القدر، وكابوس الشؤم لا ينتهي، ولا ينقطع حتى إذا أردت الصراخ فزعاً من شبح أحلام الهلاك..
أرغمت نفسي على الانتظار، وقاطعت أفكار الظلم واليأس والانتحار، وأرتضيت الصبر سيداً لأيامي، وتوسلت الأمل ان ينسى الخصام ويصاحب خطواتي..
قَبلتُ حبها كعربون مودة بيني وبين الأمل.. اغتنمتْ الفرصة واستوطنت في داخلي، وهو الامر الذي دعاني لرشوة القدر.. إلا انه رفض واعتذر، حتى أدركتُ بان حبيبتي.. قدري.
تحولات
استولى التخلف على الحكمِ في بلادي، بعد انقلاب دموي على نظام التعايش السلمي.. وعمد على تعيين (الجهل والفقر والتطرف والتكفير) كحاشية له، وأعطى كلاً منهم حرية التصرف بما يراه يَصبُ في خدمة النظام.
ابتدأ التكفير عَمله بقوة وحزم بوصفه يشغل منصباً رفيعاً في الدولة الجديدة، وأصدر جملة قوانين تُحرم استخدام العقل البشري وتُجرم الإبداع وتُكفر التفكير في أي شيء.
وأعلن التطرف عن سياسة الاقصاء والتهميش لكل من لا يؤيد التخلف وحاشيته ويبدي لهم الطاعة والولاء، فيما قام الجهل بأعمال ميدانية كان من بينها جمع الآلات الموسيقية الوترية وتقطيع أوتارها وتحويلها إلى مشانق لكل من يعشق النغم.. فضلاً عن دمج الالوان للحصول على لون قاتم وتوعد بتحويل اي فرشاة للرسم إلى رمح سام يغرز في صدر من يطالب بغير اللون الاحمر.
أما الفقر فقد كان يضيع وقته مفتشاً عن عمل لأن الشعب كله كان يتأوه بأساً وجوعاً.
أستمرت الحياة بعتمتها طويلاً.. حتى أعلنت الرجعية عن تحشيدها كلاً من (الارهاب والدكتاتورية والعنصرية) من اجل شن ثورة ضد نظام التخلف.
ذائقة الموت
عانت في حياتها أزمات نفسية حادة، وعاشت سنواتها العشرين خجولة من شكلها الذي يبدو عليه التشوه الخلقي.
كانت كثيراً ما تُحرج من أنفها وحجمه غير الطبيعي وبشرتها الشديدة السمرة وأسنانها المعوجة.
بدأ شيطان الشباب يداعب قلبها ويعلن عن شوقه لفارس الأحلام.. أي فارس ذكوري، حتى وإن كان فارساً بلا جواد.
ظلت تبحث عنه في وجوه الخلق.. في اي شاب يصادف نظراتها المتحسرة.
حتى الموت الذي تمنته بعد ان تجاوزت الاربعين عاماً من الصبر المرير، كان له ذائقة لا تشتهيها.. ذائقة فخمة توفرها وتنتقي الأوسم والأجمل والأكثر أناقة وأنوثة، مما أوصلها إلى حافة الجزع من دائرة القلق التي ولدت داخل اسوارها.. وهو الامر الذي جعلها تغتصب الموت وترغمه على الشهادة بارتباطها بالانتحار معانقةً اياه غير آسفة على ما تبقى من العمر، لتضع الموت حائراً أمام الأمر الواقع.
إعترافات زائفة
جَمعتُ أهالي الحي، محاولاً تبرير أكاذيبي ووشاياتي.. والاعتراف بكل حماقاتي..
ابتدأتُ كلامي وكأني أتحدث من منبر عالٍ:
- ما من مجرم يفكر بالاعتراف بجرائمه، غير انني سأعترف لكم بأكاذيبي وافتراءاتي على حكومتنا المجيدة.
تنبهت لنظرات الجمهور وهي تقاطع بعضها الآخر، وبدأت الدهشة ترتسم على وجوه من حولي.. عَجلت الدخول في الموضوع مستغلاً دهشتهم، قائلاً:
- لقد قلت لكم مؤخراً بان السلطة الحاكمة اقتلعت كل أظافري لإرغامي على الاعتراف بجرم لم ارتكبه.. إلا ان الحقيقة ابسط من ذلك، فأنا دائم التثاقل والتكاسل من تقليمها بين الحين والاخر، لذا عملت الحكومة بتكليف لجنة مختصة لانتزاعها من جذورها من دون ألم ولا نزف.
كما اود ان اكشف لكم كذبة اخرى وهي إنني نشرت شائعة ضد الحكومة اقول فيها إنها تسرق النفط وتسلب الشعب حقوقه الاقتصادية.. وانتم على دراية تامة ان النفط قد جف على جلودنا واحترق بحرارة الشمس وان عظام امواتنا خالية من التفاعلات، اي انها خارج منظمة (الأوابك).
صَدق الجميع بزيف حروفي، وصفقوا بحرارة.. إلا ان أحدهم أشار إلي بسبابته وهتف بأعلى صوته: كاذب.. كاذب.
الصحف ليست للقراءة
في بلد المليون قارئ تنوعت أسماء الصحف كما تعددت فوائدها، صارت تصدر لغير المدمنين على قراءة حروفها بشغف، لغير المهتمين بالتواصل مع العالم على جميع الأصعدة.
باتت تُفرش على الموائد ساعة الأكل وتحمي الرؤوس من قساوة الشمس التي غاب دفؤها لتبدو وكأنها باب من أبواب جهنم الحمراء فتحه الرب على العباد على سبيل التجربة.
والأهم من ذلك كله أنها استخدمت كأكفان مؤقتة تخفي بشاعة الجثث على الأرصفة.. وهو الأمر الذي دعا القائمين على الصحف إلى توزيعها أوراقاً سمراء فارغة من أي مطبوع حتى لا يختلط الحبر مع استخداماتنا المتعددة.
زاد الحرب
هجرتُ ثَدي أمي عمداً، وقاطعت حليبها الدافئ..
تَربيتُ على دماء الحرب، واحتسيت منها حد الثمالة، وقضيت حياتي شارد الفكر والاحساس.
وصلت حد الجزع من طعم الدم الساخن والجامد، ولا مجال للعودة إلى ذلك الحنان بعد ان جف صدر أمي وصار قاحلاً.
كَبرتُ وصار العمر في آخره ولازلت افتش عمن يفطمني من ذلك الزاد الدموي.
احتضان قلب
في وقت مضى من أيام الطفولة، كنت أحتضن قلبي خوفاً من الفشل... وبعد ما استقرت طموحاتي وصارت واضحة صرت احتضنه قلقاً على المستقبل.
داهمنا الخوف وصار صديق لحظاتنا، وهو الامر الذي أرغمني على احتضانه لئلا يهرب منه النبض ويتحول إلى قطعة دموية راكدة.
ولما أحببت، حرصت على ان يكون حبيبي في الصميم ، مما دعاني لاحتضان قلبي مرة أخرى حتى لا يتلاشي منه.
غير إني أدركت بان من احتفظ به بداخلي، سرق قلبي منذ اللقاء الاول.
خارطة المستقبل
كان سؤالها المتكرر يتعبني، ويؤرقني، ويرغمني على حبس انفاسي لئلا أكشف أسراري..
أسافر عنها وإليها، أتأملها وأدعي بأنني مازلت افتش عن إجابة شافية لسؤالها..
وفي لحظة اعتراف، أدركت قيمة البوح لها بما يدور في مخيلتي، قُلت:
- أحببتكِ أنتِ لا أحد سواكِ، لا لأنني أتنفسكِ مابين الشهيق والزفير، ولا لأن النقاء ينبع منكِ، ولا لكونكِ نسخة شابة من أمي، ولا لأنكِ حورية خلقها الله في الأرض عمداً لفتنة العباد في حب السعي إلى الجِنانِ، ولا لأني أردد أسمك أكثر من أدعيتي وصلواتي؛ بل لأني وجدت خارطة مستقبلي مرسومة على وجهكِ.
-
حلم انتِ..
رَسمتكِ قَمراً في السماء فأصبح الكون بلا عتمة.. صار ضياء، رَتلتْ أسمكِ في مجلس عزاء فنهض الميت من سكون الموت وعاد فرحاً يتساءل عن أسباب كل هذا النواح والبكاء؟.
جالستُ صمتكِ فأستوحيت منكِ قصصاً وأشعاراً، لا بل تعلمتُ منه ابجدية الحروف.
أهملتُ الكتابة وأمي وقررت العزلة عن العالم بأسره إلا أنتِ.. ولا أريد ان أصدق بانكِ مجرد حلم يعشقه نومي.
انزعاج
صنعت من فكري شمعة لأنير عتمة الليل، أحرقت نفسي دونما تردد ولا مصلحة ذاتية.
بدأت بالذوبان من رأسي حتى أخمص قدمي.. إلا ان احدهم استعجل اطفاء وجودي معلناً انزعاجه من دخان حرائقي.
إرهاب العشاق
في حديقتي زهور ملونة بهية.. لكنها تأبى أن تفوح بعطورها وكأنها صناعية.
بحثتُ عن الخلل وأعتقدت انه يكمن في التربة او عملية السقي.
تجولت في العاصمة وبدأت استنشق من كل زهرة تمر على نظري.
كنت متعطشاً لتلك العطور، غير إني لم أجد ما أتوق إليه.
مر الوقت وعدت إلى حديقتي خائباً.
جالست وردة الياسمين وأنا عالق في سماء من الحيرة، بقيت صامتاً أمامها حتى قاطعت صمتي ومزقت حيرتي قائلة:
هل تبحثون عن أريجنا، وكيف ترضون ان يشمه عشاق يقطفون رؤوسنا وينهون حياتنا من إجل إهدائها برومانسية باردة لمن يحبون؟
أي إرهاب تعشقون، وبموتنا كيف تعيشون، وبعد حياتنا ماذا تطلبون... ؟
لا تنتظروا عطورنا إلا وانتم مسالمون.
قبلات الندى
توهجت الدنيا يوم أزداد شوقي إليكِ.. يوم عرفت ان عيد ميلادي هو عيد معرفتك.
تعلمت الشعر في حضرتكِ، والغزل في صدق محبتكِ، والعاطفة والجنون في صدركِ..
