تكشف هنا القاصة المصرية برهافة سردية عن طبيعة العلاقة المعقدة، أو بالأحرى استحالة العلاقة، بين الرجل والمرأة حتى في أكثر صورها حميمية، داخل مؤسسة الزواج.

حافة الوجود

منصورة عزالدين

قالت المرأة لزوجها وهى تسوى شعرها بيديها أمام المرآة "إذا مت فلا تدفننى فى بلدتك البعيدة، أحب أن أًدفن فى المكان الذى نشأت به". 

كانت تقصد أن تداعبه إذ تعرف أنه يمتلك مزاجا اكتئابيا كما لا يحتمل فكرة أن يفقدها، وعبارة مثل هذه ستجعله يقطب ما بين حاجبيه ويوبخها بجملة من تلك الجمل التى يتفوه بها بطريقة آلية دون أن ينظر إليها.

رغم مقصدها هذا إلا أن كلماتها خانتها وارتدت عليها، فلم تبصر فيها سوى مصيرها الآتى بلا ريب. لم تفكر أن الكلمات نفسها تتلون بطريقة نطقنا لها لأنها أحست بالهلع، وهى تلمح ابتسامة ماكرة تلتمع فوق شفتيه. بدت لها هذه الابتسامة نذير شؤم، ودلالة على أن أقدارها تنقلب الآن، فلأول مرة تفشل فى توقع رد فعله.

كانت واثقة من أنها تستطيع قراءة كل ما بداخله، وتتعمد أن تضعه فى مواقف بعينها لمجرد أن تثبت لنفسها عدم قدرته على الخروج عن السيناريوهات التى تتوقعها. إلا أن الرجل المبتسم أمامها بمكر و تشفٍ وضعها بقسوة وجها لوجه أمام عبارتها البشعة. 

هى لم تفكر قبلا بالموت، وليست مؤمنة بما يكفى لتشغل نفسها بما سيحدث لها بعده، لكنها دون مقدمات وبعد أن اندفعت الكلمات التى أرادتها لعوبا من فمها، وجدت نفسها خائفة بشكل طفولى عميق من إمكانية موتها ودفنها سواء فى بلدته النائية التى تكرهها، أو فى قريتها التى غادرتها صغيرة. كانت ستخضع لعملية جراحية، وأرادت أن تتلذذ برؤية خوفه وانزعاجه عليها، ولما لم تر ذلك انزعجت هى. خرجت من العملية سالمة، لكن فكرة الموت لم تغادرها، بل عششت داخل جسدها الجميل، ولونت رؤيتها للعالم و للأشياء حولها.

لم يكن الموت بمعناه المجرد هو ما يقلقها، إنما موتها هى، ما سيحدث لها بعده. حاولت أن تطمئن نفسها، غير أن تذكرها لرد الفعل البسيط وغير المتوقع لزوجها أدخلها فى موجة كآبة لم تستطع التخلص منها.

كثيرا ما تشعر أنها غير طبيعية.. مجنونة بشكل أو بآخر لكنه ذلك النوع من الجنون الذى يصعب الإمساك به، أو ملاحظته من جانب المحيطين. هى وحدها تشعر بهذا الجنون الأليف الذى ينمو بهدوء ودأب داخلها، يبدو كسرطان كامن يأكلها من الداخل، بالأحرى جنونها ليس هو السرطان الذى يتغذى عليها، إنما هى نفسها ذلك السرطان الذى يتوغل فى ذاته، أصبحت هى خلية سرطانية نشطة فى جسد ضعيف هو جسدها. قوتها الخارجية، وذلك الشعور بالثقة بالنفس ما هما إلا قناع صلب يخفى وحش الجنون الذى يهددها.

هل جربت أى صباح من تلك الصباحات التى تشعرك أنك خارج الوجود، أو فى أبسط الأحوال تعيش على حافته.. صباح يخبرك دون أن يتفوه بكلمة واحدة أنك بلا هوية، بلا ذاكرة، عاجز عن القيام بأبسط الأشياء؟ هل جربت يوما أن تقف أمام مرآة الحمام، بعد استيقاظك بدقائق قليلة وقد نسيت اسمك مثلا؟ لا أقصد النسيان التام، لكن ذلك الشعور بالانخطاف الذى تعجز معه للحظات عن تذكر كل ما يخصك بصورة واضحة، بحيث ترى وجهك فلا يعنى لك أى شىء، أن تبذل مجهودا كبيرا لتحديد موقعك من هذا العالم، من هذا الجسد الذى تحتله روحك. 

تمر هى بهذه التجربة بشكل متكرر، تصبح عاجزة عن القيام بفعل بسيط كفتح صنبور المياه، تنظر لفرشاة أسنانها بذهول محاولة أن تتذكر كيفية استخدامها، يستمر هذا الانخطاف لثوانٍ قليلة تعود بعدها لحالتها الطبيعية، لكن هذه الثوانى كافية تماما لترك تأثير مرعب داخلها يجعلها تدرك أنها غير آمنة، يمكن أن تتلاشى فى أية لحظة. مثل هذه الصباحات تجعل ردود أفعالها بطيئة لبقية اليوم، تندهش حين ينطق زوجها باسمها ببساطة وثقة، أو حين يستأنف نقاشا بدآه بالأمس. إلا أنها لم تحك له أبداً عما تمر به أحيانا من انفصال تام عن كل ما يحيط بها. 

تراقبه بهدوء. تكون على وشك أن تسأله عن سبب رد فعله الغريب حين أخبرته عن المكان الذى ترغب فى أن تُدفن فيه، غير أنها تتراجع خوفا من أن يتهمها بالجنون، خاصة بعد مضى شهور طويلة على هذا الحدث. 

تسير فى الشوارع المكدسة فلا ترى شيئا. لا تبصر المدينة التى شابت فجأة لأنها مشغولة بذلك الجنون الذى ينمو بداخلها ومتوحدة معه.