تستقصي هذه المقاربة، أهم الأفكار التي تناولتها الكاتبة والباحثة السعودية في كتاب يتطرق لحقيقة الخطاب الداخلي لثقافة الأنثوي. والحاضر في بعض الكتابات اليوم والتي أمست تؤثث المشهد الإبداعي السعودي، وعبرها أمكننا أن نقترب من أهم سمات هذا النص "الأنثوي" وما ولد من مقولات كالاغتراب.

في نقد ثقافة الأنثوي

عبدالحق ميفراني

كتاب "الحريم الثقافي بين الثابت والمتحول" للكاتبة الصحفية سالمة الموشي يقوم على مقولات مركزية شكلت أساسا نظريا لفهم حقيقة "الإبداع الأنثوي" أو "نص المرأة ". فهو محاولة لمواجهة "حقيقة الخطاب الداخلي النابع من الذات الأنثوية الكاتبة"(1)، عبر نقد "ثقافة الأنثوي في مكمنها وحراكها وليس نقد النص"(2)، ومن خلال 208 صفحة وعبر ثلاثة فصول:

استطاعت الكاتبة سالمة الموشي النبش في ذاكرة هذا المنجز وفي أدبياته، بقسوة وصراحة قل ما نجدها في بعض الكتابات العربية، ويقوم الكتاب على فضح معالم وأسباب الارتكاس بعلاقة بجسد ثقافي نموذج هنا محلي، لكنه يتقاطع في الكثير من الأحيان مع أجساد ثقافية أخرى، إن ما يعبر عنه اليوم بالكتابة النسائية تطرح الكثير من الإشكاليات تتخذ لبوسا معرفيا وفكريا، لكن الكاتبة سلمى الموشي تفتح نوافذ مشرعة حول "النص الأنثوي" متتبعة مستويات حراكه وفعل المحو الممارس والذي خلق مقولة "اغتراب الذات" الكاتبة.

ولا تنحصر أطروحات الكتاب في مستويات إبداعية محضة، بل تتجه في منطلقاتها الى تشريح هذا الحضور في المنظومة الثقافية الأشمل، وداخل النسق السلطوي، وفي حفر أنتروبولوجي يكشف ستار الوعي الزائف، وفي تتبع نقدي لمسارات هذا العقل الجمعي الذي جعل من المرأة صوتا إلحاقيا، وفي النهاية تكشف سالمة الموشي عن معيارية الخطاب النقدي في تجليه المجاني، والتعقيم المكشوف. وهو ما أدى في الأخير الى تعرية هذا الوهم الثقافي الكبير الذي يسلب المرأة كينونتها الثقافية. 

مخيال الوعي الجمعي:
يقوم الفعل الحفري على صياغة رؤية تحررية لمنظومة تحكمت تاريخيا واجتماعيا ومعرفيا في تشكل حالة الثبات التي اعتمدت سلطة امتثال وفق وعي ممنهج استمد مشروعه الوجودي من النسق الواحد الذي لا يتعدد باعتبار "الذات الأنثوية فكرة ثابتة"(3). وإذا كانت المرأة جزء أساسي من شعارات الحداثة، فإن المخيال الجمعي بتراكماته الثقافية خلق أطروحة مرجعية لسلطة الوعي المؤسسي ترتكز على "استحداث خطاب أنثوي في الهامش، باعتبار الهامش حريته الأولى والاسثتنائية" (4).

لذلك ظل هذا الصوت ينمو داخل هذه البلقنة الاستحكامية، مما يفسر بنية الثبات المتراكمة داخل هذا النسق بموازاة فعل التحول الذي مس بنيات مجتمعية، ومنظومة التفكير.إن الراهن بتجليه الفكري والمعرفي، كرس بمقولات مخياله الجمعي حالة الهامش لذات المرأة، وحين تؤكد الكاتبة سالمة الموشي أن الذات الأنثوية ستكتب فيما بعد وبمشقة "خطاب مغمورا لا علاقة له بالمتحول في نسقه الحقيقي والفاعل"(5)، فلأن راهن هذه الممارسة استنبت كاللعنة ما دامت هذه الذات كائن عابر داخل هذه الخصوصية الخالدة "القدرية".

