يقدم الباحث المغربي هنا تحليله لما ورد في سفر عن «تاريخ المغرب» أصدره المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، من درس لمرحلة واحدة تناولها هذا السفر، وسماها بالعصر الوسيط وخصص لها فصلين منه. لأنها المرحلة التي يعرفها الباحث أكثر من غيرها من المراحل، وبالتالي يدير مع ما رود عنها حواره العلمي.

تاريخ المغرب تحيين وتركيب

عرض وملاحظات

رشـيد اليملولي

يدخل هذا العمل الذي نتشرف بعرض أفكاره، محاولين في الوقت ذاته مناقشتها متى أمكن ذلك، ضمن الأعمال التي تسعى إلى كتابة التاريخ الوطني العام انطلاقا من الرغبة في رسم معالمه، وظواهره، وقضاياه الكبرى، انسجاما مع التراكم الكمي والنوعي الذي أصبح يعرفه المجال التاريخي خدمة للباحثين والمختصين والأجيال الصاعدة. ويأتي هذا الكتاب ليضيف قيمة مضافة تتسم بالجدة، وتزكي الصور المشرقة التي يتمتع بها البحث التاريخي في المجال الأكاديمي من خلال العديد من الأعمال التي راهن أصحابها على الاستفادة من الثورة المعرفية والمنهجية التي سادت في العقود الأخيرة. وعلى ما يبدو، فإن هذا المؤلف هو عمل جماعي شارك فيه العديد من الأساتذة الباحثين، وثلة من الشخصيات العلمية المهتمة بالقطاعات المعنية.

هذا العمل شأنه شأن الدراسات المفيدة يطمح إلى تأسيس تصور تاريخي يروم رصد العناصر الفاعلة في تاريخ المغرب، ويسعى تقعيد تاريخ شمولي ينتقد الحصيلة التاريخية التي قعدها التاريخ التقريري، في أفق تقديم تاريخ يمتح من منظور جديد يتوخى رصد الظواهر التاريخية رصدا أقرب إلى الموضوعية بعيدا عن الانشداد للآراء المسلم بها التي أمست طاغية على مساحات واسعة من التاريخ الذي يبجل السائد والمتعارف عليه أو ما يسميه بروديل بتاريخ المشهد. إن الكتاب الذي نروم في هذه الورقة تقديمه بعرض أفكاره ومناقشتها، يقع في821 صفحة صدر عن منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الرباط سنة 2011. أبرز الباحث في صدر التأليف السياقات المعرفية المنهجية التي رافقت العمل، والوقوف عند الاقتناعات التي حددت أفقه، وطريقة الاشتغال التي رافقت خطواته حتى أصبح عملا مكتملا.

أفصح المؤلف في مقدمة الكتاب عن الخيط المنهجي الناظم للعمل، القائم على ضبط المحاور والمقاطع مع تحديد مختلف مواطن التفاعل ومحطات الانتقال من مرحلة إلى أخرى من غير إغفال لعوامل الاستمرارية ولحظات القطيعة المترتبة عن هذه الحركية، مع مراعاة الجمع بين البعد المجالي والبعد الزمني المعيش، وبالموازاة مع ذلك خضعت هيكلة هذا العمل لإطار مرجعي حددته المصادر المتوفرة وفق ما قدمته من مادة معرفية على الرغم مما تثيره من إشكالات منهجية. ومع ذلك أقر بصعوبة المحاولة بحكم الثغرات وأحيانا البياضات الكلية التي تكتنف العمل بين الفينة والأخرى خاصة ما تعلق بالظروف الدقيقة المتصلة بأحوال المعيش أي بكل ما له اتصال بما يعرف بالحضارة المادية على وجه العموم. وبفضل ما تجمع من مادة تاريخية متنوعة عمل على تفصيل الكتاب إلى عشرة فصول، خصص الثلاثة الأولى منها للفترة التاريخية الممتدة قبل الإسلام، وعالج في الرابع والخامس ما يسمى بالمغرب الوسيط في حين تناول في السادس والسابع التاريخ المغربي الخاص بالقرن التاسع والعاشر الهجريين على أن القرن الثامن عشر الميلادي خصص له الفصل الثامن، أما التاسع فناقش فيه الحماية والغزو والتحولات المرافقة لها، إلى حين المغرب المستقل الذي عالج قضاياه في الفصل العاشر. وأثبت في آخر هذا الكتاب معالم كرونولوجية، ومعجم تاريخي، وإحالات بيبليوغرافية، وقائمة المرجعيات الإيكونوغرافية، وفهارس.

نروم في هذه المحاولة المتواضعة عرض الأفكار والتصورات المتعلقة بالعصر الوسيط، وآثرنا التركيز على هذه الفترة التاريخية التي هي محور الفصلين الرابع والخامس اللذان يمتدان من الصفحة 143 وإلى الصفحة 290، التي هي مجال اشتغالنا، وألزمنا أنفسنا الابتعاد عن الفترات الأخرى لعلمي أنها منيعة المطلب، صعبة المرام، وعرة الملتمس بالنسبة لي، حتى نستطيع تقديم أفكار تساعد على تعميق الرؤية في تاريخنا “القومي"، عبر بعض الملاحظات ذات الطابع المعرفي والمنهجي التي عنت لنا أثناء قراءة هذا العمل وتحديدا في الفصلين المشار إليهما أعلاه.

