هذه تجربة فلسطينية في المراوحات الإيقاعية والموسيقية في القصيدة، يستشرف فيها الشاعر أفق التعامل السردي مع الواقع والبنية الشعرية معا.

المقامة الطينية

صالح أحمد

طيني على خَدّي ....
ومِن بَلَدي..
لَحمي أُوُرِّثُهُ..
وَلَدي..
ولَدُ وَلَدي.
***
وفجأةً ... لا ... لَيسَ فجأةً ... بل ذاتَ تَنَبُّهٍ لِوُجودي؛ ولِحاجَتي للوُجودِ! وَرغمَ كُلِّ ما هو حاصلٌ ومَوجودٌ ... وَجَدتُني أقودُ نِعاجي العَجفاءَ، العَطشى الخِماصَ، إلى مَواقِع الزّبَدِ ... أو ... وتَوَخِّيًا للدِّقَةِ ... إلى حَيثُ انطَفَأَ الزّبَدُ أَمامَ ناظِرَيّ ... ظانًا أنْ سَأجِدُ مَرعًى لأغنامي ... ومَوطِئًا لأقدامي ... وظِلاً لِرَأسِيَ المحمومِ .
لا عَيشَ في مَواطِنِ الزَّبَدِ ... لا عَيشَ...
فُقاعاتُ الزَّبَدِ؛ لا تَترُكُ سِوى المِلحِ؛ الّذي لا يَصلُحُ لِصُنعِ العَيشِ.
يا حَسرَتا!
تلفّتُّ ذاتَ اليَمينِ، وذات الشمال، عَلّي أعثُرُ على رَجُلٍ ... أو شَبَحِ رَجُلٍ؛ يَنفَعُ، أو يَصلُحُ لأَن أصيحَ مُنادِيًا إياهُ بِـ "يا عَمُ، أو يا خالُ"!
صَوتُ النِّعاجِ الثّاغِيَةِ، ورائِحَةُ أصوافِها وهي تَحتَكُّ بي ... تَتَمَسَّحُ، أو ... رُبَّما ... أظُنُّها تَتَمَتَّعُ! مَن يَدري! فالاحتِكاكُ يُوَلِّدُ المتعَةَ .
وما لِنِعاجي لا تُمارِسُ المتعَةَ والتَّمَتُّعُ؛ في زَمَنٍ طُوِيَت فيهِ «الانتربولوجيا» في الكتب، وأُطلِقَت عَبرَ الأثيرِ ألوانٌ وَصُوَرٌ وأخيِلَةٌ ... أظنُّ أنَّ للمُتعَةِ نَصيبُ الأسَدِ فيها .
وَيحي ...
طينٌ على كَفّي ...
والماءُ من عَرَقي
حُبًا سأَطبَعُهُ...
أمَلا على شَفَقي .
* * *
وأمضي..
وذاتَ انبِهارٍ؛ أجِدُني؛ ودونَ وعيٍ مِنَي، أو أدنى تَفَكُّرٍ، أو تَأَمُّلٍ، أو تَدَبُّرٍ ... أضَعُ اصبعَيَّ الشّاهِدَينِ (السّبّابَتينِ عِندَ السَّوادِ)، بَينَ شِدقَيَّ؛ وأُطلِقُ صَفرَةً مُدَوِّيَة ً... تَفهَمُها نِعاجي جَيِّدًا بِحُكمِ الانصياعِ .. فتَجتَمِعُ حَولي مِن جَديدٍ، تَثغو بِتَذَلُّلٍ، تَتَمَسَّحُ بي، وأنا أستَشعِرُ اللَّذَةَ! وأسوقُها إلى مَواقِعِ السَّرابِ. عَفوًا ... إلى لائِحاتِ السَّرابِ! فقد تَعَلَّمتُ بالصُّدفَةِ والتَّجرِبَةِ؛ أنَّ السَّرابَ يَلوحُ، ولا يَقَعُ .
أجري، وتَتبعُني إلى ما يَلوحُ لي؛ لِخَيالي المجهَدِ...
النِّعاجُ تَتبَعُني، تَثغو، تَكُفُّ عَنِ التّمَسُّحِ بي، يُفارِقُني شُعورُ اللّذَّةِ،  ولِسانُ حالي يُرَدِّدُ:
