من جماجم الواقع المفخخة إلى تعاويذ أوروك وعوالمها الأسطورية تمتح هذه القصائد من الهم العراقي، وتجذر المأساة في تواريخها الواقعية والأسطورية.

ثلاث قصائد

خالد الخزرجي

صمت الماء المبجَّل
لماذا نهمسُ بالكلام ؟
ويتجاهلنا العابثونَ بلا مسوّغ
فلا الدموعُ النازفةُ
ولا أناشيدُ الصغار في المدارسِ
قادرةٌ على أن تعيدَ
إلى الأشجار رونَقَها
وإلى السماءِ صفاءَها
وإلى الأرض تربَتَها الحمراءْ ؟
أشعُر أَنني
أنزِلُ القمرَ من مَدْرجهِ إلى الأرض
وأسرقُ منه شعاعَهُ الغزيرْ
لألوِّنَ كلَّ كائنات الأرض
وأبدّدَ أحزانَ الأمهاتِ المتضرّعاتِ
إلى اللهِ ليرُدَّ أبناءَهُنَّ
من أسْرٍ ابتكرهُ القادمونَ إلينا
من غياباتِ عصورٍ لم نسمعْ بها
أو نقرأْ عنها في كتب التاريخ ...
* * *
للوطن أبوابٌ مغلقَةٌ
لايمرّ بها السّوّاحُ المشتاقونَ
لمعرفة أسباب نزوح الأحياءِ
عن وطن جميلٍ
كأيقونةٍ خضراءْ
أجملُ الكلماتِ التي تختصرُ المعاني
تلك التي تشبهُ رؤوساً منتصبة
كمثل موجةِ بحرٍ
ترتفعُ بعد مَدٍّ
يفتضُّ الحرثَ والنّسلَ
ويكبَحُ جَماحَ عاصفةٍ سوداءْ !
كلُّ الأفكار تموتُ أمامَ
شموخِ جبلٍ
منتصبٍ وسطَ الأضرحهْ
كلُّ الأشجار تنبتُ من بعد نضوبْ
لّ الكائناتِ مدعُوّةٌ
أن تتحدّى صمتاً
كصمت الماء المبَجَّلْ !
* * *
كنجمةٍ نازحةٍ
من مدار الضوءِ إلى عالم خافت الأضواءِ ،
ضاقت بهالتها
فاحتاجتْ إلى أن تتنفَّسَ
من أفواف الماءْ !
كحقلٍ غامق الخُضْرةِ
ارتحلتْ أشجارُهُ الى مدينةٍ
خاليةٍ من الرصاصِ
والقتلِ العَمْدِ
ودفْنِ الأحياء دون جنازاتٍ محترمهْ
هكذا يعيش وطني
من غير أن يتضجّرَ ،
أو يبكي
أو يغتسلْ
* * *
أنا كلُّ هذا البكاءْ
كلُّ هذا الحزنِ الذي
يوشكُ أن يتسربلَ أضرحةَ الشهداءْ
وأوراقَ القرنفلْ
وأفوافَ السفرجَلْ
يوشكُ الموتُ أن يطبقَ فكّيهِ
على فراشاتٍ بدأنَ يحلّقْنَ للتَّوّ
في حدائقَ لم تتفتَّحْ بعْدُ أشجارُها 
* * *
هذا العالمُ يئنُّ من وجَع الحرمان
يتعكّزُ إنسانهُ
على أبجديّةِ خرافاتٍ عمياءْ
وضلالاتٍ غامضة
من سيفيضُ صمتهُ
ويحجرُ على آهاتهِ
قبلَ نضوب البهجةِ في وجوه البائسينْ ؟
أمسِ أصغيتُ للنهرِ
آتياً من ليلٍ قاتمْ
وإلى الأرضِ كانت تتنَفَّسُ آهاتِها !...
وإلى البحرِ تذبلُ مويجاتُهُ كالرمادْ ...
وإلى طائرٍ أصغيتُ سمعتُ حشرجاتهِ
مثلَ دبابيسَ تنخرُ في ريشهِ
فتعُوقهُ عن التحليق في فضاءٍ شاسعْ
أصغيتُ إلى أغصان الليلَكِ
تنفضُ أفوافَها
من أوراقها المأكولةِ
كفتاتِ خبزٍ مجَّتُهُ نوارسٌ
مشغولةٌ بالبحث عن ملاذٍ
يقيها سخونةَ الريحِ ولعلعةَ الرصاصْ
* * *
لماذا نحنُ فُوْضويون؟
نحتَزُّ وريدَ الشجر بأسنانٍ حديدْ
لماذا نضطربُ كلما كلَّمَنا رجلٌ
يناضلُ في حكومةٍ مضطربةِ الأفكارْ ؟
تتداعى بالكلام المهموس دونَ أنْ
تفصِحَ عن أفضلِ منهاجٍ لديها !...
أو من غير أن تقولَ للفَقْرِ : وداعاً
* * *
لماذا نحنُ مضطربون ؟
ملتاثونَ كالمجانين
نبحثُ عن وسيلةٍ
تبعدنا عن ضوضاء الحياة ؟
ننشغلُ برسمِ أوقاتِنا
ونقتلُ فراغنا بسفسطةٍ
وحوارٍ جافْ ...
لايمنحنا سوى خَواء الروحِ
وفقدان الذاكرةْ؟
* * *
متى ستنبتُ للوطنِ أنياب ؟
وللقمرِ مخالبْ !..
وللشمسِ أظفارُ
من حديدْ ...
ليولد وطنٌ من
غير فاقةٍ
أو حرابْ ؟
العراق 23 / 7 / 2006 