أدركت إننا نكبر كأحلامنا.. أيقنت بأن قبلاتي الندية صارت زادك وشرابك وإن وردة مثلك لا ترتوي إلا بالندى.
متحف الدخان
اسوة بأشهر متاحف العالم ، حولت مدينتي إلى متحف كبير علها تنافس اللوفر أو فكتوريا والبيرت أو آيا صوفيا..
جهزت كل شيء، وأعلنت عن يوم الافتتاح، ونشرت لافتات تعريفية وإعلانية في المدن المجاورة كلها.. وعمدت على ان يكون (الدخان) اسم لمتحفي الجديد، مستفيداً من ركام ودخان الحروب التي قطعت اوصال المدينة بكل ما فيها، وهو الامر الذي ساعدني على كسب عدد هائل من الحضور، غير انني فوجئت بان معظمهم كان من الاطباء والباحثين الاختصاصيين الذين يبحثون عن علاج للامراض التنفسية التي يعاني منها سكان بلدانهم، مما شجعني على فتح ابواب مدينتي المدمرة علها تتنبه لزوارها وتشفق على ابنائها الذين يعانون الاختناق.
سوء حظ عاطفي
عيونها العسلية تثير الدهشة...
ساحرة، آسرة، أخاذة... تضحك تارة، وتدمع وتتلألأ تارة اخرى.. غريبة عن كل ما تحمل من تعابير.
موعدنا.. لقاؤنا الوحيد كان في الحافلة الصباحية فقط.. أمام انظار الناس جميعاً.
كانت تجلس دائماً في المقاعد الاولى وانا اقابل نظراتها من المقاعد الاخيرة .. تُكلمني بحركات منتظمة برمشيها وجفنيها من دون قلق البوح بالكلمات وتلعثم الحروف أمام الجالسين، نتحدث كل يوم ولا حاجة لنا بحرج اللسان وزلاته.
اجيبها بعيون خجولة تتمنى الرضا، أرد إليها صباحها الملون وابادلها نظرات تبصر شعراً والواناً وردية..
كم كنت خائفاً من الموت لئلا يبعدني عنها..
كنت اعيش حياة حذرة، واعتني بصحتي ومظهري على الدوام حتى لا اغيب يوماً عن رؤياها..
إلا انه لسوء حظي العاطفي... ولحسن التزامي العملي، حصلت على ترقية في العمل نقلتني إلى مكان آخر وحولت تلك النظرات إلى ذكريات تتوسل العودة.
زهرة قلب
اجتمعت بحبيبها بعد فراق طويل، فراق يحمل في طياته تعابير الحزن والحنين إلى الماضي، خصوصاً بعد عمليات الهجرة القسرية التي اجتاحت ذويها.
قابلها للوهلة الاولى بشغف وشوق مؤطر بوردة بيضاء، إلا انه فوجئ بردود افعالها.
- البياض صار يعبر عن الخنوع والضعف والاستسلام، وباتت الوردة البيضاء تشكل رمزاً للرداء الاخير (الكفن).
سحب الوردة وتعرقات الخجل تصب من جسده كالامطار الاستوائية، وفي لقاء آخر.. داعبها بقبلة هادئة مع وردة حمراء.. كان يفتش عن تعبير ايجابي يبادله الاحساس ويرد له خجل المرة السابقة.. غير انها أجابت:
- ألا تعتقد إننا وصلنا حد الاشباع والتخمة من لون الدم.. تنبه لاعوام ما بعد الالفية الثانية، صار نزيف الدم يرسم خارطة العالم الجديد، بات يتوسل بنا لمنحه إجازة أو استراحة بسيطة غير ان عالمنا فقد النظام والسيطرة على زمام الامور..
تركت الوردة في يده وتلاشت عن انظاره.
وفي لقاء ثالث..
جاءها يحمل وردة سمائية اللون ذات أريج يشرح القلب، قدمها بانحناءة رومانسية، باحثاً عن رضاها معتقداً انه سينجو من اعتراضها الهجومي هذه المرة.. إلا انها كانت اكثر قسوة حيث قالت:
- لم اتخيل يوماً ان يُسرق غطاء السماء وان تتعرى من جمالها وتهمش صفاءها على الرغم منها وتتخلى عن الليل والنهار وتخاصم الشمس والقمر.. اترك الوردة، واطلق سراح لونها لتعود سماءنا صافية.
انتفض الحبيب بغضب عارم:
- ماذا افعل حتى أعبر لك عن حبي وشوقي.. قطفت لك زهور الكون ولم اجد اي تعبير يقدر حبي.
قاطعت كلامه قائلة:
- لم تعد بي حاجة إلى كل الزهور بعد قطفها وتلاشي جمالها.. كنت ولازلت انتظر ان تمنحني زهرة قلبك التي أعدها اجمل زهور الوجود.
-
أحضان
أشعلت شمعة الحب متأخراً، وقبلت ود العشق بعد طول خصام، وهو الأمر الذي جَعلني أخفي ذكرياتي ومرارة أيامي.. أخبئها في صندوق عتيق مثلها تماماً.
هجرتُ عالم الحزن ولجأت لدنيا الوله بعدما دَفنت ذلك الصندوق مع حفنة ثقيلة من الأسى.
قَبلت السماء ألف قبلة وسجدت أكثر مما ينبغي تعبيراً عن شكري وأمتناني، بعدما حصلت على تأشيرة الدخول إلى وطن دائم الدفء اسمه أحضان حبيبتي.
رَدْ الجميل
كانت أمامي منذ ان فتحت عيناي على ألوان الحياة.. ترعاني كما الفلاح للنبتة، تهتم بشأني كما الشمس بالعباد... لقد ابتلاها القدر بي بعد ان غادرت امي الحياة.
ولانها مخلوق كما الورد، ذَبلتْ وطواها الزمن كالذكريات وصارت كتلة من الامراض المزمنة التي تحتاج إلى رعاية متواصلة.
إلا ان طيش الشباب فارقني عنها، وغدوت ناكراً للجميل والتضحيات التي قدمت..
تَزوجتْ وابتعدت عن قرف شكواها وآلامها.. اختفيت عن حياتها ولم اعد أراها.
وبعد أكثر من خمس سنوات من الزواج، اشتعل بداخلي بريق جديد من العاطفة الجياشة، صرت عاشقاً كما ابطال الافلام الرومانسية.
لم استغرب لنفسي المتعطشة للحب بقدر ما استغربت سلوك زوجتي التي جذبتني إليها بذكائها الحاد.
لم تشتعل فيها نار الغيرة، وإنما كانت تطلب مني متمنية ان التقي بمن أحب.. الامر الذي ضاعف شوقي وحرك إحساسي، ودعاني للزحف متوسلاً الرضا ممن هجرت.. واحببت.
قبلت يديها.. ورضيت ان تقبلني ذلك الطفل الوديع الذي ربت أو خادماً مطيعاً يبحث عن رد الجميل.
أعياد العبيد
نستعد لاعيادنا ونمسح الغبار والسواد عنا. نستذكر كيف احترقنا كأعواد الكبريت.
نسهر ونبتعد عن النوم لنكون في احضان الموت، حتى ننسى كم غُطينا بأكفاننا... نسهر حتى الفجر مع من دَفنا بلا وِداع ولا عناق، لنبق ننوح على دمائنا التي لازالت تُراق كل يوم.
نجالس قبورنا بصمت جليدي بارد لا يتكسر إلا بدفء دموعنا.. وبحرقتها التي تذيب كل شيء وتعيد حفر لحودنا القاتمة.
في ليلة العيد، ننفذ الاوامر ونرسم ابتسامات خرساء بماكياج نستعيره من اسيادنا.. لنفرح مع افراحهم.. ونطير بهجة بهداياهم، وبقطع القماش البيضاء التي ننالها بدلا من كعكة العيد.. نستعجل خياطتها على اجسادنا كما يحبون ونستعد لاستقبال موت جديد!
العوز وعلامات النجاح
يكافح كعامل بناء أتعبته معاناة العيش، يعمل منذ ساعات الفجر الاولى حتى انطفاء النهار..
يعيش حياة بسيطة مع زوجته وابنه الوحيد (ياسر) الذي دخل في المعترك الدراسي بالمرحلة الابتدائية الاولى.
كان كثيراً ما يهتم بتنمية قدرات وحيده، ويحاول مراجعة كل دروسه وواجباته على نحو يومي.. على الرغم من ارهاقه المزمن.
وفي احد الايام..
كان الطفل سعيداً بتسلمه نتيجة الفصل الاول من العام الدراسي الذي سجل فيه درجات عالية جداً (عشرة على عشرة).
ابتهج الاب بجهود ابنه وقرر تكريمه بمبلغ مالي وصل إلى الف دينار.. ووعده بمثله في حال تكرار النجاح بالدرجة ذاتها ، وهو الامر الذي جعل الطفل يثابر ويجد ويجتهد من اجل نيل المكآفأة.
تكرر النجاح المطرد أكثر من مرة... إلا انه في إحدى المرات لم يحصل على الجائزة التي رصدها له والده الذي ترك العمل بسبب التمزق الحاد الذي اصاب عضلات جسده جراء عمله الشاق.. مما ارغمه على التهرب من الطفل وتساؤلاته..
توجه الاب إلى زيارة المدرسة والطلب من المعلم المشرف على صف (ياسر) ان يمتنع عن اعطائه درجات الامتياز حتى وان كان يستحقها لحين توفر فرصة عمل جديدة!.
فقدان..
عَرفَتها أحلامي قَبل ان تنال صحوتي شرف ملاحقة ظلها الذي يبدو وكأنه رافد من نهر الجنة يروي ظمأ تعطشي للجمال.
أشعر ان رابطاً حميمياً يجمعني وإياها.
أسست معها لغة تعتمد غمزات العيون وإبتسامات الشفاه، وسرعان ما تحول العالم إلى أحلام ملونة وحياة كالاريج على الرغم من كل منغصاته.
إلا انني فقدتها مثلما فقدت أشياء عديدة.. فقدتها تماماً عندما بادرت بنظرات متفحصة لأرجاء جسدها الذي شكل كوناً من الانوثة.
غير اني تحولت إلى كتلة نارية لحظة تنبهت لخاتم الخطوبة يتلألأ بين أصابعها.