طينٌ على عَيني
ويَلوحُ لي أَنّي
الخائِني؛ ظَنّي
لا بُدَّ يُبلِغُني
أرضًا مِنَ الوَهمِ
ما داسَها قَبلي
إنسي ولا جِنّي!!
* * *
ثُغاءٌ ... لِهاثٌ ... نَظراتُ عِتابٍ، بَل نَقمَةٍ ... أفتَحُ عَينَيَّ بَعدَ جُهدٍ جَهيدٍ، يخيَّلُ إليّ أنَّ ألفَ ألفِ أفقٍ يَمتَدُّ أمامي ... ولكنّي أقِفُ في الهواءِ! ما زِلتُ هُنا ... وما زالَ السَّرابُ يَلوحُ لي هُناكَ.
وَحدَهُ صوتُ النِّعاجِ يَأتيني. وحَدَهُ سُلوكُ النِّعاجِ تَغَيَّرَ في هذا الأفقِ... لَم تَعُد تَتَمَسَّحُ بي، إِنَّها تَتَمَسَّحُ بالأحجارِ هُناكَ... تُؤثِر مَلمَسَ الأحجارِ الصَّماءَ؛ على مَلمَسِ جَسَدي الْمُعرَورِقِ الطيني،  ثُؤثِرُ جَفافَ الصُّخورِ؛ على مَلمَسي والطّينُ يَطليني "مِن راسي إلى أساسي!"
ولا عَتَب!
طيني على حالي
مُشَرَّدٌ، وغَريب
دَمعي جَرى، وَيلي
كيفَ الحزينُ يَطيب ؟؟!
* * *
مَن قالَ أنَّ البَحرَ لا يُشبِهُني ؟!
مَن قالَ أنَّ البَحرَ وحدَهُ المسؤولُ عن الزَّبَدِ؟؟!
من قالَ أنَّ البَحرَ وَحدَهُ يَحضُنُ الأمواجَ ؟
أنَذا أَرغي وأُزبِدُ حيثُ لا يَشعُرُ بي أحَدٌ ... حتى نِعاجي باتت تُرغي وتُزبِدُ مِن أَمامي... وأنا خَلفَها؛ أَتَظاهَرُ أنَّني لا أشعُرُ بها ... أنا الّذي وإن بِتُّ لا أشعُرُ بِنَفسي ... ولكنْ هَيهاتِ أن تَغفَلَ عَيني عن موجِ الزَّبَدِ يُحدِقُ ب ... يَتَعاظَمُ أمواجًا؛ جِبالا ... تُغَلِّفُني، تَضغَطُني، تَخنُقُني...
الى الموجِ أرنو، أَتَعَلَّمُ تُقَلُّباتِهِ، أهرَعُ إلى الشّاطِئِ مِثلَهُ ... هُناكَ يَنطَفِئُ الزَّبَدُ!!
على الشّطِّ تُكتَبُ النِّهاياتُ!
والأمورُ بِخَواتِمِها أيُّها القَومُ.
على الشَّطِّ تَنسَكِبُ حُمولَةُ الأمواجِ .. فإِمّا يَمتَصُّها الرَّملُ، وإما يَرثيها الزَّبَدُ، وإمّا يَحمِلُها الغَيمُ مَطَرًا... وَ{سَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرينَ}.
على الشَّطِّ أيُّها السّادَةُ؛ ولأَوَّلِ مَرَّةٍ أجِدُني وَحدي... أَتَأَمَّلُ أَخيِلَةَ نِعاجي في الزَّبَدِ، وفي رَأسي تَندَفِعُ الفِكرَةُ؛ الغَيمَةُ: "ما أكثر من يكتُبون المقدّمات"

وَحدي هُنا ... واليومَ ... سَوفَ أكتُبُ الخاتِمَةَ.

طيني غَدا حالي ..
والدَّهرُ ذو أحوال
غَرسي أنا مالي
صَبري غَدا أَهوال
يا صادِقَ العَزمِ
في جُهدِكَ النّوال

فلسطين