يندرج العمل في إطار تحيين التاريخ المغربي حسب الرغبة التي عبر عنها في مقدمة العمل من أن هذا المشروع أصبح يكتسي طابع الاستعجال في مطلع هذا القرن بعد أن مر على آخر عمل يمكن تشبيهه به، ولو على مستوى الإنجاز الجماعي ـ ما يربو على الأربعين سنة حول تاريخ المغرب (انظر الإحالة رقم 1 من التقديم)، ارتباطا بالتراكم الكمي والنوعي الذي ميز البحث في هذا المجال وانسجاما مع تجدد القراءة والكتابة المحتكمة إلى الطفرة المنهجية والتكامل مع تخصصات أخرى أفضت إلى تحقيق حصيلة مفيدة في إعادة القراءة والكتابة.

يتكون الفصل الخاص بالمغرب الوسيط من الفصل الرابع الذي هم التطور السياسي بالمغرب الوسيط، استعرض فيه الأحداث السياسية والعسكرية المواكبة للفترة التي سماها ببداية الأسلمة وتعدد الكيانات السياسية من خلال الوقوف عند ملامح الأوضاع السياسية بعيد التدخل الإسلامي، وتحديد مصطلح المغرب على مستوى المضمون الجغرافي والسياسي ومكوناته القبلية، وكياناته التي ارتبط ظهورها بما يسمى بولاية المغرب وصولا إلى رصد مميزات المرحلة سياسيا بثورة الخوارج الصفرية، ورد الفعل الأموي. وفيما يتعلق بعصر الإمارات فقد وقف عند مجريات الأحداث من التأسيس والمؤسسين وصولا إلى الانهيار والأفول سواء الخاصة بالإمارة البورغواطية، أو بإمارة بني مدرار، أو إمارة الأدارسة وانتهاء بالإمارات الزناتية. والجدير بالذكر أن هذا المحور تخللته بعض الخرائط والصور المرافقة والنقود الخاصة ببعض الأمراء، فيما يمكن أن نسميه بالعناصر المساعدة على الفهم الأسلم للظواهر المرصودة بما فيها علم الخرائطية وعلم الآثار.

وفيما يخص المستوى الثاني من التاريخ السياسي الوسيط والذي عنونه بمرحلة الهيمنة والتمركز، فمهد له بملاحظة جوهرية تكمن في أن نظام الحكم الخاص بهذه المرحلة تغير شكلا ومضمونا؛ منذرا بتحول مهم انبرى الدارس لتحديده على مستوى المدلول السياسي والتوطين المحلي والجهوي لدى المرابطين والموحدين والمرينيين والوطاسيين وهاته التجارب عمرت زهاء خمسة قرون. أشار الأستاذ إلى وجاهة التحليل الخلدوني لطبيعة النظام السياسي "المغاربي"، والذي لا يجب أن ينفي ضرورة عن المرحلة بعض سمات التطور من ضمنها الدلالة اللفظية والمعنوية، وظهور معجم جديد المخزن مثالا، بالإضافة إلى الوحدة المذهبية ممثلة في المالكية، وتشكل المجال الحيوي المغربي انطلاقا من مراقبة شبكات الطرق التجارية بين المتوسط وافريقيا جنوب الصحراء، ورغم ذلك لم تكن هذه القيمة التي اكتساها المجال الحيوي لتدفع عنه صفة الهشاشة والقوة في الآن ذاته، بمعنى أن هذه الأهمية الاقتصادية لم تترجم على قاعدة الواقع التاريخي سواء لنهضة تجارية تشمل مجمل المجال، أو لتغيير طبيعة البنى الإنتاجية خاصة في البادية.

بعد توضيح السمات العامة المميزة لهذه الفترة انتقل إلى مساءلة المدلول السياسي للتجربة المرابطية والموحدية في قواسمهما المشتركة كالمجال والمسلسل المفضي إلى الحكم وإقامة الدولة المركزية. وعرج في مستوى ثاني على مسألة الرواية التاريخية المصاحبة لمرحلة التأسيس والتي تقاطعتها سمات كبرى أهمها المرجعية المشرقية وظهور الرجل المصلح، واقتفاء أثر النبي في العديد من مقومات تأسيس الدعوة، إلا أن الدارس تحفظ منهجيا على الكتابة المرافقة لمرحلة تأسيس التجربتين، وهو منحى نشاطره فيه الرأي لأن المصادر بالإضافة إلى علاتها المعروفة تخفي طابعا أكثر عمقا هو مضمونها الثقافي.