ودونما وعي ولا إدراك سارعت إلى سؤالها عن أسباب الخيانة؟
أجابتني بعد أن أدارت ظهرها مغادرة المكان:
نظراتي إليك كانت بداعي العطف والشفقة على شبابك المتعثر خصوصاً بعد ارتباطك بعكاز ينوب عن ساقك التي باتت جزءاً من ركام الحرب الاخيرة.
عبث روحي
قيل ان (الشمر بن ذي الجوشن) قاتل الإمام الحسين (ع) قد مات قبل أكثر من الف سنة.
إلا انني اشعر انه لازال يعبث في روحي..
أراه كل يوم يغتالني ويصارع الكون حتى يسفك دمي..
أرصد ظله في كل صوب، وأسمع صوته تارة واكتشف وجوده يتربص بأنفاسي تارة أخرى.
أراه برداء عصري مختلف عما جسده تاريخه القاتم.
اتنبه لبذلته ذي الماركة العالمية الفاخرة وربطة عنقه الحرير.. اشم عطوره الفرنسية التي لا املك المال الكافي للنظر إلى علبتها فقط.
استبدل سيفه بمسدس كاتم للصوت، وصار ينال من كل ناطق باسم الحرية التي اسس لوجودها الحسين (ع).
استعجلوا الرحيل
غادروا.. بعد ان ذبحوا أسد بابل، ونهبوا مسلة حمورابي وكل ثمرة في بلادي..
رحلوا بعد ان اصيبوا بالتخمة من اغتصابي واستباحة عرضي وكل مقدساتي.. قرروا الانسحاب بعد ان سكبوا دمي بنهر دجلة، الامر الذي جعلنا نعيش الظمأ فيما الماء يجري أمام عيوننا.. حتى النخيل استغنى عن شموخه لحيائه من الارتواء من دمي.
استعجلوا الرحيل.. لا لأجل ابقائي مجرد جثة هامدة، متعفنة، ولا لانهم تعبوا من ملاحقة كرامتي، بل لأنهم أرادوا تبديل أزيائهم العسكرية التي صارت مثقلة برائحة الدم العراقي، بملابس أخرى وبألوان صاخبة يباهون بواسطتها أنفسهم ويدارون بها خجلهم.
سؤال مجهول الاجابة
يرددون اثناء نحرهم لرؤوسنا (الله أكبر) والمؤذن يرتل (الله أكبر) والقوي يصرخ (الله أكبر) والضعيف يتوسل (الله أكبر).. يا ترى هل يمتلك الرب آذاناً تمكنه من سماع كل هذه النداءات؟ والسؤال الاكبر الذي لا إجابة عنه.. لماذا يكبر وعلى من يكبر وهو مالك الوجود؟!
قلم متحرر
تحرر القلم من جيب مالكه، بعد ان عانى الإهمال وسئم من بذلة صاحبه الرثة التي تفوح منها رائحة الجسد المتعرق.
جاء الخلاص بعد ان وهبه صاحب البذلة لمن يجيد استهلاكه، لينتقل إلى أنامل شاعر يعشق الكتابة عن الحب والمشاعر على نحو عفوي بسيط ينال استحسان الجميع.
تعاون الشاعر والقلم على كتابة اروع قصائد الغزل، إلا ان الزمن كان عجولاً في سلب روح الشاعر مما أرغم القلم على إعلان موته تضامناً مع فقيده، غير ان ما تعاونا على كتابته ظل خالداً على مدى اجيال، وشاع في المدينة وحقق شهرة عالية، وتناقله كل من دخل حضرة الحب، الامر الذي ارغم صاحب القلم الاساسي على البكاء لفقدانه صديقه الشاعر والقلم معاً... وقبل كل ذلك بكى ندماً على حياته التي لا تعرف الحب.
سكة القطار
رُميتْ على سكة القطار عارية.. عارية ممزقة تماماً، وكُشفتْ اسرار جسدها الفاتن إلى السماء، إلى سكة الحديد التي تشكو الصدأ وتعانق الاشواك.
كانت قد سلمت نفسها لمن أجاد إشعال كبريت عذريتها في المكان ذاته تحت وَهم اسمه العاطفة، وتركها مع أكوام من الوعود، ورحل مع اول قطار إلى حيث تجهل.
ظلت تنتظر بصبر ولهفة ضجيج القطارات جيئة وذهاباً، وما من خبر عمن غاب عنها، الامر الذي دعى الاشواك للطمع بملامسة جسدها الذي بدأ ينسجم مع صدأ الحديد، اسوة بمن مزقه من دون رحمة.
صدأ الورد
ذات مساء مترب خانق.. استولت عصابة مسلحة على داري..
نهبوا وعبثوا واغتصبوا كل شيء حتى عرضي ومقدساتي، سرقوا كتبي وأقلامي ودفاتر ذكرياتي.. اقتلعوا ورود حديقتي التي ارتوت من ماء وجهي.
انجلت الايام وطواها الزمن.. وبيعت كتبي وايامي بابخس ثمن.. وزُرعت الورود في حديقة اخرى، إلا انها كانت أكثر وفاءً من تاريخي، لانها ظلت ترفض العيش في تربة مغتصبة وكانت ترغم نفسها وتسترجع دموعي التي روتها لتحولها إلى صدأ ابيض مالح يطغى على جمالها ويقتل وجودها.
أوجاع
1.
استيقظت مبكراً في ذلك الصباح، وأعلنت عن بيع كل ممتلكاتي في مزاد علني.
لمن يشتري.. ارضي التي زُرعت سلاحاً كيمياوياً، واثمرت زهوراً معوقة كأطفالي.
للبيع عرضت عائلتي قبل ان تفوح منها عفونة الموت. للبيع.. بيتي القديم بحرمته وذكرياته قبل ان أعيش كوابيس اغتصابه.
لمن يشتري كل شيء.. للبيع مقابل قلم يرسم لي خارطة وطن.
2.
عندما تموت الكلمات، وتسلب لغات العالم كلها، حتى لغة الاشارة وتقطع الالسن قبل الاصابع وتفقأ العيون وتتحول الدموع الى رماد.. حينها فقط نصغي الى ما ينطق به نبض القلب.
3.
جردوني من كل شيء.. دفنوا إنسانيتي رغماً عني، كان القبر بعتمته القاتمة اشد باساً مما كنت قد رسمت له في داخلي..
بقيت جسداً ليس إلا.. وهو الأمر الذي اضطرني لزيارة مزارع الموت بعدما اشتقت لذلك الإنسان الذي بداخلي.
بحثت عنه في سراديب المقبرة.. تشتت النظرات وتاه الاحساس مع قبور تمتد على مد البصر، إلا انني وجدته حقل ورود تترأسه قطعة مرمر كتب عليها (هنا دفنت الانسانية).
4.
قيل ان للشهداء حقوق..
سألت عنها بعد ان راح اولادي الاربعة فداءً للوطن.
كنت طموحاً على توفير مستقبل افضل لأطفالهم.. غير اني فوجئت بان امتيازهم يكمن في الخلاص منهم ودفنهم في قبور جماعية مجهولة الهوية.
5.
بحثت في داخلي عن مشاعر تنافي ذلك الواقع المشوه الذي نخوض به جميعاً.. فتشت عنها بتعطش ملحوظ، غير اني لم اجد سوى صرخات طفلة أضاعت دميتها التي كانت تشاركها الحياة وتزرع في صدرها البسمة.
6.
كنت مصراً على الانضمام لتظاهرة السلام، حملت بيدي سنبلة وهتفت بصوت حماسي مرتفع (لا للحرب ودماءها، نعم للسلام والحرية)... تعالت الاصوات مع هتافاتي، صفت وصفق الآخرون لمن أحرق العَلم.
حاصرني رجال الأمن من كل صوب، ولم يتمكنوا من كتم صوتي، إلا انني اصبت بحالة من الصمت الرهيب بعدما تنبهت للسنبلة وهي تسقط من يدي لتحترق مع كل ما اشعلته التظاهرة.
7.
انتزعوا أيديهم ووضعوها في حقائبهم مع اكوام من الاسلحة، وافرغوا جعب عتادهم الذي صار صديق كل عوائلنا.. وشحنوا كل شيء كان قد وصل إليهم، حولوا كل شيء منا إلى ملكيتهم الشخصية، حتى امي شحنوها مع ما شحنوه مني.. ولم يبقوا لي إلا بضع قطرات من دمي.
8.
احتضنتها بحرارة، وارتشفت من ندى شفتيها.. انسجمنا حتى ارتجفنا معاً.. وزخت تعرقاتنا في الوقت ذاته.. وبعد ساعة تلت اعتذرت لها بسبب رومانسيتي المقيتة ومضيت افتش عن شفاه بطعم آخر.
9.
مسكينة هي ساعتي الجدارية.. تمضي، تركض، تتسارع كما لو كانت عيوني تلاحق عقاربها..
لا تريد أن تصدق بانني توقفت قبل ان تعمل!.
10.
كثيراً ما تنسجم احلامي مع الشيطان، وتحول عتمة لياليَّ إلى حمراء..
أصحو بعد الفجر، والحيرة تأكل نصف عقلي.. أفكر في غفران الرب والحبيب معاً طوال اليوم تارة وتقديم الشكر والامتنان للشيطان الذي صاحب سهرتي الندية تارة اخرى!.
11.
هطل المطر هذا الموسم بقسوة غير مألوفة، لا ليروي ظمأنا المزمن، ولا ليعيد للارض خضرتها.. وإنما ليرطب جثامين الربيع العربي التي تخزنت في قبور قاحلة.
12.
الكل هارب في بلادي، تهرب اللوحة من الألوان، والغيوم من السماء، والاسد من الفريسة، والمغتصب من العذراء.. إلا ذلك المجنون ظل قابعاً في مكانه مستمتعاً بما يدور حوله.
13.
سأعير زوجتي وأمي وأختي لضيوفي.. سأقدمهن.. عاريات مزينات كتفاحات حمراوات، وسأعلن عن فيض كرمي واجهز لهم حماماً دافئاً.. ليتأكدوا بانني من سلالة الجود والكرم الاصيل.
14.
