في هذا الجو من الفوضى الموسيقية، والعشوائية الفنية والكلمات العبثية التي تسود عالمنا العربي ووطننا السوري. أحنُّ إلى جبران خليل جبران الذي قدّر الموسيقى أفضل تقدير. فأعطاها حقها ومجّدها وأجلّها. وصفها فأحسن توصيفها، أرّخها ومدحها وأظهر ألوانها أجمل إظهار. أبرز معانيها، دخل جوهرها ونشر بريقها. ذكر آلهتها، قداستها ومعبوديها. أفصح عن عبيرها، واشتمّ عطرها وباح بسر روحها وعظمة نفاذها وتأثيرها. جلس بقربها وانسحر بصوتها، سمع تنهدها وتأثّر بقلبها. رآها بسمعه فاستغنى عن حديثها. جزم أنها لغة كل البشر وخطاب الشمس القمر. استذكر من خلالها، فصورت له الفرح والترح. أرقصت قلبه فاهتزت أضلع صدره وحركت شجونه وفرحته. فبالدمع تكافئ وتُستحسن وبالابتسامة تُرضى. تُطرب الآذان لها وتتحدث القلوب من خلالها. فهي الموسيقى التي أبعدت الظلام وأنارت درب كل عاشق ولهان.
أمّا الآن. أين نحن من هذا ياجبران ؟.
موسيقى اليوم أناس الصحراء نفروا منها، والملوك شردوا عنها وعجيب الموت والقتل أبعدها عنّا. لم يعد الإنسان يفقه بقلبه نشيدها، ولم يعد ترنيم العصفور يعنيه، ولا الجدول على حصاءه يُصغيه ولا موج الشاطئ يُلهيه ولا مطر الشتاء يُنسيه ولم يبقى بللور للتذكير. موسيقى اليوم لم يعد لها كلمات تنسجم مع عبيرها ومفردات تتراقص مع نسيمها. فذهب جمالها وضاع ألقها ومعناها.
أين أنت ياجبران ؟ فهل تغير الصيوان أم عظيمات السمع ضمرت في الآذان. أم الروح خرجت من فؤاد الإنسان والنفس نامت دون استئذان؟ حدثتنا عن مجد الموسيقى وعن عبدتها من السابقون. فهي روح الله وحورية في السماء، فهل غفلها الحاضرون، أم ألبسوها ثوب الجنون، أم تغير مافي النفوس؟. موسيقانا اليوم ألحانٌ تخلق ليوم أو اثنان وتباع ليل نهار. هي شركات واستثمار وسلع للإتجار وموهبة للسباق ونشاذ كخوار الأبقار. فهل ياترى من كانت بين الإغريق والرومان إلهاً في ذلك الزمان، تُذبح وتقدم لها القرابين ليل نهار وتبنى لها التماثيل وتحاط بالكُهَان. أصبحت الآن في بازاراَ يمسكها سمسار وقف منتصباً بنية الإتجار !.
جبران، لم يعد لأبولون مكان، وكان إلهاً للموسيقى في ذلك الزمان، وأصبحنا نشاهد بالغصب والإكراه آلاف المتألهة والمكّار من مدّعي الموسقى والألحان وكتّاب المفردات. فأين أنت يا جبران؟ استذكرت وقلت لنا أنّ رنات قيثارة أبولون هي صدى صوت الطبيعة ولكن لم يعد لدينا اليوم إلا صوت الشظية والقذيفة، ولم نعد نسمع الشحرور ولا النسيم في السهول، وذهب صوت خرير المياه مع دم لم تغطيه الثلوج. جزيرة الأغاني وقصة أرفيوس مع قيثارته وأثيرها الذي انتشر في البحر، أنهته أساطيل السفن، حاملات الطائرات والصواريخ ، وبوارج القتل والفتك والتدمير. أساطيلُ أنهت قصة الصيادين مع البحر، وتناست حكاية أرفيوس وموسيقى تلاطم الموج على الصخر. أين أنت يا جبران ؟ ذكرت أنّ أجدادنا السابقون من الآشوريون قالوا أنّ الموسيقى مجد الاحتفال وسعادة الأعياد. صحيح ماقاله أجدادنا وماذكرت إلا أنّ موسيقانا اليوم ليست حتى في الاحتفال والعيد نفسه ضاع بين مجانين القتل والاستثمار.
" الموسيقى لسان جميع أمم الأرض" صحيح ماقلت ياجبران. صحيح أنّ الشعوب سبّحت معبوداتها بالألحان والتراتيل. أمّا اليوم حتى المعبود الواحد الأحد ابتعد عنه التبجيل وحلّ محله ذلك الشيطان اللعين بشخص انسان رفض كل ترنيم ونكر الغناء ونشيد الأطفال وجرس الكنيسة، وصمّ عن نواح الأم والأخت والحبيبة وتعاسة أطفال الشهادة والمصيبة، فلا يرضيه إلا سيفُ ضارب بالعنق وعندها لا صوت ولا هديل.
كذلك ياجبران فإنّ أناشيد داود في أرض فلسطين ومزامير التوبة والمغفرة استبدلت بأناشيد صهيونية عزفت ألحان القتل والاضطهاد والتدمير. حتى التسبيح للرب الواحد المعبود انقلب عند بني صهيون تهليلاً وتبجيلاً لرب الحرب والجنود، تمجيداً لإلهاً رفع شعباً فوق بقية الشعوب وسمح بالسجون والحروب. هذه موسيقى ذلك الرب وهكذا هم يؤمنون.
جبران، رأيتَ الموسيقى تتربع على عرش الحروب وتزيد المناضلين عزماً وكفاحاً وجبروت. فماذا نرى اليوم غير الغدر والجنون وسحق الأعناق بكل هدوء، وصواريخاً ترعب وتفتت موسيقى النفوس. نرى الآن راعياً بدون سهول ومسافرٌ قتلته الهموم فلا موسيقى تنفع ولا لحنٌ يدوم. حتى الأرواح في يوم الخروج والوداع سُرقت منها موسيقى الصعود إلى السماء فلا وقتٌ للتحضير والعويل، فروحٌ أخرى تستعجل الطريق وأخرى تزاحم المسير. هذا حال وطننا الجريح، فأين موسيقى الراحة في يوم الرحيل. أمّا المولود الجديد فما من أباً حضين وإنما علماً فوق صورة شهيد، فلا مكان لموسيقى الزغاريد ولحن السرور والبهجة بإبن الحياة الجديد. وصوت أماً ضاع حزناً وقهراً بغياب الرفيق ووداع ابناً مجهول المصير، فمن أين الموسيقى الحنونة لنوم الرضيع فالحزن والبكاء أصبح لغة الجميع.
ماذا بقي لدينا ياجبران؟
بقي فيروزٌ تغني كل صباح وتذكّر بأشعار الكبار ومفردات ندرت في هذه الأيام، وترتّل لحناً صاغه كل فنان عملاق، وتُنشدُ قولاً من صنع جبران لتحيا فينا موسيقى العشق والحياة. فكما ذكّرتنا بآلهة اللحن وموسيقى الجمال (أبولون و أرفيوس) غنتك فيروز كل صباح وأعطتك الناي بكل اجلال واحترام. فهل بقي اليوم من يرنّم موسيقى الحياة وتراتيل الروح والهيام أم ضاعت الألحان بين سمسار، ومجنون مال وموسيقى هستيرية رافقها النشاذ ؟.
1 / 1 / 2015