بروز هاتين التجربتين أطرهما وجود شبكة الفقهاء التي كانت وراء ميلاد المرابطين بما يعني من امتداد المد السني المناهض للتيار الشيعي يفسره تقدم السلاجقة مشرقا وظهور الحركة المرابطية مغربا. أما التجربة الموحدية، فقد صاغ مقومات وجودها إطار ايديولوجي غذته قيمة المجال والكثافة السكانية المصمودية، ويتضح من مسارات التدخل العسكري للمرابطين والموحدين أنها حاولت الجمع بين البعد المغربي والمغاربي والأندلسي مع ما يسم التجربتين من فوارق وقواسم مشتركة. وانسجاما مع القالب السياسي حاول بعد ذلك بسط أدوات الحكم المستحدثة والطقوس المعبرة عنها: خطبة الجمعة، النقود، المراسلات، لباس السلطان..، ولم يكتف بذلك إذ حدد الأدوات والوسائل الإدارية التي اعتمدها نظام الحكم: الحاجب، الوزير، البريد، الإدارة..

أما أنماط الغلبة فاعتمد الدارس فيها على مؤشر المجال والجباية لقياس طبيعة ودرجة العلاقة بين المجتمع والدولة، وتبين اختلاف تمظهراتها على مستوى المجال بين التجربتين، لكنها أخذت منحى واحدا في الجانب الجبائي عبر التكرار والنمطية التي ميزت الدولتين معا، ضرائب شرعية في بداية الحكم وارتفاعها في عهد الدولة ثم الرجوع إلى الضرائب غير الشرعية. وفي إطار استكمال علاقة السلطة بالمجال والمجتمع، انتقل إلى تحديد مجالات المشروع السياسي للمقاومة والمعارضة والتي حصرها في المجال الجبائي والولاية والحركات الداعية إلى "الشرعنة" وهي المؤشرات التي صاغت أفق الحركات الاجتماعية وأطرت رد فعلها وجعلتها تعبر عن موقفها من الدولة وأسلوب وفلسفة إدارتها لشؤون المجتمع، سواء تعلق الأمر بتنظيم الجباية والانتباه إلى تجاوزات الجباة أو الانتباه إلى غياب أسس تنظيمية لمسألة وراثة الحكم.

وعلى المنوال نفسه حاول تتبع الحركة المرينية في بداياتها المرتبطة باستغلال الظرفية العامة واستثمار الأسلوب العسكري في بعه الصرف القائم على اقتسام وتوزيع المجال، هذا المسعى كان محكوما بالتحرك الاستراتيجي النفعي الذي حاولت الرواية الرسمية تغطيته وإضفاء أسلوب التخليق عليه، فجعلت من عبد الحق وابنيه عثمان وأبي معرف رموزا للسلوك النموذجي، ووصف أبو يحيى برمز الاستقلال والتعبير عن الهوية "المغربية الزناتية". وفي إطار تفصيل التاريخ المريني تتبع المسار الخاص بالمحكومين والحكام، وحسب أن هناك ثوابت صاغت جانبا مهما إن لم يكن كبيرا من تاريخ هذه الدولة الفتية، وهي ظرفية غرب المتوسط التي ترتبط مبنى ومعنى بنوعية وطبيعة العلاقة التي جمعت الفاعلين على الساحة السياسية بما فيها افريقية التابعة لبني حفص، ومملكة تلمسان ومملكة غرناطة وما وراء الصحراء بافريقيا، هذه الكيانات تجمعها الخاصية نفسها وهي الرغبة في الاستقلال ورفض كل أشكال القهر الناتجة عن الهيمنة، ومن طبيعة وضعية كهاته أن تفضي إلى توفير أرضية ومناخ مناسبين للنزاعات المتفاعلة على المدى القريب أو البعيد، وإن طبعها في أحايين السعي نحو التفاهم والتحالف والالتفاف بشكل لا يستقر على حال أو وتيرة، برغبة في الاستقواء وفرض الفهم الخاص والتحرك وحبك الإرادات السياسية التي يحركها التحكم في مضيق البوغاز ومراقبة السواحل النشيطة تجاريا.