خياليٌ لا بل أغرب من الخيال ذاك الحال الذي نعيشه، نَقتلُ الأول ونطفئ الآخر حتى نتسيد، نموت حتى نُخلد، نركع للخوف، نبكي للضحك، نحسب ما فاتنا من الايام وننسى ما تبقى منها، نتبع الخطأ على أمل ان يغير رأيه ويشفق على حالنا ويحقق الصواب نيابة عنا، كل هذا وأكثر لأننا نفهم ونمارس الحرية على هوانا!.
15.
اقدس الأمانة والوفاء ولم أبخس حق مخلوق في حياتي إلا نفسي حينما آمنت بوطن سرق مني حتى محبتي له.
16.
عيوني لا تبكي ألماً، وإنما تدمع لتغتسل وتستعد لاطلالة جديدة.
17.
السماء لا تُظلم ساعات المساء، ولكنها تَتبع اسلوبها الخاص لمراقبة أحلام النائمين بهدوء.
18.
الموت لا يخيفني أبداً، فهل من صاحب يُفزع صاحبه؟
19.
في آخر الليل، كأسي في يدي يسكر، ويذيب مكعب الثلج على نفسه حتى يصحو، ويبقى يترنح إلى ان يغفو ثملاً في معدتي.
20.
لقلبي مساحة محددة الحجم والمضمون، ولكنه صار متحفاً لكل الجميلات اللواتي مررن به يوماً ما.
21.
الجاذبية الارضية هي أكبر دليل على تشبثنا بالبقاء على قيد الحياة.
22.
أجمل النساء وأكثرهن بهاءً يتوسلن تقبيلي ويفتتحن أحضانهن تجاهي لأدفن رأسي حيث الأشياء بهيجة..
ما أقوله ليس كذباً صدقوني، ولكنه شيء من بقايا الطفولة.
23.
الكلام من ذهب والصمت حوّل شعر رأسي الى فضة.
24.
أعتزمت ركوب الغيوم والصعود الى الله لأنقل له ما لم يصله من شكواى إلا ان أمطار السماء أعادتني الى قبري.
25.
أشد الخطى وأجري مسرعاً تجاه أحلامي، من دون ان أعير أي اهمية لساقي المبتور.
26.
شاركت في سباق الحياة بكل ثقة وإرادة وبدأت أتقدم راكضاً وأنا أعلم ان خط النهاية تحت التراب.
27.
لن احب أطفال هذا الجيل إلا إذا قرروا التخلص من الكسل واللامبالاة والبحث عن طفولة آبائهم الضائعة.
28.
سألتني زوجتي عن أسباب اختيارها وحدها شريكة العمر من دون نساء الكون كله، استفهمتني وهي تعرف جيداً ان ارتباطي بها هو وضع روحي بجسد أجمل.
29.
معروف ان السيف لا يميز من ينحر، غير انه ظل يقطر دماً ويدمع من دمي بحرقة بعد ان صرت وحيداً وقررت الانتحار.
30.
الموت يقطع رأس الشارع ويغلق مداخل الحي ويحول المدينة الى شبح اسود يضرب نواقيس الخطر وصلاة الخوف لا تطرد الخوف وأدعية المصلين لا تعيد الطمأنينة الى القلوب.. ولكن صوتها الانثوي الشجي أرغم الموت على الخلود والنوم في باطن الارض.
31.
أبكِ أيها القلم، وانزف حبرك، واستفرغ ما بداخلك وتقيأ لغات الكون كلها..
أكتب ما تشاء.. اصرخ بجنون وانتفض بوجه الاوراق وألوانها.. ولا تبالي بمن يجهل عذاباتك..
وتأكد بأنه سيصحو يوماً من سباته الثقيل، وسيستفيق على صوت أنينك وخربشاتك ومناجاتك.. فالعالم لا يعشق من يجهل.
32.
أركض أيها المتسابق، عجل من خطاك.. أسرع ولا تقتل الوقت بأية نظرة الى الوراء، ولا توفر أنفاسك فالفائز وحده من ينهي السباق..
أركض أسرع.. فأنت المتصدر الاول، والهتافات كلها لأجلك.. ابذل طاقاتك كلها فالموت ينتظرك في خط النهاية..
33.
لا تمسح دموعك الحارقة، ولا تخفي وجهك العابس، ولا تفكر بان ترسم ابتسامة زائفة.. اقتلع بفأسك جذور الحنين كلها.. وامسح ما تبقى لك من بقايا الذاكرة..
أدعُ أيها الغريب بأن تظل غريباً، وتوسل أن تبقى تائها، مشتتاً، ضائعاً.. فالوطن شهيد في رحمة الخالق..
34.
لم تعد أمطارك مصدر الخير والرزق.. احبسها أرجوك، وأطرد الغيوم التي شكلت تجاعيداً شوهت وجه السماء..
قطراتك لم تعد قادرة على غسل هموم الاحياء، ولا تُندي قبور الموتى.. وزخات المطر صارت قاسية تقتل الورود قبل ان ترويها..
أمح عن ابصارنا كثافة الغيوم.. فعيوننا مازالت غائمة، ممطرة تغرق معالم اجسادنا..
35.
لا اتمنى ان أصحو من غفوتي على الاسفلت.. ولا أريد ان أمحو طوابع الطرقات من على جسدي..
لا أود ان احلم بغرفة تحت سلم تحتضن تسكعي، بعد ان صادقت الارصفة، وغطتني بعطف تلك النفايات، وعانقتني أضواء السيارات، وعرتني ملايين النظرات..
لا أمتلك أية رغبة في تغيير مكاني الحالي، لا لأني أدمنت التشرد، ولكني مازلت أبحث عن كرامتي التي دفنتها بين النفايات وسرقها عمال النظافة..
أوتار ذابلة
كان لديها لسان مُعبر وصوت ينصت إليه كل سامع، كان باستطاعتها نشر الحزن بلحظة وإخفائه في اللحظة ذاتها.. إنها آلة العود التي أعزف عليها بشكل يومي مع بداية بزوغ الشمس، وحتى انشقاق الفجر لاستقبل عملي عامل بناء..
وفي إحدى الأماسي، وأنا أعزف بنهم ومتعة عالية فوق سطح البيت، كنت اشعر باني أساعد النجوم على الانسجام مع القمر والاهتمام بجمال ضيائهما الخافت الذي ينير عتمة الليل.
كان الإحساس غاية في الروعة، إلا انه انقلب دونما سابق إنذار حينما تنبهت لأوتار الآلة التي بدأت تتلوى وتتكوم وتذبل على جسدها الرقيق.
لم اشعر حينها إلا بالسماء وهي تغادر أضواءها مع توقف اللحن، وسرعان ما صار الكون عتمة قاتمة، واحتفى القمر معلناً حربه مع النجوم.
أحسست لحظتها بان شرايين قلبي تقطعت، وباتت كل اطرافي تستقبل إيعازات عبثية غير منطقية بسبب ضعف وصول الدم إليها.
أدركت حينها بان الآلة قررت الانتحار من شدة بأس أصابعي وعنف أظافري التي يكسوها الإسفلت طوال ساعات النهار.
أوراق وأقلام
أطلق الجوع سمومه على قرية (أمازشت) وصار يرغم سكانها على الانضمام إلى مسرح المجاعات اللامنتهي.
بدأ العوز ينحت رسوماته القاسية على قسمات وجوه السكان، ويرغمهم على إعلان استيائهم، وسرعان ما خُطت اللافتات المطالبة بالزاد والشراب وصارت تعلو جدران كل بيت في القرية، مما أوقع حاكمها في مأزق محرج.
لم يجد سبيلاً للمحافظة على كرسيه الذهبي سوى التجوال في الدروب لتهدئة الامور.
ابتدأ تجواله مع حاشيته مطلقاً وعوده التي لا أمل من تحقيقها، إلى ان توقف عند لافتة كانت مرتفعة على جدران كوخ خشبي بائس كان قد كتب عليها (طالبوا بالاوراق والاقلام فهي زادكم الدائم).
طلب الحاكم ممن حوله استدعاء كاتب العبارة.
نفذ الامر في غضون ثوانٍ، ومثل صاحب الشأن امام الحاكم بوجه غير آبه بكل ذلك الجبروت.
سأله الحاكم وكانه يستعرض أمام الجمهور:
هل لك ان تفصح عن متطلباتك: العبارة غير واضحة بما فيه الكفاية.. ماهي حاجاتك؟
الأمر واضح جداً يا سيدي.. المجاعة تتفاقم يوماً بعد آخر، والموت يطوق الجميع، ولا جدوى منكم سوى الكلام، والأفضل ان نطالبكم بأقلام وأوراق بغية كتابة وصايانا لنخلد ذكرياتنا لمن سيحل بعدنا.
عرس في المقبرة
ولد في المقبرة، وعاش طفولته يلاعب اشباحها، امتهن حفر اللحود متوارثاً المهنة عن ذويه.. أجادها باحتراف عندما دفن عائلته الواحد تلو الآخر، وزين قبورهم بالازهار والبخور.
طالت أنفاسه حتى بلغ سن الشباب.. وتفجرت في داخله احاسيس عاطفية مشبعة بالحنان والرومانسية غير المألوفة ليقرر الاستقرار في عش الزوجية، والابتعاد عن عزلة القبور الموحشة.
جهز نفسه لهذا التغير الحياتي فحفر قبراً واسعاً ودهنه بطلاء أبيض اللون ودفن نفسه مع اول جثة شابة جاءت للمقبرة.
مَسرات هاربة
بصلواتنا، بتوسلاتنا وتضرعاتنا، تمنينا البسمة ورجونا الرب ان يرفع عنا غمامة الاسى، بعدما صار الحزن زادنا وشرابنا..
في لحظات طربنا تغنينا بالمسرات علّها تألفنا وتقترب منا.. علّها تقبل ودنا وتُصالحنا بعد خصام عميق ولدنا لنعيشه.
بين الصلاة والدعاء والغناء والموسيقا.. طالبنا بالسعادة، غير إننا لم نجدها إلا في صور قديمة تجسد ابتسامات آبائنا القدماء.
هي في مكان آخر
عاشت في صميم قلبي قبل مولدي وكأن الرب أسكنها فيه قبل أن أرى النور.. لافتح عيني واكتشف وجودي على رؤياها.
اشعر بأني لم أخلقْ إلا من أجل حبها.. من أجل ضياء عينيها وأنغام صوتها العذب.
