يكشف الباحث الإيطالي وأستاذ الدراسات العربية في جامعة ساساري في سردينيا عن أهمية الوثائق الإيطالية عن مصر ودورها في إماطة اللثام عن الكثير من الغوامض التاريخية في القرن التاسع عشر.

تاريخ مصر في الوثائق الإيطالية

إضاءات وثائقية عن عصر محمد علي

جيوزيبي كونتو

رؤيتان متباينتان منطلقا ومنهجا
ثمة رأي عام يتفق على أن عصر محمد علي (1805-1848) هو بداية تاريخ مصر الحديث، وهو رأي يتفق عليه المستشرقون الذين يركزون اهتمامهم على أهمية الحملة الفرنسية وتأثير دخول نابليون إلى مصر، مع المؤرخين المصريين الذين يعتبرون محمد على باعث التجديد والتحديث في مصر، وفي الشرق الأوسط من ورائها في تلك الفترة الباكرة من تاريخه الحديث. وجدير بالذكر أن هذا الرأي العام لا يحظى بالإجماع عليه. فثمة رأي آخر، بين المؤرخين المصريين، ينشق على هذا الإجماع، أو شبه الإجماع، ويرى أن دخول العثمانيين مصر وانتشارهم في  الأقطار العربية في القرن السادس عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري) كان بداية العصر الحديث، أو بداية عملية التحديث عند العرب عامة. وقد لمست من خبرتي الشخصية وجود هذين الاتجاهين المتعارضين بين المؤرخين المصريين من معرفتي بهم وبإنتاجهم العلمي وهي معرفة امتدت على مدى ثلاثين عاما، لم انقطع خلالها عن زيارة مصر بشكل دوري.  

ولازلت أذكر، بمشاعر الود والغبطة، بدايات تعرفي على هذا الوضع أيام الطلب في منتصف السبعينات حينما حضرت محاضرات المؤرخ المصري الشهير محمد أنيس والأستاذ علي الدين هلال في جامعة القاهرة، وكذلك عندما تابعت نشاطات الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وحرصت على حضور لقاءات يوم الخميس العلمية في الجلقة البحثية للدراسات العليا في التاريخ التي كان ينظمها في ذلك الوقت الأستاذ عزت عبدالكريم. وأذكر أن تلك الفترة الخصبة من تعرفي العلمي على المشهد التاريخي المصري، هي التي كشفت لي عن وجود هذين التصورين المختلفين، أو بالأخرى المنهجين المتباينين في المنطلقات والفكر والتحليل. ولا أريد أن أدخل هنا في جدل طويل حول موقف كل اتجاه ورؤاه ودوافعه، وإن كان من الصروري أن ألخص الموقف بشكل إجمالي وجيز. فأقول أن الاتجاه الذي يعتبر عصر محمد علي بداية تاريخ مصر الحديثة، هو اتجاه ينطلق من تصور فكري تبلور تحت تأثير الفكرة القومية، والقومية العربية خاصة، ويعد في مستوى من مستويات التحليل العلمي والتاريخي ثمرة المناخ الفكري الذي شجعه جمال عبدالناصر في ستينات القرن الماضي خاصة. ويرتوي هذا التيار من ذلك المناخ الذي ينادي بإعادة كتابة التاريخ من منظور الحركات الشعبية التي قاتلت في سبيل تحقيق الاستقلال وتحرير البلاد من الاستعمار الغربي والأتراك. 

أما الاتجاه الآخر، والذي يرى أن انتشار العثمانيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كان بداية التجديد والتحديث فإنه ينطلق من أن هذا الانتشار كان أحد تجليات بزوغ دولة إسلامية قوية/ فقد وحد أجراء واسعة من دار الإسلام، واستطاع تأسيس مجتمع مزدهر ومستقر حقق تقدما كبيرا، وعزز من مكانة الإسلام والمسلمين في العالم لفترة طويلة. وينطلق هذا الاتجاه من تصور فكري مؤداه أن الدولة العثمانية استطاعت إبان ازدهارها أن تواجه المسيحية الأوروبية وأن تحد من تأثيرها على دار الإسلام . كما أنها استطاعت مقاومة النزعات الاستعمارية الغربية، والأميريالية الأوروبية خاصة التي كانت تستهدف دار الإسلام، لسنوات طويلة. بل استطاعت أن تنشر الإسلام في أجزاء من القارة الأوربية نفسها - وخاصة البلقان - وأن تتحول إلى قوة لايستهان بها في عصر محمد الفاتح خاصة.  

