كان للجولات التي قامت بها الفرق المسرحية المصرية إلى المدن السورية أثرها العميق في الحياة الثقافية عامة والفنية على نحو خاض. يعود باب علامات في عدد هذا الشهر لمجموعة من الخطب التي نشرت في جريدة "القبس" الدمشقية في شهر أيار سنة 1929، وألقيت في حرم الجامعة السورية بمناسبة زيارة فرقة رمسيس لدمشق برفقة بطليها الممثلين يوسف وهبي وجورج أبيض.

سوق عكاظ في حديقة خوام

الجامعة السورية تكرم فرقة رمسيس

إعداد: أثير محمد علي

 

كانت الحفلة التي أقامها طلاب الجامعة السورية تكريماً افرقة رمسيس وبطليها الممثلين الكبيرين يوسف بك وهبي وجورج أفندي أبيض ميداناً فسيحاُ لبروز الشعور المشترك بين مصر وسورية.

وكانت حديقة نزل خوام صورة مصغرة عن "سوق عكاظ" بما ألقي فيها من جيد الشعر وشريف النثر.

وكانت الحفلة برئاسة الأستاذ رئيس الجامعة السورية الدكتور رضا سعيد بك دعي إليها الأستاذ مدير معهد الحقوق عبد القادر بك العظم وبقية أساتذة الجامعة في الطب والحقوق. ولم يدع إليها من غير الاساتذة والطلاب سوى الصحافيين فقط، أما المائدة فقد كانت زينتها بل نورها اللامع ممثلات فرقة رمسيس الجميلات مع احترامنا طبعاً.. للأساتذة الرجال الممثلين.

وتصدر الحفلة الأستاذ يوسف بك وهبي يقابله معالي رئيس الجامعة وإلى يمينه الممثل الكبير الأستاذ جورج أبيض الذي أراد وأردنا له أن يكون مرحباً معنا برجال فرقة رمسيس لأمر حبابه على قاعدة "لا يكرم المرؤ في محله".

وافتتح الحفلة في الساعة السادسة والنصف وبعد تناول الشاي والفاكهة الأديب الناهض السيد رياض الميداني باسم لجنة التكريم فقدم الخطباء والشعراء واحداً بعد واحد. فكان الخطيب الأول شكري أفندي الطالب في كلية الطب باسم الطلاب المصريين، ثم السيد حسن النقيب الطالب في معهد الحقوق فألقى قصيدة رحب بها بالمحتفل بهم باسم الطلاب العراقيين، ونهض بعده الشاعر المطبوع السيد سمير الرافعي نجل شاعر سورية الكبير عبد الحميد أفندي الرافعي فألقى قصيدة عامرة رقيقة المعاني متينة اللفظ أعربت عن شعور يفيض بالوطنية المخلصة والحنان الصادق. وبقدر ما أجاد السيد الرافعي في نظم القصيدة فقد أجاد في إلقائها وكانت رنة صوته تبعث في النفس معنى مزيجاً من الألم والأنين.

ولا عجب أن يبدع سمير في نظمه وإلقائه فإنه ربي في بيت خلع صاحبه على العرب ةالإسلام أجمل حلل الشعر في أحرج السنين وأشدها طيلة نصف جيل كامل. وقد خص "القبس" بقصيدته هذه التي سننشرها في عدد الغد. وألقى الشاعر اللبناني الأديب السيد ادةار صعب قصيدة نقتطف منها هذه الأبيات:

        نابغ الفن رحمة الله إنا***قد وأدنا في الشرق خير الرجا

        والذي عاش عاش فرداً شهيداً***ين عسر وشقوة وابتذال

أتغني الألحان بين قبور***لضجيع لكنه غير بالي

أتجيد التمثيل بين دمايا***أي شيء ترجو من التمثال

* * *

الدرامات والمآسي عظات***دونتها لنا يد الأجيال

ورواها الممثلون علينا***فاستعادوا ذكرى الزمان الخالي

أيها القاطع الحياة خمولاَ***ما ترجي من السنين الطوال

        ليس عدّ السنين مغزى الحياة***فحياة الإنسان بالأعمال

إن يوماً يعيشه النابغ الفذ***لخير من بضعة الأجيال

ثم ألقى رئيس تحرير هذه الجريدة خطاب الأستاذ معروف أفندي الأرناؤط رئيس تحرير "فتى العرب" المنشور على الصحيفة الأولى وهو خطاب جمع فيه صاحبه أفضل ما يكتب عن الممثل والمؤلف.

والزميل معروف أفندي مفخرة من مفاخر الأدب الروائي في بلاد العرب فقد ترجم عدة روايات وألف بعضها وله رواية "آخر ملوك الأندلس أبو عبد الله الصغير" ويضع الآن أجمل قصة في أجمل موضوع وهي "سيد قريش" التي ينشرها في جريدته تباعاً.