بهذا الفهم حاول الدارس أن يصوغ التاريخ السياسي المريني ومجموع الكيانات المحيطة به إقليميا، خاصة وأن فاعلا سياسيا آخر أصبح حضوره في المتوسط يكتسي طابع التهديد الحقيقي إن سياسيا أو تجاريا، وهو ما يفسره التغاضي عن “السيادة “في الأندلس رغم محاولات أبي يوسف الأربعة والتي كللت بهزيمة 684ه/ 1285م، الأمر نفسه ينطبق على العلاقة مع تلمسان التي حكمتها الرغبة في المنافذ المتوسطية وتنحية منافس حال دون المخطط المريني يفسره حصار ثماني سنوات ابتداء من سنة 698ه/ 1299م، بالرغم من فترات السلم التي لم تعمر طويلا بفعل الصراع الذي استعر بين العاصمتين انطلاقا من الرغبة في السيطرة على محاور التجارة إلى أن تمكن أبو الحسن المريني وتأسيسا على المصاهرة من فاطمة بنت الأمير الحفصي، وأمام تنامي الطموحات الاستراتيجية لإمارة تلمسان في احتلال المنافذ الحفصية كبجاية وتونس مستفيدة من الوضعية المتأزمة لبلاد الحفصيين، بعد الانكسار على الجبهة الأندلسية الذي كان فادحا من التحرك على الواجهة المغاربية بعد وفاة صهره ليتدخل في افريقية في منتصف القرن الثامن الهجري، ويدشن بذلك تدخلا مباشرا على الصعيد المغاربي جمع فيه بين الأسلوب الحربي والأسلوب الثقافي بمساندة جم من الفقهاء والعلماء والزهاد في العملية بهدف "شرعنة" هذا التدخل الذي لم يدم طويلا بفعل تحالف الأعراب مع النخب المحلية، بعد تجريدها من امتيازاتها بفعل الإصلاح الجبائي الحسني المعروفة تفاصيله في المسند الصحيح الحسن لابن مرزوق، ورغم المحاولات المتعددة لإحياء التنظيم والمركزة لم يعرف الحكم المريني بعد أبي الحسن سوى التصدع والانحسار بفعل القلاقل الداخلية والخارجية.

بعد ذلك انتقل الدارس إلى الحديث عن بنية الدولة سياسيا وعدها من الدول التي افتقرت إلى منظومة ايديولوجية متكاملة، هذا العوز رهن الدولة ووجه سلوكها، وذلك على الأقل حتى عهد أبي يحيى، ويبدو أن سياسة التخليق والبحث عن المشروعية لاحت معالمها مع أبي سعيد وابنه أبي الحسن ثم أبي عنان وأبي فارس، ورغم ذلك لم تستطع النفاذ إلى عمق المجتمع، إذ ظل السلوك القبلي الأصيل ممتنعا عن التحول بفعل الهيكلة الهشة التي كرسها الاحتكام إلى الأسلوب الرعوي. تقسيم المجال في البداية وفي المرحلة المتأخرة من عهد الدولة بزعامة الوزراء والأشياخ بعد استيلائهم على السلطة، لذلك كان النظام السياسي في بنيته العامة نظاما توافقيا إلا من عهد أبي الحسن وأبي عنان ثم محاولة أبي فارس الذين حاولوا فرض نظام الدولة بمعنى يبدو "مؤسساتيا"، وهي هيكلة طبعت الحياة السياسية الحفصية كذلك بالرغم من طابع التنظيم وتوزيع المهام الذي يلوح في الظاهر، ورغم ذلك ظلت السلطة محتكرة من طرف الأسر المتغلبة.

وعلى المستوى الاجتماعي؛ يرى الدارس أن المد الديموغرافي قد تراجع بفعل الحروب والكوارث التي طبعت منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وكذلك بفعل التدخل المسيحي الذي أصبح حقيقة باحتلاله سبتة. أما رد فعل المجتمع فاتخذ أشكالا تفاعل فيها المعطى القبلي مع بنى الطوائف الصوفية، وأسس لمرجعية بديلة تكاد تكون ترجمة للقوى الفاعلة آنذاك، وفيما يتعلق بالمتغلبون فإن الذي ساد هو ظاهرة الغلبة المشاعة، أي أن الشركاء الرئيسون هما مجموعتا العرب ومجموعة زناتة في إطار ما سمي عند دارس آخر بالتوزيع والإشراك المنفعي مصطفى نشاط: التجارة في العصر المريني الأول. أما المغلبون فيشير الأستاذ إلى أصنافهم وطبيعة وضعيتهم ميزتها على وجه الخصوص وضعية الفلاحين التي اتسمت بالضنك والحيف والوعاء الضريبي الذي لا ينضب مهما كانت الوضعية.

ليخلص أن العصر الوسيط "المغربي" زاوج في بنيته بين الضعف والقوة، إذ انتقل سياسيا من مرحلة التبعية للمشرق إلى مرحلة تعدد الكيانات ثم مرحلة صياغة الدولة المركزية منذ المرابطين ثم الانسحاب الفعلي من الأندلس وبداية خضوع ترابه للاحتلال، ولازمه كذلك مستويان متعارضان؛ مستوى إرساء معالم الدولة المركزية والاعتماد على إطار ايديولوجي يكاد يكون واضحا، ومستوى تبدى فيه غياب قاعدة محددة لوراثة الحكم، وحظيت الجباية لمسار دوري غابت عنه المشروعية والتوافق والاستقرار، وظلت الخريطة البشرية مهزوزة ومتحركة لا تسمح بإرساء العمل "المؤسساتي".

