وجيه غالي حالة ملتبسة ومعقدة في الثقافة المصرية والعربية. هنا يقتفي عبدالرشيد محمودي خطواته ويتعرف على مسيرته وإنجازه ويسعى لإماطة اللثام عن بعض غوامضه.

البحث عن وجيه غالي

عبدالرشيد الصادق محمودي

من هو وجيه غالي؟ قليلون هم الذين قرأوه أو سمعوا به  في العالم العربي. ويبدو أن القليلين الذين عرفوا شيئا عنه يحجمون عن ذكره كتابة. وربما كان سبب ذلك أن وجيه زار إسرائيل بعد هزيمة يونيو 1967 (ولعله كان بذلك أول المطبعين والمهرولين - على الأقل بصفة علنية)، وأنه انتحر. وهناك إذن صمت يحيط بالرجل رغم أنه كان مصريا وأنه يحظى ببعض الشهرة في الخارج. فقد ألف بالإنجليزية رواية "البيرة فى نادي السنوكر" (السنوكر نوع من البلياردو) التي نشرت لأول مرة في سنة 1964 وأعيد طبعها أكثر من مرة، ولقيت ترحيبا وتقريظا من عدد من النقاد. فقد رأت أهداف سويف أنها رواية ممتازة، وفضلها جابرييل جوسيبوفتشى ـ الناقد المعروف وأستاذ الأدب في جامعة ساسيكس ـ على "رباعية الاسكندرية" للورنس دريل. يضاف إلى ذلك أن الكاتبة الإنجليزية المرموقة ديانا آتهيل ألفت عن وجيه غالي كتابا عنوانه "بعد الجنازة" (1986).

وأعترف للقارئ بأنني لم أقدم على الكتابة في هذا الموضوع الشائك إلا بعد كثير من التردد وبأن الكتابة لم تكن بالمهمة السهلة. وكان في الموضوع إذن ما يصدني عنه، ولكن كان فيه أيضا ما يدفعني إلى الإقدام. ومما دفعني إلى الكتابة أنني استشعرت قدرا من المسؤولية في قبول التحدي، بل وجدت متعة في ذلك. إذ ماذا عساه يكون مصير فن الكتابة إذا لم ينهض بالتصدي للموضوعات الشائكة؟ وهل يجوزأن يكون في معارفنا التاريخية والأدبية مثل هذه الثغرة التي يسهل سدها؟ ومما أغراني بالكتابة أيضا أن الموضوع يعود بي إلى فترة (هي الستينيات من القرن الماضي) ومكان (هو لندن ومنطقة هامبستد على وجه التحديد) عاصرت فيهما وجيه غالي. وكانت الكتابة عنه تعني وفقا لما تخيلت أن أعود إلى مسرح الأحداث في هامبستد، وأن  أزور ديانا آتهيل لأجري معها مقابلة صحفية. وصحيح أنني قرأت لوجيه غالي دون أن أعلم أنه يسكن غير بعيد من مسكني ومن نطاق جولاتي، ولكن هذا التجاور في حد ذاته وفي ظل ظروف الهزيمة بصفة خاصة فرض على ما يشبه دور الشاهد الذي لا ينبغي أن يلوذ بالصمت إزاء تلك الثغرة المعرفية. 

والغريب أن حياتي منذ ذلك الحين ظلت تواجهني بين حين وآخر بما يستدعى وجيه غالي. كنت في لندن، و في غرب هامبستد على وجه التحديد، عندما قرأت روايته (لا أذكر الآن هل كان ذلك في طبعتها الأولى أم في طبعتها الثانية)، واسترعت اتباهي لأن مؤلفها مصري يكتب بالإنجليزية، واستمتعت بقرائتها لمهارة المؤلف وخفة ظله وتمكنه من الإنجليزية، وإن بدا لي أنها تتسم بالنزق والسطحية. وحقيقة الأمر أنني لم أكن في حالة تسمح لي بتقديرها حق قدرها؛ فقد كنت أحيا في جو الهزيمة التي وقعت في سيناء وامتدت آثارها إلى نفسي. ثم قرأت في صحيفة التايمز خبر زيارة المؤلف لإسرائيل واطلعت على مقالتين كتبهما من القدس. ولما قرأت خبر انتحاره - في نفس الصحيفة على ما أظن - شعرت أن صفحته انطوت من حياتي. 

وتاهت الرواية من بين ما تاه من كتبي. وغاب وجيه غالي عن ذاكرتي   وفقدت الاهتمام به إلى أن أخبرني صديق في التسعينيات من القرن الماضي وكنت عندئذ أعيش في باريس أن صاحبة المسكن الذي كان يقيم فيه وجيه أى ديانا آتهيل ألفت عنه كتابا. وتمنيت أن أقرأ الكتاب ولكنني أخبرت عندئذ أنه نفد. ثم مرت بعد ذلك سنوات عديدة قبل أن أحصل على الرواية في طبعة حديثة (1986) وأقرأها مرة ثانية. ولما وجدت على غلاف الظهر تزكية أهداف سويف للرواية بدأت تراودني فكرة الكتابة عن وجيه غالي، كما بدأت مقاومتي لها. فقد تكرمت أهداف سويف فأرسلت إلى نسخة من مراجعة كتبتها عن كتاب ديانا آتهيل (انظر مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس"، 3 يوليه 1986)، وعرفت منها كثيرا من تفاصيل مأساة وجيه غالي. فأصابني النفور. ثم حصلت على نسخة من كتاب ديانا آتهيل، وانتابني الجزع عندما قرأته وهالني أن أغوص في تلك الرمال المتحركة. 

ومن الواضح مع ذلك أنني كنت أسعى رغم المقاومة إلى جمع المادة اللازمة للكتابة وإلى توريط نفسي. ومن ذلك أنني لم يقر لي قرار حتى حصلت على نسخة مما كتبه وجيه فى التايمز؛ وبدأت أبحث عن طريقة للاتصال بديانا آتهيل حتى تتيح لى فرصة الالتقاء بها عند ذهابي إلى لندن. فلما سنحت الفرصة أسقط في يدي وانغلق علىّ الفخ الذي نصبته لنفسي. 

الفتى المدلل
أريد أولا أن أبحث عن وجيه كما يبدو في روايته "البيرة في نادي السنوكر"؛ فهي تتخذ صراحة طابع السيرة الذاتية. وقد كتبها بضمير المتكلم، وإن اتخذ لنفسه اسما مستعارا هو رام. ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أن علينا أن ننظر إلى الرواية بوصفها سجلا دقيقا لكل ما حدث لمؤلفها. فالمؤلف شأنه شأن سائر كتاب السيرة الذاتية يتصرف في وقائع حياته بقدر أو آخر، ويقدم نفسه للقارئ بالطريقة التي يرتضيها. فلنقل إذن إن الرواية تصور في مجملها أطرافا من حياة صاحبها من وجهة نظره الخاصة. وسوف نرى فيما يلي عندما نتناول وثائق أخرى مثل كتاب ديانا آتهيل وما اقتطفته من يوميات وجيه ورسائله أن بعض التفاصيل التي ترد فى الرواية لم تقع أصلا، وأن بعضها الآخر في حاجة إلى تعديل عن طريق الحذف أو الإضافة. غير أنني لن أستعين في بادئ الأمر بالمعلومات التي ترد في هذه المصادر إلا بقدر ما تتعلق بتفاصيل ثانوية لا تضيف الكثير إلى ما تتضمنه الرواية ولا تعدل من صورة بطلها على أي نحو مهم.

فنحن نعرف من الرواية أن وجيه ولد لعائلة من كبار الملاك الذين يحيون  في القاهرة حياة رخية مترفة ولا يعرفون عن الريف إلا أنهم يتلقون منه ريع أطيانهم، وأنهم ذوو ثقافة أوروبية. فهم يرسلون أبناءهم إلى مدارس إنجليزية بينما يرسلون بناتهم إلى مدارس فرنسية، ويستخدمون في حياتهم اليومية الفرنسية بصفة خاصة. كما نعرف أن أبناء الأسرة في القاهرة ومن بينهم وجيه كانوا ينشأون على جهل باللغة العربية ولا يصلهم من الثقافة المصرية إلا القشور. وبما أنهم يعيشون في تلك الفترة التي تتناولها الرواية فترة الخمسينيات فإن الطبقة التي ينتمون إليها كانت في طريقها إلى الزوال على نحو أو آخر. فنحن نرى في المشهد الاقتتاحي خالة وجيه وهى توقع على عدد ضخم من العقود الصورية التي تتنازل بمقتضاها عن معظم أملاكها.

ويقول المؤلف: "الواقع أن وجود أب للمرء في مصر ترف غير شائع. فأمهاتنا متزوجات وفقا للقانون وما إلى ذلك، ولكن أزواجهن يمتن في شبابهن بحيث لا يتجاوز متوسط العمر بينهم خمسة وثلاثين أو ما يقارب ذلك. وقد انتقلت بي أمي وأنا في الرابعة لنعيش في بيت جديّ. وعند بلوغي السابعة كانت هناك ثلاث خالات مترملات وثمانية أيتام يعيشون مع جدي وجدتي ..." لغة الكاتب هنا تقريرية صريحة؛ فهل كل ما يقوله صادق، أم أنه سمح لخياله أن يعبث بالحقائق على نحو أو آخر؟ إننا لسنا مضطرين إلى البت في هذه المسألة. ويكفي على سبيل الحذر أن نستخلص على وجه الإجمال أن البطل قضى فترة من طفولته في بيت جديه وأنه عاش في بيئة تسيطر عليها النساء. ويبدو أن السيطرة الكاملة آلت في نهاية المطاف إلى تلك الخالة التي تظهر فى المشهد الافتتاحي. فنحن نراها في مشهد آخر بوصفها صاحبة الحل والعقد:  تترأس مجلس العائلة وتنظر في أحوال "رعيتها" وتتخذ في مشكلاتهم الحيوية قرارات نهائية. كما يبدو من علاقات وجيه بالخالة الرئيس ومن مواقف أخرى في الرواية أنه ولد للفرع الفقير من العائلة، وأنه كان يعتمد هو ووالدته على رعاية جديه إلى أن انضويا تحت رئاسة الخالة المذكورة.

وقد حظى وجيه بكثير من المزايا التي تسبغها العائلة على أبنائها حرصا على السمعة والمظهر. فقد ذهب إلى مدرسة إنجليزية. وكان باستطاعته وهو شاب أن يجد من المال ما يكفى لحسن مظهره وللإنفاق على أناقته ومباذله بما في ذلك الخمر والقمار. ولكنه كان رغم ذلك يحتل مرتبة دنيا في نطاق العائلة بحكم فقره واعتماده على الخالة. وقد زاد الأمر سوءا أنه كان مشاكسا متمردا غريب الأطوار. وقد جاء في أحد النصوص التي اقتطفتها ديانا آتهيل من رسالة لوجيه ما يدل على أنه كان طالبا متفوقا حتى إتمام الدراسة الثانوية؛ فقد أتم الدراسة وفقا للنص المذكور وهو في الخامسة عشر من عمره. ولكن يبدو إذا صدقنا ما جاء في الرواية - أن كرم العائلة ضاق عنه عندما بلغ تلك النقطة من حياته التعليمية؛  فهو لم يبعث إلى الخارج للدراسة الجامعية مثل سائر أبناء العائلة، والتحق بكلية الطب في جامعة القاهرة (وإن كنا نعرف من مصادر أخرى أنه قضى فترة في باريس يدرس في السوربون، كما قضى فترة دراسية في لندن). ولعله بدأ حياة العبث والبوهيمية فى المرحلة الجامعية؛ فهو لم يكن يواظب على الحضور، وكان يفضل الانضمام إلى المظاهرات أو اللهو مع أصدقائه وزملاء الدراسة.

كان يتصرف كأنه من "أبناء الذوات" المرفهين المدللين رغم أنه لم يكن يمتلك الموارد اللازمة لذلك. وكان يحيا إذن حياة طفيلية محمولا على موجة العائلة كما يقول؛ فإذا انحسرت هذه الموجة دون تحقيق مطالبه حملته موجة أخرى من كرم أصدقائه. وهو يجد دائما من يدفع عنه حساب الويسكي في جروبي، أو من يمده بالمال لكي يلعب البوكر في نادي الجزيرة، أو من يتحمل نفقات سفره هو وصديقه فونط إلى لندن والإقامة فيها.

وتدور أحداث القصة بين القاهرة ولندن دون التزام صارم بالترتيب الزمني. فهناك جزء افتتاحي تدور أحداثه في القاهرة، يتلوه جزء ثان عما وقع لرام وصديقه قبل ذلك في لندن، وبعد الرجوع على هذا النحو إلى الماضي يوجد جزء ثالث تستأنف فيه رواية الأحداث كما تقع في القاهرة. وفي هذا الجزء الأخير يضع المؤلف نهاية "سعيدة" للقصة. فالبطل يجد هنا حلا رائعا لكل مشكلاته. وذلك أن فتاة ثرية هي ديدي نخلة - كان قد أغواها في لندن وتيمت به حبا تقبل الزواج منه رغم إفلاسه وتقبل بالتالي أن تتكفل به وبوالدته.

وباستطاعتنا أن نقول على الفور إن هذا الجزء من القصة من نسج الخيال، لأننا نعلم من مصادر مستقلة أن وجيه غالي لم يكن متزوجا من مليونيرة عندما كتب روايته (في ألمانيا في أوائل الستينيات)، بل لم يكن متزوجا على الإطلاق. 