 
تعاويذ في ليل اوروك

(1)
لم تَزَلْ أوروكُ تعبدُ آلهتها
من قبل قرونٍ
مرّ بها الطُّوْفانُ ، وما تغيَّرتْ أوروكْ
حبلتْ غزلانها
بفحلها (أنكيدو)
ولما وضعتهُ بعد مخاض عسير
ووحامٍ فاقَ كلَّ وحامْ
أرضعَتْهُ الوحوش
وصارَ مثلها وحشاً كاسراً
تخافُهُ السِّباعُ ، والضّباعُ
وتخشاهُ النمورْ ...
ولم تزلْ أوروكُ تعبدُ أوثانها
كأيِّ مدينةٍ لم تتخّذْ لها عِجلاً
يمشي بها على طريق السّراط المستقيمْ
سراطُها كانَ نهرَها المَسوَّرَ
بضحايا قرابينَ الآلهةِ المحاصرة
بآلاف الجثث والعرائس المرائياتِ
والجدرانِ المُلّطخةِ بأكاليل الدم
أوروكُ قمرٌ مغسولٌ
بنجيع حَمامٍ مذبوحٍ
في معابد الآلهة ...
من يقْرُبُ من سورها الحديدِ المعفَّرِ
بروائح الموتى التي تزكم الأنوف

(2)
على باب اوروك
ينتحرُ الطهْرُ وتهربُ الملائكةُ
من صيحات الطيور الفَزِعةْ
كلّ شيءٍ فيها فاجعٌ ورهيبْ
مواكبٌ خلف مواكب
لتشييع أسراب الشهداءِ
إلى أرضٍ
بعيدةٍ عن الشمس ، والماءِ ، والريحْ
هكذا أوروك يذبحها " خمبابا "
على فراش اللوعة
ويسوطها بسياط العذاب
وتجأرُ بصراخٍ كالأطفالِ
ولا يسمعها المارّونَ إلى معابدهم ...  

(3)
سقطتْ أوروك
بين مشافر سيفٍ وسَوْط جلاّدْ
أرادتْ أن تفرَّ الى عالم النّضارة
فلم تستطع اجتياز الأسوارِ
ومدنِ الطينِ والاسفلتِ والحديدْ
عَبَرتُ وحدي حدودَ الجمرِ
ظلَّ ورائي "جندرمةٌ" يلوّحونَ لي
بأنياب خارجاتٍ من أفواههم
وبأظفار تشتعلُ كالجمر
خفْتُ وخاف معي زُغْبُ طيورٍ
لم تنبُتْ فيهم أضراسٌ
ولا أجنحة ...
أو ريشْ
فاختبأتُ في ثيابي
وتقرْفصْتُ على جسدي
كطفلٍ راحَ يتلو آية " الحمد "
بين خوفٍ ورعشةٍ في اليدينْ  

(4)
أوروكُ فيضٌ من ظلامْ
قالت الطفلةُ التي أحملها تحت ثيابي
نسيتُ دعاءَ أمي التي علّمتني
ذات يومٍ أنْ أتلوهُ
إن تعرَّضني الشيطانْ
فالتمستْ ليْ تعويذةً
أهرب منها إليْ 
يسْلمُ بها جسدي
من وخز إبرٍ تتراءى لي
في كوابيس ليلٍ محلولكٍ
ودعوتُ ، واستغفرتُ
فلم يستجبْ أحدٌ لي
وقد عَيَّرني طفلي الصغير :
ـ أنتَ كثيرُ الذنوب يا أبي  

