في هذه الحكاية ينسج الكاتب الألماني عالماً خيالياً يتصالح فيه الجمال مع الشر كصنو لجريان الحياة الجميلة والموت المحتمل في أية لحظة من خلال علاقة بنت الملك الوحيدة بالتنين المتوحش وما فعله التنين في شباب المملكة والممالك المجاورة. فأصبح الجميع ينتظر المخلص الذي سيقتل التنين ويتزوج الأمير. لكن ذاك المخلص يقتله ويمر عابرا في طريقة كرمزٍ للخير المطلق.

قاتل التنّين

راينر ماريا ريلكه

ترجمة حسين الموزاني

كان هناك بلد جميل ومترع بالخصب وغنيّ بالغابات والحقول والطرقات والمدن، وثمّة ملك عجوز، يعتبر من أكبر الملوك سنّاً وأشدهم فخراً وكبرياء، وقد جعله الإله يتربع على عرش البلد.
ولم يكن لهذا الملك ذريّة سوى ابنة واحدة، وكانت بالغة الحلم وبارعة الحسن وذات فتوة متفردة ومتجددة على الدوام. وكان الملك يرتبط بصلة قرابة مع العروش كلّها في البلدان المجاورة، إلا أنّ ابنته لم تزل صبيّة ووحيدة كما لو أنها كانت منقطعة، بلا أقرباء. وبلا شكّ أنّ حلمها ورقتها وهيبة طلعتها الرقيقة الطاهرة كانت سبباً بريئاً لذلك التنيّن الذي كان حجمه يتسع على الدوام ويتفتح كلما تسلل نحو البلدة حتى بلغ أخيراً الغابة الواقعة أمام أجمل بلدة في البلد، فحلّ كما لو أنّه الرعب نفسه مجسّداً، إذ كانت هناك علاقة سرّية بين الفتاة الجميلة والوحش الرهيب، فكانا يكملان بعضهما بعضاً في موضع محدد مثلما الحياة الجذلة والموت اليومي الوشيك.
وهذا لا يعني بأن التنيّن كان يقف موقف العداء من السيّدة الشابة، مثلما لا يصح الادعاء بكلّ إمانة وضمير بأن الموت نقيض الحياة. ولعلّ هذا الحيوان الضخم القاذف النيران سيقرفص كالكلب إلى جانب الفتاة الوسيمة، وربما لا يتردد عن تقبيل يديها اللطيفتين، وبخضوع حيوانيّ، إلا بسبب بشاعة لسانه. بيد أن أحداً لم يخضع بالطبع هذا الأمر للتجربة، لاسيما وأنّ التنيّن كان يجهز، وبلا رحمة، على كلّ من تسوّل له نفسه التوغل في محيط جبروته، فبدا كالموت المبين الذي يقبض بتلابيب الجميع، بمن فيهم الأطفال والقطعان، فيظلّ ممسكاً بهم.
ومن المرجّح أن الملك لاحظ ذلك بارتياح بالغ، لأنّ المحنة الكبرى والخطر المحدق سيجعلان الكثير من شبّان مملكته رجالاً أشداء. فحمل الشباب من مختلف طبقات الشعب، نبلاء وتلامذةَ رهبنة وخدماً، حملةَ رجلٍ واحد، كما لو أنهم كانوا يشنون حرباً على دولة أجنبية نائية، فذاقوا طعم البطولة ساعة واحدة حاميةَ الوطيس ومقطوعةَ النفس، شهدوا فيها الحياة والموت والأمل والخوف والأشياء الأخرى كلّها - كالحلم. وبعد بضعة أسابيع لم يخطر في ذهن أحد أن يحصي أولئك الشجعان الصرعى أو يدوّن أسماءهم، إذ أنّ الشعب اعتاد في تلك الأيّام العصيبة حتّى على الأبطال، فلم يعدوا في نظرهم من الرجال الخارقين. فصرخ آنذاك الشعور الإنساني والفزع وجوع الآلاف، فأصبحوا كالضرورة، أو كالخبز، ومثلما تقتضي القوانين السارية المفعول حتى في زمن الويلات.