معشوق النساء
أراد مؤلف رواية "البيرة في نادي السنوكر" أن يقدم عن حياته العاطفية صورة توحي بأن كل شيء يسير على هواه. فديدي نخلة كما رأينا للتو تستسلم له بسهولة وتتحمل عنه مسؤولياته. وهناك إلى جانب ديدي حبيبة أخرى، هي في الواقع أهم الحبيبات في حياة رام وأعلاهن منزلة. وأعني بذلك إدنا اليهودية التي اجتمعت فيها مزايا يندر أن تجتمع في امرأة أخرى وتجعل منها امرأة رائعة خارجة عن المألوف. فهي فضلا عن جمالها وجاذبيتها وأناقتها شديدة الثراء (أبوها من أصحاب المتاجر الكبرى في مصر وأوروبا)، وذات ثقافة رفيعة ووعي سياسي مرهف. وهي تعرف مصر حق المعرفة كما لم يعرفها رام وأبناء طبقته (بل انها هي التي عرفت رام وصديقه فونط بمصر وثقفتهما في شؤونها وشؤون العالم)، وهى تعتز بمصريتها وتحب المصريين والفلاحين بصفة خاصة (بل ان حبها الأول كان فتى ريفيا فقيرا). وهي مناضلة شيوعية؛ وتسكن أحد الأحياء الشعبية، وتتجول في الشوارع مرتدية الجلباب البلدي.

ومن الغريب في هذا الباب أن وجيه غالي وهو الذي كان يجهل الشعر العربى القديم بحكم ثقافته الإنجليزية الصرف - يذكرنا ببعض شعراء الغزل العرب الذين يرون في المرأة المحبوبة تجسيدا للمثل الأعلى للأنوثة وينزهونها عن كل الشوائب التي قد تعلق بجسد المرأة من بنات حواء. فلئن كان امرؤ القيس يقول عن حبيبته "وتصحو فتيت المسك فوق فراشها"، وإذا كان عمر بن ربيعة لا ينسى وهو يسترجع قبل حبيبته "العامرية" أن يهنئ أهلها على "نشرها اللذيذ ورياها التي أتذكر"، فإن وجيه غالي يشيد بطيب رائحة إدنا وهو يرقبها ويتنسم عرفها الطيب وهى نائمة عند ارتفاع أذان الفجر: "نظرت إلى إدنا وهى نائمة ... وكان شعرها يشبه كتلة متشابكة من العقد على الوسادة. لقد وصف سومرست موم الحب ذات مرة بأنه قدرة شخصين على استخدام فرشاة واحدة للأسنان. حب فرشاة الأسنان؟ اقتربت برأسي قليلا من رأس إدنا وإذا بموجة من النفس، من العطر... تقع برقة علىّ."

ومما له دلالة في هذا الصدد أن رام الفتى العابث اللاهي لا يجزع لشيء قدر جزعه للتشوه الذي أصاب خد حبيبته نتيجة لضربة سوط تلقتها من يد ضابط. ومن مزايا إدنا الفائقة أنها رغم ترفعها وما يبدو من بعد منالها تغدق على رام عاطفيا وماليا. وهي تغض الطرف عن مغامرات صديقها مع الأخريات كأنما كانت على ثقة تامة من أن لها في قلبه مكانة لا تتزعزع، أو كأنما كان حبها له أو حنانها عليه مطلقا يفوق كل نوازع الأنانية والاستئثار. فهي تغمض عينيها عن مغامرة له عابرة مع الإنجليزية شيرلي.

ولكن لهذه المغامرة قصة ينبغي أن نتوقف عندها قليلا لطرافتها. وذلك أن رام وفونط يتعرفان في لندن على كمسارية أوتوبيس "بنت بلد" فتدعوهما إلى تناول الشاي في بيتها، ويلتقيان عند زيارتها ببقية أفراد الأسرة: زوجها الأيرلندي السكير، وابنها فنسنت، وبنتها شيرلى، وستيف خطيب شيرلى وهو الجندي الساذج المسكين الذي قضى فترة خدمته العسكرية في عدن والسويس، وإن كان لا يعرف عن الأجانب شيئا إلا ما يمليه عليه الجهل وضيق الأفق. ويذهب الجميع - ومعهم إدنا وفونط - إلى إحدى الحانات؛ وهنالك يدور مشهد من أطرف مشاهد الرواية وأجودها من الناحية الكوميدية. وذلك أن فنسنت يعمد إلى توريط ستيف في الحديث عن الأجانب كما عرفهم فى عدن والسويس، فيقع هذا الأخير في الفخ بسهولة ويغلط أكثر من مرة في حق المصريين (الذين يسميهم العوام "ووجز" على سبيل التحقير) واليهود رغم وجود مصريين ويهودية بين المستمعين. وفى أثناء هذه المعركة غير المتكافئة التي تتراكم فيها سقطات الخطيب وتتجلى حماقته، يغافل رام الجميع ويغازل الخطيبة (يمسك يدها تحت المائدة)، وينجح في إغوائها دون جهد يذكر. وذلك أن السهرة تنقضي بطرد الخطيب لأنه يستفز فيلجأ إلى العنف، وبدعوة رام إلى قضاء الليلة في بيت الكمسارية. وعندئذ تأتي الخطيبة من تلقاء نفسها إلى فراش رام.

كما كانت إدنا تتغافل عن علاقة رام بديدي نخلة، وهى العلاقة التي تنتهي بزواجه من هذه الأخيرة. ونحن نراه في أحد المشاهد يغافل إدنا كما يقول ليقبل قدم ديدي في حديقة هايد بارك. وكل شيء يوحي إذن بأن الحياة تسير على هوى رام وبوهيميته. صحيح أن إدنا ترفض الزواج منه لأن لها - كما تبين في نهاية المطاف - زوجا في إسرائيل، ولكن فقدان الحبيبة الأثيرة لا يغير من حياة رام ولا يترك في نفسه أثرا ظاهرا. فهو يتحول عنها بسهولة إلى ديدي نخلة. وهو لا يحب ديدي في حقيقة الأمر، وهي تعلم ذلك. وهو يعترف لها بأنه ما كان ليرغب في الزواج منها لولا ثرائها. وهو يريد أن يشترى لها أفخر الملابس والمجوهرات وأجمل العطور ويصحبها فى أبدع النزه والرحلات ولكن على حسابها بطبيعة الحال. وهي رغم كل ذلك ترضى به زوجا. 

النفس المنقسمة
هناك إذن كثير من الشواهد التي تؤكد ما قلته من أنني عندما قرأت الرواية لأول مرة شعرت أنها تتسم بالنزق والسطحية. ومع ذلك فإني أرى بعد أن أعدت قراءتها وتمعنت فيها أن انطباعي الأول عنها لا يقبل دون بعض التحفظات. فالرواية في الواقع تثير بعض المشكلات التي تتسم بالعمق لأنها تمس ما يمكن أن يسمى أبعادا وجودية فى شخصية البطل. هناك مثلا تعليقات وملاحظات عابرة تدل على أن الرواية تتضمن إلى جانب شخصية الفتى البوهيمي المنغمس في متع اللحظة الراهنة - ما يشبه الذات المراقبة الناقدة. يبدو هذا بطريقة عابرة وملتوية في أحد مشاهد الحب التي تجمع بين رام وإدنا. ومن الملاحظ أن هذه المشاهد المتعددة تخضع لنمط واحد تقريبا، وهو أن المحبوبة التي تكبر رام سنا وتبدو بعيدة المنال ترخي شعرها في لحظة الرضا والمنح وتطلب إليه أن يصففه لها. ولكن أحد تنويعات هذا النمط جدير بأن يستوقف النظر: "ثم كانت لكل منا كأس أخرى من الكونياك فقبلتها على ركبتها برقة وحنان. وببطء هبطت يدها وأخذت تعبث بشعري وتمسح برأسي على جنبها. مشهد تلقائي ربما وغير مدبر ولكن لعله رغم ذلك قد شوهد في فيلم أو مسرحية أو أوبرا أو كتاب واستحضره الكونياك عن غير وعي." هنا في هذا المشهد الذي يصور ذروة القرب - نستمع إلى صوت الرقيب: فثمة شعور لديه بأن ما يجرى وإن كان تلقائيا أو يكاد ينطوي على شيء من المحاكاة أو التمثيل، أو أنه مستمد غير أصيل أو غير حقيقي.

ومن السهل أن يمر هذا التعليق العابر على القارئ فلا يلحظه. ولكن هذه الفكرة الغريبة وهى أن ما يجرى ليس حقيقيا حقا لا تلبث أن تتكرر وتتأكد في الرواية. ومن ذلك أن المؤلف يرى في بعض أقواله أن الناس الشخصيات الحقيقية ما هم إلا تجسيد لرؤى الفنانين. فهو يصدر روايته بعبارة مقتبسة من دوستويفسكي: "والأحرى أننا نرمي إلى أن نكون شخصيات من نمط خيالي... عام." بل ويقرر ذلك صراحة عندما يقول إن الفنانين يحاولون أن يصفوا الناس بينما يصور الناس [أو لنقل: يجسم الناس] مفهوم الفنانين عنهم."

ويزداد الأمر جلاء عندما نقرأ أن طريقة الكاتب في رؤية الناس والأحداث ناتجة عن أزمة يعيشها وتتعلق في المقام الأول برؤيته لنفسه؛ فهو لا يرى أنه شخصية حقيقية. يقول ذلك في بادئ الأمر في معرض التعليق على حياة التطفل التي يحياها لأنه يعيش عالة على أسرته ثم يعيش عالة على أصدقائه. يقول في هذا الصدد: "وأى حياة هذه برب السماء؟ وهل تسمى هذه حياة؟ وهل تسمى هذا [يعنى نفسه] رجلا؟"

وهو يذكر أن الأزمة بدأت في لندن. فهو في القاهرة لم يكن يشعر أو لم يكن يكاد يشعر بأن حياته كعالة أو أن حياته بصفة عامة أمر غير طبيعي. ولكنه يذكر مناسبة معينة في لندن عندما شعر لأول مرة أنه منقسم إلى كائنين: "أحدهما مشارك فى الحدث والآخر يرقب ويصدر الأحكام." وهو يقول إن الانشقاق لم يكن كاملا عندئذ. ففي تلك الفترة كانت القوتان قد بدأتا في الشد كل من ناحية. وهو في موضع آخر من الرواية يقول: "من الواضح لدذي الآن أننا أنا وفونط قد فقدنا أفضل ما كان لدينا على الإطلاق: الهدية التي أهديناها بحكم مولدنا إذا صح التعبير؛ شيء لا يوصف ولكنه متين وخفي وفي المقام الأول طبيعي. فقدناه إلى الأبد... وبالتدريج فقدت نفسي الطبيعية. أصبحت شخصية في كتاب أو في عمل آخر من أعمال الخيال؛ أصبحت أنا ممثلي في مسرحي؛ وأصبحت أنا متفرجي في مسرحيتي المرتجلة. فالجمهور المتفرج والمشاركون في الأحداث المسرحية كلاهما واحد شخصية خيالية." وفي موضع آخر من الرواية يقول: "ثمة ما يشبه الخداع [أو التحايل] في كل ما أفعل."

وبطل الرواية ليس إذن منخرطا تمام الانخراط فيما يمارسه من لهو وعبث؛ ففي نفسه جزء يراقب ما يجري ويحكم عليه بالزيف أو الإيهام. ومؤدى كل ذلك أن رواية "البيرة فى نادي السنوكر"، وهي القصة الكوميدية تشير أحيانا إلى وجود مأساة في حياة بطلها. بل ان المؤلف يستخدم صراحة كلمة "المأساة" في وصف حالته: "منذ المجيء إلى لندن وأنا أتحرك نحو الأمور المأساوية وكأنني لا أتمتع بإرادة حرة."

قلنا إن رواية "البيرة فى نادي السنوكر" تتسم لأول وهلة بالمرح والنزق. ولكننا نكتشف إذا قرأناها بعناية أن البطل رام ليس منغمسا تماما في حياته الطفيلية اللاهية، وأن بوهيميته وسعيه لتحقيق المتعة والمصلحة الشخصية لا يستغرق كل شخصيته، بل ان هناك جزءا من نفسه لنسمه الضمير يراقب ما يجري ويتساءل: هل هذه الحياة التي أحياها وجود حقيقي أم أنه وجود زائف؟ هل الرجل الذي هو أنا إنسان حقا أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تحايلا وخداعا وتمثيلية أنا مؤلفها والممثل فيها والمتفرج عليها فى مسرحي الخاص؟

وبالإضافة إلى هذه الأبعاد التي يمكن أن توصف بالوجودية تتضمن شخصية رام جوانب تتعلق بوعيه السياسي. فهو في نهاية المطاف يساري أو ماركسي أو شيوعي؛ وهو ناقد لنظام عبد الناصر وصاحب آراء في المشكلة الإسرائيلية. ونحن إذ نتناول هنا تلك الأبعاد الوجودية والسياسية - في شخصية البطل مضطرون إلى نقدها من حيث هي عمل فني. وذلك أن الأمر يتعلق في هذه الحالة بالنظر في مدى العمق الذي تتسم به الرواية في معالجة تلك المشكلات الوجودية والسياسية.  