ولعل أهم سمات هذا الفعل المستنبت هو ماتقدمه الكاتبة حين تتحدث عن المرأة في دائرة التعليم، إذ أسهمت خيارات هذه المؤسسة المعنية أساسا بالشأن التربوي في تنميط وتقعيد فكرة تدجين هذا الكائن عبر تحويله لكائن عضوي خاضع لعلاقة تدجين ومحو، وهنا تفضح الكاتبة أطروحة هذا النهج "الديداكتيكي" الذي يوطد أشكال التدجين المعرفي وتمييع الذات الأنثوية مرورا الى أفق تخضع لشروطه آلا وهو منفاها الثقافي والمعرفي، ويتكرس هذا النهج مند أواليات المستوى التعليمي "فأحمد يكتب وسوسن تطبخ" وقد أفرز هذا الأسلوب "التربوي" تيهانا لهذه الأنا وسط "الجمعي".

لقد أمكننا تبعا لهذا الاسترشاد أن نعي كيفية تشكل هذه الذات نصيا وهي الوليدة لنتاج مفاهيمي ثابت وخاص تخضع فيه لعقل مستزرع، لكن هذا المنحى يساعدنا عبر "النبش في أصول الأصول التي شكلت خطاب الأنثوي إبداعيا، وإنسانيا، وفكريا، بعد عقود من ممكن المتعلم"(6). وبالعودة لهذا "العقل المستزرع" تشير الكاتبة الى "الفلسفة الخاصة" التي تكرس في عمق مكوناتها مبدأ الثابت المعرفي والثقافي والفكري بموازاة صيرورة نمو التحولات التاريخية بالتالي فإن هذا المخيال الجمعي ظل أسيرا لهذه المنظومة المركبة رغم الصراع المكتوم بين ثنايا نسق المؤسسة الداخلي وتنميط الذات الأنثوية وبين أحقية راهن الحضور، لذلك نستوعب فعل التأثير الاغترابي داخل نسق الخطاب الإبداعي والفكري والمجتمعي بالتالي نكون أمام إدماج بالقوة للمرأة في عقل خاص منمط بترسانة من الأسيجة ومحكوم بمقولات نظامية إكراهية، إنه عقل مستزرع مدعم بالضبط والتطييع.

وعمقت المؤسسة الثقافية (الوجه الآخر للمؤسسة التعليمية) الاشتراطات السابقة عبر ما وسمته الكاتبة بـ "ميكروفيزيا السلطة" من خلال توظيف حضور الذات الكاتبة باتجاه خلق خطاب يتوهم فكرا حداثويا لكنه يتجه لتسيخ مقولة "الحريم الثقافي"، هذا المعطى يرشدنا الى مفهوم الاستلاب الفعلي المتحصل من هذا الحراك الذي يتجه الى تكريس اللاهوية النصية إذا ما قمنا بجرذ لهذا الكم من الكتابات الإبداعية، ووفق هذا المعنى تتأسس مرة آخرى علاقة الذات الأنثوية والعقل الجمعي، إذ ظلت الأولى تسير وفق وعي الثانية بها، لا وعيها بنفسها، وحتى الوعي الجمعي انصهر وفق هذه المنظومة في قهر معرفي جعل من خطاب المرأة تمثلا خلفيا بينما حضر خطاب الأنثوي مقموعا خارج سياقات التحول.

وعندما نشير الى الهوية فلأن أحد أهم "الإشكاليات التي عمقها وتبنتها ذاكرة الوعي الجمعي هي الهوية الثقافية"(6)، وعندما تسرد الكاتبة العديد من كتابات رموز وداعية هذا الوعي نتبين مدى قدرته على نفي الذات العاقلة عن فكر الذات الأنثوية، وما دامت سطوة حضوره قوية وتمركزه في عمق اللاوعي الجمعي حقيقة ثابتة، فإن تقعيده لهذه القوانين في قلب النسق الثقافي يجعل من المرأة فعل وجود في اللاتحول، في الهامش، في الآخر... 