لعل من الملاحظات التي يمكن إبداءها في هذا الفصل المخصص للتاريخ السياسي، مسألة التحقيب المسمى العصر الوسيط، فاستعماله مع إبداء تحفظات بشأنه يثير العديد من الإشكالات على الرغم من التبريرات التي سيقت في هذا السياق من أن الفترة وإن اتسمت فيها أوضاع أوربا بالتفكك السياسي وتراجع المدن وسيطرة ثقافة الكنيسة، فإنها لا تخلو من إنجازات مهدت للنهوض اللاحق (ص143)، ولا ندري بأي معنى تم إدراج هذه الفترة في سياق العصر الوسيط؟، فحتى لو سلمنا بذلك فإن الأمر يفتقر إلى ضمانة معرفية ومنهجية مادام التفاوت قائما، والتنميط غير مبرر مهما كانت دواعي التوظيف التي لا تميز بين السياقات التاريخية، كل ما هنالك أن الاختلاف سمة حضارية مهما قويت معالم التشابه واشتد عود التمازج، فهل بإقحام التواريخ دون فرز في قالب عام معناه حل إشكالية التحقيب؟

معلوم أن الغرض من هذا العمل ليس هو مناقشة هذا الأمر وإن صرنا أمام صدع لا يمكن رأبه من خلال إطلاق تحقيب "أبدي ولاهوتي"، ولكن الإشكال يظل قائما ما دام العمل قد ركن للجواب وأسس لمصالحة إجرائية عمقت الإشكال عوض أن تسهم في تبديد معالمه بشكل لا نستطيع معه أن ننفلت من عقال التاريخ الشمولي في بعده الزمني فما وافق التاريخ الأوربي قد يصبح مقاسا ومعيارا وما عداه قد يصنف ضمن مقولات قد تفسر أحيانا باللاتاريخ واللاوسيط منه، فالمقام الذي أسس مشروعية إعادة كتابة تاريخ المغرب، لا يسمح من الناحية المعرفية والمنهجية الانخراط في سياقات تحقيب أصبحت مثار قلق منهجي يستدعي التغيير انطلاقا من قانون التغير الذي يتغير فيه كل شيء إلا قانون التغير كما قال ماركس.

يسجل الدارس في الصفحة 144 أن هناك تفاوتا كبيرا في طبيعة المقاربة الخاصة بهذه الفترة الزمنية استنادا إلى العوز الذي يميز بعض المراحل في المعطيات المحددة لتاريخ الأحداث والوقائع، وهو ما يؤدي إلى غياب الدقة الكرونولوجية لعدة مستويات بما فيها المستوى السياسي. يضاف إلى ذلك قضية المصادر التي يسمها التأخر الزمني الذي يفسر عملية الإسقاط وإعادة التركيب المحكومة برهانات لاحقة بالإضافة إلى معضلة التباعد بين لغة المصادر ولغة الواقع الموصوف، مما يحكم على الجميع بنسبية التعرف على الحدث ومحدودية ضبط الإطار والمغزى. هذا التصدير المنهجي لم يبز عن العمل عطبا منهجيا لازمه طيلة المدة الزمنية المسماة العصر الوسيط وفي شقه السياسي تحديدا، إذ إن التفاوت بين فترتين ظل قائما ليس على مستوى الطبيعة المصدرية فقط، بل الرؤية والتحليل والمناقشة مما قد يفيد بتغليب فترة على أخرى وإنتاج تاريخي تراتبي تعطى فيه الامتيازات المنهجية والمعرفية لفترة على حساب أخرى ارتباطا بعوامل موضوعية، هذا "العوز" لا يبطل عن المؤلف صيغة التفاوت وفلسفة الكتابة بحيث جاءت فترة الهيمنة والتمركز أكثر ثراء وأغنى رؤية من الفترة السابقة، أي تعدد الكيانات السياسية الممتدة على أربعة قرون مع العلم أن الروافد المرجعية في كلا الفترتين يطالها التقصير وعوارض الفتور في الكتابة وأسلوب المعالجة في رصد التاريخ السياسي، بالإضافة إلى التشيع للآراء الرسمية والمغالاة في التصوير والبعد الزمني.

إن حصر المجال السياسي العسكري في أفكار وتصورات تمتح من تصورات عامة وأفكار متعارف عليها من شأنه أن يفضي إلى ثقافة تاريخية "متصالحة" مع الأنساق العامة، مع محاولة إما تبريرها أو الدفاع عنها، فجاءت أهون دليلا وأضعف حجة من ذلك أنه طيلة هذا العمل وفي الفترة الوسيطية بالذات لاحظنا غياب تاريخ المعارضة السياسي ومقوماته وخصائصه وطبيعة أفقه السياسي إلا من إشارات تمني العين ولا تطفئ عطشا. هذا المنحى يمكن تصويب بعض ملامحه في تساؤلات تبدو جوهرية من قبيل بأي معنى صيغت الأنظمة السياسية قبل فترة الهيمنة والتمركز بالشكل الذي صيغت عليه؟ وهل للأمر علاقة بذهنية المجتمع حتى لا يتقبل الأفكار السياسية المشاكسة؟ وما معنى أن يكون المغاربة ذوي أفكار سياسية ودينية محافظة؟