الوجود الحقيقي والوجود الزائف
فى البداية يثير بطل الروية هذه المشكلة فى سياق حديثه عن حياته الطفيلية؛ فهو يعيش عالة على غيره: أهله أو أصدقائه. ثم يتكشف تساؤله عن انقسام في نفسه بين ذات مراقبة وذات أخرى منغمسة في التطفل واللهو والبوهيمية، أو بين ذات متفرجة وذات منخرطة في الحدث المسرحي منساقة كأنها تخضع لقوة سالبة للإرادة. ولكن إثارة المشكلة تأتي في عبارات وتعليقات عابرة مجردة لا يكاد القارئ يلحظها. فإذا لاحظها وتمعن فيها تبين أنها لا دور لها في مجرى الأحداث ولا تأثير لها عليه. فإذا افترضنا أن النفس المراقبة أو المتفرجة هي الضمير، وجدنا أن هذا الضمير لا يصحو إذا صحا كقوة أخلاقية فاعلة؛ ووجدنا أيضا أو بالتالي أن الانقسام لا ينطوي على أي صراع بين قوتين، ولا يثير أي قلق (وجودي) كتجربة نفسية، ولا يغير من صورة العالم كما يدركها البطل. بل يقتصر على طرف متفرج وطرف فاعل أو ممثل في حقيقة الأمر. ثم تنتهي المشكلة إلى الغموض والضبابية عندما تتحول إلى تمثيل فى تمثيل لا فارق فيه بين طرف وطرف. وهي عندئذ تتنتهي وتزول في خضم اللهو والعبث؛  ويغلب على الرواية الطابع الكوميدي. وإذا كان البطل يشير إلى أن في حياته بعدا مأساويا، فإن الأمر يقتصر على مجرد الإشارة والإيماء؛ وليس في الأحداث ما يدل على المعاناة والشقاء، بل انها تجري بخفة ونزق نحو نهايتها "السعيدة" التي يجد فيها البطل كل ما يرضيه ويشبع شهواته ويؤكد طفيليته. وخلاصة القول إن الرواية لا تفي بحق المشكلة التي تثيرها مشكلة انقسام النفس - ولا تبرزها كمشكلة حية لها دور في مجرى الأحداث وتأثير عليه.

أقول كل ذلك وأنا أعلم أن أحد النقاد (جابرييل جوسيبوفويتشى) أثنى على الرواية لما تتسم به من تقليل بلاغى (understatement)؛ كما أعلم أن هذا النوع من التقليل يعد فضيلة في الأدب الإنجليزي. ولكنني لا أقبل هذا الرأى على علاته. فالتقليل البلاغي ليس فضيلة مطلقة، وشأنه في ذلك شأن الإيجاز في البلاغة العربية. والقاعدة الذهبية في جميع الأحوال هي كما قال علماء البلاغة العرب "ملائمة المقال لمقتضى الحال". فقد يكون التقليل مناسبا في بعض الحالات، وغير مناسب في حالات أخرى. وهو في هذه الحالة على وجه التحديد مخل من الناحية الفنية لا لأنه يوجز في الحديث عن المشكلة، أو لأنه يقلل من شأنها، ولكن لأنه يجردها من حيويتها وفاعليتها. 

رام ومسالمة إسرائيل
وفى الرواية عيب آخر يتعلق بالجانب السياسي فيها. فهي تشير إلى تطور الأوضاع الاجتماعية والسياسية فى مصر في فترة الخمسينيات، وتعبر عن مواقف رام وآرائه السياسية، وخاصة فيما يتعلق بثورة عبد الناصر ونظامه. ورام كما يصوره المؤلف يتمتع بوعي سياسي واجتماعي غير مألوف. فهو يدرك أن طبقة كبار الملاك التي ينتمي إليها تستغل الفلاحين. وهو يؤيد الثورة ويهلل لعبد الناصر، وخاصة عند تأميم قناة السويس. ولكنه يتحول إلى موقف الناقد للنظام الناصري عندما يصقل وعيه السياسي بالثقافة والمعرفة ويعتنق وفقا لما جاء في الرواية - آراء واتجاهات يسارية أو ماركسية أو شيوعية. وفى هذا الإطار يبدي بطل الرواية أو مؤلفها بعض النظرات الثاقبة. من ذلك مثلا أنه يلاحظ بدايات الانحراف أو التآكل في النظام الناصري؛ فالطبقة المعادية للثورة تحاول بنجاح استيعابها أو التداخل معها، وتحاول التغلغل في الجيش عن طريق إلحاق أبنائها به. والضباط من ناحيتهم أصبحوا يقبلون على الانضمام إلى صفوف الطبقة المحظية، ومن ثم كان ظهورهم على نحو بارز في نادي الجزيرة. ومن مظاهر الانحراف وفقا للرواية فتح معسكرات الاعتقال للمعارضين وتعذيبهم.

وهنا يخص المؤلف بالذكر الشيوعيين وأنصار السلام؛ فحظهم من التنكيل والاضطهاد - فيما يقول - كان هو الحظ الأوفر إذا ما قورن بالمعاملة الهينة اللينة  التي لقيها أتباع العهد البائد. وهو يقول في هذا الصدد: " أما الآخرون [يعنى المعارضين من غير رجال العهد البائد] أي الشيوعيون وأنصار السلام والذين يرون أن ليس ثمة مستقبل اقتصادي [لمصر] دون ترتيب سلام مع إسرائيل، فهم يعذبون ويلقون معاملة سيئة للغاية." من هذا يبدو أن المؤلف لا يضع الشيوعيين في زمرة واحدة تماما مع أنصار السلام والداعين إلى عقد صفقة مع إسرائيل لأسباب اقتصادية. كلهم معارضون لعبد الناصر، وكلهم يسامون العذاب؛ أما فيما عدا ذلك فإنهم ينتمون إلى ثلاث فئات مختلفة. ولكن خلط الأوراق يبدأ عندما يتعلق الأمر برام نفسه. فهو مقدم في الرواية بوصفه ماركسيا، بل وشيوعيا. وهو أيضا من دعاة السلام مع إسرائيل؛ وهو ينتقد عبد الناصر لأنه يسخر ثلث ميزانية البلد لبناء الجيش ومحاربة "مليونين من اليهود البؤساء الذين ذبحوا في الحرب الأخيرة." فليس من المعروف أن الشيوعيين كانوا يعارضون بناء جيش وطني للدفاع عن مصر؛ أو أنهم كانوا ينادون بالسلام بناء على الأسباب المذكورة، أو أنهم كانوا يتوهمون أن النزاع قائم بين مصر أو العرب من ناحية ومليونين من بؤساء اليهود من ناحية أخرى. ومناصرة السلام بناء على مثل هذه الأسباب لا تختلف عما كانت تردده الدعاية الصهيونية، وتنطوي على تزييف وتضليل، وتدعو إلى التشكيك في صدق ماركسية رام (أو وجيه) أو شيوعيته، وتقلل في نهاية المطاف من قيمة العمل الفنية. فليس من صالح الرواية بوصفها عملا فنيا أن تقدم إلى القارئ داعية للسلام مزيفا دون أن تقيم دونه مسافة أو تتخذ منه موقفا نقديا تمليه طبيعة الفن ذاته، وخاصة فن الكوميديا. 

الرواية الفريدة 
ومع كل ذلك، فإن الإنصاف يقتضى التنويه بالجوانب الإيجابية في الرواية. لم يكن وجيه غالي في مطلع شبابه عندما كتب "البيرة فى نادي السنوكر"؛ ولكن الرواية تتميز بدرجة عالية من النضج، وخاصة إذا تذكرنا أنها كانت أول عمل روائي له. وواضح أن المؤلف كان متمكنا من لغته الإنجليزية ومتقنا للصنعة الروائية. ومن مظاهر الإتقان التي أذكرها على سبيل المثال لا الحصر أنه ينتقل بين الأماكن والفترات الزمنية المختلفة بخفة وسلاسة ودون "مطبات" أو رضوض؛ ويرسم شخصياته بإيجاز بديع مع قدرة على الملاحظة الدقيقة والنظرة الثاقبة، ويدير الحوار بمهارة عالية (مراعيا اختلاف أساليب الناطقين بالإنجليزية ولهجاتهم). وهو إن كان يخلو من الشاعرية والروح الغنائية والمشاعر القوية، فإنه يصل إلى أسعد حالاته وأفضلها عندما يكتب بلغة الكوميديا. فكلامه عندئذ خفيف رشيق رطب كأنه الشراب الفوار المثلج فى حر الصيف. ولست أبالغ إذا قلت إن هذه الرواية تتضمن مقاطع هي في رأيي من عيون النثر الإنجليزي. يصدق هذا بصفة خاصة على قصة الكمسارية وابنها التي مرت بنا؛ كما يصدق على المشاهد المستوحاة من نادي الجزيرة فى الخمسينيات وأعضائه من أبناء الذوات والأجانب إنجليز وأمريكيين. تلك مشاهد تبعث على الضحك وتسلى فؤاد الحزين. ولكن متى وكيف أتقن وجيه غالي صنعة الكتابة الروائية؟ وكيف تدرب على الكتابة قبل تأليف روايته؟ وهل سبقت هذه الرواية محاولات وتجارب لم تر النور؟ أم أن الرواية جاءت إلى حيز الوجود دون تمهيد؟ من المؤسف أننا لا نستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة. فما زالت هناك تفاصيل كثيرة مجهولة في حياة وجيه غالي. ولكن الرواية كانت حدثا فريدا في حياته بوصفها الرواية الأولى والأخيرة. كما كانت بمثابة الحدث الخارق أو المعجزة لأنها كما سنرى فيما بعد ألفت في ظل ظروف حالكة، وكانت عملا من أعمال التوازن الرائعة.

ديانا آتهيل
ركزت حتى الآن على الرواية فى حد ذاتها: تصويرها لمؤلفها، ومزاياها وعيوبها كعمل فني. وأود الآن أن أخرج عن هذا الإطار فأعرض للظروف التي أحاطت بتأليفها ونشرها. وهي قصة ما كنت لأهتم بها لولا أنها انتهت إلى نقطة تحول حاسمة في حياة المؤلف، وهي تعرف وجيه غالي على الكاتبة الإنجليزية ديانا آتهيل. نشرت الرواية لأول مرة فى لندن سنة 1964؛ ولكنها ألفت فى ألمانيا حيث كان يقيم فى مدينة صناعية صغيرة بالقرب من دسولدورف. وقد جاءت إقامته في ألمانيا بعد فترة قضاها فى لندن (يدرس الطب فيما يبدو)، وانتهت برحيله عن بريطانيا مرغما. أما كيف حدث ذلك، فهو أن السلطات البريطانية رفضت تجديد تأشيرة إقامته بعد انتهائها، لأنه وفقا لما جاء في الرواية - اعتدى على شرطي بريطاني أثناء مظاهرة نظمت في ميدان الطرف الأغر احتجاجا على العدوان الثلاثي. ومما قيل في هذا الصدد إنه كان يعيش في ألمانيا منفيا؛ لأن السلطات المصرية كانت قد سحبت جواز سفره. فمتى حدث ذلك وكيف؟ قيل إن سحب جواز السفر تم في مصر؛ وذكر أن السبب كان معارضة وجيه لنظام عبد الناصر أو شيوعيته أو إعلانه عن مناصرته للسلام مع إسرائيل. وهى معلومات غامضة ومضطربة وترجع في نهاية المطاف إلى أقوال وجيه غالي. فكم من السنين قضى فى ألمانيا؟ وماذا كان يفعل فيها باستثناء تأليف الرواية؟ هنا أيضا لا توجد معلومات واضحة دقيقة. ولكن جاء في أقوال ديانا آتهيل ويوميات وجيه أنه كان يشتغل بأعمال صغيرة غير ثابتة في المصانع والميناء كما عمل كاتبا في معسكر للجيش البريطاني، وأنه عاش فترات من الفقر والجوع ومعاناة البرد القارس. فكان يطرد من مسكنه، ويطرد من البارات. وكان يتعرض أحيانا للموت جوعا أو بردا حتى يجد من يؤويه.

وقد ألفت الرواية إذن في ظل ظروف قاسية، واجتذبت ناشرا ألمانيا كاد ينشرها لولا خلاف دب بينه وبين المؤلف. فكان أن أرسل الناشر الألماني المخطوطة إلى دار النشر اللندنية أندريه دويتش. وهناك قرأتها وفتنت بها وعملت على نشرها ديانا آتهيل التي كانت أحد مؤسسي الدار، وإن كانت تعمل بصفة رئيسية قارئة ومحررة للمخطوطات المعروضة للنشر. ومن ثم كان التعارف بين وجيه وديانا عن طريق التراسل أولا ثم عن طريق اللقاء المباشر، وكانت صفحة جديدة في حياة المؤلف. ولدت ديانا التي تبلغ الآن السابعة والثمانين من عمرها في سنة 1917. وقد قضت الجزء الأعظم من حياتها المهنية في دار النشر المذكورة. ولكنها كانت تمارس الكتابة إلى جانب هذا العمل. فقد أصدرت بالإضافة إلى الكتاب الذي ألفته عن وجيه غالى ("بعد الجنازة") عدة مؤلفات من بينها رواية وكتب تقص فيها ذكرياتها عن جوانب مختلفة من حياتها: كتاب عن طفولتها في الريف وكتاب عن قصة حبها الكبرى، وكتاب عن حياتها في مجال النشر.

وقد جاءتها الشهرة في شيخوختها بسبب كتب الذكريات هذه، وأصبحت في السنوات الأخيرة تحتل مكانة مرموقة بين الكتاب الإنجليز. ويبدو لي أن مجيء الشهرة في سن متقدمة لم يكن من قبيل المصادفة. وذلك أن ديانا آتهيل بلغت أعلى درجة من نضجها الأدبي في كتابة ذكرياتها. فهي هنا تحسن التصرف في اللغة، وتبحر بسهولة فى غمار الأحداث التي وقعت لها، وتصور من عرفت من الناس والكتاب والشعراء بمهارة فائقة وتفهم لا يخلو من الحنان، وتتوصل إلى نوع من الحكمة التي لا تأتى إلا مع تقدم السن والنضج. وهى حكمة يمكن أن توصف بأنها الرضا بالواقع أو "ليس في الإمكان أبدع مما كان". وذلك أن ديانا آتهيل كما تقول في أحد أعمالها ("صباح أمس") قد تصالحت مع الشيخوخة ولا تأسى على فقدان لذات الشباب.  فصحيح أنها لم تعد قادرة على الاستمتاع بالشراب، ولكنها ودعت الخمر سعيدة بالتخلي عنه وأصبحت تجد لذة في شرب الماء. وهى إذا سارت انتابها الإرهاق بسرعة، ولكن ذلك لا يسوؤها كثيرا، فقد قضت أسعد أوقاتها على الكراسي أو في الأسرة؛ وهى لم تكن تسير في شبابها طالما استطاعت ركوب الخيل، أو طالما استطاعت قيادة السيارة كما حدث فيما بعد؛ وقد يروق لها أن تتنقل على مقعد متحرك إذا اضطرت إلى ذلك. أما الموت، فإن أفضل ما يفعله الإنسان بصدده هو أن يتحاشى الخوف منه؛ وأفضل طريقة لتحاشي الخوف هي التحلي بالعقلانية والتسليم بحتمية الموت. وهى تؤمن بأن في صلب الكون قوانين تحكمه.