غير أنها وَلتْ إلى مكان آخر.. مكان اكثر بعداً من الاساطير.. مَضت دونما إشارة او تنبيه وغابت في آفاق مجهولة.. تلاشت كنجمة في السماء دهمها واخفاها النهار.
فتشت عنها في الشوارع والازقة.. في نفسي وفي فكري وأحلامي واوهامي، ولم اجد لها وجوداً إلا في دمعي ومناجاتي.
توسلت بكل من له سلطة وجاه.. تمنيت الوصول إليها ولو كانت في جهنم... إلى ان وصلت إلى ذلك المَلكِ الشيطاني الذي اُعد لزهق الارواح وكبت الانفاس ليس إلا.. توسلت مساعدته وأهديت روحي ثمناً لطيفها، تحملت عجرفته ولامبالاته.
وبعد طول عناء لم يكشف لي مكان وجودها مع ذلك الكم من التوسل.. لكنه قال:
اطمئن... إنها في مكان آمن.. ولكن أكرهْ ان تكون معها الآن.. لأنك لازلت على قيد الحياة.
الكمامات
1. الطبيب
وجه مدير التشريح في كبرى مستشفيات العاصمة أحد أطباءه بتشريح جثة شاب توفي في ظروف غامضة.
دخل الطبيب الاختصاص المكلف بالمهمة إلى ردهة التشريح بمعالم وجهه التي شتتها نظارته الطبية بعدستيها الكبيرتين والكمامة البيضاء، يتبعه الطبيب المساعد.
تساءل المساعد بطريقة فضولية، فيما كان الطبيب مركزاً نظراته نحو الجثة وهو على بعد متر واحد منها:
الجثة معقمة جيداً، لمَ لا تقترب منها أكثر، فلماذا أحكمت رباط كمامتك حتى باتت تحز وتشكل خطوطاً زرقاء تشوه وجهك؟
ظل الطبيب ساكناً لا يجيد إخفاء حيرته؛ إلى ان همس في إذن مساعده:
أخشى أن يتعرف عليّ القتيل..!
2. تستر
تمشي متمهلة الخطى، تتبعها بشغف عيون المعجبين.
تسير بألق جمالها كطائر النورس؛ بجديلتها الليلية السوداء التي تتناثر خلفها فيماعيناها الغجريتان وجسدها الفاتن المكتنز.. يبوح بكلمات كوكب تاه في سماء متسعة.
كانت ملامح وجهها قد غابت تحت كمامة بيضاء تعمدت ارتداءها بشكل دائم، مما زاد فضول المعجبين ملاحقاتها بعيون مستكشفة.
تجرأ أحدهم.. وفاجأها بسؤال وسط جمهور من الشباب:
ما سر هذا الخفاء.. هل هو استجابة لنظرات الناس التائهة وهم يفتشون عن ملامح وجهك؟
أجابت بعيون تحمل الجمال والحزن معاً ونطقت بصوت شوهته الحسرات:
اخفي قسمات وجهي التي كانت توصف بضياء الشمس على الرغم مني، بعد ان هشمته شظايا الحرب.
3. ثرثرة
كانت العواصف الترابية تملأ المكان، وتخترق صفاء السماء.. مما جعل بيع الكمامات في أغلب شوارع العاصمة منتشراً.
تغيرت الاحوال، وحل الربيع بكامل بهائه وحنانه الدافئ، إلا ان أحد باعة الكمامات احب التجربة واعتمد توزيعها مجاناً وبشكل دائمي.
وذات صباح.. مَرّ به شاب شده حب التساؤل عن اسباب امتهانه هذه المهنة المجانية؟
رد البائع بكل هدوء:
اوزع كمامات بيضاء لكل من أدمن الثرثرة والنفاق؛ لكل من لا يجيد إلا النطق بالترهات والعبارات النابية.. على أمل انقاذ المجتمع وإسكات بذاءة تلك الالسنة الانتهازية والساذجة..
الألوان
1. اللون الابيض
أغتالته الحروب ولوثت ناصع بياضه وحولته من لون سلام وطمأنينة إلى لون استسلام وخضوع.. خصوصاً بعد ان تخلت السماء عنه وأرغمت الغيوم على ارتداء السواد، لم يجد اللون الابيض مكانه بين صراعات عالمنا المشوه، فقرر دفن نفسه والتخلي عن عذرية البياض التي بداخله مفضلاً معانقة الموتى واحتضانهم تحت التراب.
2. اللون السمائي
كان ولم يزل مزاجي الطباع ومتقلب الآراء، غالباً ما يمثل دور النقاء، يسعى للتوسع حتى أحتل دولة السماء وأسماها بأسمه متناسياً الغبار الذي يغير لونها بين لحظة وأخرى مهمشاً بياض الغيوم وجمالها فضلاً عن تجاهله ظلام الليل وتهميش ضوء القمر وبهاء النجوم.. متحدياً الشمس ولونها الذهبي الساطع، مكتفياً بالسماء ولونها السمائي على حد وصفه الأناني.. معتمداً قانون الغابة أو ما يعرف بحكومة الاغلبية وتهميش الاقلية!.
3. اللون الاحمر
بعد ان حُكم عليه بالاعدام شنقاً بوصفه لوناً يعبر عن الجريمة والبشاعة.
أنتفض اللون الاحمر وهو في قفص الاتهام معترضاً على الحُكم، محاولاً الدفاع عن نفسه قائلاً:
- يا سيدي القاضي قلوبكم حمراء، وأجمل الزهور في البستان حمراء، وأروع ليلة في العمر تتعلق بسهرة حمراء، وهدية المحب في عيد الحب حمراء.
قاطع القاضي كلامه قائلاً:
- عيد الحب.. أي حب، وهل نسيت لون الدم..؟
- انا أقصد ما قلت يا سيدي القاضي.. عيد الحب الذي نُفي عن بلادي، فتحول كل سكانها عشاقاً للدم والجريمة، فاحكمني بما شئت يا سيدي ولكن أحرص على ألا يموت الحب بعدي.
صفق القاضي للون الاحمر وأعلن براءته حتى لا يكون سبباً في اضطهاد الحب وكتم المشاعر.
4. اللون الأزرق
اتخذ البحر عاصمةً له.. ومنه شكل لونه وصفاءه.
ضم تحت خيمته انواع المخلوقات البحرية.. وعاملها بحق الحرية والديمقراطية.
كان يؤمن بالتعبير عن الرأي واحترام الآخر، وأجبر البحر على ان يكون مالحاً ليُكون مبدأ الثواب والعقاب ومنع التطرف.
5. اللون الاسود
تفاخر بين زملائه الالوان قائلاً:
أنا لون الوقار.. أنا سيد الالوان؛ أنا.. أنا من حُكم عليه أن يكون لون الموت والحزن والشؤم.. أنا مجرم من دون جريمة ولا إدانة.. أنا من ألصقت به كل جرائم الارض.. انا من ذمَ نفسه وأدانه الجميع..
فوجئت الالوان برؤية اللون الاسود وهو يبكي بحرقة غير مسبوقة!
تابع كلامه مستفهماً:
هل فيكم من يساعدني وينقذ سمعتي من الضياع؟
اتفقت الالوان على مساعدته للخلاص من هذه المحنة.. فعملوا على دمجه مع كل لون وبنسب متساوية، وسرعان ما تحولت كلها إلى سواد، وباتت كل الالوان قاتمة مظلمة!
قبور
1.
بعد أن غادرتُ الانفاس الاخيرة رغماً عن شبابي وابتسامتي التي رسمتُ لها الأزل..
جاء موتي بعد تأثري برصاصة لم تكن في خدمة احد إلا الموت نفسه..
صارت جثتي بضاعة مكدسة بطريقة عشوائية حد التلف في ثلاجات الطب العدلي، بضاعة غاب اسمها وتاريخها بين ذلك الكم الهائل من البضائع المُخزنة.
نقل جثماني إلى مقبرة التالفين.. مقبرة الشهداء الخالدين، حيث جثمان جيوش من الشباب الطيبين، كنت محظوظاً من بين كل الحاضرين لاني وجدت مكاناً للتخزين في قلب تلك المقبرة التي استحدثوها لاستقبال أمثالي.
إلا ان قبري لم يكن يحمل اسمي.. لعل قطعة المرمر كانت متثاقلةً منه بعض الشيء.. حاولت إخراج يدي من لحدي بتكلف معقد ومتعب بغية كتابة اسمي على وجه السرعة، لأكون تذكاراً عن ايامي التي لا أود ان تندثر في غيابي.
غير اني فوجئت بان يدي دفنت في قبر آخر مع اشلاء متفحمة.
2.
لسمعتي الطيبة في الحياة.. وابتسامتي التي باتت خالدة تأبى الغياب عن ذاكرة المحبين، تمكنت جثتي من المحافظة على ذلك الحب حتى بعد تفسخها مع مرور الزمن، بوصفها لم تأخذ حيزاً من المقبرة وإنما اكتفت بمساحة بسيطة جداً فضلاً عن قلة زواري من الاحباء مما حافظ على سكون المقبرة... وهو الامر الذي رشحني لانتخابات رئاسة مقبرة المهمشين.
ويوم تقرر تدقيق ملفي الخاص الذي احتفظ به حفار القبور.. تم اقصائي من الانتخابات لأن سيرتي الذاتية كان قد كُتب عليها (مجهول الهوية).
3.
بعد موتي بأيام قليلة.. تنبهت لكل من حولي من الأموات.. واستمعت لموضوعاتهم الساخنة التي كانت تشغل أفكارهم وتثير مخاوفهم منذ زمن طويل.
سمعت احدهم يقول:
- سمعنا ان في الصين تحرق الجثث وتحول إلى رماد ثم توضع داخل علب صغيرة جداً وترسل إلى ذوي الجثة.
وهذا ما كان يخيفني جداً.. لأن اهلي كلهم دفنوا جواري.
وقال آخر:
- وقيل أيضاً ان الهند تبيع جثث موتاها للدول المتقدمة وذلك للخلاص منها والعمل على اجراء الدراسات الطبية وعلوم الابحاث والتشريح.
وأضاف ثالث:
- ألم تسمعوا عن دفن جثث في قاع البحر..؟
هذا الامر يخيفني حد الرعب كوني لا اجيد السباحة.
