يعود باب علامات لسنة 1912 ليقدم لقارئ الكلمة نصاً من مجلة "فتاة الشرق" التي كانت تصدر في القاهرة (1906-1939). وفيه تعرض مي زيادة وجهة نظرها حول الإبداع ودور المخيلة فيه، مقابل العلم الذي يعلي من شأن العقلانية ونفعية الأخلاق، ويتبع النص رد محررة المجلة لبيبة هاشم على رأي مي زيادة في نفس العدد.

شـيئ عـن الفـن

إعداد أثير محمد علي

 

شيئ عن الفن

مي زيادة

لقد عرف الإنسان الفنون قبل أن يعرف العلوم، لأن مخيلته اشتغلت قبل تنبه أفكاره. المخيلة ضيف تائه على الأرض وهي أقوى القوى الأدبية. حركتها لا تبطل أبداً في الحياة، بل هي كالقلب تشتغل دائماً وعملها مستمر متواصل في النوم وفي اليقظة، فيها تحفظ تذكارات الماضي وآثار ما تنقله إليها الحواس من مناظر وأصوات وأنغام وروائح وتأثيرات، ومن مزيج هذه التذكارات والآثار تتكون أصول الفنون، فيأتي التصوّر والابتكار عاملاً في توسيعها، وزيادة فروعها وإتقان كمالاتها.

إذا أنت عدت بأفكارك إلى تاريخ الأعصر الغابرة تجد للفن المكان الأول في عظمتها، ولا ترى للعلوم إلا زاوية حقيرة في أسفار المنشئين وتواريخ المفكرين. أما الكليات الغربية التي تأسست في القرن الحادي عشر فلم تكن تشغل الطلاب إلا بالشعر القديم والأحاديث الحربية وتواريخ الآداب المختصة بأشهر شعوب العالم. فقد كان التلاميذ يدرسون اللغات اللاتينية، واليونانية، والعبرية والآشورية أيضاً، وغيرها من لغات الشرق القديم، بدلاً من الطبيعيات والكيميا والهندسة. ولم يدرسوا من تآليف الأقدمين إلا أشعارهم وتواريخهم وفلسفتهم، ضاربين صفحاً عما كتبهُ بعضهم في الرياضيات.

على أن العلوم أخذت في الانتشار رويداً رويداً منذ القرن الخامس عشر. فتعددت الاكتشافات، وزادت الأرباح، وتكاثرت المداخيل الآلية فانصرف الفكر البشري إلى العلم التجاري، وأمسى الفن شهيداً تقام له هياكل العبادة في أرواح الأفراد المفكرين من البشر. فالقرن العشرون الذي ندعوه عصر المدنية والنور ليس إلا عصراً ميكانيكياً تجارياً!

قال رُسكن الناقد الفني الكبير. "كل شعب يرتقي عنده الفن إلى ما يقارب درجة الكمال تسقط مملكته وتتلاشى عظمته".

لست أدري إذا رأيتَ في حياتك صورة رُسكن، أيها القارئ اللبيب. أما أنا فقد رأيتها وكثيراً ما أنظر إليها فأحاول نتف شعر لحيته عندما أذكر جملته هذه.

إني أجهل أيَّ عاطفة دفعته إلى كتابة هذه الخاطرة القاسية، ولست أدري كيف يفسرها لو كان حيّاً. ترى كيف يمكننا أن نقدر قدر المصريين لو لم تكن لدينا بقايا هياكلهم وتماثيلهم ونقوشهم، ونبوغ اليونان إن لم يكن بآدابهم وفنونهم، وعظمة الرومان إن لم يكن بفلسفتهم وشعرهم؟؟

وإذا قابلت الشعوب الآتية من بين هذه البدائع الفنية القديمة وبين آثار أجيالنا الحاضرة، كبرج ايفل مثلاً... ألا تظن أنهم سيحكمون بأننا، نحن أبناء الحاضر، سليلة ابن نوح الملعون من أبيه خلقنا كي نكون عبيد أبناء عمينا المباركين، أبناء القرون المنصرمة؟

يقول بول بورجه أحد أعضاء الأكادميا الفرنسية "اثنان يفهمان الجمال الفنيّ: العالم والفلاح الساذج. وبين هاتين الطبقتين، طبقة من البشر العادية وهي كثيرة العدد، ضيقة الفكر، قاصرة المدارك، باردة الروح". ثم يأتي رُسكن ذو اللحية المنتفة قائلاً: "إن الفضيلتين اللازمتين لمحب الفن هما الحنان والصدق". وكلاهما محق، بل إن كلام الواحد منهما يفسر فكر الآخر.