وفى البداية حاولت الوصول إلى ديانا عن طريق بعض الوسطاء ومن بينهم ناشر رواية وجيه غالي. ولكن أحدا لم يسعفني، وكانت إجازتي في لندن تشرف على الانتهاء، فقررت أن أسلك إليها طريقا مباشرا. اتصلت بدليل التليفونات وحصلت على رقم تليفونها. وكان أول من رد على رجل بدا من صوته أنه مسن. قلت لنفسي: أيكون هو لوقا؟ (ولوقا هو الاسم المستعار لصديقها الدائم الذي تذكره في كتابها عن وجيه). ثم تراجعت عن الفكرة فورا. فقد مر على تلك الأحداث حوالي أربعين سنة. ربما كان صاحب الصوت العجوز زوجها أو صديقا آخر أو أحد الأقارب. وناداها الرجل، فجاءت. فلما قدمت نفسي وشرحت لها غرضي (الكتابة لأول مرة بالعربية عن وجيه غالي)، حددت موعدا للمقابلة. واقترحت أن أصحبها إلى مقهى في مكان أو آخر بالقرب من مسكنها، فقالت: بل نشرب القهوة في بيتي. فذهبت إلى بيتها في تشوك فارم في منطقة هامبستد.

كنت قد قرأت الجزء الأعظم من كتابها عن وجيه، كما قرأت مقالة أهداف سويف عن هذا الكتاب. ولما وجدتني أخوض في غمار قصة متشابكة وشائكة ومضطربة ومثيرة للفزع والأسى، رأيت أن خير ما أفعله هو أن أجري مع مؤلفة الكتاب مقابلة بالمعنى الدقيق للكلمة لأستوضح بعض النقاط الغامضة في حياة وجيه غالي. وكنت معنيا بصفة خاصة بتتبع مساره بين القاهرة وفرنسا (فقد قضى فترة فيها يدرس في السوربون) وألمانيا ولندن. فكان أن أعددت قائمة بالأسئلة التي ينبغي طرحها، وحملت كراسة صغيرة لتدوين الإجابات، وكاميرا صغيرة لأصور السيدة. ولكني أدركت منذ الدقائق الأولى مع ديانا آتهيل أن إجراء المقابلة على هذا النحو لن يكون مجديا. سألتها مثلا عن تاريخ ميلاد وجيه فلم تستطع أن تقدم لي إجابة دقيقة. قالت إنه كان يغالط في تاريخ ميلاده فيتظاهر بأنه أصغر من سنه الحقيقية، وأنه عبث بالبيانات المسجلة في أوراقه الرسمية، وأنه كان كثير الكذب. وانتهينا أنا وهي بعد شيء من الحساب إلى أنه ولد على الأرجح في النصف الثاني من عقد العشرينيات من القرن الماضي. وسألتها عن حقيقة علاقة وجيه بالشيوعية، فقالت إنه كان أبعد الناس عن الشيوعية. ولكنها تقول في كتابها إنه أصبح شيوعيا بعد الثورة وبعد ما أصابه من سخط عليها، وإنه قيل لها إن جواز سفره قد سحب منه لأنه شيوعي. (وهى تقول فى موضع آخر من الكتاب إن السبب المباشر لنفيه من مصر كان معارضته لإنفاق موارد البلد على بناء الجيش والتسلح استعدادا للحرب مع إسرائيل). أدركت إذن أن معلوماتها فيما يتعلق بتلك البيانات البسيطة مشوشة؛ كما تذكرت أن كثيرا مما تورده من معلومات عن وجيه مستقى من روايته دون تمحيص. ويرجع ذلك فيما يبدو إلى أن وجيه لم يكن يتورع عن الكذب والتضليل ولأنها كما يبدو من كتابها لم تكن معنية بتقصي الحقائق بقدر ما كانت لها أغراض أخرى سيأتي ذكرها فيما بعد. وهكذا أعدت أوراقي إلى جيبي، وقررت أن أكتفي بالحديث إليها، إلا ما كان من سؤال يأتي عفو الخاطر.  ولم أخرج الكاميرا مرة واحدة؛ فقد أغنتني ديانا عن ذلك عندما قدمت لي كل ما أريد من صور ووثائق. 

وجه الجدى (1)
لقد فتنت ديانا برواية وجيه غالي كما ذكرت وقررت نشرها وتبادلا الرسائل فازدادت به إعجابا وانعقدت بينهما علاقة من الصداقة حتى قبل أن يلتقيا. وعندما زارها لأول مرة فى لندن في صيف سنة 1963 كانت متلهفة على لقائه. فلما التقت به لم تصمد طويلا أمام جاذبيته. وينبغي أن نتوقف قليلا عند الصورة التي بدا بها لأول مرة عندما ظهر في حياتها. كانت قد علمت على نحو غير مباشر أنه "كائن متواضع رقيق يشبه الغزال". فلما التقت به وجدته يشبه الجدي بالأحرى؛ فقد رأت أمامها رجلا صغير القامة مقوس الحاجبين طويل الأنف طويل الشفة العليا له لحية صغيرة مشذبة بلا شارب. غير أن هذا الرجل الصغير الذي يشبه وجهه وجه الجدي كان حريصا على مظهره شديد الأناقة. ولما عرفته قليلا وجدت لديه كما تقول شعورا قويا بالأرستقراطية، أي بكل الأمور اللازمة لحسن التربية سواء أكانت مكتسبة أم طبيعية. وهى تذكر في هذا الصدد أنه لم يكن لديه من الملابس سوى بدلتين (إحداهما زرقاء غامقة والأخرى رمادية مقلمة بخطوط دقيقة) وبنطلون واحد فضفاض؛ ولكنه كان باستطاعته دائما أن يبدو أنيقا. كان قد جعل من الأناقة فنا كما تقول. والفن في هذه الحالة يعني إخفاء الفقر وسوء الحال؛ كما يعني إخفاء الجهد المبذول في التأنق. وذلك ما يؤكده وجيه في روايته. يقول في وصف لقاء له في نادي الجزيرة بأحد معارفه: "لم نتصافح. ولو أننا كنا نحمل عصاتين أو مظلتين، لوقفنا متعامدين مع قليل من الانحناء، ولو أن أحدا كان يرقبنا من مسافة لرأى زنبقتين تميلان ميلا خفيفا في لقاء عابر. غير أننا كنا بغير عصي؛ فوقفنا اليد في الجيب وكل منا يبتسم للآخر. والمشكلة هي أنني أحب ذلك. أحب أن أضع يدي في جيبي مع ظهور جزء من طرف الكم؛ وما يشي بصداري تحت سترتي، وحافة منديل في جيب صدري."

قال لوقا صاحب ديانا عن وجيه: "لم أر فى حياتي رجلا آنق منه." ولقد كان وجيه في المقام الأول صاحب أسلوب سواء أكان ذلك طريقته في الحياة أم طريقته فى الكتابة. فهو يتمتع في هذا المجال - كما لاحظت ديانا - بحس فكاهي يظهر في حديثه كما يظهر في كتابته؛ وكان دافعه إلى الفكاهة راجعا إلى استمتاعه الحقيقي بها. فقد كان يصف الأشياء لأنها تثير في نفسه الرغبة في الضحك أو الشعور بالسخط، ولم يكن لمستمعيه إلا أهمية ثانوية. حدثها وجيه فقال: "لا أطيق أن يكون المرء كاتبا، أن يأخذ فنه مأخذ الجد." فلما ردت عليه بقولها: "ولكنك كاتب وكاتب ممتاز."، كان جوابه: " لو أنني شعرت أنني أحاول أن "أصنع أدبا" أو أن "أكتب على نحو جميل" لما كتبت كلمة أخرى." وتعقب هي على ذلك بقولها إن كل جملة في نثره قد خضعت للتفكر والتنقيح مهما بدت غير مقصودة. وهو تعقيب ينطوي على استدراك وتصويب. فليس صحيحا أن وجيه كان يعطي لمستمعيه أو لقرائه أهمية ثانوية. صحيح أنه كان موهوبا وكان فكها بطبعه أو أن حسه الفكاهي كان نابعا من "المركز" كما تقول ديانا، ولكن من الواضح أنه كان يستغل مواهبه الطبيعية وفقا لحسابات دقيقة واعية أو غير واعية، وأنه كان يعنى عناية شديدة بوقع سلوكه أو لباسه أو كلامه أو كتاباته على المتلقين. أو فانظر إلى ما يقوله عن كيف يمكن أن يبدو هو وصاحبه كزنبقتين مالتا في لقاء عابر.

لا غرو كان صاحب جاذبية شديدة على المستوى الاجتماعي. إذا جلس في مجموعة من الناس، اتخذ مكانه على الحافة مكتفيا بالمراقبة والإصغاء إلى أن تسنح الفرصة المناسبة لكي يتخذ موقع الصدارة فيبهر الناس بخفة ظله ودقة ملاحظته ولغته الجميلة بطبيعة الحال. وكان مع كل هذه الأناقة والرشاقة قادرا على أن يندرج أو لنقل أن ينسل في حياة مضيفيه بسهولة. تروي ديانا كيف أنه عندما دعته في أول لقاء لهما إلى العشاء مع عدد من أصدقائها تولى في النهاية مهمة غسل الأطباق، وبذلك أصبح "فردا من أفراد الأسرة". فإذا أضفنا بهذه المناسبة أنه كان إلى جانب كل ذلك طاهيا ذواقة واسع الحيلة، أدركنا إلى أي حد كان قادرا على اجتذاب الأصدقاء وإغواء النساء بصفة خاصة. وإذا كنت أفصل القول في تأنق وجيه وحرصه على الأسلوب، فما ذلك إلا لأنني أريد أن أربط بين هذا الجانب وغيره من جوانب شخصيته. فقد مر بنا فيما تقدم كيف كان يرى أنه متكلف في كل ما يأتي من أفعال، أو أنه كان يرى نفسه ممثلا في مسرح من صنعه ولجمهور ليس سواه. كان متأنقا وكان يعلم هذا عن نفسه وكان يضاعف الجهد في إخفاء الصنعة، وكان ناجحا في كل ذلك بحيث أصبح الأسلوب بمثابة الطبيعة الثانية. ولكن هذا "التمثيل" إن انطلى على الناس لم يكن ينطلي عليه هو نفسه.

كما أني أريد أن أقول إن الأسلوب المتقن في حياة وجيه يعني أنه كان لديه ما يخفيه. وقد كان يخفي أشياء كثيرة يمكن إجمالها في شيء واحد هو أنه كان صاحب نفس هشة. ولم تظهر هذه النفس الهشة في صيف سنة 1963 عندما زار ديانا آتهيل لأول مرة وقضى فترة قصيرة في لندن عاد بعدها إلى ألمانيا. فقد كانا أثناء تلك الإقامة القصيرة مثل "السمن على العسل" حتى لقد حاولت ليلة رحيله أن تغويه دون أن تنجح في ذلك. كما سافرت للقائه في مدينة بروج البلجيكية. ولم تظهر نفسه الهشة إلا عندما جاء من ألمانيا مرة أخرى في يونيو سنة 1966 لينزل عليها ضيفا دائما. فقد استغاث بها من ألمانيا لتنقذه من حياته فيها، وتدخلت لدى السلطات البريطانية حتى سمحت له بالإقامة في بريطانيا بدعوى أنه في حاجة إلى تأليف كتاب، وقدمت لذلك كل الضمانات اللازمة. ورغم أن نزوله ضيفا دائما على ديانا قد أمنه شر الفقر والبرد والجوع والتشرد، فقد كان في الواقع تمهيدا للفصول الأخيرة من حياته.  

وجيه وديانا
كانت العلاقة التي نشأت بين وجيه وديانا - كما وصفتها ديانا في كتابها عن وجيه ("بعد الجنازة") - هي التي كشفت النقاب عن النفس الهشة. كانت علاقة  ملتبسة أشد الالتباس. كانت هي تشتهيه شهوة ممتزجة بعاطفة من الأمومة. وهي تعلل ذلك بأنها كانت بلغت أواسط العمر دون أن تنجب فضلا عن أنها كانت تكبر وجيه بعشرة أعوام. وهي تعترف صراحة بأنها ما كانت لتأوي فتاة في مثل حالته، بل وما كانت لتأوي رجلا لم يرق لها؛ وهى تشبه نفسها بجوكاستا أم أوديب. وكان لها صديق دائم يقيم معها أحيانا وتسميه لوقا (وهو اسم مستعار)، ولكن هذه العلاقة المستقرة لم تكن تحول بينها وبين إقامة علاقات أخرى جانبية أو عابرة. وهى تفسر ذلك أو تبرره عن طريق التفرقة بين الحب (كعاطفة مستقرة ثابتة) و"الوقوع في الحب" (كحادثة محددة قصيرة العمر). ومن الممكن إذن في رأي ديانا أن تحب إنسانا وأن تقع في حب غيره في نفس الوقت.  فكانت أن راودت وجيه عن نفسه ذات ليلة فصدها برفق. كان يحبها على طريقته (لم يكن يخاطبها إلا بقوله "يا حبيبتى") ويشعر نحوها بدين ثقيل لأن اعتماده عليها كان كاملا. غير أنه كان ينفر منها جسديا. ونشأ من ثم اشتباك أو صراع لم تدخر ديانا آتهيل جهدا في وصفه بكل ما فيه من تفاصيل مؤلمة؛ وجاءت القصة مظلمة مشحونة بالتوتر مثيرة للجزع.