وبعدما أصبح عدد أولئك الذين ضحّوا بأنفسهم إثر مقاومة يائسة يزداد على الدوام، بحيث أن كلّ عائلة تقريباً في البلد، فقدت خيرة أبنائها (وكان أغلبهم في مقتبل العمر) بات الملك يشعر، وعن حقّ، بقلق من أن يفنى أبناء البلد الأبكار كلّهم فتترمل أغلب الفتيات الشابات ويعيشن حياة الوحدة سنوات طويلة خالية من الإنجاب، فمنع الملك حينئذ رعيته من القتال. لكنّه أبلغ التجّار الأجانب الذين تمكّن منهم الهلع فهربوا من البلد المنكوب بإيصال رسالة إلى الملوك الذين وقعوا تحت وطأة ظروف مماثلة منذ زمن بعيد: بأن كلّ من يفلح في إنقاذ البلد البائس من الهلاك ستُقدم له ابنة الملك هبةً، مهما كان أصله، نبيلاً أو ابن جلاّد وضيع.
واتضح أنّ البلدان الغريبة كانت مليئة بالأبطال أيضاً وأن الجائزة النفيسة لم تعدم أثرها، بيد أن الغرباء لم يكنوا أوفر حظاً من أهل البلد أنفسهم: فهم لم يأتوا إلا لكي يلقوا حتفهم.
وفي تلك الأيام طرأ تغيير واضح على ابنة الملك، وإذا كان قلبها حتى ذلك الحين مثقلاً بالحزن والوبال الذي آل إليه مصير البلد الذي كان يتمنى هلاك الغول، فإنها لجأت، بفعل سذاجة شعورها، وكذلك لأنّها أوقفت لرجل مجهول شديد البأس، لجأت إلى التحالف مع التنيّن الذي ضيّق عليهم الخناق، بل إنّ الأمر وصل إلى حدّ أنها ابتدعت وبتأثير من صدق حلمها وصراحته أدعيةً من أجله، وطلبت من النسوة القديسات أنّ يضعن الغول تحت حمايتهن.
وذات صباح عندما استيقظت وجلةً تماماً من هكذا أحلام تناهت إلى سمعها إشاعة جعلتها تشعر بالرعب والاضطراب معاً. قيل إنّ رجلاً - يعلم الله من أي مكان - جاء لمنازلة التنين، إلا أنه في الواقع لم يتمكن من الإجهاز عليه تماماً، ومع ذلك فإنه تحرر من براثن العدوّ المروّع جريحاً ينـزف دماً، فأخذ يزحف في الغابة الكثيفة الأشجار، حيث عثر عليه بارد الجسد في درعه الحديديّ، فاقداً الوعي، فجلب إلى بيت منفرد معزول، بدم ساخن تحت العصابات الحارقة، وتتنازعه رعشات الحمّى.
حين تلقّت الفتاة هذا النبأ تمنت لو أنها انطلقت حالاً في الطرقات بقميص نومها الحريريّ الأبيض لتقف عند فراش الرجل المحتضر. ولكن بعد أنّ ألبستها الخادمات ثيابها، ثمّ أخذت تتطلع إلى فستانها الساحر ووجها الواجم جيئة وذهاباً أمام مرايا القصر العديدة، فقدت شجاعتها على القيام بعمل خارق، بل إنّها لم تجرؤ حتّى على إرسال خادمة كتومة السرّ إلى البيت الذي رقد فيه الفارس المحموم الغريب، لتجلب له المسكنات وضمادات الكتّان الرقيقة أو مرهماً يسكّن للآلام.
فوقعت فريسة الاضطراب حتى كادت تصاب بالسقم، وبعدما جنّ الليل جلست الأميرة عند الشبّاك وحاولت أن تخمّن البيت الذي فارق فيه الرجل الغريب الحياةَ؛ إذ أنّ موته بدا لها أمراً بديهياً. ولعلّ امرأة ما كانت ستنقذه من الموت الوشيك، لكنّ هذه المرأة كانت في الواقع أشدّ خوفاً من قدرتها على زيارته، فرسخت في ذهنها فكرة مفادها أن حياة البطل الجريح كانت رهن يدها، هي نفسها، وباتت لا تستطيع الفكاك منها.