وبالرغم من الاختلاف بين الاتجاهين إلا أنهما يتفقان على أهمية دور مصر إبان عصر محمد على في القرن التاسع عشر، وتأثيرها الكبير على منطقة الشرق الأوسط برمتها في تلك الفترة الحرجة من تاريخها. وقد درس هذه الفترة مؤرحون كثيرون، من المصريين والمستعربين على السواء، ونشرت في مختلف اللغات الأوروبية وفي عدد من بلدان الشرق الأوسط كذلك دراسات عديدة عن مصر في عصر محمد على. وقد حظيت اللغتان الإنجليزية والفرنسية بنصيب الأسد من الدراسات المنشورة عن هذا الموضوع، حيث كتب بها لا المستعربين وحدهم وإنما عدد لابأس به من الباحثين العرب أنفسهم. وأذكر هنا على سبيل المثال اسماء مثل أنور عبدالملك وألبير حوراني وغيرهما. أما إسهام الباحثين العرب والمصريين منهم خاصة، فهو أكبر من أن نحيط به في هذا البحث القصير. ويكفي أن نسجل هنا أسماء أبرز مؤسسي الدراسات التاريخية في مصر المعاصرة من شفيق غربال ومحمد رفعت إلى محمد صبري وفؤاد شكري، وحتى محمد أنيس وأحمد عبدالرحيم مصطفى وتلاميذهم. وكذلك محمد عزت عبدالكريم وتلاميذه من الدين درسوا ويدرسون اليوم في الجامعات المصرية، أو من الباحثين الذين يعملون في مراكز الأبحاث العربية منها والأجنبية. وأود فقط أن أشير هنا إلى أجدث ما وقع بين يدي من دراسات وهو كتاب (عصر محمد علي) الذي نشره رؤوف عباس، رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وشارك في تأليفه كوكبة كبيرة من الباحثين المصريين والدارسين الغربيين على السواء. 

إيطاليا ومصر: تفاعل وتناظر
أما بالنسبة لإيطاليا، فثمة عدد من الباحثين والمؤرخين الإيطاليين الذين درسوا تاريخ مصر في عصر محمد علي، أبرزهم هو الباحث الإيطالي أنجلو سان ماركو. والواقع أن الوثائق الإيطالية التي يمكن أن تلقي أضواء جديدة على عصر محمد علي نادرة إذا ما قارناها بوثائق الأرشيفات البريطانية أو الفرنسية. وبالرغم من ندرة هذه الوثائق الإيطالية فإنها ذات نفع كبير في دراسة هذه المرحلة المهمة من تاريخ مصر والشرق الأوسط عموما. خاصة وأن ثمة تناظر مثير للاهتمام بين تاريخي البلدين، ومساريهما في تلك الفترة التي امتدت من عصر محمد علي واستمرت لعقود طويلة بعده. وسوف يركز هذا البحث على الوثائق المتعلقة بهذا الموضوع والموجودة في أرشيف وزارة الخارجية الإيطالية في روما. 

ويجب علينا بداءة التنويه بأن الباحث الإيطالي أنجلو سان ماركو قد نشر عددا من المؤلفات المهمة عن الوثائق المتعلقة بمصر في عهد محمد علي، لكن جل هذه المؤلفات منشورة إما باللغة الإيطالية أو باللغة الفرنسية. وتكمن أهمية هذه المؤلفات في أنها تعتمد على عدد كبير من الوثائق الإيطالية غير المنشورة. والواقع أن هذه الوثائق الإيطالية الموجودة في العديد من الأرشيفات الإيطالية والتي لايعرفها أو يتعامل معها إلا الباحثين الإيطاليين وحدهم، تشكل ثروة تاريخية من المفيد أن يطلع عليها الباحثون العرب، وأن يتناولوها بالدرس والتحليل. فثمة كثير من الأرشيفات ومجموعات الوثائق الإيطالية التي تلقي الضوء على جوانب مهمة من تاريخ مصر، ولاتزال تنتظر المزيد من البجث والتحليل.

 

صحيح أن ثمة ضعوبة في معرفة عمل الباحثين الإيطاليين وإسهاماتهم الأكاديمية في هذا المجال، وذلك لأن جل أعمالهم باللغة الإيطالية، فهي اللغة الأساسية لا للوثائق التي يعملون عليها فحسب، وإنما لدراساتهم وأبحاثهم المنشورة في هذا المجال كذلك. ولاتوجد حتى الآن ترجمات عربية للوثائق الإيطالية نفسها، ولا حتى لأعمال الباحثيين الإيطاليين حولها. فبينما توجد ترجمات لدراسات بعض المستعربين الإيطاليين الكبار للغة العربية مثل ميكيلة إماري، وكارلو ألفونسو نالينو، ولاوري لاوري فيجافاليري، وفرانشيسكو كابريلي، بل بينما نجد أن عددا منهم كتب بعض أعماله باللغة العربية مباشرة كما الحال في كتابات نالينو، فإن ما هو متاح من أعمال المستعربين الإيطاليين - والمهتمين بالدراسات التاريخية منهم خاصة - باللغة العربية هو قطر من بحر.