يظهر وجيه فى كتاب ديانا باسم مستعار هو "ديدي". وهى تسمية معيبة لأن وجيه كما بينت أهداف سويف فى مراجعتها للكتاب أطلق الاسم في روايته على  إحدى الشخصيات، أي ديدي نخلة. لذلك لن ألتزم بالتسمية في الصفحات التالية وسأسمي بطل الكتاب المذكور باسمه الحقيقي. ويبدو من القصة كما روتها ديانا أنها أقلعت عن محاولة إغوائه وقنعت بصداقته بعد أن فهمت منه أن من غير الممكن أن تقوم بينهما علاقة تتجاوز هذه الحدود. إلا أن وجيه ظل يشعر أنها تطارده وتنصب شباكها حوله. وكان نفوره منها يشتد مع طول إقامته معها وزيادة اقترابها منه، وخاصة في غياب لوقا. وكان يعرب عن نفوره صراحة وعلى نحو جارح. كان  ينزعج إذا ما أبدت نحوه أي بادرة من بوادر المودة، ويرى في كل ما تأتيه محاولة لفرض نفسها عليه وإظهاره أمام الناس وكأنه عشيقها. وكان ذلك في نظره أمرا لا يطاق: لا تكاد تلمس ذراعه حتى "ينكمش كيانه" نفورا على حد تعبيره في يومياته. وكان نفوره يتخذ أشكالا مختلفة من الإهانة والتحقير لها. ومن ثم نشأ بينهما ما تسميه ديانا "لعبة ديانا"، وهى تلك الحرب الممتدة التي يحاول فيها وجيه أن يهينها ويحقرها بينما تحاول هي أن تصد الهجوم دون أن تلجأ إلى الضربة القاضية؛ فقد كانت كل أوراق اللعب في يديها.

ولكن لماذا كان ينفر منها؟ لأنها كانت فيما تقول أبعد ما تكون عن المثل الأعلى للأنوثة كما يتصوره وجيه. فالمرأة التي يهيم بها حبا لا بد أن تكون سمراء أنيقة ترتدي السواد وتبدو بعيدة المنال. وهي صفات لا تتوافر في ديانا؛ فقد كانت بيضاء البشرة تميل إلى البدانة ولا تتمتع بالحسن وتبدو متاحة. غير أن نفور وجيه من ديانا لم يكن إلا عرضا لمشكلة أعم وأعمق. وذلك أن وجيه كما اعترف في إحدى رسائله لم يكن يطيق العيش في قرب مع امرأة. ما إن يتصل بها حتى يكتشف أو يتوهم ما فيها من عيوب جسدية خطيرة فيبدي نحوها النفور ويسيء معاملتها حتى تبتعد عنه أو تهدد بذلك فيتعذب ويتوله فيها حبا. وكان ذلك النمط يتكرر مع كل من عرف من النساء. لم يكن يستطيع مواجهة المرأة كما هي في الواقع؛ ولم يكن يستطيع أن يأتي امرأة إلا وهو سكران. 

وإذا كانت العلاقة الملتبسة بديانا قد أدت إلى الكشف عن أزمة وجيه مع المرأة بصفة عامة، فقد كشفت أيضا عن جانب آخر من قصوره. وأعنى عجزه عن أداء أي عمل ثابت يكفل له الاستقلال. كان وهو في ألمانيا يمارس بين الحين والآخر بعض الأعمال الصغيرة التي لا تكفل له الشروط الأساسية للأمن وتقيه من التشرد، وتغنيه عن عطف الغير. وهكذا كانت حياته في لندن: يكتب أحيانا أو يترجم أو يؤدى بعض الأعمال التافهة. وقد حدث ذات مرة أن كلفته ديانا هي وبنت خالتها (التي كانت تسكن الطابق الأرضي من البيت) بطلاء جدار السلم لقاء أجر، فتحمس لذلك في بادئ الأمر ثم سرعان ما أصابه الفتور والملل، وتخلى عن المهمة قبل أن تكتمل. واستطاعت ديانا ذات يوم أن تجد له عملا ثابتا في مكتبة لقاء مرتب متواضع لكنه منتظم، فرفض العرض على الفور. وكان إذا حصل على مال لا يستطيع أن يقاوم في إنفاقه شياطين الخمر والقمار. وكان يضطر إلى الاستدانة من أصدقائه والتحايل في تحرير الشيكات والسرقات الصغيرة فى بعض الأحيان.

ومن الواضح أن اعتماده على الغير في ألمانيا ولندن لم يكن حالة طارئة، بل كان امتدادا لحياته الطفيلية في مصر كما وصفها في روايته، لولا أن وضعه في الخارج كان أشد سوءا وبؤسا. فقد كان باستطاعته في مصر أن يغمض عينيه شيئا ما عن سوء وضعه معتمدا على دعم عائلته وكرم أصدقائه. أما في الخارج فلم يكن باستطاعته أن يتحاشى الشعور بثقل الدين ووطأة الامتنان.

تروى ديانا أنه كان يسجل في يومياته بدقة وصرامة كل "مقترضاته" التي لن تسدد أبدا وكل إغارة على ما لديها أو لدى بنت خالتها من الويسكي، وكل كذبة صغيرة يغطي بها على أمسية قضاها في المقامرة. بل انه كتب في يومياته ذات مرة وهو في وهدة اليأس عما إذا كان الموت هو البديل الوحيد عن الشعور الدائم بالمهانة والذنب. ورأى أن من السخف أن يكون الأمر كذلك؛ فباستطاعته أن يسترد كرامته فى أي يوم بأن يجد عملا والبدء في كسب قوته. صحيح أنه يمقت العمل أشد المقت، ولكنه ينبغي أن يعترف بأنه أقل سوءا من الانتحار. وتساءل قائلا: إذا كان باستطاعته إدراك ذلك، فلماذا لا يستطيع أن يعمل بمقتضى هذا الإدراك؟ لماذا لا يستطيع الاعتماد على نفسه؟ 

تفجر الأزمة
بلغ تأزم العلاقة بين وجيه وديانا أوجه عندما أتيح لها أن تقرأ بعض يومياته أثناء غيابه عن غرفته. هنالك وجدته يكتب قائلا على سبيل المثال: "لا جدوى من الكذب أو النفاق. لقد بدأت أمقتها [يعنى ديانا]. أجدها لا تحتمل. صحيح أنني مريض. وجزء من هذا المرض، أو واحد من أمراضي ... أن ردود أفعالي العقلية تتوقف على استجابتي الجسمية للأشياء. ومثال ذلك أنني أتحدث عن الحب، ولكن الحب بالنسبة لي هو الرغبة الجسمية لا أكثر ولا أقل. وهو ما يفضي بي إلى أن تكون ردود أفعالي ناجمة عن نفوري الجسمي من ديانا. أنا أجد من المستحيل أن أكون في نفس الشقة مع شخص يجعل جسمي ينكمش. وقد أدى ذلك بي إلى مقتي لكل ما تفعله أو تقوله أو تكتبه. وأنا أفعل كل ما في وسعي لأتفهم بشاعة موقفي ولا أستطيع تفسير ذلك إلا بأنني مريض ..."

وقد أدى الشجار الذي نشب بين ديانا ووجيه بسبب ما قرأته في يومياته إلى وضع ينذر بالقطيعة. فقد طلبت إليه لأول مرة أن يغادر مسكنها، فانهار بين ذراعيها. وكان هذا الصلح يعنى أن وجيه هزم هزيمة ساحقة. كان يعيش في بيت ديانا بفضل رعايتها الكاملة وتحت رحمتها، ولكن هذا الوضع المزري من الناحية الموضوعية ظل محتملا بالنسبة لوجيه طالما بقي محجوبا بغلاف من الصداقة والحب. أما الآن وقد اتضح للسيدة أنه ينكمش نفورا منها ويزدرى كل ما يتصل بها، فقد هتك ذلك الحجاب وانكشفت موازين القوى بجلاء، وأصبح وضع وجيه لا يطاق بالفعل، وإن استمر في تحمله؛ فلم يكن أمامه خيار آخر. ولم يكن انهياره بين ذراعي ديانا إلا اعترافا بالعجز الكامل ونكوصا إلى حالة الطفل الذي لم يعد له ملاذ من العقاب سوى حنان الأم.

كان منذ البداية يبوح لديانا ببعض أسراره الدقيقة ويخفي عنها البعض الآخر. ولكنه أصبح الآن بعد اكتشافها لما يقيده في يومياته مضطرا لأن يبوح لها بكل شيء؛ فلم يعد بينهما حواجز. كانت ديانا تدرك منذ بداية إقامته معها أنه عرضة لنوبات من الاكتئاب الحاد، وأنه مصاب باضطراب عقلي. بل انه يكتب في إحدى رسائله من ألمانيا عن طبيعة المرض ويشخصه تشخيصا دقيقا بوصفه انقساما نفسيا حاسما. فهو يصف نفسه بأنه "مجنون"، ولكن جنونه ليس عقليا، بل عاطفي. إنه من الصحة العقلية بحيث يعي حالاته العاطفية المجنونة، ولكنه لا يستطيع حيالها شيئا. وهو في إحدى يومياته يعترف بأنه لا يختلف من الناحية العاطفية عن تلميذة من تلاميذ المدارس. ولقد نضج جسميا وعقليا، ولكن عواطفه لا تختلف عن عواطف طفلة في السابعة أو الثامنة. وهو كثيرا ما يجد نفسه تحت رحمة هذه القوى الفتية الناضرة القاهرة. ومن ثم كان يشعر باليأس والاشمئزاز من نفسه، ولا يجد ما يرحب به أكثر مما يرحب بالموت. ولقد كان يدرك إذن أن وضعه في الحياة وضع مزر، ويعلم أن العمل والاستقلال والاعتماد على النفس يمكن أن ينقذه من ذلك الوضع، ولكن هذا الخيار كان في حالته أمرا نظريا فقط، لأن الطفل أو الطفلة في داخله يغلبه (أو تغلبه) عمليا وتشل إرادته. ويترتب على ذلك أن الوضع المذكور لم يكن عنه بديل سوى الموت.

وكان كل ذلك معروفا لديانا منذ البداية، أو أنه أصبح معروفا لديها بمرور الوقت والاستماع إلى اعترافات وجيه والاطلاع على أطراف من يومياته. ولكن حقيقة الانقسام والنكوص لم تتكشف وتتأكد بجلاء إلا على أرض الواقع.  

الأزمة بين الواقع والخيال
يفرض علينا تكشف الأزمة على هذا النحو أن نعيد النظر في سيرة وجيه الذاتية كما عرضها في روايته من حيث علاقتها بواقع حياته كما عرفناه على نحو مستقل. ما هي العلاقة بين خيال المؤلف وشقائه كإنسان، بين كوميديا الرواية ومأساة الانقسام والنكوص كما عاشها بالفعل. من الواضح أن مؤلف الرواية قد تصرف في المأساة. وعلينا الآن أن نحدد كيف تم هذا التصرف. لننظر مثلا فى نفور وجيه من جسد المرأة عند اتصاله بها. إننا لا نجد في الرواية ما يصوره أو يعبر عنه. بل اننا نجد بالأحرى صورة مثالية للمرأة تنفي عنها كل نقص وتصورها بوصفها موضوعا للحب ومصدرا للطمأنينة. فمشاهد الحب والجنس في الرواية تخلو بصفة عامة من التوتر ناهيك عن الشهوة العارمة، ويشيع فيها بالأحرى جو من الصفاء والمودة. لقد رأينا كيف كانت إدنا حبه الحقيقي الوحيد تجسيما أو تكاد للمثل الأعلى. كانت أنيقة ترتدي السواد وتتمتع بجمال نقي لا تشوبه شائبة. وكانت إذا استيقظت فجرا نعم خليلها بطيب رائحتها. وكانت تبدو بعيدة المنال؛ فلا تتيح له نفسها حتى يمرا بمجموعة من الطقوس تدني حبيبها منها، كأن ترخي له شعرها كي يصففه. أما ديدي نخلة التي كانت تحتل مرتبة أدنى في تصور وجيه للأنوثة، فكانت توفر لعشيقها سبل الراحة الكاملة: فهي متيمة به سهلة المنال ولا تبدى أي مقاومة، وهى تستقبله في جناحها من البيت فيجد لديها كل ما يبتغى. ومن اللافت للنظر أنه كان يجد لديها ما يسميه "السكينة" (serenity) [أو لنقل: الصفاء والهدوء والطمأنينة]. وللسكينة في معجم وجيه غالي أهمية بالغة كما سنرى فيما بعد. ولكنها عندما تستخدم في سياق الحب والجنس ذات دلالة خاصة لأنها تعني السكون إلى المرأة والاستمتاع بحنانها وبرعايتها الكاملة.

وواضح إذن أن المؤلف قدم صورة منقحة للمرأة بحيث استبعد منها كل أسباب النفور والقلق، وأدرج فيها كل ما يرضي احتياجاته العميقة. وقد رأيناه يتساءل في مواضع متفرقة من الرواية عما إذا كان إنسانا حقيقيا، ويكتب عن انقسامه إلى شخصين: طرف متفرج على ما يجرى على المسرح من أحداث، وطرف آخر ممثل منخرط فيها. فأين هذه الصياغة المسرحية من أزمة الانقسام النفسي بين عقل ناضج واع ولكنه عاجز مشلول الإرادة في مقابل طفل العواطف الطاغية الجبار. واضح أن الانقسام في الرواية مختلف عن الانقسام في الواقع. صحيح أن ثمة شبها بين المتفرج فى الحالة الأولى والعقل الواعي في الحالة الثانية، من حيث أن كليهما سلبي؛ ولكنه شبه بعيد باهت ولا يمكن على أي حال أن   يخطر على الذهن بمعزل عن معرفة الواقع. ونستخلص من ذلك أن وجيه غالي المؤلف عندما عبر عن المشكلة بوصفها قضية وجودية مجردة (عن الوجود الصادق والوجود الكاذب)، وصاغها بلغة المسرح قد محا معالم الانقسام كما يعانيه وجيه غالي الإنسان كأزمة نفسية حادة ومأساة يعانيها وتدفعه إلى الجنون والانتحار.