وفي اليوم الثالث الذي أمضته باللوم وعذاب الضمير ألقت بها هذه الفكرة أخيراً في ليلة الربيع الحالكة السواد الممطرة و المرعبة، فهامت على وجهها كما لو أنها كانت تطوف في قاعة مظلمة. ولم تكن تعلم كيف ستتعرف على الدار التي كانت تبحث عنها، غير أنها تعرّفت عليها ببساطة عبر نافذة مشرعة وضوء متوهج وسط الغرفة؛ وكان ضوءاً مستطيلاً عجيباً، ليس من شأنه أن يساعد على القراءة أو النوم. فمرقت ببطء أمام الدار، حائرةً ومسكينةً وغارقةً في نوبة من الحزن للمرّة الأولى في حياتها، ثمّ تابعت سيرها، فسارت بعيداً بعيدا. وحينئذ توقف المطر عن الهطول فانتصبت نجوم ضخمة منفردة بين خطوط الغيوم المتفرقة، وفي بستان ما أنشد طائر مغرّد مطلعَ مقطع شعريّ لم تستطع إتمامه بنفسها، وكان الصوت يرتفع كلّ مرّة، متسائلاً من جديد؛ صوت انطلق من السكون عظيماً مدويّاً مثل صوت طائر عملاق استقر عشّه على ذرى أشجار تسع من السنديان.
أخيراً وعندما رفعت الأميرة بصرها المبتل بالدموع عن دربها الطويل لمحت غابةً يقف خلفها طيف من تباشير الصباح، وأمام هذا الطيف أرتفع شيء ما أسود داكناً، تراءى لها وكأنه بات يقترب منها. واتضح أنه كان يعتلي جواداً، فدست الأميرة نفسها ودون إرادة منها بين الأحراش البليلة المعتمة. فمر بها على مهل، وكان جواده أسود بفعل العرق الناضح، ويرتجف. وبدا الرجل نفسه يرتعد أيضاً، وقد ارتطمت حلقات درعه ببعضها البعض مولدة رنيناً خافتا. وكان حاسر الرأس، بلا خوذة، ويداه مجردتان، والسيف يرتخي معلقاً في جانب السرج، ثقيلاً ومتعبا. فأمعنت البصر في وجهه، في صفحة الوجه بالذات، فبدا وجه الفارس ساخناً وشعره أشعث متطايرا.
ثمّ تطلعت إليه من الخلف فترةً طويلةً، فأدركت: بأنه قتل التنيّن. ودفعة واحدة ذهب عنها الحزن، فلم تعد مجرد فتاة حائرة ضائعة في تلك الليلة، بل مقترنة به، نعم، بهذا البطل الغريب المرتعد الأطراف: فأصبحت ملكاً له، كما لو أنها أصبحت شقيقة سيفه دفعةً واحدة، فحثت خطاها إلى القصر، لكي تنتظره. ودخلت مخدعها دون أنّ يلحظها أحد، ثم سارعت إلى إيقاظ الخادمات طالما كان الأمر ممكناً، وطلبت منهن إحضار أجمل فساتينها. وبينما كانت الخادمات منهمكات في تهذيب فستانها استيقظت المدينة مغمورة بسعادة لا متناهية، وأخذ الناس يتهللون فرحاً، وكادت النواقيس تقرع بعضها بعضاً من في الأبراج.
والأميرة التي سمعت الصخب أدركت فجأةً بأنه لن يأتي، فحاولت أن تتخيله، مأخوذةً بامتنان الجموع: بيد أنّها لم تتمكن من تخيله، فبحثت بخوف إلى حدّ ما عن صورة البطل الوحيد، المرتعد، مثلما رأته لتحتفظ بها، كما لو كان من المهمّ تماماً أن لا تنسى صورته. وعلى الرغم من علمها بأن أحداً لن يأتي، فإنها شعرت بنشوة احتفالية، ولم توقف الخادمات اللواتي كنّ منهمكات في تزيينها، وجعلتهن ينظمن اللؤلؤ والزمرّد في شعرها المبلل، مما أدهش الخادمات حتّى. ثمّ أصبحت الأميرة جاهزة، ورشقت الخادمات بابتسامة ومرقت شاحبة الوجه بعض الشيء أمام المرايا، تحت حفيف فستانها الأبيض الذي كانت أذياله ترفل خلفها على مسافة بعيدة.
بينما تربع الملك العجوز على العرش في الصالة المهيبة، وقوراً، وفي غاية الجدّ، ومحاطاً بحاشية المملكة العتيدة المتألقة، ينتظر قدوم البطل الغريب، البطل المنقذ.
لكن الفارس واصل طريقه بعيداً عن المدينة، فتشكلت حول رأسه سماءٌ عاليةٌ مليئة بالقبّرات، ولو عنّ لأحد أن يذكره بثمن ما فعله لرجع ضاحكاً؛ إذ أنّه نسيه تماما.