ثم وقف الأستاذ اسماعيل بك وهبي صاحب مجلات "المسرح" و"المستقبل" و"الروايات" و"مجلة المجلات" وألقى خطاباً عن اعجابه بذلك البلد الكبير وعن ذلك الاستقبال الذي قوبلت بع فرقة رمسيس وعرض إلى الشعور المشترك وإلى العاطفة التي تقوى بين مصر وسورية، وتسائل عن أسبابها وقال للحاضرين: فسروها بما تشاؤون.

وكـأنه أراد أن يشير إلى الجرح المشترك والقيد الذي يقيد مصر وسورية معاً! وليته ذكر في مثل هذا الموقف قول أمير الشعراء:

وعلينا كما عليهم حديد***تتنزى الليوث في قضبانه

كلما أن بالعراق جريح***لمس الشرق جرحه في مماته

وقد كان خطاب الأستاذ اسناعيل وهبي يفيض بالشعور والوطنية ثم ختمه بتحية جلالة الملك فؤاد الأول فردد الحاضرون هتافه ثلاثاً، ثم حيا مصر وسورية ورئيس الجامعة فردد الحاضرون تحية وحيوا فوق ذلك الوفد المصري ودولة النحاس باشا.

ونهض بعده سعادة النائب المحترم فائز بك الخوري الأستاذ في معهد الحقوق وارتجل كلمة بليغة مملؤة بالصراحة والوطنية ورد على الأستاذ وهبي بأن الحرارة التي رآها في الطلاب يوم استقبال فرقة رمسيس كانت تكون أكثر وأعظم لو لم تكن هناك حرارة الامتحان، وقال: إننا لا نكرمكم كممثلين نابغين فقط بل نكرمكم كمصريين أولاً. وقال: إن يوسف الصديق الفتى السوري الذي باعه إخوته في مصر قد حكم المصريين وأنقذهم من مجاعة كبرى فجاء سميه الآن يوسف بك وهبي يرد على سورية فضل يوسف وينقذها من مجاعة أدبية فنية في تمثيله الراقي.

وأشار إلى البطل السوري جورج أبيض وإلى أنه أشبع مصر حيناً من الزمن من مجاعة الفن والتمثيل، ثم إلتفت إلى السيدة زينب صدقي وحيّاها وأطرى ذلك النبوغ الذي أظهرته في رواية "غادة الكاميليا" إذ بكى هو وبكى جمع الحاضرين.

ثم إلقى شاعر الشباب اللبناني أمين بك نخلة كلمة للأستاذ جورج أبيض كانت خير ما قيل في هذه الحفلة، وقد كانت مكتوبة لم يتح لنا نقل خلاصتها ففضلنا أن ننشر نصها إذا تفضل الأستاذ بها علينا.

وكان مسك الختام الخطاب القيم الذي ارتجله الأستاذ يوسف بك ذالذي حوى من الحقائق والفكاهات الشيء الكثير. ولما كان يضطرنا ضيق نطاق الجريدة إلى اختصاره وتلخيصه فقد فضلنا أن نرجيء نشره إلى الغد مع خطاب الأستاذ أبيض إذا وصلنا.

(القبس، دمشق، أيار 1929)

***

خطـابـا الأسـتاذين وهبـي و أبيـض في حفلة طـلاب الجامعـة السـوريـة

وعدنا قراء "القبس" أمس بنشر خطابي الأستاذين يوسف بك وهبي وجورج بك أبيض الذين ألقياهما في الحفلة التي أقامها طلاب الجامعة السورية في حديقة خوام ، وقد كنا نتمنى أن نبرّ بالوعد لولا أن فقدنا نص خطاب الأستاذ وهبي الذي تفضل أحد كرام الطلاب باختزاله للقبس على أننا لانزال نذكر منه تلك النكات العذبة التي أطرف بها الخطيب سامعيه.

حدثنا الأستاذ وهبي عن غرامه بفن التمثيل و ما لقيه من غضب المرحوم والده عليه وكيف طرده سنة كاملة من منزله فقضاها في الشوارع ثم رضي عنه وأرسله إلى إيطاليا فدخل مدرسة التمثيل وتعذب كثيراً في روما واشتغل في بعض الأحيان خادماً ريثما أتم دراسة هذا الفن الذي أغرم به. ورد على الأستاذ فائز بك الخوري في كلمته عن هدية سورية إلى مصر وهي يوسف الصديق الذي أنقذها من مجاعة. فقال الأستاذ وهبي أنه ولد على شاطئ بحر يوسف وأن جدته كانت تقول له أن أصل عائلتهم من دمشق، ولذلك فهو لا يعد نفسه غريباً عن هذا البلد الذي يكرمه أهله فيه. وهنا أشاد يوسف وهبي بفضل أستاذه الأول جورج بك أبيض وحضّ في ختام خطابه على وجوب تأليف الروايات التمثيلية عن تاريخ العرب.