 

وفي الوقت الحاضر الذي تلعب فيه شكبة الملعومات الدولية «الأنترنيت» دورا كبيرا في نشر نتائج دراسات الباحثين، ووثائق الأرشيفات الدولية المختلفة، كانت هناك مبادرة للاستفادة من هذا الوسيط الأليكتروني الجديد في تعزيز أواصر العلاقات المعرفية الإيطالية المصرية. وقد سبق وأن قدم مشروع في مؤتمر موسع عقد في الإسكنديرة عام 2003 عن العلاقات المصرية الإيطالية في هذا المجال، ولكنه لم يسفر عن ثماره المعرفية بعد.

وأعتقد أن الاهتمام بالوثائق الإيطالية عن مصر، ليس مهما فحسب لدراسات التاريخ المصري، ولكنه مهم كذلك بالنسبة للإيطاليين أنفسهم، حيث يلقي مزيدا من الضوء على الأماكن التي عاش فيها الإيطاليون في الماضي والأدوار التي لعبوها في حياة الثقافات الأخرى، والتي لعبته تلك الثقافات في حياتهم. في هذا المجال نجد أن دراسة حياة الجالية الإيطالية في مصر في القرن التاسع عشر، وهو الأمر الذي درسته في أكثر من دراسة بعدما اطلعت على الوثائق الإيطالية المحفوظة الأرشيف التاريخي لوزارة الخارجية الإيطالية في روما. فقد مكنتني تلك الوثائق من رسم صورة واضجة عن حضور الإيطاليين في مصر ودورهم في الحياة المصرية الثقافية منها والسياسية على السواء، وتأثيرهم على اتجاهات الحركة الوطنية المصرية. كما أن دراسة هذه الوثائق تكشف عن التناظرات والتقاطعات بين تاريخي البلدين وتلقي الضوء عليهما. وقد نشرت بعض هذه الوثائق في دراساتي المختلفة التي نشرتها عن مصر، وتتبعث دورها في مسألة تاريخ كتابة التاريخ في مصر، وهو الأمر الذي قدمت بعض نتائجه في بحث عن «الإيطاليون في مصر حسب الوثائق الإيطالية» قدمته في المؤتمر الذي عقد في مدينة الإسكندرية وتناول العلاقات المصرية الإيطالية. 

والواقع أن الوثائق الإيطالية عن مصر، والمحفوطة في أرشيف وزارة الخارجية الإيطالية في عدة مجلدات تتعلق إلى حد كيبر بفترة منتصف القرن التاسع عشر، وخاصة مابعد عام 1861، وهو عام استقلال إيطاليا. أما فيما يتعلق بالفترات السابقة على هذا التاريخ - تاريخ استقلال إيطاليا - فيجب البحث، لا في أرشيف روما المركزي وحده، وإنما في أرشيفات المدن/الممالك الإيطالية القديمة، وخاصة تلك التي ازدهرت قبل اتحاد إيطاليا عام 1861 مثل ميلانو وتورينو والبندقية وفلورنسا ونابولي وباليرمو. 