وعلى الجانب العسكري يلاحظ غياب الحديث عن الثقافة العسكرية المميزة لهذه الكيانات من خلال افتقار العمل إلى تصور عام أو محدد للأنماط أو النمط العسكري المتبع في التنظيم والهيكلة، وإذا كان الحديث قد جرى عن البنية القبلية باعتباره نواة المؤسسة العسكرية، فإن تقنيات وأساليب إدارة المعارك والخطط العسكرية ظل خارج الاهتمام إلا من إشارات وشذرات متناثرة ومتباعدة تفتقر إلى خيط ناظم، وهنا يلوح لنا سؤال نحسبه مركزيا، كيف يعقل أن تكون جميع الدول التي سادت في العصر الوسيط عسكرية الطابع والوسيلة دون أن تستطيع تطوير ذاتها عسكريا وتقنيا؟، وبالأسلوب ذاته جرى الحديث عن المجالات السياسية التي بدت فيها الأفكار السياسية المعبرة عن الأنظمة السياسية باستثناء المرابطين والموحدين شاحبة وجاءت الأفكار حولها ضامرة لم تشفع لنا في تبين طبيعة هذه الأنظمة بالرغم من أنها كانت خارجية، الخوارج الصفرية والأباضية أو المدرارية، أو ذات مشارب آخر كالبورغواطيين والأدارسة والمغراويين واليفرانيين.

لم يستطع المؤلف أن يجيبنا عن غير ما هو معروف عن الأنظمة المعروفة في العصر الوسيط، بل لم تكن المحاولة سوى تركيب مختلف الرؤى والتصورات التي راكمها التأليف التاريخي الخاص بهذه المراحل بتحليل رصين جنب نفسه الدخول في كتابة تاريخ "مشاكس" قوامه تجديد القراءة والكتابة من خلال تجديد التساؤل بالمعنى الإشكالي، بل انتحى مكانا قصيا عندما جانب الحديث عن المحرم في السياسة وكأن ما كتب لا يعادل جثة فيل ميت كما تقول العرب.

لم يقف الأمر عند متابعة التاريخ السياسي فحسب، إذ انصب الاهتمام في هذا الفصل كذلك على مقاربة الحياة الاجتماعية من زواياها الخاصة بالمجتمع والاقتصاد والحضارة، فبعد أن سجل أن المجال المغربي عرف تنقلات بشرية وكان مسرحا لصراع مرير حول التحكم فيه أفضت إلى انخراط هذه القبائل في تحالفات مع قبائل مجاورة أو مع السلطة الحاكمة أو هما معا، انتقل إلى تتبع الأصول الجينيالوجية وطبيعة علاقة القبائل بالمجال وفلسفتها في التعامل مع القوى السياسية التي سادت خلال الفترة قيد الدرس، وأفرد للحياة الاجتماعية جانبا اهتم فيه بأهل الذمة يهودا ونصارى وأقليات أخرى. وعلى المستوى الديموغرافي أسهمت الأمراض والأوبئة الفتاكة في معاناة سكان الحواضر والبوادي سواء بسواء، وحصرها في الحروب والفتن وتوالي المجاعات واجتياح الجراد.

وفي المستوى الاقتصادي عملت دول العصر الوسيط خاصة الامبراطورية منها على بذل جهود كبيرة من أجل تقوية نفوذها بالمنافذ القارية والبحرية وعلى طول طرق المبادلات الداخلية منها والبعيدة المدى، إلا أن ذلك لم يغير من ازدهار المدن وبنياتها وظلت الفلاحة في البادية قاصرة عن تحقيق قفزة نوعية في الإنتاج والأساليب، ويتضح أن هذا التصور مستقى من تتبع الزراعة في البوادي من خلال تقنياتها وطرق الاستغلال المتبعة وخصائص المنتوجات الكمية والنوعية، ورصد مميزات قطاع الماشية وطبيعة وضعيته في ظل الأوضاع السياسية والمناخية، وبالأسلوب نفسه انتقل إلى مميزات اقتصاد المدينة، فتتبع في البداية وضعية الحرف، ومسالك وسبل التجارة الدولية التي ميز فيها بين المسالك الداخلية والمسالك الرابطة بين المغرب والسودان، واصفا الأخطار المحدقة بها ولاستكمال صورة المعطى التجاري عرج على سلع المبادلات بين المغاربة والسودان استيرادا وتصديرا، وانسجاما مع هذا المنحى عرج على العملة والمكاييل، ليصل إلى الجباية التي أخذت منحى دوريا في التجارب السياسية الوسيطية.

هذه الصورة التي رسمها عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية (حسب المؤلف ص216) مستمدة من المعطيات والمعلومات المصدرية والدراسات التي لا تسمح برصد تمفصلات التطورات التقنية والتحولات البنيوية التي طرأت على مختلف أوجه النشاط الاقتصادي، وعلى المستوى الضريبي يتضح أن العناصر المصدرية المحدودة على مستوى المقادير المحصلة ووجوه صرفها وطبيعة العلاقة بين القائمين عليها فضلا عن الاضطراب الذي يلف المعطيات الخاصة بهذا المجال كانت وراء غياب تصور واضح ومتكامل حول هذا المجال.

