عبد الإله محرير
صدفة، إرث أم نحس؟
أعظم الاكتشافات والاختراعات جاءت عن طريق الصدفة، إن لم تأت بشكل مباشر، على الأقل بوادرها وأسسها الأولية تكون كذلك. لكن الصدفة لا تأتي من عدم، ولا تبحث عمن يحتاج الاستفادة منها، بل هي ضمن الإمكانيات التي يتيحها العمل المستمر والمبادرات الجريئة والأخطاء المتكررة باعتبار الفشل عامل من عوامل النجاعة والنجاح، ففي خضم البحث والتمحيص وبسط الاحتمالات و المغامرة تأتي الصدفة، فالصدفة إذن، مفترضة ولا تأتي من فراغ.
هل يستطيع المجتمع أن يتقدم وينمو من فراغ، هل يقدر على إنتاج نخبه من فراغ، فالطبيعة كما قال ألبير أينشتاين لا تقبل الفراغ، وحتما لا تقبل كل ما يمكن أن ينتج عن الفراغ، علما أن ما ينتج عن الفراغ، ليس سوى أوهام، ما يدل على أن الطبيعة لا تقبل الأوهام، وما دام أنها لا تقبل الأوهام، فإنها لا تقبل من يحمل الأوهام، لذلك نرى سلم التقدم في العالم يخضع لهذا المنطق، فبقدر ما تحررت الشعوب من الأوهام، تقدمت وتفتحت وأنتجت ثقافات لا تستمد ركائزها من فراغ تأهلها لاكتساب مكانة ضمن صفوة المجتمع الدولي.
كثيرة هي تعريفات كلمة النخبة أو الصفوة، نكتفي بأنها مجموعة من الأشخاص تطفو في المجتمع بفعل تميزها وتفوقها وتألقها الفكري، والأدبي، والعلمي، والمالي، والفني، والرياضي، وفي كل المجالات. وهي كذلك، المجموعة الناتجة عن نمط اجتماعي ثقافي سياسي يفرز نخبة سياسية بإرادة الأغلبية، وتعكس درجة وعي هذه الأغلبية ومستواها المعرفي. ونطرح السؤال، هل النخبة السياسية الحالية جاءت نتيجة الإرث السياسي للمجتمع، أم أنها تكون قد أتت عن طريق الصدفة ؟
ابتلي المشهد السياسي الراهن، بفعل نحس الفراغ، بنخبة سياسية لا ترقى إلى درجة انتقادها ولا حتى الكلام عنها، إذا استحضرنا خطابات بعض الزعماء السياسيين ونزواتهم وقلة حيائهم، وحنكتهم في ما لا يخدم المجتمع.
هذه النخبة لم تكن لتأتي عن طريق الصدفة، لأن الصدفة لا تأتي من فراغ، ولم تكن لتأتي في سياق التراكم الثقافي والسياسي الذي عرفه المغرب منذ قرون، لأنها ليست من طينة أسلافها، ولم تكن كذلك، لتأتي نتيجة التطور الدستوري والنيابي الذي عاشه المغرب منذ بداية القرن الماضي بمشروع دستور 1908 وما تلاه من حراك سياسي، خصوصا مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث أفرزت، في إطار بناء نضالي ومؤسساتي نابع من روح وطنية عالية، نخبا على كل المستويات، تضاهي مثيلاتها في الدول المتقدمة، وكان المشهد السياسي يزخر بسياسيين مقتدرين كانت لهم قدرة تأثيرية على الرأي العام وتوجهات المجتمع، بل وحتى على المستوى الدولي، وبلغ في عهدها الازدهار الثقافي والفكري و الفني أوجه.
هذا الإرث بتاريخه، وإنجازاته، وإخفاقاته، و نضالاته و حداثته، وسنوات رصاصه، وإحباطاته، وكسكسه، وقفطانه، وزغردة نسائه، راكمه المجتمع برجاله ونسائه من كل الشرائح عبر سنوات بل قرون فيه ما يستوجب الإقصاء وما يدخل في التراث، وما يستحق التطوير والحماية من عبث هؤلاء السياسيين المائعين الذين لا يدركون معنى الشأن العام، ولا يستوعبون أنهم في موقع النموذج الذي يقتضى به، وبالتالي يكون تأثيرهم على سلوكات المواطنين كارثيا، خصوصا الجيل الناشئ.
المغاربة في حاجة إلى نخبة من طينتهم تواكب المجتمع الدولي، ولا تحمل جينات دخيلة لا علاقة لها بمجتمعهم، ولا تعكس سلوك ما يسميه ماكس فيبر " العيش بالسياسة". السياسة مرتبطة بالعقل و إن فك هذا الارتباط تصبح شعوذة.