يستبطن القاص المصري العالم الداخلي لرجل فقير يجد في الاستمرار بالحياة ثقلا لا يطاق، وهو حائر بظروف المعيشة والعائلة والأولاد، وبينما هو في هذه الدوامة يرى وكأنه شخص آخر جسده ممددا داميا وسط الشارع فيتصاعد الحوار ليأخذ أبعادا تعني بالوجود.

الفقراء لا يدخلون الجنة

أشـرف الخريبكي

سأقول لك لمَ ؟           

لأنه حين كان يمضى في الشارع وحيدا، كانت السيارات تمرق من خلفه مُحدثة صَوتها الفوووو.. غير أنْ الارتباك الذي صَّاحب حالته أفقده وعيه بوجودها، مضي كغريب يستحث الأيام للقضاء عليها، غير أنها بطيئة هي الأيام لكنها تمر. مثل مُرور الوقت والزمن وأقدامه الساخنة على رمال غربة مَقيتة في صحراء التذكر، الساعات تمضي  قاحلة من الطيبين، تقعد كالمرصاد مع الفقراء،

أيام تداولها الثواني بلا وجع غير الظلال والمساء ينام عليه مع رائحة البرد وصوت الفضاء الواهن إلا من أوجاع تحل أخر الليل لكنها الأيام تمر،

عفويا تأتيه في حلم واهن تقطر الزيت والحليب في ليله الحالك كي ينير الطريق جهامة السير كما اعتاد هي المحك الأخير لاختبارات القلق والتوتر،

 كان يفكر هذا المساء في أن ينهى هذه الحياة القصيرة جدا

 آَلمه الوجع من وجود أبناء له وألمه أكثر تعلقهم به  وتعلقه بهم

هذا الفقد المتصور أعياه حتى أنه في أثناء هذا المسير وهنت قدماه عن إكمال السير وأحس بوجع ينخر في أحشائه الأليمة تمنى لو انزلقت قدم من هذا الجسد التافه أمام إحدى السيارات المسرعة جدا دون قصد منه وينتهي كل شيء ،

التفت للخلف مُقطبا جبينه،

 إذ أنه كان شاردا لدرجة لم ير المنظر جيدا،

 لما كان رجلا ممددا على طاولة الطريق،

رجل كأي رجل..ومات

أبعد الناس، شق فى الزحام من صفوفا كثيرة متفاديا الأيادي وأجسام ضخمة تشرئب بعنقها وعبارات السلوان والتساؤل التي اعترضت مروره المفاجئ والمُصر على الوصول حتى مكان تواجده،

وقف أمام الجثة مباشرة وهى مُلقاة على الأرض،

كان هو وجهه الذي رأى تماما شعره المنكوش وبنطاله الذي يرتدى،

 ساعة يده التي يحبها في اليد اليمنى رفع حاجبيه مُندهشا مُعاودا النظر

ومدققا في الملامح التي يعرف، نفس هذه السحنة التي يراها يوميا في المرآة غير أنها تختلف قليلا من حيث الفرق بين أن تراك على حقيقتك وجها لوجه أو من خلف مرآة تعكس الصور

 تأكد أنه لم ير صورته سابقا إلا مرات معدودة سواء في ذلك البرواز الخشبي القديم أو عبر زجاج المرآة المشروخ