يعني رُسكن أن كل مصوّر أو شاعر، أو موسيقي، أو نقاش يجب أن يكون سريع التأثر، رقيق العواطف، دقيق الملاحظة، صادق القلب أهلاً لأن يكون ترجمان الروح، وناقل بدائع الأحلام من عالم الأوهام إلى عالم الوجود والإفادة. وهو يشترط في الشاعر والمصور الحنان قبل الصدق لأن الحنان عاطفة طبيعية ثمينة، وأما الصدق فهو عادة جميلة يكتسبها الإنسان بالتربية الحسنة، والدرس، ومعاشرةننقدر الصالحين، ومناجاة الطبيعة. فلا تجد هاتين الفضيلتين بقوتهما العظيمة إلا في فؤاد العالِم المفكّر وفي فؤاد الفلاح الساذج، والاثنان أخوان.

أجل لقد احتضنت روح الإنسان الفنون الجميلة منذ فجر المدنية، لكن ذاك الارتعاش الطاهر لم يعد مالكاً على قلوبنا. لقد تلاشت أفكار آبائنا العظيمة وتحولت قوتهم في الأبناء إلى اقتدار على اختراع الآلات المتنوعة والجهازات الغربية. وفي هذه وفي تلك من الاختلال بقدر ما في أجسام البشر من الاختلاط والتناقض. وأما الغرض من كل هذه الاختراعات المذهلة فهو ينقسم إلى قسمين: الأول خدمة احتياجات الإنسان الجسدية، والثاني، قتله بسرعة وسهولة...!

ولكن العلوم الراقية المجردة عن أطماع التجارة والأرباح، كالتي انعكف على اتقانها غليلوس ونيوتن وبسكال فنحن نضعها في صف المعارف الثانوية... لأن حب المضاربة والمكسب يصرعنا كما تصرعنا بهرجة الاكتشاف والاختراع.

ألا تظن أن ذلك المفكر العظيم نيوتن الذي استنتج من كيفية سقوط التفاحة قاعدة الناموس الأبدي الذي يدبر حركة العوالم الهائلة، ألا تظنه ناشئاً من نبت أفضل وأجمل من نبت تكوّن فيه فكر مخترعي الأجراس الكهربائية، والعجلات والفونوغرافات؟ ألا تظن أن هذه الاختراعات الدقيقة الجميلة في ذاتها، تبرهن على دناءة الفكر العصري، وسقوط النفس البشرية من أوج الجمال إلى هوة التجارة، حيث تطلب معاملة الأسواق غشاً وخداعاً وسرقة وخبثاً وكذباً؟

لست أدري أمخطئة أنا أم محقة؟ لكن هذه الاكتشافات التي تهم الجمهور معرفتها، لا أظنها تؤثر في أرواح الأفراد كما تعمل فيها صور الفكر القديم وظواهره الفنية. إن هؤلاء الأفراد يؤثرون على بلادة الترفه الميكانيكي شرف العمل الروحي. فهم يظلون مدى حياتهم عبيداً لأحلام الجمال اللطيفة، وذوي الأمزجة السريعة التأثر حيث تختلط الجدة بالدعة، والضحك بالغضب، والسكوت بالسرور، والتأملات بالخيالات الجميلة.

 

ردّ على الآنسة مي

لبيبة هاشم

رأى القارئ الكريم فيما مرَّ من مقالة الآنسة مي (شيئ عن الفن) حُسن تصوّر هذه الكاتبة وسمو نفسها إلى أوج الجمال الفني فهي تنظر من سماء تخيلاتها الذهبية إلى عالم الاختراعات العصرية والاكتشافات العلمية نظرة ازدراء واحتقار لأنها لا تجد فيها ما يؤثر على روحها الشريفة، ولا ترى في نتائجها المادية ما ينطبق على تصوراتها الشعرية البديعة. ولا غرو فالآنسة مي من الفتيات اللواتي قلما يسمح الدهر بأمثالهنَّ أدباً وذكاءً مع سعة اطلاع وحرية فكر. ولما كانت هذه منزلة صفاتها رأيت أن أعلق عليه كلمة أستأذن حضرتها بإرادها تمحيصاً للحقيقة التي هي غرض كل عاقل أديب.

ذكرت الكاتبة ما جدل فيه من امتياز أهل العصور القديمة بالفنون الجميلة والآثار البديعة التي لا يرجى وجود نظير لها في العصر الحاضر ولا المستقبل. على أن ذلك لا يؤخذ حجة على دناءة الفكر العصري وتقصيره عن سلفه وإنما هو دليل على أن ارتقاء الأقدمين كان محصوراً في بعض نوابغ انصرفت قرائحهم إلى بعض الصنائع كالرسم والنقش والنظم وما شاكل ذلك من الفنون الجميلة، وهذا بالحقيقة لا يعد ارتقاءً لبعدهِ عن الفوائد العمومية المطلوبة في ترقية الاجتماع، وما دام الإنسان منصرفاً إلى هذه الوجهة مكتفياً بها عن سائر العلوم فمن المقرر أنه يظل مقصراً في معارفه وشرائعهِ وآدابه وسائر نظاماتهِ، وعلى ذلك بنى رُسكن فلسفته ورأى المتأخرون رأيهُ فشرعوا بتعرف أسرار الطبيعة وروابطها وأحكامها واستخدموا ما فيها من القوى الكائنة لفائدتهم فأقاموا البحار بقوة البخار واستخدموا الكهرباء في دفع الأمراض وتقصير الشاسع من المسافات، وعلى الجملة فقد أتوا بأعمال عظيمة واختراعات مدهشة تدل على أن النبت الذي تكونت فيه أفكارهم ليس أقل فضلاً وجمالاً من نبت تكوّن فيه فكر الفيلسوف الرياضي نيوتن فإن هذا استنتج قاعدة الناموس الطبيعي اتفاقاً من وقوع تفاحة إلى الأرض ثم وقف عند هذا الحد، أما علماء الطبيعة فبنوا على هذه الناموس سائر العلوم الطبيعية التي بين أيدينا الآن وتوصلوا بواسطتها إلى اختراع الآلات المتنوعة والجهازات الغريبة، التي تزعم حضرة الكاتبة أنها دليل سقوط النفس البشرية من أوج الجمال إلى هوة التجارة.

