ابني.. أنا .. حنين.. آآآي .. هم .. أنت .. وحدهم ..آآآآهاي .. game over .. عانى .. سيانا .. لماذا .. آي آي .. خبزا.. مات .. وخز في الفخذ الأيمن بعمق وتد الحزن المدقوق في القلب، " هبوط حاد في الدورة الدموية وغيبوبة مؤقتة يفيق منها تواً" تسمع وعيناك تُفتح بالكاد على فقعات رمادية تذوب في جوف مدى سحيق واثنين في ثياب لمحتها سوداء وثالث في رداء أبيض، صاحبا الثياب السوداء يسألان ( من حنين .. وما سيانا .. ومن هم الذين ؟)، صاحب الرداء الأبيض يقترب من صدرك فيما يشبه انه سيحتضنك مانعاً عنك الأسئلة، تصوب عينيك بوضوح تجاههم ولست تنظر إليهم لكن عينيك مسافرتان في سماء محايدة لتريا ما يسُر قلبك وأنت تحتضنه مغلقًا عليه جفونك في راحة أبدية، تعرف سميح وزياد ولا يوجد وقت لمعرفة الثالث والذي ستسمعه بشيء غير أذنيك " توقفت دقات القلب " .
هذا هو أنت /أنا فحسب، ماذا تريد ؟، حقيقة تدب على الأرض، أنف وفم، عينان وأذنان، بشريٌ أنت، ماذا تنتظر ؟ مُد إليَّ يدك لنملأ هذا الفراغ الذي تراني/ أراك تدور في رحاه فأنا في صفحة عينيك أراني بوضوح وأنتَ تستشف ما في وريدي لكنهم ـ هم ـ من فحثوا هوة بيننا بعمق خديعة الوقت الساكب في القلب نهراً من سأم يرشح، انظر ـ دمٌ على يديك وبمقلتيَّ دمٌ وللدم في الحلق طعم الصبار ـ هذا ما فعلتَ أصبحتُ ـ أناـ وأنتَ كثيرين، هل تستطيع أن تحصي وجهي أو وجهك في هذه الشظايا، لطالما هجرتني و اغتربتُ ـ أنا ـ عنك في انتظار اليوم الذي تعتذر فيه البشرية جمعاء عما سببته لي ولك من آلام، فانظر ماذا ترى؟ .
تعد النقود ـ خمسة عشر يورو ـ لاتوجد حاجة للوقت الإضافي فأنتَ ستنام لتُرح دماغك من محاضرة سيانا التي تعيدها عليك يومياً بعد أن أنجبتْ منك، تزوجتَك وأنتَ بائع تُحف في بزار، سافرتَ معها للندن، منحتك فرصة عمل بأجر يومي مساوياً عملك أسبوعاً في مصر، تستمعُ إليك بملل وأنت تقرأ مترجماً لها كتاباتك قبل أن ترسلها لمجلة أو جريدة مصرية، تخلع بذلة العمل مرتدياً ملابسك ومتجهاً للبيت الذي يبعد عن محطة البنزين ـ محل عملك ـ مقدار عشر دقائق، تسأل يوسف عاتباً ـ وأنت تسترجعه قاعداً لجنب حنين في القطار عائدين من الجامعة ـ لماذا لم يرد عليك وأنتَ تستشيره في زواجك من سيانا، لا تعود للبيت وتسير هائماً مُطأطأ الرأس والنَّفس الذي يخرج لا تكاد تأخذ غيره، يوسف وجهه في الثلج النازل فوق رأسك باكياً عليكَ، تشعل سيجارة وصوت يوسف في أذنيك " لا تشعل النار فإن الثلج لن يذوب "، أنت تركته نهباً للبحث في الوجوه عن حنين ويتعزَّى بقراءة محاولاتك الأولى لكتابة الشعر.