(5)
اوروكُ نخلةٌ تورقُ كأنثى
وتلدُ المحّارَ ، والزيتونَ ، والرّازقيّ
تطفحُ بالنبيذِ ، والمنِّ ، والسَّلوى
يضفرها المهطعون بليلهم
جدائلاً كسعفات النخيلْ ...
تضيءُ مُدُنها أقماراً كالفسفورْ
وَتنسابُ أنهارُها كانسيابِ قطيفة الرّخامِ
في جسد البحرْ
حيث السُفُن وهْيَ تمخرُ أمواجَ اللُّجَّةِ
تفوحُ برائحة المحّار ...
كلّ شواطئ اوروك يواقيت
تغزلُ منها الشمسُ غدائرها
كلُّ أنهارها تضوعُ بالزَّبَدِ الأبيضِ
والصّدفِ الأخضر
اوروك نبضُ السّحْرِ عطشانةٌ
من يروي عَطَشها ؟
من يغيثُ سنابلها ؟
عرسٌ لصبايا يتضرَعنَ لسماءٍ
مرصّعةٍ بالنجوم مطرّزةٍ بالمطر 
العراق   20/10/2006



الرقص على الجماجم المفخخة 

(1)
يختلطُ نبض الدم بأحبار الكتب البيضاءْ
كسحاب يحتويه غبار أصفرْ
ماالذي يجعل الدم ناراً تصهلُ
في حدائق المساءْ ؟!
للشعراءِ وحدهمِ تنبجسُ النهاراتُ
عن ضوء قصائدَ مفْعَمَةٍ بشبقٍ
مضرّجٍ بابتساماتٍ
وتنهداتٍ ثملة!..
في هدأة ليلٍ مشوبٍ بسهر النجومِ
وعناقِ الوردِ للوردِ تبزغ كلماتٌ
من روح الله تطفيء لواعجَ حزن قديمْ
كلماتٌ لا تفرّطُ بالعطش الآدميّ
أو تحجبُ عن البشر معنى كينونته
خطواتنا تطأ أرضاً تشوبُها اللذةُ
والكآبة والمجاعاتُ التي
حفرتْ في جلودنا
خرائطَ من التقرّحات والآلامْ ...
هم يقتلوننا قسْراً ،
يأكلون لحومنا كالخنازير بلا جرائر ...
لأننا نرفضهم
بمعنى نرفضُ بقاءَهم بيننا
نصرخ من أعماقنا :
- نكرههمْ
صرخاتنا في الصحارى مهووسةٌ كالبركانْ
يطفحُ في وطن جائعْ
يحتاج الخبز أكثر من أيّ حاجات الحياة
همْ يسلبوننا كل ما يحبون من متعٍ
وشرابٍ لنبقى مشرّدينَ
قانعين بفقرنا ، وبؤسنا
حتى يبينَ العظمُ من الجلد  

(2)
تعلنُ ال «BBC» عن مزايدة في عدد الهاربينَ
من جحيم بورصة القتل في بغداد
وتنشر (الصنداي) أخبار المتفاوضين
على تسعيرة البترول بعد
اسقاط الفروقات السعرية التي
تدخلُ إلى جيوب أصحاب شركات السلاحِ
في «ديترويت» و«واشنطن»
هم يقبضون على أعناق العنادل البريئة
في وضح النهارْ
من غير أن يسألهم أحد
كيف؟ ولماذا ؟
في العراقِ ، لا أحَدَ يسألُ
متى يأكلُ ... ومتى ينامْ ؟
في أية لحظةٍ  نحسُّ فيها
بالنعاسِ ، نخلد للنومْ
لا تعرفُ متى يدركنا النومْ ؟
لا نحسّ بطعم الأكل ؟
فكلّ ما ناكله سواءٌ بسواءْ
الخبز الأسمرُ «والفلافلُ» ، بعضُ الخُبّازِ
قليلٌ من العدسِ والكرّاثِ والبصلِ والبقدونس
تلك وجبة طعام شهيّ يلتهمها الصغار
وهم يبكرون إلى مدارسهم الباردة
يقرف من روائحهم أبناء الذواتْ
فالثومُ والبصلُ أصبحا جزءاً
من مائدة اليتامى الذين لا أحَدَ يرعاهم
في دولةٍ تضجّ بالبترولَ والدقيقْ ... 

(3)
نسألُ ... يجيبنا الرصاص
نبكي ، والسياطُ تحفر في أضلاعنا
أخاديدَ مخدَّدَةً
نصمتُ .. يهرشنا الدودُ
ويقضمُ أظفارَنا الجوع
نبكي ، نتودّد إلى قاتلنا
نطلبُ رحمتَهُ ...
نبكي كالعجائز التي سقطت
أسنانهنَّ مبكراً ...
كيف هو شكل الأرض بعد أنهيار أقاليمها
على أرصفةٍ موبوءةٍ
بالأرامل والشحّاذينْ ؟!
كيف أنفلتتْ مداراتها ؟
و أختلف أنين مرضاها ومتسوّلوها
وعجرفةُ النسوةِ البائراتِ
بعد طمثِ أربعينَ عاماً
بلا خصوبة أرحامٍ
أو شبقِ الزهرة بعسل النّحل ؟ 