وشبيه بذلك ما يبديه بطل الرواية من تأفف بشأن طفيليته. وذلك أن هذا التأفف لا يعرب إلا من بعيد وعلى نحو قاصر عن حالة الاعتماد على الغير كما كان وجيه يعيشها في الواقع وما تنطوي عليه من نكوص وطغيان للطفل القابع في أعماق نفسه وما يترتب عليها من شعور بالمهانة وثقل الدين. ولكن الإعراب عن الأزمة على هذا النحو القاصر هو ما أراده المؤلف. وذلك أنه قرر عند تأليف الرواية أن يشير إلى مأساته من بعيد بحيث تكون الإشارة على هذا النحو طريقة لإخفاء المأساة وطمس معالمها. فالنفور من المرأة يتحول على مستوى الخيال إلى هيام بجمالها الذي لا تشوبه شائبة وحنانها المطلق؛ والانقسام النفسي بين العقل والعاطفة يصبح انقساما بين متفرج وممثل؛ ومعاناة شر الاعتماد على الغير يتحول إلى شعور بالتأفف وتشكك المتأفف فى حقيقة وجوده. وأيا ما كان رأينا فى المنتج (بفتح التاء) النهائي من الناحية الفنية وهو رأى قد أبديناه فيما تقدم فإننا لا بد أن نعترف ببراعة المؤلف فى الإشارة إلى مشكلاته الحياتية من أجل إخفائها. فكأنه حاو يتناول أفعى بخفة يد لكي يقتلع أنيابها السامة في لمح البصر.   

فن التوازن الدقيق
لقد عاد الهدوء إلى البيت بعد تفجر الصراع والبكاء بين ذراعي ديانا. لم يكن وجيه يستطيع الرحيل؛ ولم تكن هي تقوى في حقيقة الأمر على طرده. واقترحت عليه أن يجد لنفسه سكنا تدفع عنه إيجاره. ولكنه لم يرحل وظل يتسلل إلى غرفته أثناء نومها أو غيابها عن البيت. وقد وطنت نفسها في نهاية الأمر على وجوده بصفة دائمة. فهي تشبه حالتهما بحالة الزوجين اللذين لا يكفان عن الشجار، ولكنهما في حاجة كل إلى الآخر.

ولكن الهدوء كان يخفى أمرا لم تذكره ديانا ولعلها لم تقدره حق قدره، وهو أن اطلاعها على ما كان مخفيا في يوميات وجيه أحدث مزيدا من التصدع في شخصيته الهشة. وقد أشار وجيه إلى ذلك عندما قال لها معنفا إنها باطلاعها على محتويات يومياته تدفع به إلى الجنون الذي كان قريبا منه على أي حال. وشرح لها كتابة أن يومياته شيء وأن قراءة شخص آخر لها شيء آخر مختلف تماما، وأنه وجد في كتابة اليوميات علاجا لحالته؛ فهو يستطيع أن ينفس فيها عن مشاعره بدلا من أن يعبر عنها في الواقع فيؤذى الغير. وقد أصاب عندما قال: "فهذه اليوميات هي إذن دوائي، هي ذلك الرحم المظلم السري الكامن في أعمق أعماقي، هي شيء أنشأته لإنقاذ نفسي. وقد أنقذني بالفعل. أما أن يكشفه أحد فجأة على هذا النحو، فهو كاف لأن يصيبني بالجنون."

ومن هذا يتضح أن وجيه لم يكن يعترض على اطلاع ديانا على بعض أسراره الدقيقة، بقدر ما كان يعترض على انكشاف أغواره النفسية المظلمة. يستطيع هو أن يبوح للغير وأن يبوح لديانا بصفة خاصة بما شاء من معلومات، وأن يعترف لها كما اعترف لها بالفعل بأنه "مجنون". ولكنه كان في حاجة إلى الاحتفاظ بركن مظلم في نفسه يقيد بعض أسراره في يومياته، ولا يسمح لأحد باقتحامه؛ وكان في حاجة إلى بقاء هذا الركن مظلما حتى يستطيع على نحو أو آخر أن يحور في أسراره وينقحها ويعرضها على نحو ما يريد أمام الناس؛ فتلك كانت طريقته في الحياة الاجتماعية وفى الكتابة.

وأنا أصدق وجيه تماما عندما يرى أن الاحتفاظ بذلك الركن مطويا عن الغير كان ضروريا ضرورة الدواء لكي يحتفظ بتوازنه. يشهد على ذلك سلوكه بما في ذلك من إدمان للكذب حتى فيما يتعلق بحقائق بسيطة لا ضرر منها مثل سنه. وتشهد على ذلك روايته. فهي نموذج ممتاز لفن الاعتراف الرامي إلى إخفاء الحقائق، مثلها مثل أناقته التي كانت ترمى إلى إخفاء فقره ورقة حاله. وهى أي الرواية محاولة شديدة البراعة سمح لنفسه فيها بترف التلميح إلى ما يؤلمه مع الحرص على طمس معالم المشكلة عن طريق التجريد والفكاهة والنزق. وإذا صح ما قالته ديانا عن أن فكاهة وجيه كانت نابعة من أعماقه، فما ذلك إلا لأن الفكاهة كانت إحدى الطرق التي يستخدمها للتحايل على ضبط أزماته العميقة وللتمويه على الغير.

أو يمكن أن نقول بعبارة أخرى إن هذه الرواية التي هي سيرة ذاتية تعد عملا من أعمال التوازن بين الرغبة في البوح والحرص على الإخفاء، أو بين وجيه الطفل المعربد ووجيه صاحب العقل الذكي الواعي. فقد استطاع أن يسخر هذا الطفل فنيا بأن سمح له بالعبث في حدود محسوبة، وضمن بذلك متعة القارئ بل وتواطؤه. ومثال ذلك أننا نحن القراء لا نبدي امتعاضا حين يمارس رام طفيليته مع خالته الإقطاعية التي تتظاهر بتوزيع الأراضي عن طريق عقود صورية؛ وقد نبتسم عندما نرى رام يدفع ابن خالته ليسقطه في حمام السباحة وهو في كامل ملابسه، لأن ابن الخالة نموذج للتأمرك الفج؛ ولن نعترض اعتراضا شديدا على "اختطاف" رام لخطيبة العسكري الإنجليزى لأن هذا الأخير مغفل وجاهل ومتعصب ضد الأجانب. وسوف تبدو لنا هذه الأعمال "صبيانية" لا تستحق الاستنكار بقدر ما تستحق شيئا من سعة الصدر والتسامح، وخاصة إذا اتخذت صبغة فكاهية.

ولقد وصفت رواية وجيه من قبل بأنها بمثابة العمل الخارق أو المعجزة في حياته. وباستطاعتنا الآن وقد عرفنا الجوانب المأساوية في حياته والظروف التي ألف الرواية في ظلها أن نقدر بأي معنى كانت كذلك، فلقد حقق فيها رغم كل ذلك توازنا رائعا على صعيد الخيال، وبدا فيها مسيطرا على قواه المتصارعة متحمكا فيها متحايلا عليها ضاحكا منها، بصرف النظر عن العيوب الفنية التي أشرنا إليها.  وقد نجح في ذلك مرة واحدة لأن روايته كانت الأولى والأخيرة. فلما فتحت يومياته أمام أعين الغير وانكشفت كل الحقائق المؤلمة على نحو صارخ فاضح، سقط القناع عن وجه الممثل الحاوي، واختل التوازن الدقيق واقتربت لحظة التصدع الكامل والانهيار. ولكنني أود قبل بلوغ هذه النقطة الأخيرة أن أتوقف عند زيارة وجيه لإسرائيل. 

فكرة الزيارة
ما هى الأسباب التي دفعت وجيه غالي إلى زيارة إسرائيل بعد حرب الأيام الستة؟ لا بد أنه كان يعلم أن زيارة إسرائيل في تلك الفترة تعد عملا من أعمال الخيانة في نظر القانون المصري، وأنها تعنى قطع علاقته بمصر على نحو نهائي. طرحت السؤال على ديانا آتهيل، وقلت: هل يمكن أن يكون ذلك امتدادا لتأثير حبيبته اليهودية إدنا؟ وردت ديانا بالقول: كان الأمر كذلك، ولكن الزيارة كانت مفيدة له على أي حال. ولم تكن تلك بالإجابة الشافية. وما زالت أسباب الزيارة أمرا يكتنفه الغموض. ولم تستطع ديانا آتهيل أن تلقي الضوء على هذا الموضوع في كتابها. فوجيه فيما تقول كان في تلك الفترة يقيم بصفة مؤقتة في مسكن مستقل تدفع هي إيجاره. وهو لم يسجل في يومياته عن الموضوع إلا عبارة واحدة غامضة يمكن أن تترجم على النحو التالي: "الخدعة [أو الحيلة] التى يجري بها مصري [يعنى نفسه] مقابلة صحفية مع الإسرائيلين." عبارة كتبها وجيه على عجل وفيما يشبه الشفرة. ولكننا نستطيع أن نخمن بعض ما كانت تعنيه إذا تذكرنا أمرين. أولا أن وجيه كما نعرف الآن وكما اعترف هو نفسه كان يخادع ويتحايل في كل ما يأتيه. وثانيا أن الزيارة كانت عملا بائسا في ظل الظروف اليائسة التي كان يحيا فيها، وكانت تبرر في نظره اللجوء إلى الخداع والتحايل. وينبغي إذن أن نواجه اللغز بطرح السؤال التالي: إذا كانت زيارة إسرائيل تنطوي على نوع من الخداع والتحايل، فما هو وجه الخداع؟ ومن هو الطرف الذي أراد وجيه أن يتحايل عليه بتلك الزيارة؟ يخيل إلى أن فكرة الزيارة خطرت لوجيه أو أوحي له بها فجأة، فبوغت لبرهة قبل أن يدرك أن القيام بتلك الزيارة أمر طبيعي في حالته وفرصة لا تعوض وحيلة بارعة لتحقيق فائدة أو فوائد عظمى. فكيف لم تخطر له الفكرة من قبل؟

وقد نتذكر أن وجيه عندما كتب روايته كان  يناصر السلام مع إسرائيل على طريقته. ولكنني لا أعتقد أن موقفه ذلك كان له دور حاسم أو رئيسي فيما نحن فيه. فقد كانت لديه أسباب ودوافع أقوى وأشد إلحاحا، وهى التغلب على حالته اليائسة. كانت تلك الزيارة فرصة سانحة للكتابة في صحيفة أو أخرى من الصحف اللندنية، فبذلك تفتح له كما تخيل - أبواب الكتابة والنشر في بريطانيا. وقد تعاقدت معه التايمز بالفعل على أن يكتب لها عن الزيارة، وأرسل لها من القدس مقالتين. ولعله أراد إذن أن يتحايل على الظروف السيئة والأبواب الموصدة، ولعله أراد أن يخدع كل الأطراف المعنية: الصحافة البريطانية (التي ما كان لها أن تسد باب الكتابة فى وجه مصري يريد أن يكتب من إسرائيل)، والإسرائيليين والمصريين على حد سواء. فالمهم هو أن ينجح في "اللعبة" وأن يخرج من مأزقه التاريخي ويخرج لسانه للجميع. ولعله تخيل أن كل هذه الأطراف ستراه بين يوم وليلة وقد قفز إلى صفحات التايمز ومنها إلى دور النشر على أوسع نطاق. ويخيل إلى أن وجيه لم يكن معنيا في ذلك الوقت بأي أحد أو بأي قضية بقدر ما كان معنيا بالنجاة من الجنون أو الموت أو كليهما معا؛ فقد كان خطرهما ماثلا أمام عينيه بوضوح بالغ. وكانت تلك ورقته الأخيرة، وكان عليه أن يلعبها. 

الحب الطاهر
غير أن هناك أمرا آخر ينبغى الالتفات إليه في هذا الصدد. وهو أن وجيه تعرف في تلك الفترة على سيدة متزوجة تصفها ديانا بأنها كانت "حبه الطاهر". وتفسير ذلك أنه لم يرد من تلك السيدة التي فتن بها إلا أن تسمح له بأن يراها دون أي غرض آخر، فسمحت له، وانعقدت بينهما علاقة يمكن أن توصف بالصداقة، ولكنها تنم عن حاجة وجيه اليائسة إلى الرعاية الأنثوية. وتذكر ديانا آتهيل أن تلك السيدة "ساعدت وجيه وقدمت له المشورة وعرفته بمن يساعده عندما قرر زيارة إسرائيل". فهل كان لتلك السيدة تأثير على وجيه عندما اتخذ قراره، أم أنها ساعدته فقط على تنفيذه؟ لا سبيل إلى معرفة ذلك. ولكن من المؤكد أن تلك السيدة كانت على علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالمسؤولين الإسرائيليين في لندن الذين منحوا وجيه التأشيرة اللازمة لزيارة إسرائيل، ولعلها كانت أيضا على علاقة مباشرة أو غير مباشرة بصحيفة التايمز التى كلفته بأداء المهمة الصحفية ودفعت له مبلغا من المال.  