انحنى برأسه يطالعه جيدا/ أنه هو.. تأكد من التفاصيل الأخرى،

 أعاد النظر للواقفين في حزن،

 أعاد عينيه بسرعة فوق الجثة الملقاة

 تفرس الملامح ثانية، تضاريس الوجه والملابس التي يرتدي، الساعة في يده،

 هي نفسها،

 اقشعر بدنه لحظات مُستغرقا في التفاصيل الأخرى

كان المساء حزينا جدا والليل مستعدا للهطول بأكثر من هذه المساحة من السواد الحالك تَمضي فوق أكتافه النحيلة تُخرج ألسنتها كالكلاب المسعورة، مساحات الهلع تلك التي أحاطت بالمكان كي تسكنها غربان ووطاويط وريبة مُوحشة هذا التوحش الذي أدمى الجثة من الساقين وفوق البطن، جعله يتحسس بدقة تلك المواضع من جسده تَفقد كل شيء حتى ذكورته الخائبة فى هذا الليل الذي استغرق ساعات أخرى في نفس الليل بلا فائدة ابتلت شموع المساء بضحكاتها ترن ووسطها الذي تمايل دون داعي مستهزئة برجولته المنهارة، حبة وحيدة من الفياجرا وشجرة من البرتقال وعقود من الياسمين يفكر فيها بلا طائل لبلوغ أي شيء كانت تفكر فيه بنفس ذلك القدر لكن بشكل مغاير تنتظره من أول الشهر إلى أخر الليل حتى ولو كان متأففا بعد سفر طويل وإرهاق يبدو على وجهه النحيل ورائحة عرق تنز من قميصه المتسخ، يبقى هادئا رغم كل شيء وتنام هي، هي لاعنة أيامها،

أعاد النظرات على المتجمعين من المارة وعلى سيارة الإسعاف وهم يحملون الجثة وسط صيحات وهمهمات الواقفين كان قريبا جدا وسارحا حتى أن دفعه أحدهم بيده صاعدا لأعلى السيارة إلى جوار الجثة لا يذكر من الذي قال أنه قريبه أقفل السائق سيارة الإسعاف من الخلف وتركهم معا أطلق صوت الإسعاف أبوق الخطر تدق كلية في دماغه الذي بدأ في الانهيار تدريجيا

أعاد في هدوء وروية عُيونه على الجثة الملقاة أمامه مباشرة، تفحصها جيدا كانت تتململ وتحاول التحدث إليه، قّرب أذنه من فمه تماما، حاول أن يستدير برقبته إلى أقصى حد ممكن كي يبلغ بعينه أذنه الكبيرة بلا فائدة

هَمّ أن يسأله.. غير أن حالته المزرية وهذا الخلط الغريب في الشكل أفقده قدرته على نطق حرف واحد أفاق من ثباته العميق ونظراته المتبرمة بكل شيء حوله على صوت زاعق يقول له ها هو أنت.

نعم هو أنا لابد انه أنا لا فرق بيني وبيني هنا أو هناك

هذه الساعة القديمة فى معصمه لي،

خلعها من يده بقوة وعنف ووضعها فى جيبه فى هدوء

 نظر إلى وجهه الصامت والى ملامحه الدقيقة مد أصابعه عليها كانت باردة ومُبللة بالدماء مد يده إلى سترته التي يرتديها أخرج منها ورقة صغيرة بها أرقام هواتف بحث جيدا لم يجد شيئا أخر قذف بها فى الهواء تفل عليه قائلا: زبال

مد يده يفتش فى جيوب البنطال الخاوية حتى من أي شيء سوى الرعب الطبيعي فى كونها يجب أن تكون ممتلئة لم يجد شيئا أعاد نظرة غاضبة على الجثة الملقاة أمامه وهَمّ أن يصفعه باليد غير انه تحسس محاولة منه لفتح عينيه فتوقف فى منتصف الطريق وفكر أن يقفز من السيارة التي تمضى مُسرعة وأن يترك كل شيء كما هو غير أن الوقت كان أسرع منه كان الطريق خاليا تماما وهو وحيدا معه فى سيارة الإسعاف أزعجه انه أراد فتح عينيه كان يحاول بجهد جهيد تمنى لو توقف الإسعاف الأن كي ينزل، كان خائفا، متوترا

الليل أسودا حالكا تمكن أخيرا من فتح باب الإسعاف، كاد يقفز لكنه تراجع،

مد يده على الجثة محاولا سحبها قرب الباب لم يستطع أول الأمر غير انه أسقطها إلى أرضية السيارة ،

كان قد اقترب تماما من وضعها بطريقة مناسبة للقذف بها خارجا

كانت السيارة مُسرعة والطريق خلفها يعج بالسيارات الأكثر سرعة،

عندما هَمّ بالقاءها من الباب الخلفي مد يده إلى معصمه وقبض عليه ساحبا إياه إلى الخلف فسقطا معا وسط السيارات المسرعة سمعه وهو يقول

الفقراء لا يدخلون الجنة.