قاطعت كلام الجميع بصورة فضولية:
ممَ تخشون أيها الاصدقاء.. فينا من دفنوا اشلاء، وغيرنا من ماتوا حرقاً، فضلاَ عن الاغلبية التي مزقتها رصاصات مجهولة، إلى جانب الجثث التي مُثل فيها بابشع الوسائل.
ومع ان وطننا يحترم وجودنا.. ويقدس موتنا إلا اننا لا ننفع إلا لئن نكون تاريخاً للموت الجماعي، او مصدراُ نفطياً ينتظر من يسرقه ولو بعد حين، ومن الممكن ان نشكل إعلاناً انتخابياً غير مكلف لاي مسؤول حكومي..
أرجوكم التزموا الهدوء حتى لا تكونوا مشاغبين.
معزوفة
سأرقص على أيام ذاكرتي.. واغتسل بانهار دموعي، لاجعل من جسدي عشباً اخضراً متجدداً.
سأغظ النظر عن أوجاع الوجود، وأصم آذاني عن آهات الألم، وابتعد عن الأحياء الذين حولي..
كل هذا لأني مشغول بتأليف معزوفة تطرب الموتى وتحول سكون قبورهم إلى صخب موسيقي قلما نشهده.. سأفتتح من لحودهم حانات صغيرة، واغير عتمتهم الموحشة إلى رومانسية تفتقر إلى العتمة والهدوء..
سنرقص.. سنشرب.. سنضحك جميعاً في المقبرة على معزوفة جديدة تحتفي بكل قادم.
تقسيم
في زمن قديم.. حيث كانت الحياة ربيعاً دائماً.
كان الجمال ينساب في قلب الطبيعة.. يرسمها أنغاماً وألحاناً وألواناً ووروداً.
ويوم خلقت النار وأبليس والجنة وطين آدم.. والفصول الاربعة؛ دخل الكون في أزمة جدلية لم يعرفها من قبل.. وهي إشكالية تقسيم الفصول وبات كل فصل يبتكر سبله لدعم تشبثه وبقائه لأطول مدة ممكنة.. صارت الفصول الاربعة تعمل على تهميش بعضها الآخر.. مما أثار حفيظة وغضب السماء وإرغامها على تقديم كل الفصول في يوم واحد، غير آبهة للنزاعات الناشبة بينهم.
تابعت الخليقة خطى تكوينها المتعثرة من دون وضع نهاية لذلك الصراع، حتى خلق قابيل وهابيل يتبعهما فصل جديد.. فصل له حق التسيد والتسلط على الجميع من دون السماح لاعتراض اي فصل منهم، ذلك لقدرته على نفي من لا يرغب بوجوده.
كشف جبروته وأعلن تفرده بقانون رسم حدوده لما يناسب بطشه وبسط إرادته..
استهل ظهوره بإرغام الشتاء على زيادة منسوب أمطاره وتكثيف سرعتها.. لتكون قبوراً على الأرض تحضيراً لما ستنجبه الحياة مستقبلاً، واستغل حرارة الصيف ليحول دفئه إلى محرقة للمعارضين، فيما أمر الخريف باقتلاع جذور الشجر وتدمير الحشائش، واكتفى بحجب الربيع عن الظهور، ليفصح عن اسمه بتفاخر وتعالي قائلاً عن نفسه (انا فصل الدم الخالد) فاطيعوني بلا تقسيم.
المُصور
يعشق حد الوله والجنون تصوير الطبيعة والابحار في عالم أسرارها، كان يحلم بزيارة بلادنا على وجه الخصوص ليكشف جمالها وتاريخها الماجد وتراثها الاغر.
جَهز معداته وكامراته الاحترافية على أمل ان تسنح له الفرصة لتحقيق مبتغاه، صبر وانتظر حتى يحقق مناه.
التقط آلاف المشاهد التعبيرية، رصد صوراً نادرة لم يسبق لغيره ان صَوّر شبيهاً لها، ليعود إلى بلاده معلنا عن إقامة معرض فوتوغرافي بعنوان (هدوءاً ايها العنف)..
ضم المعرض صورة لطفل يحتضن يده الصناعية برفق بعد ان فصلها عن كتفه، وأخرى لشابة يستحي ضياء القمر من بهائها كانت تحمل اصبعها من على الرصيف بعد ان طمعت به شظية سيارة مفخخة، وصورة أخرى لعربة (حِمل) خشبية تحمل جثة صاحبها غاطسة بالدم.
تميز المعرض بصور نادرة كصورة مسجد سجد على مصليه غير آبه بتضرعاتهم ومناجاتهم السماء، واخرى لأسد يبكي خوفاً من فريسته وصورة لاحقة تتعلق بحذاء قديم كان قد ارتداه صاحبه ووضعه فوق وجهه ليفضح عوزه.
حقق المعرض شهرة واسعة وكون لصاحبه أرباحاً طائلة.. معلناً تجاوزه الصور الطبيعة واصفاً إياها بالمستهلكة، ليغير مسار عمله إلى مصور حربي، ومن ثم ليزور بلادي مرة أخرى وعلى متن طائرة مقاتلة هذه المرة.
أيام القيامة
1.
يفسر رجال الدين مفهوم يوم القيامة بوصفه موعد الحساب عند الخالق.. مشخصين علامات قيامها بنقاط واضحة وصريحة، والغريب اننا اصبحنا نلمسها كلها في الحياة العادية كانتصار الباطل واضطهاد الحق..
كما ذُكر في الكتب السماوية أسباب أختيار إسم (القيامة) لقيام الأموات فيها من موتهم لنيل الجزاء..
إلا ان الديانات والمذاهب على اختلافها لم تجد تفسيراً ملائماً لواقعنا الذي يشكل أياماً وقيامات أكثر قسوة من القيامة المنتظرة..
فهل خلقنا أمواتاً في هذا العالم؟!.
2.
كلنا ننتظر نتائج الامتحان.. سائرين على قول:
(في الامتحان يُكرم المرء أو يهان)
ننتظر بقلق مرّ قيام الساعة، وطبول الخوف تدق في قلوبنا.. حتى صارت السماء تبكي من ثقل همومنا..
ننتظر المجهول ما بين السلب والايجاب من دون ان ننظر إلى أيامنا وقياماتنا اليومية التي ولدنا في سعيرها، ومازلنا نكتوي ونتعذب دونما ذنب او فاحشة اقترفناها..
غريبة هي مسألة انتظارنا وقلقنا من القيامة التي هي أكثر هواناً ورأفة من أيامنا التي اعتدناها.
3.
غريب أمرك ايها الوطن، نعشقك وانت الجحيم، نطيعك على الرغم من جهلنا بانتمائك للشيطان او الملائكة..
نموت من أجل احياء كرامتك، وانت أول من يسحق كرامتنا..
غريبٌ أمرك أيها الوطن..
صرت لنا قبراً وأذقتنا عذابات البرزخ على أرضك، نَصبت لنا مشانق الجلاد، وصفقت بحرارة على أشلائنا..
شيدت للناس نار جهنم.. وحاسبتهم قبل حساب الرب، وأطلت لنا ساعات القيامة، حتى أمسينا لا نخشى الرب والحشر والقيامة.
ابكيتنا، ولم تفرحنا أبداً، دثرتنا بالذل والكآبة..
غريب.. كل شيء فيك غريب.. الحاكم والجلاد والمجرم غريب،ولم يكن منك إلا ذلك الذي فقد حياته لاجلك مجهول الهوية..
توابيت
1. تابوت عائلي
بدأ إحساس الرحيل يقترب مني.. وكأني ألملم نفسي وأعدها للسفر من دون رجعة..
كان هناك صوت داخلي يدعوني لكتابة وصيتي، وتوديع أحباب قلبي..
سارعت الى الاتفاق مع نجار ماهر وكلفته صناعة تابوت أوسع من حجمي بكثير، وعمدت ان لا يكون تقليدياً كباقي التوابيت وهو الامر الذي جعلني أخوض معه نقاشات واسعة.
كان كثير التساؤل حد الملل، يحاول ان يفهم ما ليس من شأنه.. يسأل عن أسباب الاختلاف، بطرق ملتوية غير واضحة..
لم أجد ما يشبع فضوله، ولكني عزمت على ان يكون تابوتي كبيراً ليجمعني وعائلتي في مكان واحد بعد أن فرقتنا أزمات الحياة.
2. الصندوق الخشبي
كان صديقاي المقربان يتحدثان عن التوابيت وكيفية صناعتها..
قال الأول: من الصعب جداً ان يحبس الانسان داخل مستطيل خشبي ضيق، لا يسمح بأية حركة..
وأجاب الثاني: ليس الضيق هو المشكلة يا صاح، ولكن تخيل ان تعيش في مكان مظلم لا تجد فيه ضدين يجتمعان أبداً إلا في هذه العتمة التي تلتقي بالوحدة..
لحظتها قاطعتُ حديثهما قائلاً:
- لا أجد أي تبرير لخوفكما، وانتما تتحدثان عن موضوع بسيط حد التفاهة.. ألم تألفوا الضيق والعتمة في بطون أمهاتكم، ألم تسجنا في زنزانة أكثر وحشة من التابوت، ألم تشعرا بالوحدة طوال هذا العمر؟
علمتني الحياة بأنني انتقل من تابوت لآخر لحين توفر ذلك الصندوق الخشبي الذي يحتضنني بسلام.
3. جنازة في الهواء الطلق
أنهكني سباق العمر، وأتعبني ذلك الجري الطويل، وما من عيون تبصرني خط النهاية..
صرت أشتهي لحظة الموت، وأتخيل جنازتي وهي ترفرف فوق أكتاف الأحبة.. تحلق في سماء المدينة، وتخاصم عبث الغربة، ووحدتها القاتلة..
كم تمنيت رؤيتها أو شم عطرها قبل رحيلي الأزلي.. لذا طلبت في وصيتي ان يكون تابوتي مكشوفاً للسماء علّها تكون بين جمهور المشيعين، عساني أتمكن من استنشاق عطرها ولو للمرة الأخيرة.
تشييع ابتسامة
خيم اليأس والصمت على كل شيء..
ودفنت الابتسامات في حقائب ألوانها الدموع والاسى..
انتفى مفهوم البسمة في بلادي بعد ان صار لها دلالات خاصة..