تقعد حنين لجوارك على حافة رخامية لحوض مشتول بشجيرات فيكس وزهور قد سحب الخريف نضارتها من أعين الناظرين، تفتح كشكول محاضراتها فوق ركبتيك، تضع سبابتها فوق عنوان المحاضرة الأخيرة (الاغتراب )،تنظر في عينيها وتحس بخوف بدائي يَدُكُ صمامات قلبك،تسألك ـ مستنكرة التيه الذي في عينيك ـ ألا يعني الاغتراب بمفهومه الواسع أن كل فرد يعاني من اغترابه الخاص وبذلك تكون البشرية كلها تعيش في اغتراب ؟، أليست الدار الآخرة هي الحيوان وأن الإنسان في الدنيا غريب أو عابر سبيل ؟، تُخوِّض في لُجَّة تفكير عميق يقتلعك من حنين التي تعتقد أنك معها، تحاول ايجاد سبب لطردك من محاضرة الفلسفة الإسلامية لمجرد أنك رفعتَ يدك مقاطعاً دكتور عز الدين مستفسراً، لماذا نقارن دائما بين المدينة الفاضلة وجمهورية أفلاطون ولا يوجد مكان للمدينة المنورة في عهد النبوة والتي كانت واقعاً مثالياً لسائر مكونات المجتمع الإسلامي المرغوب بل استثنائيا ؟، تكون ملتصقة بكَ، كتفك الأيسر تحت يُمناها ويُسراها مثبتة للكشكول وأنتَ تستنشق أنفاسها، تشعل سيجارة ناظراً لشتلات الحوض محاولاً إشعارها بعدم أهمية هذا الكلام ومدندناً لها " في عينيكِ غربة وغرابة وأنا بك مغرم صبانة " *، تمتعض بحركتها التي تأسرك رافعة جانب شفتها مع حاجبها الأيسر في ابتسامة حانية لمغازلتك وهي تمسك بديوان وليد منير ( طعم قديم للحلم ) الذي اشتريتَه من بائع كتب في شارع الثانوية، تنصت إليها وهي تقرأ " الأذكياء وحدهم يرحلون .. تاركين خلفهم حقائب الحنين .. الأذكياء من يحرقون مركب الأماني .. ويبحرون في نداء النور دون طوق "، تكون الفكرة مازالت تراودها فتسألك باستحياء ؛ ألا يكون ذلك هروباً في كل الحالات، يوسف ؟، تمُط شفتيك حاكاً مقدمة رأسك في استجماع للكلام لكن ريحاً متربة لن تفسح لك المجال فتسرعا مُشبَكيّن الأيدي وأعينكم نصف مفتوحة محاوليّن الاستتار من هذه العفرة .
تركب في كبينة السيارة الكبوت عائداً من السنبلاوين للبلد وملك ـ جارتكم بالبيت القديم وخالة عمر صديقك ـ جوارك، تسألها عن عمر، تخبرك أنه لن يعود من الغردقة في إجازة هذا العيد، تطمئن منك على العائلة خاصة أبيك،تقاطعك ـ قبل أن ترد عليها ـ بأنه أثناء فترة زواجها وبعد هجركم البيت القديم بقليل سمعتْ عن إصابة أبيك بحالة من الشرود فهام في البلدان ولم يُعرف له وجهة، تتفجر داخلك سخرية بادية في استجوابك لها " أتعرفين من أنا ؟ "، ترد في هدوء بأنك كنت صغيراً لا تدرك ذلك ثم بنبرة الواثق " ألست بن ياسين القاسم؟ "، عُدتَ للبيت على يقين بأن الذاكرة خانتها فهى مطلقة فوق الخمسين، تفتح الكمبيوتر مستمعاً لفيروز، كل ما تعرفه عن أبيك أنه تزوج أمك أثناء دراسته في مصر وأنه لما كانت السليمانية في مواجهة المدفعية الإيرانية نزح حاملاً إياك بن أشهر على كتفه وأمك تَجُر أخويك ـ سميح وزياد ـ للعيش بين اخوالك، ضرب قلبه الحنين للوطن، اشتعلتْ الحرب على الكويت، عدَّته أمك والناس في الأموات، عاد مع اعدام صدام متزوجاً من أرملة عقيد لها ابنة في العشرين، نظرتَ إليه، نظر إليك، جدار يلتقي جداراً، اشترى شقة تمليك بالمنصورة، يعمل مدرساً للتاريخ، ترككم، زياد سائق توك توك وسميح يدير معصرة القصب التي تصرف على البيت مع قطعة الارض ـ ميراث أمك الذي سيباع لزواج أخويك ـ بينما أنت صبي في مقهى فأمك رفعتْ يدها عن مصاريفك منذ الثانوية العامة، فيروز صوتها كرستالة مبرودة تَحِزُ في شرايينك " شُردتُ عن أهلي مرتين .. سكنتُ في الغياب مرتين .. في الغياب مرتين .. أرضي ببالي وأنا أحترف الحزن والانتظار " .