ولعمري كيف تفضّل بناء الأهرام ونحت المسلات على تلغراف ماركوني وأشعة رتنجن، في حين أن ذاك على عدم فائدته ينطق بما كانت عليه الشعوب الغابرة من الذل والضغط واستعباد الكبير للصغير، أما تلغراف اللاسلكي فإن أهميته وفائدته توازيان قوة الذكاء التي بذلت في سبيل إتمامه، وهي لا يمكن أن تقلّ عن قوة ذكاء أصحاب الفنون الغابرين، ولا يعقل أن مجرد حب الكسب هو الذي دفع ماركوني لعمل اختراعه، وإنما هي دواعٍ كثيرة تجاذبته بين النفع العام والرغبة في الشهرة والتلذذ باتمام عمل عظيم، وهي نفس الأسباب التي دفعت برافائيل المصور إلى قمة الكمال الفني.

وإني أرى رأي الآنسة مي من حيث جمال الفنون وإجلال قدر أصحابها، ولكني لا أرى فضلاً للمشتغلين فيها يميزهم عن غيرهم من المخترعين والعلماء العصريين، إذ أن فضل المرء يكون على قدر عظمة أعماله وإتقانها، لا فرق بين أن يكون ذلك العمل تمثالاً متقن الحفر أو قصيدة بديعة النظم أو حذاء محكم الصنع ما دام كل من الأعمال يقتضي لإتمامها قوة عقل.

وإذا قسنا أعمال المتأخرين بآثار الأقدمين لا يسعنا إلا المساواة بينها فيما تحتاج إليه من المقدرة العقلية لإتمامها، وذلك يدلّ على أن مدارك النوابغ متساوية قوة في جميع العصور وإنما هي تتحول أحياناً إلى ما يوافق روح العصر ويقوم باحتياجات الاجتماع، وإذا كان فضل الأعمال على قدر الفائدة الناجمة عنها كان في علوم العصريين وأعمالهم ما يزيد منزلتهم العقلية رفعة عن منزلة أسلافهم المتفننين بلا ريب.

إن العقل البشري كحجر الرحى يدور دائماً على نفسه طالباً ما يعمله، فإذا لم يكن له من العلوم ما يصقله ويوسع نطاقه ويديره على محور الأعمال المفيدة والاكتشافات المهمة، التي تشترك منفعتها بينهُ وبين أبناء جنسه، ظل بليداً وحيداً بأفكاره يعمل لخدمة نفسه وسرورها، فينصرف إلى بهرجة الفنون الجميلة ويلجأ لنظم القوافي في ظلال البنايات الضخمة صارفاً في سبيلها الوقت والتعب جزافاً، في حين أنهُ متى تحوّل فكره إلى العلم اندفع بكليته إلى خدمته والاستفادة منه، صارفاً همهُ إلى كل ما يجديهِ فائدة محسوسة من بحثه وجهاده، وفي هذه الحال فهو يأبى طبعاً أن يسير على خطة أجداده من تعشق الفنون وضياع العمر في سبيل إتقانها.

ويكفي لإثبات فضل المحدثين ما بلغ إليه عصرهم من الارتقاء المدهش في الزمن الأخير، فإنهُ ما أشرق فجر العلوم حتى استنار جو العقول والإفهام، فتحولت الأبصار عن شفق الفنون السابح في ظلمات الخيال إلى شمس الحقائق المتلألئة في أفق العمل والنشاط.

فشمروا عن ساعد الجد وقطعوا مسافات شاسعة في النصف الثاني من القرن الأخير لم يكن يصدقها العقل، لولا ما نراه من النتائج العظمى المترتبة على جهادهم الغريب.

أما وهم قد بلغوا هذه الشأو من الكمال بجدهم ونشاطهم فهل يجوز بشرع ربة اللطف أن تصوب فيهم نظر الاتهام والاحتقار بينما هم ينتظرون من يدها الجميلة أكاليل الغار.

 

(فتاة الشرق، س1، ج5، القاهرة، 15 فبراير 1912)