الكتابة من الأراضى المحتلة
عندما نشرت التايمز لوجيه مقالته الأولى من القدس (10 أغسطس 1967)  عنيت بتقديمه إلى القراء فيما يسمى بيومياتها ووصفته بأنه "قبطي ملتح" وأنه على يسار عبد الناصر، وأنه مناصر للسلام مع إسرائيل. وجاء في نفس التقديم أن جواز سفر وجيه سحب منه لأنه كان من التهور بحيث أعلن عن موقفه على الملأ، وبأن الإسرائيليين منحوه تأشيرة عسى أن يؤدي ذلك إلى إسقاط الحواجز. فإذا قرأنا ما كتبه وجيه فى مقالتيه (نشرت ثانيتهما فى 1 سبتمبر 1967) لاحظنا أن آراءه هنا تختلف إن لم تتعارض مع آرائه الفجة التي عبر عنها في روايته "البيرة في نادي السنوكر" عن السلام مع إسرائيل، وأنها كان لا بد أن تخيب آمال الإسرائيليين والدوائر الصهيونية في لندن. فقد رأيناه يعترض في تلك الرواية على عبد الناصر لأنه يريد أن يبنى جيشا ليحارب به "مليونين من اليهود البؤساء". ولكن وجيه في مقالتيه المذكورتين يرسم صورة أكثر دقة وتوازنا وأقرب إلى الوقائع على الأرض كما شاهدها فى الأراضي المحتلة بعد الهزيمة، وكما استمع إليها في مقابلاته مع الإسرائيليين والفلسطينيين. فهو يلاحظ بصفة عامة أن حالة الهدوء البادية ليست سوى غشاء رقيق يخفى تيارا من الغضب والسخط بين الفلسطينيين، وخاصة سكان غزة. ويلاحظ بصفة خاصة أن الهزيمة لم تقلل من شعبية عبد الناصر بين العرب الإسرائيليين. بل انه ينقل عن  جنرال إسرائيلى قوله إنه لو كان مصريا لأيد عبد الناصر، وإنه لو لم يوجد هذا الأخير لحاول هو (أى الجنرال) أن يكون ناصرا. أما فيما يتعلق بآفاق السلام، فإن وجيه يبدى بعض الآراء التي تدل بالفعل على الحس السليم والنظر الثاقب. فهو يميل هنا إلى التشاؤم لأن الحكومة الإسرائيلية - على عكس عامة الإسرائيليين الذين يتشوقون إلى السلام فيما يقول تعمل وتؤيدها في ذلك الدوائر اليهودية والصهيونية فى العالم وفى أمريكا بصفة خاصة - على تبديد فرص السلام السانحة. وهو يقرر في هذا الصدد أن النوايا الحقيقية للحكومة الإسرائيلية قد اتضحت بعد فترة من عدم الوضوح، وأنها ترمي إلى إلحاق القدس القديمة والضفة الغربية بإسرائيل، وأن ثمة خططا يجرى تنفيذها لتوطين اليهود في المنطقتين. ومن اللافت للنظر هنا أن وجيه غالي يستثنى غزة من هذا المخطط؛ فلقد كان يعلم وهو الذى كان يكتب في سنة 1967- أن الإسرائيليين سيريدون عندما يأتي الأوان الانسحاب من غزة أولا. 

مواجهة اليأس
كان وجيه قادرا إذن على الرؤية الواضحة، ولكن من المؤسف أنه ارتكب حماقة فادحة بزيارته لإسرائيل. وهو على أي حال لم يجن من مقالتيه شيئا يذكر، ولم تفتح له كتابته فى التايمز أبواب النشر في لندن. ولم يفض مشروع زيارة إسرائيل إلى ما كان يحلم به من نجاح. ووجد نفسه بعد الزيارة في نفس الوضع الذي كان فيه من قبل، إن لم يكن أسوأ. فقد عاد إلى السكنى في شقة ديانا آتهيل والاعتماد عليها بعد أن حصل منها قبل سفره على وعد بأن تسمح له بالعودة؛ واستمر محافظا على عاداته المعهودة من "استدانة" وسكر وقمار طيلة سنة وبضعة شهور بعد الزيارة. فكم بقي له من معتقداته السلامية القديمة الفجة بعد أن عاد من رحلته إلى إسرائيل وكتب عنها ما كتب؟ سؤال تصعب الإجابة عنه، ولكن ديانا آتهيل تروي أنه واصل الالتقاء بأصدقائه من الإسرائيليين؛ ومن المرجح أنهم كانوا من اليساريين وأنصار السلام (على الطريقة الإسرائيلية). ولعله كان ما زال يعتقد أن السلام ممكن وواجب مع الإسرائيليين، لأنه رغم ما قاله فيما يتعلق بسياسة الاحتلال وضم الأراضي وتوطينها، كان يؤمن كغيره من المطبعين والمهرولين والبراجماتيين في زمن لاحق أن الواقعية تقتضى التكيف مع الأوضاع المفروضة مهما كانت كريهة. وهو يبدو في مقالتيه اللتين نشرهما فى التايمز كما لو كان يفترض - كما يفترضون أن ثمة تفرقة ينبغي أن تقام بين شعب إسرائيلي متعطش للسلام، وقادة إسرائيليين تحركهم الأطماع التوسعية والدعاية الصهيونية. ولم يكن يعلم كما أثبتت الأيام فيما بعد - أن هذه التفرقة الجذابة من الناحية النظرية لا قيمة لها من الناحية العملية. وذلك لأن المستوطن الإسرائيلي لن يتنازل عن السكن الذي يقيم فيه حتى لو سلم بأن صاحب البيت فلسطيني، وسيحمل السلاح ضد هذا الأخير المشرد وينكل به إذا ألح فى المطالبة بحقه أو طالب بأن يعيش مع المغتصب في إطار دولة ديمقراطية واحدة.

حدث ذات يوم من تلكم الأيام التي تلت الهزيمة أنني كنت أسير مع بعض الأصدقاء في لندن غير بعيد عن المسكن الذي كان يقيم فيه وجيه غالي. واستوقفنا شاب أراد أن يحيينا عندما سمعنا نتكلم العربية. وانصرف بعضنا بينما تمهل البعض الآخر ليستطلعوا خبر الرجل؛ وكنت من بين المتمهلين. قال الشاب: "لماذا تنصرفون عنى وأنا لا أريد إلا أن أحييكم؟" وتبين أنه إسرائيلي عندما قال: إننا نحن الإسرائيليين لا نريد إلا السلام. لقد انتهت الحرب؛ فلماذا لا نفتح صفحة جديدة ونكون أصدقاء؟" ومد يده ليصافحني، فقلت: "لن أصافحك حتى ترد على هذا السؤال: أخبرني هل سيناء ملك لمصر أم ملك لكم؟" قال: "يا سيدي دعنا من شؤون السياسة والحرب. لا ترفض يد رجل عادى يريد أن يصافحك." قلت: "وأنا رجل عادى بدوري. أوافقك على ترك المشكلات السياسية والعسكرية للقادة على الجانبين، ولكني أريد أن أعرف رأيك بوصفك إسرائيليا عاديا: هل سيناء أرض مصرية أم أنها ملك لإسرائيل؟" فلما تلجلج وتذبذب، ورفض الإجابة عن سؤالي كأنما كان مفاوضا لا يريد أن يكشف عن أوراقه للطرف المقابل، رفضت أن أصافحه وانصرفت.

  فلنعد إلى وجيه. في تلك الفترة التي تلت عودته من القدس المحتلة كانت ديانا آتهيل قد أصبحت تتقبل فكرة وجوده في شقتها واعتماده عليها بصفة دائمة. وهى تذكر في هذا الصدد قصة للكاتب الروسي تورجينييف عن أهل بيت يسكن لديهم رجل عجوز لا يبدو أن له صلة بهم أو أن له دورا ذا شأن في حياتهم سوى أنه يعيش معهم إلى الأبد ويسلمون بحضوره الدائم في خفيه المصنوعين من اللباد. وتقول ديانا إنها أصبحت تفكر بمزيج من الشعور باليأس والرغبة في الضحك أن وجيه سيكون هو رجلها العجوز في خفي اللباد، وسيبقى إذن في ركنه من البيت وسيمارس حياته المألوفة، وستتحمل عبئه دون أن تقلق عليه أو تشغل نفسها به؛ فقد تخلت بنفسها عنه ولم يعد يعنيها أمره. وقد حدث بينهما إذن ما يمكن وصفه بفك الارتباط أو التعايش السلمي. وكان وجيه بدوره يدرك كما سجل في يومياته أن ديانا نأت عنه وإن كان يمكنه الاعتماد على رعايتها. ومع ذلك فقد كان توافر الهدوء والأمن والاستقرار على ذلك النحو هو المسرح المعد للفصل الأخير من مأساته.

كم كنت أتمنى كحل للمشكلة لو أن وجيه تقبل دور العجوز في البيت الروسي كما صوره تورجينييف شريطة أن يستمر في الكتابة. أمن الممكن أن نتصور فنانا أو كاتبا يتقبل حياة الطفيلي كرها أو طوعا لكي يتمكن من الاستمرار فى الإبداع؟ يخيل إلى أن مثل هذا الوضع لا يمكن أن يدوم لأن الاستمرار في الإبداع حرى بأن ينهى الاعتماد على الغير بطريقة أو بأخرى. ولكن يبدو أن وجيه كان قد فقد الأمل حتى في قدرته على الكتابة. كان قد بدأ في ألمانيا تأليف روايته الثانية. غير أنه أخبر ديانا فى رسالة بعثها من هناك أنه مزق المخطوطة عندما قرأ رواية "برج السرطان" لهنري ميللر. وهى قصة أعربت لي ديانا عن شكها في صحتها، ورأت أن فيها شيئا من المبالغة؛ فلعل المخطوطة فيما قالت - لم تكن تتجاوز بضع صفحات. غير أنني لا أستبعد تماما أقوال وجيه في هذا الصدد. وربما كان تضاؤله أمام ما رأى من موهبة هنرى ميللر ومن قدرته وهو الكاتب الجسور المقتحم كان بادرة مبكرة من بوادر العقم الأدبي.

وأيا ما كان الأمر فيما يتعلق بقصة الرواية الثانية، فإن وجيه كان في تلك الفترة عاجزا بالفعل عن الكتابة، وعن الاستقلال بأي معنى من المعاني. كان قد بلغ الأربعين من عمره؛ وكان يدرك بوضوح أنه لا يستطيع عمل شيء وأن ديونه لا يمكن أن تسدد؛ وكان يأسى لحال ديانا لأنها لا بد أن تستمر في إعالته رغم قلة مواردها؛ ولم يكن يرضى بدور العجوز المنسي في خفي اللباد. وهكذا تبلورت مأساته فى ظل الأمن والاستقرار.  

الفصل الأخير
فى هذا الفصل الأخير من قصة وجيه غالي حادثة مضحكة ولكنها مبكية، حادثة طريفة لولا أنها تؤذن بالنهاية المروعة. ففي 18 ديسمبر 1968 دعي وجيه كما روى فى يومياته إلى بيت أسرة ثرية ليطهو لهم وجبة ممتازة. وقد قضى ست ساعات في المطبخ يعد لهم من ألوان الطعام ما لم يكن يعرفون أنها موجودة أصلا. فالأم التي طلب إليها أن تأتيه بالويسكي ليستعمله فى طهي أحد الأطباق (وإن كان يريده ليشربه في حقيقة الأمر) أتته بزجاجة كونياك؛ وهي لم تكن تعرف إذن ما هو الفارق بين الشرابين. والأفظع من ذلك - فى نظر وجيه - أن أؤلئك القوم لم يكونوا يعرفون الكوسة ولا الكرفس. ومع ذلك، فهم يعيشون في بيت يقع في منتزه، ويعلقون على جدرانهم لوحات لأعلام الفنانين: بيكاسو ولوتريللو ورنوار وديجا وشاجال وكوكوشكا وماتيس. والأنكى وأشد إيلاما أنهم دفعوا له عن كدحه سبعين شلنا (ثلاثة جنيهات ونصف) لا غير. وهو مبلغ مثير للسخرية، وكان من حق وجيه أن يشعر بالحنق كما فعل. إلا أن القصة كما رواها بأسلوبه المتبرم الساخط لا تخلو من الطابع الكوميدي وقد تدفع القارئ إلى الابتسام. فإذا ما قرأنا تعليقه الأخير على الحادثة، اختفت الابتسامة على الفور. كتب يقول بلهجة متجهمة: "أعطوني سبعين شلنا، وسرت إلى البيت وأنا أتساءل عما إذا لم يكن الأوان قد آن لكي أمحو نفسي..."

وفى اليوم السادس والعشرين من ديسمبر أى غداة يوم الكريسماس -  كانت ديانا غائبة عن البيت في زيارة إلى أسرتها في الريف. وفي تلك الليلة بدا أن الأمور تسير في مجراها الطبيعي. فقد خرج وجيه ليشرب حتى الثمالة وليقامر حتى آخر فلس من نقوده "المقترضة". ثم عاد إلى البيت مع صديق له ومعهما زجاجة ويسكي. وكان باستطاعة الجيران في الطابق الأرضي من البيت وهم بنت خالة ديانا وأسرتها - سماع قهقهات الصديقين. ولكن وجيه تسلل بعد انصراف صديقه إلى مطبخ بنت الخالة وسرق عددا كبيرا من الأقراص المنومة. وهكذا كانت بداية الفقرة الأخيرة في يومياته: "سأقتل نفسي هذه الليلة. آن الأوان. أنا بطبيعة الحال سكران. ولكن لو أنني كنت مفيقا لكان ذلك أمرا صعبا جدا جدا جدا... ولكن ماذا عساي أفعل غير ذلك يا حبيبتيّ ... لا شيء، لا شيء في الحقيقة ... كان لا بد أن يحدث ذلك يا حبيتيّ."

والحبيبتان المعنيتان هما ديانا وفتاة تدعى دييدري كانت هي آخر صديقاته وأشدهن تعلقا به وصبرا عليه، كما كانت وهو التطور المستغرب في حياته تحظى بحسن معاملته؛ فقد كان يستلطفها ولا يحبها بطريقته الجنونية. ولم يفت وجيه أن يعتذر لديانا في رسالته الأخيرة: "ديانا يا حبيبتي لا أستطيع أن أعتذر؛ فلو أنني اعتذرت لكان ذلك من قبيل النفاق الشديد. واضح أنني ما كان ينبغي أن أخلف هذا المشهد ورائي. ولكنني كسول مدلل. وأنا أترك لك يومياتي يا حبي. قد تكون إذا أحسن تحريرها عملا أدبيا جيدا. فإذا كانت كذلك، إليك ديوني كما يلي." وقد حرص عندئذ على أن يورد قائمة مفصلة مرقمة بديونه الكبرى في السنوات الخمس الماضية.