(4)
أيتها الانثى التي أفتقدت بعْلَها المخضرم
في عصرين من الحرب الدموية
إنفلتت الروحُ من بين يديكِ
واستدرج الغاصبونَ قتلاكِ
إلى مضاجعهم ...
وانطفأت الأنفاسُ في حلبات الرقص
هل أقشعرّت أناملكِ الفضيّة ؟
وهي تتلمّسُ جَمْرَ السياط في سجنٍ
أعدَّ لكِ سلفاً قبل مخاضِ
خمسةٍ وثلاثين عاماً
أيتها المشبوبةُ فتنةً وهَوَىً
كيف رأيتِ بيتَكِ يغرقُ
بطوفان جيوش متعددة الجنسيّاتِ
والألوانِ ، والأشكالِ ، ومفرداتٍ
يعسرُ علينا فهمها !...كيف ضاجعكِ الأبعدون وأنتِ
في خدركِ المنيعِ وأزالوا حصوناً مانعاتٍ
ما بينك وبين الغزاةِ أميالٌ من المحيطاتِ
والبحار والجبالِ والثلوجْ !... 

(5)
من وجهكِ استعَرْتُ ضوءاً
في سُدْفة عالمي المطفأْ ...
أوقَدْتُ سراجي من عينينِ زنجيّتينِ
يمشي بهُداهُ الحطّابون
يلمّون سلالَ التعب ألواناً
من فاكهةٍ
ودرناتٍ مثقلةٍ بماء العيون
ومغسولةٍ بالمطر النوراني
من يديكِ المثقلتين بالتّبْر والبَرَدْ
لأجلكِ جُبْتُ صحارى قائظةً
وتجشّمْتُ التعَب المخضلّ بدمعي
لأهبطَ في قارّاتكِ
أفتحها ليدخل إلى ذرّات مدائنها
غيمٌ يغسلُ عنكِ صدأ الأزمانِ
ومحْلَ السنوات الرديئة ...
قعدت النّسْوةُ المترهلاّتُ
يندبْن أولادَهنّ الغائبين عن الوطنْ
يتضرّعنَ إلى اللهِ
أن يعيدَ لهنَّ ابتساماتٍ غابت
عن شفاه الورودْ
وضحكاتٍ أفلت من وجوه الصّبايا
ونجماتٍ غطستْ في (جُبّ) النيرانْ
وقُبّراتٍ نفقن في جحيم الحرب
في زمن الضجيج والمقاولات الخاسرة
يتنهّدُ القلبُ ويعتمد الجرح
ويكبو جواد في الرهانْ ....
في الزمن القادم من دماء الشاعر الأسيانْ
تنطُفُ غيماتٌ من نسيج عيون الغزلانْ
ولا نمكث عند يسار
من عبد شمسٍ أو عند يمينٍ
في فضّة !.... 

(6)
في مدينتنا الموحشةِ الكثيرةِ الألغامِ
والحافلات المفخّخَة ...
نبحث عن رؤوسٍ مقدّدةٍ كاللحم المهروس
نسأل عن القتلة ...
تموت أسئلتنا في حناجرنا
ومن العبث أن نستردّ ما فقدناهُ
في حربٍ سلبتنا ما جمعناهُ
في سنوات الحرمان والعوز والفاقة
أيّةَّ حَيْرةٍ نعيش ؟
وأيَّ بؤسٍ نحيا !
في مدينتنا الغجرية لا نلمحُ شمساً
تشرق كعادتها كل يوم
نفتقدُ إلى المسرّاتِ والحياةِ المفعمةِ
بالفرح المعقول والحب ...
في مدينتنا البدوّيةِ
علينا أن نعطي قبلَ أن نأخذ
هم يأخذون منا كل شيء
ولايعطوننا أيّ شيء
نضطرّ أن نضحي بأعزّ ما نملك
حتى تحظى بآدميتنا
ولو مرةً واحدةً على الأقلْ
وبالكاد نحصلُ على طعامنا ،
وما يحتاج إليه أطفالنا
ونسيرُ إلى شيخوخة مبكرة
في مدينتنا التي تتقلّب
بين رياح الجحيم والموت الخرافي
نبقى محرومين من لذائذ العيش
بينما ينعم الغاصبون والطفيليونَ
براحة بالٍ يفتقدونها في أوطانهم
ليس عدلاً
أن تلدَ أمهاتنا الأبناءَ
وتهبَ المحتل ذكورَها الآتينَ
بعد وحام عشرٍ من السنواتِ
فداءً لوطن يتوكأ على عكازته
يتسوّلُ في الحاراتِ وفي الباراتِ
وفي الشوارعِ المصفّدةِ
بالحديد ، والخراساناتِ المسلحةْ
ليس ذلك عدلاً 
            أبداً
22/3/2007