نص "الحريم الثقافي":
إن أقوى ما يميز كتاب سالمة الموشي هو اعتبارها المتن الإبداعي النسائي السعودي "أكذوبة إبداعية محلية" بل إنه مجرد أدبيات لحريم ثقافي، ورغم هذه القسوة النقدية التي تبدو في الظاهر مغالية في حكم قيمي عارض، إلا أن التتبع الذي مارسته الكاتبة للعديد من الإصدارات والأسماء قدمت لنا هذا الغياب للصوت الداخلي للمرأة، بل الأدهى هو حين يتحول النص الى بنية إخبارية لا تعبير عن هوية، وكأن النص هنا مطالب بهذا الشرط الوجودي، وهنا مكمن اختلافنا، فالأجدر بالفعل الاستقرائي أن يفكك شروط وصور هذه الذات من خلال خاصيات محددة تقدمها هذه النصوص، إذ تنطلق الكاتبة من أساس نظري جمعي يتمثل في نقد ثقافة الأنثوي لا نقد النص الذي تجزم بعلاته.

صحيح، ثمة جدارات سميكة عمل الخطاب السائد على تشييدها وفق تناغم يتجه ضد الهوية/ الخطاب ومن خلال تكريس لمقولة الاغتراب التي تبدو مشبعة في ثنايا النص الأنثوي، لكن الهروب الى الورق قد يتحول لإنوجاد آخر محمل بصوت ثاني عمقه أنه عبر عن هذه الذات المقصية. فمنذ بداية السبعينات كشف المشهد الثقافي السعودي عن صوت المرأة المنمط بترسانة من لغة الاسثتناء، وهذا الوعي المبتسر شكل عبر تجسيد حي سياقات ذاكرة الحريم الثقافي المشبعة بنصوص غيبت قسرا صوتها المفرد، وخطاب ذاتها في النص، فمنذ سميرة خاشقجي،نجاة خياط، صفية عنبر، هدى رشيد، وصولا لمنى المديهش، ليلى الأحدب...، ظلت هذه النصوص تحاكي بعضها البعض، باستنساخ لشهرزاد أخرى وحفر لمنافي جديدة إن توصيف "السرد المنمط" لهذا المتن يؤكد سطحية هذه النصوص في تعريفات أدب المرأة السعودية والذي تجمله الكاتبة في: 

إن المقاربة الوحيدة الممكنة لتأطير هذه النصوص، تجعلنا نفهم لما إصرار الكاتبة على التوصيف الساخر "شخوص مسرح العرائس" فالكاتبة بهذا الشرط هي جزء ونتاج تموضع برضا مبرر في العقل المهيمن، كما أنها منتجة لنص، مغتربة عن ذاتها، خاضعة لنسق ثقافة معيارية، متمسكة بعباءة شهرزاد التي تموضعها في قلب "الحريم" بما هي أساسا صورته النموذجية والقدرية، فعجز خطابها ساهم في تعثر إمكانية حدوث حداثة في النص، بالتالي ظلت حاملة لشعار حداثة مفلسة، لكنها تدرك في المقابل أنها كلما تخلصت من فكرة العقل الإلحاقي كلما مكنها ذلك من الإيمان بإمكانية الانخراط في قطيعة ابستيمولوجية باعتبارها "ممكن".

وحتى في اختلاقها للغتها الخاصة ورغم هذا التوالي لسرد بكائي طويل الذي جعل "خطابها منفصلا عن الخطاب الإنساني/الفكري في حركته في المتغير والحداثة"(7)، فإن بوابات التحول في الكتابة ممكنة باشتراط هذا الواقع بالقوة، إذ أن حركية التراكم الأخيرة كفيلة بتكسير عوالم هذا الغيتو الفكري، يشير الناقد المغربي محمد معتصم(8)، أن ثمة هدف استراتيجي وأساسي من كتابة المرأة هو تجاوزها للمواقف الخجولة لأدوار المسكنة التي فرضتها عليها الشروط الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والفكرية، صحيح ثمة خصوصية لهذا المشهد أو ذاك إذ تتقيد سالمة الموشي بالمشهد الثقافي السعودي، لكن ذلك لا يغفل أن مبدأ الحضور والتراكم كفيل بوضوح معالم التجاوز ما دامت تجد تربة نقدية لعل "الحريم الثقافي" كتاب سالمة الموشي نموذجا حي لذلك. 