الأنفار الثلاثة تُشمِّر جلابيبهن عن كلاسين صوف مُتدلي عليها قمصان نوم ستان، عيناك على ليلى ـ برونزية البشرة متناسقة القوام كزجاجة مياه غازية ـ وهي تنتطق بحزام الشَّمرة *، تقترب منها واضعاً تقاوي أرز بالكيس المُتدلي بين فخذيها، قدما ليلى تتنقل ببطء في الطين ـ حتى لا تعكر ماء الأرض ـ حانية ظهرها وعيناك سهم مرشوق في صدر الجلباب المفتوح عن نهدين متكورين بدون صدرية، تقطع ـ هي ـ نظراتك الحادة " ما الأخبار يا جو "، تزدرد ريقكَ بأنه لا يوجد أحسن من ذلك، تغمض عينيك وهي تتجول تحت جفونك، في الصف الثالث الإعدادي أمسكتْ بها الأبلة أحلام ـ ناظرة المدرسة ـ بفصل مُغلق أثناء الفُسحة تمُص شَفة سعاد وتداعبها في أماكن حساسة كأنها ذئب جائع، فضحتهما في طابور الصباح، أثناء دراستها في الثانوية التجارية احترفتْ اغواء سائقي التكاتك فهى تفعل كل شيء إلا أن تُعتَلى، بعد ثلاثة أعوام من زواجها مات رسمي زوجها بنيران إسرائيلية قيل أنها أعيرة طائشة أصابتْ ثلاثة أو خمسة من حرس الحدود المصرية، قبضتْ التعويض، اشترتْ عباءات كِرب وجِل ـ ارتدتها بعد قضاء العدة ـ وتليفوناً محمولاً يعرف رقمه نصف شباب القرية، تُذكرك عندما كنتَ تُحضِر العصا لضربها مُتلذذاً برؤية دموعها وآهاتها تزغرد في أذنيك، تراودها عما بنفسك، يأتي ردها ثلجاً يكوي الرغبة في صدرك ويحرق أعصابك فلا يمكن أن تكون أنتَ، تمازحك داعية لك ـ دعوة ستلزم عنقك ـ أن يرزقك الله بامرأة طازجة .
في امتحانات منتصف العام لسنة اليسانس تغفو أثناء مذاكرتك " الشطح الصوفي بين التأويل والرمز "، ترى أنك ستكون خارجاً من بئر وستدخل غرفتك التي تعرفها ويكون منشاران ـ منشار من أسفل والآخر من أعلى ـ يشطرانك متقابلين، تدفن نفسك في عشرة قبور، تقوم من أحدها بعد ثلاث نابشاً عن التسعة الباقين رابتاً على أكتافهم فيكونوا واحداً متكاملاً وتصير عصفوراً أخضر يحمل مقدار حبة فول من رفاتهم جميعاً بحوصلته محلقاً في كون الله، تفيق على قرآن الفجر يملأ أذنيك " فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيبت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وددت لو تعدو حتى آخر الكون منشداً بِلُغَةِ هدهد مذبوح علَّ النشيج الذي بصدرك تنكسر حِدته أو أن تعيش هناك ـ حيث لا يمضي الوقت أو يأتي ـ في انتظار ما تريد، تصلي الفجر في جماعة داعياً الله ـ في السجود الأخير ـ أن ينجيك من شر نفسك ومن شر خلقه وأن يجمعك على حنين .
حقيبة بها ملابسك وبعض الكتب تحملها في كتفك ( حملتها منذ سنتين ـ وأنت لا تعرف إلى أين ستتجه ـ تاركاً غرفة السطوح التي قضيتَ فيها أربع سنوات بالجامعة بعد زواج أخيك زياد بالدور الثاني ولا يصح أن تكون لك حجرة بالدور الأول المتزوج فيه سميح، رسبتَ في اليسانس، قررتَ سحب ملفك، فمادامت لا توجد وظائف ماذا تفعل بليسانس آداب فلسفة،لم تتحمل نظرات أمك وأخويك وأي يوم دراسي يكون بدون رؤية حنين، في الغردقة عرفتَ سيانا أكثر من عشرين مرة في شهر، كانتْ تتمتع بحيوية بنت العشرين بالرغم من بلوغها الأربعين ) لا تستطيع النظر خلفك ولا ترى أمامك،تحمل سيانا الطفل بين يديها مع " game over جوزيف " والتي تكون كماء بحر يغمر جروحك النازفة، تكون قصبة مفرغة لا يلزم تجنيد الكون بأسره لكسرها،لك ديوان شعرـ أسميتَه القلب بالوهم اهتدى ـ ولها الطفل .