والحقيقة فقد كان رئيس فرقة رمسيس خطيباً فياضاً كما هو ممثل فنان.

الخـطبـة الخرسـاء

أما الأستاذ جورج أبيض فقد أراد كما قلنا أمس أن يكون مرحِباً لا مرحباً به فإنه شبع من الترحيب والإكرام كثيراً وأفاض على المسرح العربي أبدع آيات الفن وأشرفها. وإنك تقرأ كلمته الموجزة البليغة أو "الخطبة الخرساء"، كما سماها هو، تعلم أي نفس كريمة وادعة يحملها ممثلنا الكبير.

وهذه هي كلمته:

أيها السادة:

أنا ابن الشام، يهدر هواها في دمي ويشيع مع النفس في صدري، وأختها مصر دار هجرتي، أستغفر الشرق! بل بلدي الآخر. ومصر الكريمة تعرف كيف تعطف وكيف تولي الجميل فلمصر بقية العمر ولوجهها جهد المقل وفي سبيلها هذا اللسان وهذا القلب.

ولقد أشبعتني مصر عطفاً وغمرت جهدي وتعهدت شبابي واكتهالي فإذا أكرمت دمشق أخي وزميلي نابغة مصر وفتى مسرحها ورافع بناء الفن إلى الذروة فكأنها ترد حقاً وتوفي قسطاً. وجدير بسوريا أن تعقد هذا المهرجان لنابغة مصر بعد أن تقبلت مصر كما تقبلت ابن سوريا العاجز!

فيا دمشق يا نار الحمية وراية الشرف وفيت للمجد كل قسط. وها أنت توفيني قسط الفن المعلى والخلق المصفى والحسب السكب.

فحمداً لك اليوم باسم الفن والخلق والحسب حمداً يزحم فيه القلب الشفة ويحار على الشفة القلب.

ومن التناهي في البلاغة تركها***والوقت وقت الخطبة الخرساء!

(القبس، دمشق، أيار 1929)

***

رسالة الفن

قصيدة سمير الرافعي في تكريم فرقة رمسيس

تنشر هنا القصيدة الرائعة التي ألقاها أمس الأول الأديب الفاضل سمير أفندي الرافعي في حفلة تكريم فرقة رمسيس:

يا دار رمسيس كم للفن من دار***تعطو إليك بإجلال وإكبار

ما أنت في الشرق إلا واحة بسطت***منها الظلال على جدب وأقفار

يلقى المسافر في أثناء نضرتها***ما يشتهي من ينابيع وأثمار

* * *

ألقيت عندك قيثاري وبي سأم***قد أسكت الشعر في أحناء قيثاري

كأنني لم أقل شعراً ولا ذهبت***عنادل الفجر تتلو فيه آثاري

هذا الجمال فلا الجنات ذاوية***ولا السماء خلت من حسن أقمار

لكني قد عرفت الناس معرفة***ردت إلى اليأس أشواقي وأوطاري

من كان ينشد حقاً في غمارهم***فالحق ما بين أنياب وأظفار

ما للضعيف سوى الشكوى يبيت بها***تحت الظلام يناجي الكوكب الساري

أما الدعاة فقد بانوا وما تركوا***ورائهم غير أصنام وأحبار

لم يبق في الناس من أحلامهم أثر***يبص الأخيال الخلد والنار

* * *

يا دار رمسيس بثي الفن مؤتلفاً***يغشى النفوس بأحلام وأنوار

والفن قيثارة الأرواح كم بعثت***في مطلع الفجر منها سرب أطيار

هل كان ربك والأحلام تجذبه***يلقى إليه بوحي في الدجى وأرى

يمشي إليها على الأشواك مبتسماً***كأنما هو يمشي فوق أزهار

رسالة الفن نور لا يبلغها***سوى فتى من لباب الناس مختار

* * *

إن أنس في النيل لا أنسى سنا قمر***نفيت فيه مع النافين أكداري

باتت تناجي به الأحباب مازجة***قلباً بقلب وأسراراً بأسرار

وما شجاني كنوز الفن تبعثه***رمسيس أثناء وجداني وأفكاري

* * *

يا كوكب النيل إن فارقت شاطئه***فاطلع على الشام بين الزهر  والغار

قال الغلاة لقد رثت أواصرنا***وبدل الله أطواراً بأطوار

لا يكذبوا فهي رغم الدهر قائمة***على العواطف من شوق وتذكار

والقيد مازال في الآلام يجمعنا***فأنة الجار تشجي أنة الجار

(سمير الرافعي)

(القبس، دمشق، أيار 1929)