ماذا يمكن أن تقدمه تلك الوثائق
وللكشف عما يمكن أن تقدمه تلك الوثائق لمعارفنا عن عصر محمد علي، أذكر هنا مثالا من الأمثلة التي عملت عليها في هذا المجال. فقد وجدت تقريرا كتبه ديلا كروجه وقدمه لوزارة الخارجية الإيطالية في فلورنسا عام 1868. وقد اهتمت هذه الوثيقة بتوثيق رأي مسئول إيطالي عمل في مصر في عصر محمد علي، كما أنها قامت بإجراء مقارنة بين حكومتي سعيد وإسماعيل، كما تشجل لنا أيضا موقف الجالية الإيطالية في مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. إذن فنحن بإزاء وثيقة متعددة المناحي والدلالات. تقدم لنا أولا صورة عن مصر في عصر محمد علي باعتبارها بلدا يتمتع بحكومة منفتحة ومستعدة للتطور والتجديد والأخذ بأسباب الحداثة في كل مناحي الحياة من الزراعة والصناعة ووسائل الاتصال، والبعثات الدراسية واستقبال الأجانب، بل واستقبال الدارسين والبعثات الدراسية لمصر أيضا. وإذا ما قارنا هذه الصورة الطالعة من الوثيقة عن عصر محمد علي بتلك التي ترسمها لعصري سعيد وإسماعيل، سنجد أن مصر في هذين العصرين بلد يعاني من أزمة، وهي الأزمة التي انفجرت بعد نهاية الحرب الأهلية الأمريكية وتراجع أسعار القطن المصري في العالم. وهو المحصول الذي أصبح له دور كبير في الاقتصاد المصري منذ عصر محمد علي. ولم يقتصر الأمر على الواقع الاقتصادي وحده، فعلي العكس من المعاملة الطيبة التي كان يتمتع بها الأجانب في عصر محمد علي، حيث كانت البلد كلها في حالة نهضة وتقدم، ولذلك فقد شهدت تدفق الإيطاليين الكبير إلى مصر في عصره للعب دور كبير في مشروعه التحديثي.وشارك كثير من الأجانب في مشروعات البناء الضخمة التي بدأها محمد علي، وخاصة محموعات كبيرة من المهندسين والأطباء ومسئولي المكتبات الإيطاليين - فقد كان أمناء المكتبات الطليان هم المسئولين عن المكتبة الخديوية حتى عصر إسماعيل - وغيرهم من قوى العمالة الماهرة التي شاركت بشكل فعال في مشروعات تجديد الإسكندرية وبنائها. أقول على العكس من هذه الصورة الطيبة عن عصر محمد علي نجد أن الوضع في عصر سعيد وإسماعيل قد تغير. وأصبحت الرشوة أمرا منظما. فقد كان من المعروف في أوساط الأجانب أن سعيد وإسماعيل يدفعان رشاوى للدبلوماسيين من أجل الحصول على قروض من البنوك ومن الرأسماليين الأوروبيين. وقد ذكرت الوثيقة هذا الأمر بوضوح لامواربة فيه. حيث نعرف منها أن الخديوي كان يدفع رواتب منتظمة إلى قنصلي النمسا والسويد. وتصف هذه الوثيقة فترة كل من سعيد وإسماعيل بأنها فترة ركود بالنسبة للجالية الإيطالية في مصر، وتقدم الجاليات الفرنسية والانجليزية عليها. 

وبعد أن كانت اللغة الإيطالية لغة رسمية في عصر محمد علي، لا في مصر وحدها، بل وفي كثير من بلدان الشرق الأدني، وبعد أن كانت لغة تخاطب يتعامل بها الجميع، وتكتب بها وثائق الدولة، وتستخدم في الدفاع في المحاكم المصرية والانجليزية والفرنسية، كما كانت تستخدم في الأماكن العامة وفي الدوائر الحكومية الرسيمة والصناعة والتجارة، استبدلت بها اللغة الفرنسية، ولم يعد للغة الإيطالية الدور المرموق الذي لعبته في عملية التحديث المصرية مند عصر محمد علي، لكن سيطرة الفرنسية في الدوائر الرسمية لم تدم طويلا لأنه سرعان ما أزاحتها اللغة الأنجليزية عن هذه المكانة بعد قليل. 

لكن المفارقة المثيرة التي تكشف عنها هذه الوثيقة هي أن سقوط الجالية الإيطالية في مصر تزامن مع سقوط مصر نفسها وضرب الاستعمار الغربي لمشروعها التحديثي. فعندما توفى محمد علي عام 1849 انفتحت أبواب السيطرة الاستعمارية على مصر، وهو أمر تزامن في إيطاليا نفسها مع إخفاق الحركات الاستقلالية الأولى عام 1848. ومن المهم في هذا المجال أن نذكر أن عددا من الإيطاليين الذين شاركو في حركة الاستقلال المخفقة تلك - وكان عدد كبير منهم من أنصار مازيني وجاريبالدي - انتقلوا إلى مصر بعد إخفاق حركتهم، وواصلوا منها تطوير أفكارهم الاستقلالية الجديدة، وهي الأفكار التي لابد أنها ساهمت في وضع بعض بذور الحركة الوطنية العرابية، ومن الضروري استقصاء تأثيراته في دراسات لاحقة، وإن كانت بذور حركة الاستقلال العربية احتاجت إلى فترة أطول من أجل تحرير مصر وتحقيق استقلالها. 

Giuseppe Contu
جامعة ساسّاري - سردينيا - ايطاليا