تسير بيدك كيس بلاستكي فيه ظرف ورقي يضم جميع صورك مع حنين إلا صورة كانت ترتدي فيها طرحة بيضاء تحتها اشارب وردي وأنتَ تنظر لوجهها المريمي في سكون ـ وهي نائمة على كتفك ـ أثناء رحلة للأقصر ومعه بعض الهدايا والتذكارات، عيناك على فرس يَجُر عربة أنابيب غاز وحوافره تنحت الإسفلت محاولاً عبور مزلقان السكة الحديد بينما صاحبه يبرحه ضرباً بالكرباج، لا تقدر على انتزاع ذاتك من آخر لقاء معها، مشتْ لجوارك وهي تَجر قدميها مثلك الآن، لم تطلب منك ـ كعادتها ـ التِّجوال للفرجة على عروض محلات الملابس والأحذية بالسكة الجديدة أو المشَّاية، جلستما على كافتريا كانتْ تخنق رغبتها للكلام في تذويب الشاي الذي لم تشرب منه شيئاً، حدثتها عن زميلتها غادة التي تشبه برميل المخلل وكيف لها القدرة على خداع نفسها والآخرين باسم الحب، حكتْ عن أول احتفال لها بعيد ميلاد عندما كانتْ في الثامنة وأن أمها ابنة ميسورين وقد صممتْ على الزواج من أبيها رغم ضيق حاله وعمها الذي يعيش معهم للآن بدون زواج، وصفته ـ عيد الميلاد ـ بأنه كان محاولة باهتة للبحث عن معنى فقد كان بستِ شمعات متبقية من فرح خالتها، أطفأوا النور للحظات، قبَّلها أبوها في صمت، كانت تمعن النظر في دُمية على المنضدة، كان حديثها مضطرباً غير مفهوم السبب، قلتَ لها إن منصور صديقك وزميل عمها لم يف بوعده ولم ويُكلم عمها ومع ذلك لم تعتب عليه فقد طلق زوجته متفرغاً لشرب الشيشة والمحاماة، كلمتكَ على المحمول بعدها بيومين عن رامي الذي كان زميلك قبل رسوبك سنتين بالثانوية العامة وأن أباها أقر خطبتها له، تُسلم الكيس بما فيه لغادة طالباً منها أن تقول لحنين إن يوسف ترك جسده للذي كان يزاحمه فيه .
تفتح باب الغرفة ( التي دخلتها منذ ثلاثة أيام وكأنك تدخل مقبرة فرعونية، الرطوبة تركتْ مِسحة زيتية اللون على كالون الباب الذي فتحته بصعوبة بينما نسجتْ العناكب شبكة خيطية تغطي السقف ومنضدة الكمبيوتر الذي بعته قبل السفر تكسوها طبقة كثيفة من الهبو والسرير كما تركته غير أن قليلاً من الحشرات الزاحفة عليه مع بعض ذرات ترابية وخيوط عنكبوت، رميتَ جسدك الذي بلا روح غير مكترث لذلك، صلبتَ نظرك على صورة حنين المُعَلقة على دولابك الصغير لجوار المرآة الملصقة به، لا تريد رؤية أحداً ) بعدما زاد طرق الباب عن حدِّه وسألتَ من الطارق فردَّتْ زوجة أبيك، علمتَ من سنة أن أباك قد مات ولم يعنِ موته لك شيئاً فقد كان مجرد دليل على أنك من نسل آدمي، تُسلمك ظرفاً ورقياً ـ تقول إن أباك أوصى بتسليمه لك ـ بعد " حمداً لله على رجوعك"، تاخذ الظرف مديراً لها ظهرك دون ردٍ وهي تنصرف، تقف أمام المرآة ماسحاً عنها الغبار وتُخمن ماذا يمكن أن يتركه لك أبوك، تفرد المظروف وأنتَ تسمع وقع أقدام صاعدة على السُلم، أربعة أسطر تقرأها بدون مقدمات { ابني ومن كنتَ أباً له ولم يجمعنا إلا رباط النسل، لمَّا كانت أمك تمقتني على أني مَنْ أفسد حياتها وكانتْ ملامحك خالصة لي كنتَ لها الذكرى المؤلمة، ولما خفتُ ـ بني ـ أن تسألني خبزاً فأعطيك حجراً أردتُ أن أعلمك كره الآباء والأجداد، لذلك ـ بني ـ لم أجتمع أنا وأنتَ تحت سقفٍ واحد وما أريدك أن تعلمه عن أبيك أنه ولِد ثم عانى ثم مات }، تسقط الورقة ويتناثر عليها دمٌ من يدك التي تكسر المرآة بينما روحك مجرد سبي لفراغ حلزوني تعلو وتهبط فيه بلا نهاية، تنصتُ للهاتف المنبعث من أعماقك، تمسك شظية تحاول بها العبور إلى ما تريد، يكون جميع من عرفتهم أشباحاً تتراقص في فضاء ضبابي أمام عينيك محتجزين بين جبلين ومن فوقهم طير أبابيل ترميهم بحجارة بينما تهرول وحنين معك لكنها تنظر للخلف والأرض تنشَّق لتبتلعهم فتُمسخ تمثالاً صخرياً وأنتَ ما زلت تهرول متساقطاً أنملةً أنملةً، تَخِرُ جسداً فاقد الوعي قبل أن يصل حدّ الشظية لوريدك .