إذا ابتسمت لعابر في الطريق، تساءل عن اسباب الابتسامة وإذا ماكنت تعرفه من قبل.. وإذا ابتسمت لمرأة ما، تصورت بانك تجاوزت العرف والحياء... وإذا ابتسمت للزوجة أو للام، يعني انك اردت ان تكشف سراً.. وإذا فكرت بالابتسام لمدير او مسؤول تصور ان بك حاجة الى مسألة معينة.. وان ابتسامتك لا تشكل إلا باباً للطلبات..
أما إذا غادرت العالم الذي لا يفهم معنى الابتسامة ولا يحترم روحها الانسانية.. وقررت الضحك مع نفسك.. القيت على نفسك البلاء، واصبت بالجنون او عدم الأدب.
فعلى ما الضحك في بلادي؟
لنشيع جثمان البسمة في أزقة الصمت والحرمان.. ولندعو الرب ان يرحمنا ويكمم أفواهنا، ان يلغي أسناننا لانها سرّ ولادة فضائح ابتساماتنا..
ثمالة الغروب
لحظة الغروب تعني لي كثيراً من التأمل في المجهول
وتقليب أيام الزمن.. تصفح سريع لأورق الذاكرة
كان تأملي يبدأ وينتهي مع السماء..
عدد هائل من الاسئلة التي تتوسل الاجابات
غير ان المساء الأخير كان مجنوناً كشوقي إليك..
حتى بدت السماء على غير عادتها، حنونة عندما شاركتني رحلتي.
نظرت إليها بغير عادة، بغير ألفة.. تاركاً خلفي عمراً مريضاً مشتتاً ممزقاً بالازمات..
وأغمضت عيني وتمنيت، وآه مما تمنيت...
تمنيت لو ان السماء قادرة على ان تتحول الى شفاه بطعم نرجسي، شفاه رخامية عطرة هشة.. لتقبلك انت فقط يا ملكة النساء
شردت مع القمر وتوسلته، عله يعيد إليك ما سرقته من ضياء وجهك..
خضت صراعاً معه حتى ينطفئ..
ولم أهجع او اتراجع حتى سَلمني تخويل خطي منك بالتنازل له بشيء من النور..
طويل، مرهق هو الحوار مع السماء وتفاصيلها البعيدة والامنيات التي لا تنتهي.. ولم أجد نفسي إلا وأنا أتوضأ بعطرك الذي تشكلت من بقاياه قطرات الندى.
ركض وقت الغروب كالثوانِ وراح يتلاشى غير آبه بأحاسيسي وشوقي إليك.. أدرك حينها بأنه قد وصل حد الثمالة، واكتفى بوصفي لك..
وفاء وردة
أقصيت نفسي عن عالم الأصدقاء والأحباء، لا بل عن العالم أجمع.
قررت الانزواء في بيتي المتواضع وحديقتي التي باتت صحراء قاحلة إلا من وردة وحيدة يائسة وبعض الاشواك الطبيعية.
جاءت عزلتي هذه بعد ان استشرت وتفاقمت آلامي وصار من المستحيل استئصالها حتى باتت معدية لمن يطلع عليها.
أعتدت وتأقلمت بسرعة على الاجواء الجديدة، وصارت تحركاتي محدودة جداً، مابين الغرفة والحديقة، وبقايا الذاكرة المندثرة.
وفي اصبوحة باردة، كنت جالساً في حديقتي منهمكاً في قراءة احد الكتب القديمة التي أتلف أوراقها تراب الزمن وسرقت كلماتها وحروفها الرفوف العتيقة.
تنبهت لوردتي الوحيدة.. وإذا بقطرات الندى تنضح منها بصورة عشوائية غير طبيعية.
لم أعر لها اهتماماً لأني لازلت افتش في كتابي عن جُمل غابت عنه.. جُمل مترابطة كانت تصف ذلك الكون الانساني اللطيف.
وبعد بحث طويل متعب.. لم أجد ما كنت أبحث عنه.. مما أرغمني على ترك الكتاب والدخول لأخذ قسط من الراحة.
وفي المساء عاودت الرجوع إلى حديقتي، غير اني فوجئت بتغيير لون الوردة من ابيض إلى أسود قاتم، وغرق الحديقة بقطرات الندى التي كانت تتساقط منها.
تقدمت بخطوات مترددة.. غرست قدماي بالطين رغماً عني، وتساءلت بصورة فضولية: هل من الممكن ان تصل قطرات الندى إلى هذا الحد، ولماذا ارتدت وردتي السواد.. وكيف؟!
تزاحمت الأسئلة في داخلي، ثم ركزت النظر بدهشة إلى كتابي الذي تحولت صفحاته إلى فضاءات بيضاء تفتقر إلى الكلمات.
عشت لحظات دهشة وترقب لم اشهدها في الماضي... وإذا بالوردة تهتز يميناً وشمالاً وبقوة عارمة، وتعمدت على اسقاط عدد من أوراقها القاتمة.. لتقول بصوت أجش:
أنظر لكل ما حولك.. لقد حولت لوني للوقوف تضامناً مع أحزانك، وأغرقت الأرض دموعاً حتى أزيل أشواكها وأغيرها إلى خضرة دائمة.. وأرغم الكتاب صفحاته على محو كل حروفه.. لتخلد آلامك كذكريات مرة تذكرها دائماً.. لتعيش حياتك مع من تبقى من الاوفياء في عالمك.
عذراً سيدي إبليس
يبدو عليه وكأنه راهب أو قديس، يلتزم الدقة في أداء واجباته الزوجية والعائلية، كان دائم الحرص على تأكيد وفائه لمن يحب من دون إثارة أي حدث مضى.
عرضت عليه فرص شتى من اشهى النساء وأكثرهن أنوثة ورقة، من أجل تبادل الحب في ليلة مهما كان لونها.
إخلاصه كان يحتم عليه أن لا ينسى ذلك الارتباط الأزلي بزوجة ضحت بكل ما لديها من أجل سعادته.
إبليس.. كان صديق أحلامه الأول.. يشاركه النوم، يزاحمه الفراش، ويأبى ان يتركه ليلة واحدة.. كان كثيراً ما يصف له أجساد نساء سبق وان طلبن منه مشاركتهن الآسِرة، يجسد له طرق المداعبة التي يصعب لمخلوق تحملها من دون الانخراط فيها متوسلاً.
وذات ليلة.. تسلل إبليس كعادته إلى دنيا أحلامه قائلاً بصوت هادئ نصوح:
-لقد أوصلتني حد الضجر.. ما من أحد يرفض شهوة الفراش بما فيها من لذة رائعة.. وما من أحد يأبى تذوق أشهى وأغلى أصناف اللحوم.. فلماذا هذا الرفض غير المسوغ، ولماذا هذا الكسل والإحباط.. هل أنت عاجز؟
أنا أقدم لك فرصاً نادرة يتمناها الملايين غيرك.
قاطع كلامه قائلاً:
-عذراً.. عذراً يا سيدي إبليس لك مني بالغ الشكر والامتنان على تقديمك كل هذا الجهد الواضح.. لكني لا أشعر بلذة اللحم مهما كان صنفه وشكله وطريقة طهيه خصوصاً وأنا أعاني من داء الملوك منذ أيام الشباب الأولى.. لأني أفرطت كثيراً في أكل كل أنواع اللحوم.. شكراً يا سيدي إبليس.. وآمل الاستفادة من عروضك التي لا تهمل لا في القريب العاجل ولا في الآجل.
لغة الحوار
طرح المعلم على تلاميذه مقولة لشخص لم يكن معروفاً لديهم، كان يدعى (جون سكولي) إلا ان الحكمة أثارت اهتمام الجميع (أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هو صناعته).
قالها المعلم وهو يفتش عن تساؤلات تلاميذه.. حتى تنبه لصراخ أحدهم، صراخ مزق جدار السماء وأوقف عقارب الزمن:
وكيف يصنع المستقبل في زمن زائف.. زمن لا يعرف سوى انتظارات مجهولة وكبت لا محدود، وتكميم لأفواه كانت تنطق الحق والجد والصدق.
المعلم يقاطع تلميذه المنتفض، في محاولة منه لاحتواء غيظه:
انت المستقبل.. بتشخيصك للسلبيات ورفضها بهذه القوة، انت تساعدنا على تشييد مستقبل متكامل خالٍ من الشوائب.. انت من يساعدنا على بناء اجيال تعي جيداً معنى الحرية.
إلا ان صوتك العالي يذهب معاني العبارات الثمينة التي نطقت بها لا بل يحولها إلى تجاوز غير مشروع.
فلنترك (جون سكولي) ومستقبله ولنتعلم كيفية الحوار واساليبه وتقبل الاخر ومن ثم نطرح نقاشات مستقبلية.
أمة الماضي
دَخل مُدرس مادة التربية الدينية الى قاعة الدرس وكله حماس لمخاطبة عقول طلبته بموضوع جديد.
أَمَسكَ الطبشور وكتبَ على لوح الكتابة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وقبل ان يخوض بتفاصيل الشرح والتفسير، تنبه لأحد الطلبة، وهو يتمتم مع نفسه ويردد ما كتبَه المُدرس..
أعتقدَ المُدرس ان الطالب يحاول الوصول الى تفسير مفهوم وواضح.. فسارع بمشاركته، داعياً أياه ان يقف ويشرح ما يدور في ذهنه.
وقف الطالب وعلامات الارتباك بدتْ واضحة على وجهه، وقال:
- يستحيل ان يَخُصُّنَا هذا الخطاب، كيف نكون خير أمة ونحن لا خير فينا حتى مع انفسنا، أستبعد ان نكون أمة خير في زمن لا يعرف الخير.
قاطع الاستاذ كلامه بصوت غاضب: أخرس أيها الوقح، ألا تعلم بانك تُنَاقَشُ أية من الذكر الحكيم.. إستغفر الرب وأعتذر منه، وكف عن الكلام نهائياً..
وسرعان ما عم الصمت عموم القاعة، وبدأت وجوه الطلبة تتلون خوفاً من اشتعال غضب المُدرس..
إلا ان أحد الطلبة الجالسين في الصفوف الاخيرة؛ نهض وتحدث من دون استئذان، محاولاً التخفيف عن زميله الذي أصيب بالإحراج:
يا أستاذي يبدو ان زميلنا لم يقرأ الكلمة الاولى في الآية (كنتم) وهي دلالة على زمن الماضي، الذي صار شيئاً من التاريخ..