وفيما يتعلق بالبعد الديني والفكري؛ انطلق في البداية من بدايات "الأسلمة" ليعالج ظرفيتها العامة التي دفعت المغاربة للاحتماء بالمذهب الخارجي الداعي للمساواة جراء سيرة ولاة بني أمية، وانطلاقا من ثورة البربر سنة 122ه/ 740م، انفصل المغرب عن المشرق وسعى نحو تأسيس كيانه الديني الذي توزع مابين النحلة البورغواطية والمذهب الصفري ـ إمارة بني مدرار ـ، وإمارة صالح بن نكور ومن بعدهم مغراوة وبني يفرن ذات المشرب السني، مع تسجيل مناحي وثنية في بعض الجهات كعبادة الكبش في الجنوب والكهانة والرقادين وادعاء النبوة كما حصل مع صالح بن طريف البورغواطي وحركة حاميم بن من الله الغماري، هذه التعبيرات الوثنية كانت حسب المؤلف محدودة التأثير.

أما المذهب الخارجي والاعتزال والتشيع، فكان عابرا لم ينخرط فيه المغاربة بشكل فعلي إلا من التشيع الذي كان مساره مختلفا وتجسده التجربة الفاطمية التي سخرت بعض قبائلها لمناوأة ومدافعة أمويي الأندلس بعد أن انتقلت إلى افريقية، دون إغفال التجربة البجلية التي سادت لفترة في منطقة السوس إلى أن قضي عليها سنة 451ه/ 1059م، ليخلص أن التنوع العقدي لم يمنع العقيدة السنية من الانتشار والسيادة بدءا من العصر المرابطي الذي كرس التصور الفقهي السني، وتعمل التجربة الموحدية على "ترسيم" العقيدة الأشعرية، وتؤكد التجربة المرينية على تنحية التومرتية وترسيخ الأشعرية من خلال الفقهاء والمتصوفة، وارتباطا بهذه الاختيارات فحص المؤلف المبررات التي رسخت الاختيار الفقهي المالكي، وسيادة النزوع الصوفي الذي غدا قوة اجتماعية طاغية في الحياة السياسية المركزية يتأكد ذلك من خلال مجالات تدخلهم، وتوطين رباطاتهم وطوائفهم، وخصوصياتهم الدينية.

وفي المجال العلمي والفكري والتعليمي، نحا المؤلف نحو رسم تجليات ومظاهر الحركة العلمية والفكرية في المغرب الوسيط من خلال أعلامها ومساهماتهم في المجالات ذات الصلة. وفي مجال العمران تظل الحصيلة المصدرية هزيلة في تتبع خصائص ومميزات هذا القطاع إلا ما تعلق بصور متناثرة تهم الارتفاق بالمباني وفن العمارة الذي يعد مؤشرا دالا على خصائص الصرح الحضاري وإبراز مدى تلاقح المغرب مع محيطه بغرب الأبيض المتوسط وتأثره به وتأثيره فيه، على أن السمة التي ميزت هذا المجال (حسب المؤلف طبعا) هي تأكيد وترسيخ مبدأ البساطة والصرامة والتماثل والتفنن بعيدا عن الأسلوب المشرقي والأندلسي. بهذه الصيغة وهذا الأسلوب حاول المؤلف ترتيب الخطوط العامة المميزة لتاريخ المغرب سياسيا وحضاريا واجتماعيا في الفترة المسماة العصر الوسيط، غير أن ذلك المسعى شابته بعض الثغرات التي حسبنا أن العمل تجاوزها ولم يعرها ما يكفي من الاهتمام وإن كان ذلك لا يسقط عنه طابع الجدة والأصالة والتميز.

لم يكن الفصل الخاص بالمجتمع والحضارة لينأى بنفسه وينبو عن العطب الذي ساور الفصل الرابع الخاص بالمجال السياسي، فقد ظل التفاوت قائما ومتجذرا على مستوى الرؤية والتحليل، ولم تكن القضايا والظواهر التي أثيرت في ثنايا هذا الفصل بمعزل عن نسق التفكير والكتابة الرامية إلى ترسيخ نزعة "الاستقواء" التي تؤكدها فترة الهيمنة والتمركز على حساب فترة تعدد الكيانات، فإذا كان هاجس الحصيلة المصدرية المفيدة في رصد الظواهر وتتبعها حاضرا طيلة العمل، فلا معنى في تقديرنا لإقامة هذا التفاوت مهما قويت المبررات في الدفاع عنه، هذا اللاتوازن في كتابة الفترتين خاصية ملازمة للعمل أخلت ببناءه العام بين فترة أريد لها "الاكتمال" مهما طبعه من اختلال، وفترة أريد لها أن تسهم في العصر الوسيط بالمفهوم السلبي بشكل يدفعنا إلى تسجيل ملاحظة تبدو لنا وجيهة؛ ففترة ما قبل المركزيات لا تكتسي ذلك الطابع المشوش والغموض الذي يلف قضاياها، بل لها مقوماتها الخاصة التي تجعل منها ندا حضاريا، فالفاعل السياسي الوسيط والمركزي منه بالخصوص دمغ الاختلاف وسيد الوحدة السياسية والدينية باسم القوة والسيف، وأنتج حضارة القوة التي كانت إنجازاتها العلمية والفكرية ضحلة على المستوى النوعي، في وقت كانت فترة الكيانات السياسية المتعددة وفي الجانب الأندلسي تشيد حضارة من نوع خاص مثالها التأليف الموسيقي والتأليف الفلاحي المعروفة أعلامهما.