في نقد النقد:
في نقد الوعي بالذات تتمم الكاتبة سالمة الموشي مشروعها النقدي عبر تشريح خطابات "الوهم الثقافي" متتبعة صياغات نقد الوعي بالذات كاشفة النقاب عن هذا "القاصر الثقافي" النموذج هنا المرأة، من خلال تمثلا ته في التصور الأحادي المعلن، ولعل الحراك النقدي حينما دفع بالنص الأنثوي الى منطقة الحضور بعيدا عن الخطاب جعل نفسه خاضعا لمرتكزين: مرتكز تأويلي انطباعي، ومرتكز تقويمي مما جعله مؤسسا لثقافة الوهم الوليدة الفعلية لتعقيم نقدي صريح معلن، بالتالي أنتج لنا هذا النقد وأعاد إنتاج تصورات ذهنية العقل الجمعي ولم يمتلك "شجاعة توظيف أدواته النقدية لتفيك خطاب الذات الأنثوية ذات الخصوصية"(9).

لقد أسهم النقد في تكريس أبوته النقدية على كل نتاج أدبي أنثوي إذ أن نزعته التوفيقية متلت أقسى مدى لحراكه لذلك لا يمكن اعتباره مسوغا منطقيا إلا لتواطؤ معلن وصريح حتى تتسع كماشة الثبات. لكن في تتبع هذا المسار ازدواج تناقض صريح، فكيف لهذه الكاتبة "غير مرئية تماما في إنتاج الفكر والخطاب"(10)، أن تخضع لشرط التحول وفق المعيار الاستقرائي ما دام شكل الثبات المصرح به سلفا لا يحفز منطقة التأويل، فحراك النص من حراك اللغة العالمة، والبحث المضني في نقطة الصفر لا يمكن من ابتسار تجربة في كليتها الجمالية والفكرية إلا في حدود ما هو كائن في الواقع كنصوص.

إن نشدان هذا الحراك المعرفي، يرتبط أساسا بمنظومة شمولية أعم تتقاطع كليا، وهي تتوارى بحكم أن الجسد الأبوي هنا البنية الثقافية ليست وليدة لمشروع حضاري فكري ومعرفي تتأجج بالسؤال وبالتأويل، بل إن نقد النقد مشروع أساسا في اتجاه حركية ودينامية هذا الجسد العليل أصلا، فالمحو منطقته تتسع لأكثر من مساحة ذاكرة النص النسائي أو النسوي أو الأنثوي..لايهم..

ولعل الخيار الجدالي حول المصطلح يعمق من كاريكاتورية هذا المشهد، فإنتاج اغتراب وهامشية هذه الذات التي تكتب ذد لا يصطف من منظور الذاكرة "الأنثوية" بل إن الصورة النمطية في الفكر النقدي تكون اتجاه النص عموما وهي المسؤولة الأولى والأخيرة عن التغير، لذلك نقول جميعا مع سالمة الموشي:

"جميعا لا زلنا في منطقة لا أحد"..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ "الحريم الثقافي بين الثابت والمتحول" سالمة الموشي، دار المفردات للنشر والتوزيع، ط 1/ 2004، الرياض ـ السعودية ص9.
(2) ـ نفس المرجع، نفس الصفحة.
(3) ـ نفس المرجع، ص 15.
(4) ـ نفس المرجع، ص 18.
(4) ـ نفس المرجع، ص 19.
(6) ـ نفس المرجع، ص 31.
(7) ـ نفس المرجع، ص 119.
(8) ـ نفس المرجع، ص 127.
(9) ـ "المرأة والسرد" محمد معتصم، دار الثقافة، ط 1/ 2004 ـ البيضاء/ المغرب.
(10) ـ "الحريم الثقافي..." مرجع مذكور، ص 179.
(11) ـ نفس المرجع، ص 190.