دهش الاستاذ بما سمع، وصوب نظرته تحت قدميه وغادر القاعة.
فخ
جمعٌ كبيرٌ من الناسِ يَنظر إليها بإعجاب وحذر وتَرقّب، كانت في قمة الجمال والروعة والأناقة ولكنها كانت مفخخة.
قتل الحواس
لم يعد الضباب يُغيب الرؤية، ولا الأمطار مصدر الرزق والخير، ولم يعد للحي كرامة ولا للميت حرمة ولا للكبير احترام ولا للاطفال بسمة ولا للورد أريج.
افترق العطر عن الرائحة والحب عن الوفاء والانوثة عن الجمال والرجولة عن الكلمة، وخاصم القلب نبضه..
بدت المشاعر معطلة عندما اعتمدنا على عالم آلي عطل حواسنا كلها.
أزمة شرف
بأنين وأسى طلب مريض مساعدته.. محتملاً شدة الألم. كان خائفاً ومرعوباً من سكرات الموت، وما من أحد تقدم لمساعدته، سمعَ شخصا يسأل عن الأسباب التي أدت بحاله، فأجابه الآخر: كان شريفاً يوماً ما.
انتخابات
كان مُدمناً على قتل الوقت واستنزافه، يقضى ساعات يومه في مقهى المحلة، ويزج نفسه في اي حوار أو نقاش.. وكأنه سيد العارفين.
وذات يوم تنبه لصاحب المقهى وهو يقول بصوت منفعل:
- شعارات رنانة، وعبارات وطنية، غيرت ملامح شوارع المدينة، وحروف تحتل بياض اللافتات القماشية.. وعيناي ترصد كل ما يُكتب، وتحثني على انتخاب كل مرشح من دون استثناء.
قاطع كلامه أحد الجالسين:
- كلام سليم، والعبارات تلامس الاحساس.. لكم منيتُ نفسي ان تتحقق عبارة واحدة من تلك العبارات.
رد ثالث:
- ينفقون أمولاً خيالية على الدعاية.. ونحن بأمس الحاجة لما يستر عُرينا، ويسد جوعنا.
وسرعان ما بدأ الحوار بالتوسع حتى شمل جميع من في المقهى، إلا ذلك الفضولي الذي لاحظ ان جلسة هذا اليوم ساخنة جداً.. ولاول مرة أبعد نفسه عن دائرة الحوار لانه كان أحد أصحاب تلك اللافتات.
كتمان
يوم فكرت أمي إخفاء تجاعيد الزمن المرسومة في وجهها، ودفن خطوط الهم تحت مساحيق التجميل، تحولت الى متصابية حمقاء..
ويوم أرادت كتمان لون الفضة في شعر رأسها، وتعديل أظافرها المعوجة، عادت مراهقة بعد الخمسين..
كفرت امي بالمقدسات كلها يوم تمادت ونطقت أنا حرة، وتحولت إلى بغي لا تستحق شرف الحياة عندما قالت أنا أنثى..
رجمناها جميعاً كأية عاهرة أرادت ترميم بكارتها الضائعة في أحضان الرجال.. آلمناها بكل قسوة،وطلبنا منها إخفاء دموعها في جداول وجهها التي كانت تعاني الظمأ..
إلا انها أبت تسليم نفسها لجبروت رجعيتنا، وبدأت تغسل نفسها بدموعها الندية وهو الامر الذي أعادها شابة عشرينية.
اللحن الأصم
تبخل الزهور بعطرها وكأنها بعيدة عن الطبيعة وخيوط الشمس تصبح باهتة لا إحساس فيها عندما تشعر بغيابها عن الحديقة العامة.
لم يكن للصبح أية قيمة إلا وهي تتخطى متمهلة في الحديقة.
كان يتبعها عازف الكمان بنظراته المجنونة وألحانه الشجية التي تبهر رواد الحديقة، يجلس على مقربة من مقعدها التي اعتادت الجلوس عليه، يعزف لها ألحانه الحزينة، حتى يتجمهر الناس من حولهما.
كان يتعمد مراقبة الوجوه التي يأكل تعبيرها شجن الموسيقا، ويحولها الى بحيرات من الدموع.
يراقب العيون المتأثرة الدامعة من حوله، ويصغي الى وجهها المتلألئ المبتسم..
كانت تبتسم إليه ابتسامة براقة، وتغير مسار اللحن على وفق رمشة من عينيها العسليتين، لتجعله يقطع أصابعه على آلة الكمان.
وذات يوم وجد نفسه يحدثها بلهفة عن سر تلك الابتسامة النقية.. ليتنبه إليها ويجدها صماء بكماء.
العالم لا يعرف النوم
لم يعد هناك أي مجال للنقاش بعدما وصلنا حد القطيعة حتى مع أحلامنا المؤجلة، على الرغم من معرفتنا الاكيدة بأن الليل خلق للاحلام، وان الاحلام خلقت للهروب...
غابت السبل كلها وأنعدم الحوار، وأغلقت نوافذ التفاوض بوجه أي شيء يتعلق بتشغيل مكائن عقولنا المعطلة..
هرب الصبر من صبرنا.. وصار إحساسنا العدم، بعدما أدركنا أننا لم ننم أصلاً، وان احساسنا بالحلم لم يكن إلا عالماً مملوءاً بالشرود.
الشقراء
يملأها الغرور كونها بيضاء شقراء ومثيرة لدرجة يصعب وصفها، ومن روعة جمالها يشعر من يراها بانها حورية هربت من الجنة، تمتلك نظرة ثاقبة قادرة على احياء الموتى.
كانت تعمل ضمن جهاز استخباراتي سري مما يجعلها تخفي نفسها وتُموه للجميع بانها تعمل بوظيفة روتينية بسيطة..
ظلت الامور تسير على احسن حال إلى ان شاء القدر ان يدخل حياتها شاب من عائلة معارضة للنظام الحاكم..
أحبها كثيراً، وبسبب ذلك الحب الجنوني كشف لها كل أسرار العائلة.. وبأدق تفاصيلها.
وبعد أيام قليلة القي القبض على عائلة الشاب بالكامل وتم إعدامهم في ساحة عامة ومن دون محاكمة.. بوصفهم من الجواسيس والعملاء.
لم يكن يشك بها إطلاقاً بسبب ذلك العشق الاعمى، إلا ان الصدفة أحكمت طريقة فضح ما يجهله.
بقي محافظاً على ما تبينه من حقيقة حبيبة عمره، وظل يبحث عن وقت ملائم لكشف الاوراق..
وفي احدى السهرات، كان الشاب شارداً في خياله وهو ينظر إليها بحذر وصمت..
مزقت صمته قائلة بغرور: بالله عليك ماذا تشعر عندما تنظر إلي؟
- اشعر ان وجهك الناصع البياض هو أكفان أهلي وشعرك الاصفر هو الغل والحقد الذي يطفح منكِ تجاه البشرية، وفي جسدك الفاتن المغري أكوام قمامة تمتاز برائحة عفنة.. وفي عيونك مجاميع إرهابية ازهقت أرواح الأبرياء، ولسانك سيف بتار، وشفتاك الورديتان جهاز كشف الكذب (كشف الاسرار).. واذنيك جهاز تسجيل صوت له ذاكرة خرافية، ويداك الناعمتان حفار القبور انشل قلبه وتعلم بواسطة عملية الدفء قبل دفن أية جثة.
زخت الدموع من عينيه أثناء وصفها، ثم انقض عليها وخنقها حتى ودعت أنفاسها.. وفرّ هارباً.
أمل والشيطان
أمل.. صبية عراقية لم تتجاوز ربيعها الثالث عشر..
اكتسح عائلتها شيطان السيارات الملغومة، دهمهم وحول نومهم في ساعات الليل الهادئ إلى نوم أزلي خالد، إلا انه ابقاها على قيد الحياة وحيدة في عالم خرب هرم تكسوه شظايا الدمار اللامنتهي.
استفاقت من الغيبوبة التي أصابتها جراء دوي الانفجار الذي دك بيت عائلتها وساواه في الارض دونما سابق انذار.
فتشت عن أشلاء ذويها الذين ضاعت ملامحهم كتلك الذكريات الجميلة التي اندثرت مع سقوط البيت فلم تجد لهم أثراً.. لكنها وبعد عناء طويل، جمعت أشلاء اخوتها السبعة.. جمعتهم كالدمى، وحاولت بعقلية بريئة طفولية إعادة تركيبها مرة اخرى، غير انها لم تجد فيهم الروح والحركة.
استمرت في المحاولة حتى تنبهت لشاب مبتسم يقترب منها، كان يرتدي رداءً ابيضاً ملطخاً بالدم.
خاطبها بضحكات متقطعة:
هل تعلمتِ كيفية تركيب الدمى الكبيرة ؟ لابد من شكري لاني انا من قدم لك هذه اللعبة.
تساءلت بصوت غابت انفاسه من شدة البكاء:
من أنت يا عم؟
أنا شيطان هذا الزمان، انا شيطان كريم، انا عاشق الموت باسم الحرية.
لم افهم كلامك يا عم، هل انت تحبني.. هل تحب اهلي وبلادي؟
أكيد طبعاً والدليل على ذلك مجهودي معكم كل يوم.
ولماذا عطلت حياة اهلي بهذه البشاعة؟
لكني تركتكِ وانت تحولينهم ، ولم اغيبهم عنكِ، وإنما ابقيتك تلعبين بين الدم والركام في فضاء حرّ من دون قيود جدران البيت.
هل تركتني من دون حب لأنك تحبني ام لانك تجد المتعة في عذاباتي..؟
لم يصبر لحين استكمال تساؤلها وإنما غادر المكان ضاحكاً من دون جواب.
المؤلف في سطور
نهار حسب الله يحيى: قاص وروائي عراقي، ولد في بغداد 1989
مؤلفاته:
· (ثورة عقارب الساعة) مجموعة قصصية قصيرة جداً ـ القاهرة / 2011
· (ذبابة من بلد الكتروني) رواية ـ دمشق / 2012/ كما نشرت في مجلة الكلمة الألكترونية والتي يترأس تحريرها الدكتور صبري حافظ.
· (جنون الضحك) مجموعة قصصية قصيرة جداً ـ مخطوطة .
للتواصل مع المؤلف:
https://www.facebook.com/nahar.hassaballa