حقل بلا جسد
جاءت من البستان مسرعة
بثوب أخضر مزركش
كأنَّها صدفة تقد شوقي
كنت أجلس وحيداً
كانت ممتلئة برائحة طفولتي
كأرجوحة العيد
وصوتها
يتناسل ظمأ في الصدر..
تنهض حوريات الرَوْضُ
من سباتها
ويفرّ اللّيل من مضجعي
تلتمع أوصالي عطشاً
وأطرافي ترتعش
على ظل الوتر..
ريحانة العمر أنت
هذا حالي معك
مثل الطير والخيط
في نهاركِ تلافيفٌ
من عشبٍ
وفي ليلي
يزهر الفَراش بين يديك
خمائل من المطر
قد أضحى حسنك يحاصرني
يتعبني الجفاء
وضجيج الوصل
في عنقي
كأغلال الهوى تقيدني
أتشظّى مطراً
كحقل بلا جسد
وماء بلا النهر..
أنقش فرحك في لغتي
وأهب من عمري
بساط لصلاتك
أمزق صدري
كي تقطفي من شوقي
قلبي
ومن صوتي الثمر..
قرار
تمطّى الظلام على الصباح
وتبختر النهار على الحكايا العتيقة
فتناثرت ضحكات الصغار
فوق أجنحة الفرح
يعلِّمون الليل معنى الإبتسام
كان المطر يغسل عيون المساء
والصبايا يتراقصن كدمى الخيوط
وحين انسدل الليل على خد العتمة
رقدت الأقدام المتهالكة
وهجعت الطيور فوق الأغصان
سكن الضجيج خلف الأبواب
وغفت على السطر حروفي
فصرخ السواد
أين زفير الأحلام
جواب
هذا الحزن يقتلني
يحتك بحواف أضلعي
يلدغ الجسد العاري
يغلّف الفضاء ويتشظى أفاعي
تتقلص دوائر الضوء
وتتلاشى الدروب
يتسرب الطين من عنق العتمة
كعقد من تعب
فوق هذا الحطام
هنا صدري يخلع صوتي
وصراخي شراع الراحلين
قلبي ينكمش فوق لبادة الدم
وتصبح أقدامي كالأوتار
تتمدد أطرافي تقضم الشوك
فأتوسد أصابعي
وأبتلع الصحراء وأنام
مناديل الحوريات
قالت لي
حدثني عن المخيم
قلت
المخيم هو القصائد المنفية
وزورق الحكايات
المخيم الأرض الثكلى
هو زهرة الحب
في الفرح
فراشة في الخيبات
رقصة الموت
المخيم وحشة الحسرة
ألواح الخراب..
ملاذ
قالت
من أين يأتي المخيم ؟
ومن أين لقلبه
هذا الطفل الشقي ؟
قلت من ضفة الضوء
من مناديل الحوريات
يمرّ المخيم ليلاً
يحضن قيده
صراخ وتراب وفراغ
نصفه دروب تنبض بالأفخاخ
ونصفه الآخر
قبور فوق القلاع
وزهرات حنّون
في المخيم تتهشّم الأعناق
والعويل بلا أصابع
ولعنة المدينة ترقص في الشوارع
ووجه الأم يهوي في الجرح
والعصافير تحلّق بعيداً
عن شجرة الغرباء
أسير في هذا الموت
يعانقني صغير ويبكي
ثم يغفو على زندي
لذاك الذبح الموغل
طعم الشرف المدفون
هذا دمنا الحزين يتعمّد
هذا الرحيل رهين الماء
وهذه الموانئ رماح
فمن يرمّم دروب المخيم
ويدق فوانيس المدى
كي نزهر
أيها الموت
انسدل خلف جثتي
طفل وضفيرة
أيها المخيم
الأفق مثقوب
ومن سبعة أبواب
دخل الطاعون
أجهشتْ بالبكاء
قالت
سمعت عن شمس سوداء
في أرض بعيدة
حين كانت النجوم
بحجم الذاكرة
وضعتْ كفي قرب أنفها
يا قلب أمك
تتّسع المسافة
قبل أن تسحبني عيناي
إلى هاوية
مضت وهي تهذي
ملعون ذاك البحر
ملعون
يعود المخيم يتوغّل
يتدحرج على وجه الماء
طيف يتلوه وشم
فوق أمنية
يطلُ المخيم
من شرفة الأوجاع
صوب حلم حزين
لا شيء يباغته
سوى الضجيج
فوق الأرصفة النائمة
لاشيء
سوى دموع الراحلين
وهم يعبرون
قبائل النار
وحدي كنتُ أَصرخُ
أطْفُو على حُطامِ الوقتِ
المُبلَّلُ بالإندثارِ
مثلَ غريبٍ
في صحراءِ العيونِ
كانَ الوطنُ يتهاوَى
دخلتُ المدينةُ
تَسبِقني رائحةُ الطفولةِ
كانَ صوتي يَمتدُّ
تعبًا مِنْ ريحٍ
مشيتُ نحوَ غابةِ الموتِ
فرأيتُ الطيور تصلّي
وأشجارُ الصَّنوبرِ خاشعةٌ
تَقدَّمتْ نحوي قَبائلُ النَّارِ
صَلبَتْني فوقَ محرابُ الملحُ
عَبرتْ زنابقُ أُمِّي تُباركني
يُصبحُ صوتي أَنفاسُ مَاءٍ
بطعمِ التّينِ
تَعرَّى القَحْطُ مِنْ صَمْتهِ
وأَدخَلني قَبْري
لَمْ أَكُنْ نَبِيّاً
لكنَّني كنتُ مجنوناً
فأَثْمَلني الفطامُ الأَولُ
قالَ حارسُ الغابةِ
خُذوهُ وغَطُّوهُ بِثوبٍ أَخضراً
كَيْ يَنسى مَوتهُ
أَوصَدوا دونَي بابَ الخَطايَا
وَوهبُوني مَشعلاً للخلاص
شاهَدتُ قبري يَبكي
فَبكيتْ
ولَمحتُ الوطنَ يَغْفُو عَلى كَتْفِ الدُّموعِ
قبلَ أَنْ أَتلاشى في الهذيانِ الأخيرِ
فراشات البحر
يهديني البحرُ أطرافهُ
والنوارسُ تنثرُ ملحَ الهذيانِ
في أدغالِ الفوضى
والعشبُ المحمومُ ريشٌ
خلفَ الوشاحِ
والأرضُ أفواهٌ بأنيابٍ وعرةٍ
الماءُ مازالَ يتنفسُ
النوافذُ سنواتٌ ثَكلى
والمعنى حنينٌ يتساقطُ فراغاً
الموجُ قصيدةٌ تتسكعُ فوقَ الأضرحةِ
في خواءِ الليلِ
تخذلني المعاني
حينَ يفورُ الحرفُ
بياضٌ بلا جسدٍ
فاقتربْ من قلبي أكثرْ
التقطْ بعضَ صمتي
واحذرْ من فوهة ِالهاويةِ
لئلا ترقصَ فراشاتُ النارِ
فوقَ الملامحِ العاريةِ
لا أملكُ شيئاً
لكنّي أنقسمُ مرتينِ
وأعبرُ نايَ الموتِ
كاتب فلسطيني مقيم في الدانمرك