وهو يكتب لدييدرى فيقول: "حبيبتي دييدري. هناك مآس حقيقية فعلية في الحياة، والمأساة الواضحة هي مأساة اليأس ... إن أشد اللحظات درامية في حياتي اللحظة الحقيقية الوحيدة أمر مخيب للآمال حقا. لقد ابتلعت موتي. باستطاعتي أن أتقيأه إذا أردت. ولكني بصدق وبإخلاص لا أريد ذلك. إنه لمتعة. إنني أقدم على هذا لا على نحو حزين تعيس. بل العكس، بسعادة بل وفى حالة (حالة من الوجود أحببتها دائما) من السكينة...السكينة."  وهناك عدة أمور لافتة للنظر في هذه الفقرة الأخيرة من يوميات وجيه غالي. من ذلك أنها تتضمن وصيته. وهى وصية قيد فيها ديونه بالتفصيل كما رأينا، وتنازل بمقتضاها لديانا عن كل ما يؤول له بعد وفاته من حقوق المؤلف على أن تسدد منها ديونه. أما دييدري فقد أوصى لها بعدة أشياء منها كتبه ومنها الطاولة -فهى "لحبيبتى دييدري" - دون أن ينسى أن ثمة قطعتين توجدان في المقعد الخلفي من السيارة.

وها نحن نجد أمامنا من جديد فكرة الوجود الحقيقي (فى مقابل الوجود الزائف)، وهى الفكرة التي تتردد كما رأينا فى روايته. وغني عن الذكر أن ظهور الفكرة في هذا السياق يعنى أن وجيه كان يشعر بأن حياته كلها كانت زيفا في زيف، وأن لحظة الوجود الحق الوحيدة مخيبة للآمال كما قال. فلماذا كانت لحظة الخلاص من اليأس المطبق لحظة الشعور بالسكينة كما يقول مخيبة للآمال؟ هل كان يؤمن في أعماق نفسه ورغم كل شيء أن الحياة أفضل من الموت؟ يبدو أن الأمر كان كذلك. روت ديانا أنه عندما انهار بين ذراعيها بعد أضخم شجار لهما قال منهنها: "لا أريد أن أموت. لا أريد أن أموت. الحياة يمكن أن تكون جميلة..."

  كما نجد فكرة أخرى كانت محببة إليه، هي فكرة "السكينة". وقد وردت الفكرة في الرواية عندما زار البطل حبيبته ديدي نخلة فى جناحها من بيت أبيها. فقد وجد لديها السكينة. وكانت السكينة تعني السكن إلى امرأة تشمله بالرعاية المطلقة حتى دون أن يحبها أو يتكفل باحتياجاتها. ولما كانت السكينة بهذا المعنى صعبة المنال أو محال أن تتحقق في واقع الحياة، فهل يمكن أن يقال إن وجيه كان ينعم بالسكينة حقا عندما ابتلع موته؟ 

الكتابة كوسيلة للنجاة
لقد حيرني التفكير فى ذلك السؤال. ولما طرحته على ديانا قائلا: كيف كان يشعر بالسكينة وهو الذي توقف عن كتابة وصيته الأخيرة ليستدعى أحد أصدقائه بالتليفون؟، ردت بقولها: "لعله كان يشعر بالوحدة". وهى إجابة لا أجدها مقنعة، وإن لم يكن لدى إجابة أخرى. وكانت هناك مسألة أخرى حيرتني، وهى الدافع أو المبرر الذي حدا بديانا إلى تأليف كتابها عن وجيه. وهو سؤال طرحته أهداف سويف في سياق نقدها للكتاب وبيان عيوبه من الناحية الفنية؛ فقد عابت على المؤلفة عدة أشياء، من بينها سوء أسلوبها وانحصارها في أفكار الطبقة المتوسطة التي جاءت منها. ومن الممكن أن تضاف إلى القائمة مآخذ أخرى. ومن ذلك أن المؤلفة أخذت في كثير من الحالات الأخبار التي وردت فى رواية وجيه أو أحاديثه على علاتها، رغم علمها بأنه عرضة للكذب، وأنها وهى الكاتبة المحترفة تتصدى للكتابة عن كاتب مصري مهتم بالسياسة دون أن تتقصى حقيقة الأوضاع في مصر والشرق الأوسط.

ومع ذلك، فإن الإنصاف يقتضى أن نقول إن القصة التي روتها ديانا في الكتاب ترغم القارئ على الاستمرار في القراءة حتى نهايتها المروعة رغم أنه يعرف هذه النهاية منذ البداية. والكتاب إذن ناجح إلى هذا الحد، ولكنه لا يرقى في نهاية المطاف إلى مستوى الكتب الأخرى التي نشرتها ديانا آتهيل. فلما سألتها أن تخبرني بعد مرور كل تلك السنين على الأحداث التي تناولها الكتاب لماذا ألفته، قالت ما معناه إنها فعلت ذلك كمحاولة لإعادة ترتيب حياتها (أو إنقاذ نفسها). ومعنى ذلك فيما فهمت أنها حاولت أن تضع كل شيء على الورق كوسيلة للنجاة بنفسها من المأساة. ومن الملاحظ هنا أنها بدأت تلك المحاولة بعد عامين من التعرف على وجيه فرسمت له صورة كانت هي نواة الكتاب وفصله الأول. وهو ما يعنى أنها استشعرت الخطر منذ البداية، ولا سيما أنها فتنت بوجيه وأدركت أنه مريض نفسيا، كما استشعرت ضرورة الكتابة لكي توضح الأمور لنفسها بغية اتقاء الخطر. ويبدو إذن أن تأليف الكتاب جاء في الأصل ليؤدى وظيفة نفسية بالنسبة لمؤلفته قبل أن يحقق أي أغراض فنية. وربما كان الجهد المبذول في محاولة الإفلات من الكابوس هو سبب العيوب التي يتضمنها الكتاب. فرغم أنها لم تنشر النص الكامل من الكتاب إلا فى سنة 1986 أي بعد ثمانية أعوام من النهاية المأساوية، فإن النص لا يخلو من تخبط وتعثر وتشابك وإيغال في التفاصيل. فكأن المؤلفة ما زالت تصارع شبحا لا يريد أن ينصرف؛ وأرجو ألا أكون متجنيا عندما أقول إنني أحسست أمام بعض المواضع في الكتاب أنها ما زالت تلعق جراحها لأن وجيه كان ينفر منها جسديا.

ولكن لا بد من الاعتراف بأنها بذلت جهدا بطوليا في رعاية وجيه حيا ومصارعة شبحه ميتا. وما قولك في ضيف ينتحر في غرفة من شقتك وإن كان  يفعل كل شيء بإتقان، ولا يترك شيئا للمصادفة؟ فهو لا يقدم على تنفيذ خطته إلا بعد أن يمارس شهواته (القمار والشرب حتى الثمالة والضحك)، ويجد من الوقت ما يكفي لكتابة وصيته بدقة لا تغفل عن شيء مهما كان صغره؛ وهو يعتذر بلباقة لا تخلو من التدلل عن اتخاذ البيت مسرحا للمشهد الأخير؛ وهو يتوقف عن الكتابة لينادي صديقا ثم يستأنفها رغم ارتجاف يده (الظاهر من الخط)؛ وهو يترك على باب غرفته ورقة مشبوكة بدبوس يقول فيها: "ديانا، لا تدخلي. اتصلي بالرقم تسعة تسعة تسعة" (وهو رقم بوليس النجدة). مثل هذا الإتقان في إخراج المشهد الأخير وحسن الأسلوب والأناقة في الأداء من علامات الكوابيس الرهيبة التي تصعب الإفاقة منها.

وأنا أستخدم هنا لغة المسرح متعمدا لأنني أتذكر قرب الختام قولة دوستويفسكى التى صدر بها وجيه روايته: "والأحرى أننا نرمى إلى أن نكون شخصيات من نمط خيالى ... عام." وإني لأتساءل: ألم يحقق وجيه في المشهد الأخير من حياته فكرة دوستويفسكى؟ لقد أتقن الصنعة بحيث يكاد يكون بطلا في رواية بدلا من أن يكون شخصية حقيقية. كأنه كان شخصية تبحث عن مؤلف. إذا صح ذلك، فقد تحقق له ما أراد فى كتاب ديانا. ولكن ديانا تجاوزت كل ذلك ككاتبة وإنسانة. صحيح أنها ما زالت تراجع نفسها بشأن طريقتها في التعامل مع وجيه. فقد قالت لي أثناء حديثي معها: "لعله كان ينبغي على أن أكون أشد حزما معه". ولكنها كانت تقول ذلك بلهجة الحنان. وأنت لا تجلس الآن إلى ديانا وتحادثها إلا ويشيع حولكما جو من الهدوء والسكينة. وسألتها عن مصير اليوميات التي خلفها وجيه في خمسة مجلدات تغطي السنوات الأخيرة من حياته. قلت: لماذا لا تنشرين يومياته بعد تحريرها وفقا لرغباته الأخيرة؟ فقالت إنها لا تصلح للنشر لأنها مليئة بالتكرار. وهى إجابة لم تقنعني وإن كنت لا أستطيع أن أثبت عكس ما قالت. وقلت: فماذا تنوين فعله بشأنها؟ قالت: لعلني أعطيها لجامعة من الجامعات التي تعمل على حفظ مثل تلك الوثائق.

وجاءت في نهاية المقابلة بالقهوة والفطائر وهى تعتذر أشد الاعتذار لأنها لم تستطع أن تجد بنها المفضل؛ بينما كنت أؤكد لها أن قهوتها طيبة المذاق والنكهة. ولما هممت بالذهاب عرضت على أن تصحبني في سيارتها إلى محطة قطار الأنفاق، فرفضت وإن سرني أن تلك الفتاة التي تناهز التسعين ما زالت تجد من النشاط والهمة ما يكفى لقيادة السيارة وتوصيل زائرها إلى المحطة. وسألتني بطريقتها المهذبة عما إذا كنت أود قبل الخروج استخدام أي من "مرافق" البيت، فقبلت الدعوة ممتنا. وكنا نهبط الدرج نحو الباب الخارجي عندما مست الجدار بكفها اليسرى وقالت: "هذا هو الجدار الذي طلاه وجيه". وأصابني ما يشبه الرجفة. فلم أكن قبل تلك اللحظة أعلم أن وجيه كان يسكن في نفس المكان. (كنت أعلم أنه سكن في بيتها فى هامبستد، ولكني لم أكن أعلم أنه كان يقيم في ذلك المسكن على وجه التحديد).

وتحسست الجدار بدوري، وكان سيئ الطلاء لأن وجيه - كما ذكرت في كتابها لم يكمل المهمة. قلت مندهشا: ألم تعيدوا طلاء الجدار منذ ذلك الحين (أي منذ حوالي سبع وأربعين سنة)؟ فأجابت بالنفي: "بل  تركناه على حاله." والأدهى من ذلك أن ديانا أخذت تعتذر لأنها لا تستطيع أن تريني غرفة وجيه، فصديقها فيما قالت يقيم فيها وهو معتل الصحة في الوقت الحاضر.(وقد كنت عند جلوسي معها أسمع بالفعل سعاله في غرفة مجاورة). وتأكد لدي عندئذ أن كل شيء ما زال على حاله منذ رحل وجيه؛ فها هو لوقا صديقها العريق ما زال حيا وما زال يعيش معها. وتأكد لدي أنه هو صاحب الصوت العجوز الذي رد علي في التليفون عندما اتصلت بديانا لأول مرة. إذن لم يتغير شيء سوى أن وجيه قد رحل. ماذا كان يحدث لو امتد به العمر حتى اليوم؟ هل كان سيبقى في نفس البيت عجوزا نحيلا ضئيلا مهملا ينتعل خفين من اللباد - تحت رعاية ديانا؟ ليس ذلك فيما قلت لنفسي بالمصير السيىء طالما استمر في الكتابة.

وفى الشارع وجدتني لا أريد أن أبرح مكانا توقفت فيه. إنني أعرف هذه الديار: عشت فيها وسرت في مناكبها وكان لي فيها أصدقاء وأحباب. ولم يتغير شيء منذ كنت هنا في الستينيات. كلا لم يتغير شيء. ومن حسن الحظ أن الحي ما زال يحتفظ بطابع الضاحية الهادئة الجميلة التي لم يفسدها الزحام ولا التلوث ولا الضوضاء. وها هو الأوتوبيس الأحمر ذو الطابقين يتهادى بركابه نحو مكان أعرفه حق المعرفة. ولو أنني سرت في أي اتجاه لوجدت مكانا عرفته وأحببته أو شقيت به. ومددت بصري ناحية اليسار. فلو أنني سرت في هذا الاتجاه لوجدت بيتا غير بعيد كنت أسكنه، وهو بيت لا يختلف في طرازه وبنائه عن بيت ديانا. بيت من ثلاثة طوابق "شبه منفصل" - كما يقول الإنجليز عن البيوت المجاورة. وأغرتني نفسي لبرهة بأن أجوس في تلك الديار وأحيي بعض معالمها. (بل انني صرت بعد مغادرة المكان أحوم فيه بفكري آسفا متمنيا لو أنني طرحت على ديانا مزيدا من الأسئلة). ووقفت إذن في مكاني لا أتحرك. وكان علي أن أنتزع نفسي منه انتزاعا. فقد ذكرتها بأن الزمن لم يتوقف، وبأن الأشياء لم تثبت على حال، وبأن الديار ورثتها أجيال أخرى. وانصرفت عائدا من حيث أتيت.