يقيم القاص المصري في نصه القصير حوارا يكشف عن خيبة المواطن الذي يضطر في زمنٍ مضطرب لا يكترث للثقافة والقيم الإنسانية، إلى بيع الكتب في وسط ضجيج وأمكنة لا تقيم اعتبارا للكتاب، والحوار الداخلي يتشعب لمناقشة بعض القضايا الفكرية التي تشغل ذهن الشخصية.

أغنية سائق الأجرة

أحـمد فـــرّاج

«لم يبدع الإنسان ما هو أصدق من المهزلة»   برنارد  شو

 

مشهد :

ضربه الإفلاس في الشمال .. جرؤ على بيع الكتب .. عشرين منها لم تقرأ .. يتربع تحت مظلة إلى جوار موقف ميكروباص تحمل عبارة بالطبشور وخط سيء (للسائقين فقط) .. رأسه تعمل بسرعة ..

-                     خمسون جنيه كحد أدنى .. أو... أربعون تكفي .

-                     ولكنها ليست قيمة السلعة يا عزيزي .

-                      ليست نصف قيمتها .

-                     أنت من وضعنا في هذا الموقف .. (ضحكة) ابن القفطان يتسول بحاجياته في بلاد الصعاليك !

-                     لن يكون لهذه الكتب أي معنى في بلد صاحب القفطان .. الرجل نفسه يراها مفسدة .

-                     لا فائدة .. لا تحاول .. لن تحصل على مذاق .. ولا حتى المر .

-                     نعم .. (بطريقة مسرحية) موقف الميكروباص ! كل شيء بلا قيمة .. لن نستعيد حماستنا للحياة .. أنكون استهلكنا مذاق الدنيا كله ؟

-                     ربما عرفناها لتونا .. أنظر إلى هؤلاء .. (ابتسامة متعالية) وتتساءل عما يشعرك بفراغ الكون !

-                     تقصد أن الإنسان تجربة لا تستحق التكرار؟ ها ؟  تحولت إلى آري لا بأس به .. ألمجرد أنك رأيت بعض غلمان التباعين سمرتهم الشمس تستعيد نازيتك القديمة ؟

-                     ليست سمرة يا هذا .. (يشير) هؤلاء لا يستحمون .. فقدوا الاهتمام بالحياة .. هم يعرفون أكثر من غيرهم .

ش ش ش ..

سيارة تشبه حيوان الأرماديللو قادمة .. يضغط السائق مكابحها كمن لا يتوقع الغد .. تثور عاصفة من الغبار في وجهه .. ملامح السائق غير مريحة والنظرة على وجهه تنافس نصل شاطور في حدتها .. أشياء تحمل رائحة المتاعب .. يترجل .. يحدق في عينيه أكثر .. يميل رأسه كما تتشنج الأشباح في سينما الرعب الرخيصة .. يطيل الوقوف محدقا .

-                     (يهمس) الكتيب في يديك هو الخطأ ها هنا .. أكون ممتنا لو ألقيته داخل الحقيبة .

-                     على أية حال هما يداك أيضا .. قاوم إرادتي .. (ثوان من صمت) قل لي .. هل ترى الرجل يحاول كسر عنقي بعينيه ؟

يمد السائق يديه داخل السيارة .. تنبعث موسيقى هارد روك .. طبول صاخبة وإيقاع متصاعد .. لصوت المغني رنة المعدن .. إنه روبوت يدندن على الإيقاع .

-                     (تنهيدة) انصرف أخيرا .

-                     أراهن على أنك خفت يا صديقي . (ضحكة) أتفقد شجاعتك في مواجهة أول مطواة مدرجة ؟

-                     لم أرَ مطواة بين قسماته .. ليس كل من نفرت أذناه وانبعج رأسه مجرم يا سيد لامبروزو .. لماذا تفترض أن يحمل هذا في قلبه "قرن غزال" وقرصي "أباتريل" كمعاملات إنسانية ؟ ليس هؤلاء المساكين هم أرباب الخواء قلت لك .

-                     (يتنهد) ربما .. هل نحسم أمر النقود ؟

-                     (في تردد) أيعني دوران المسجل ومحرك السيارة أنه عائد ؟

-                     يا لك من مضحك ! بل يعنيان أنك بادلته النظر مباشرة .. أسفل العالم  يعتبر ذلك تحديا .

-                     (يهمس بملامح صارخة) ليس عالما سفليا يا أحمق الرؤوس .

-                     مم تخيفك عودته إذن ؟

-                     صوت الطبول يتصاعد بعد كل مقطع يجسد خطوات تتعالى .. الطبول هي ذلك القادم يريد إيذاءنا .. وصلنا إلى وحش العدم .. من غيّر المستوى .

يجاوبه الصمت ..

-                     هل تحس بتلك الرعدة ؟. لقد أطلق السائق ذلك الشيء وانصرف .

-                     هو ذلك بالفعل يا عزيزي.. (يصدر صوت استنكار من سقف فمه).

-                     وافقتني بسرعة هذه المرة .. إنني خائف من الموسيقى لا أقل .. (صمت) ربما يكون ذلك الشيء الذي تمثله بلا خطر .. أليس كذلك؟ (لا رد) إنه يخطو داخل "تابلوه" السيارة بلا جدوى . (صمت أطول) يريدني بالتأكيد .

-                     بل اعترف بأنك رأيت على ملامح الرجل ما رأيته .

-                     أنت مخلوق عنصري .

-                     لست عنصريا .. (بعد لحظة) ربما كذلك لا أكون ...

-                     صه .. ليس هذا وقت التجديف .. إننا في أمس الحاجة لمن يلهمنا التحمل .. إياك أن تستغل شعوري بالفراغ لتفرض علي آراءك الوجودية تلك .

-                     أنت من يساوم على قضية خاسرة .. الأمر يتعلق بروحنا هذه المرة .. (صمت طويل) ألا تتعلم أبدا ؟

 

مصر