قد لا نغالي إذا حسبنا أن العمل الخاص بفترة التمركز والهيمنة يستصدر من القارئ إحساسا بقوة نماذجه السياسية والحضارية ويروم تسويق طابع "العبقرية" والأصالة، من خلال "الإغراق" في قراءة المؤشرات المرصودة واستنطاقها بشكل يتماشى مع قالب الاحتفال والوطنية التي تحتفي بالتاريخ وتوغل في تقوية المؤشرات القليلة والنادرة كمن يهدد النار بالدمع الضرير.

وفي سياق آخر وأمام الطبيعة الإشكالية التي يثيرها استثمار معطيات ومؤشرات المصادر، يؤكد المؤلف ص144 أنه يتحتم علينا اللجوء إلى التنقيب الأثري وتوظيف مصادر متنوعة ككتب الجغرافيا والرحلات والمجاميع الفقهية وأدبيات النوازل والأحكام والوثائق ومصنفات الفلاحة والطب والصيدلة، وهنا تبدو مسايرة المؤلف بديهية، غير أنها تقفز على إشكال أكثر استعصاء وهو مسألة قراءتها وتوظيفها، وبأي منطق تأويلي يمكن صياغة مضامينها؟، وهو أمر غاب عن هذا العمل لأنه لم يقف عند الطبيعة المصدرية وإشكالية الكتابة من خلال الوقوف عند طبيعة الإضافة النوعية، لذا في تقديرنا كان لزاما الوقوف عند رصد الروافد المرجعية المؤسسة لهذا العمل بنقدها وفك ارتباطاتها السياسية الملتبسة فيما يمكن أن يسمى بالتنصيص السياسي، أي تشكيل نص تاريخي، جغرافي، نوازلي، مواكب ومساير للسلطة السياسية يتغذى على منطقها في القالب والقول، لذلك يبقى هذا المطلب عاما ويفتقر إلى التعيين والتحديد، إذ الانفتاح على المصادر المختلفة قد يكون له أثر نوعي في إثراء الظاهرة التاريخية، غير أنه قد يرتد بنا إلى بناء نسق منهك وهش ينهل من معطيات لا يربطها خيط زمني واضح وتقود هذه العملية إلى بناء متن يتصيد المؤشرات الدالة على ظاهرة أو واقعة وإقحامها في سياقات متباينة.

يبدو لنا أن هذا العمل تجاوز العديد من القضايا التاريخية التي لها ارتباط وثيق بطبيعة الفترة الزمنية، إذ إن الرغبة في تقديم صورة عامة عن تاريخ المغرب أفقر العمل توازنه الداخلي وأرداه سلسا مريحا، لا يعاكس التصورات والآراء السائدة ولكنه يجافي فلسفة الكتابة التاريخية المعاصرة، فعلى سبيل المثال لا الحصر لم يستطع المؤلف أن يفك قيد المعارضة ويزيل عنها التعتيم الذي صاغ تاريخها على مستوى الذهنية التي كتبت عنها، وبالقدر نفسه تغاضى عن النبش في إشكالية الثورات الاجتماعية واحتكم إلى "منطق" النصوص في تأويل إشاراتها ومبررات وجودها ولم ينفذ إلى تحريك القول "الآسن" حولها، بمعنى بأي شكل نجحت أو فشلت ثورة اجتماعية؟ وما طبيعة الأطر الاجتماعية التي مهدت لها سبل النجاح والفشل معا؟، هذا التغاضي حتم على الدارس مسايرة المتعارف عليه فلم تشمل الدراسة الوقوف المتأني عند مسألة التطرف المناخي وإشكالية الكوارث الطبيعية والبشرية على السواء، كما أن الطبقات أو الفئات الاجتماعية جاءت باهتة الحضور شاحبة التجلي إن على مستوى الطفل أو المرأة أو تاريخ المحرم، البغاء، المسكرات، القتل، الجريمة، ادعاء النبوة، اللصوصية، الرموز، أقوال العامةـ هذه المستويات جعلت من تاريخ الذهنيات غائبا بشكل مهول وهو ما أثر على العديد من القضايا التي جاء القول فيها دون المبتغى من قبيل علاقة الذهنيات بالمؤسسات السياسية والدينية والقبلية في إنتاج قيم مادية ورمزية ترفل في المحافظة وتقتل التجديد، ذلك ما يؤكده الموت الكاسح للاجتهادات النظرية في المجال الفلاحي والصناعي والتجاري والسياسي، وجعل من الأنظمة السياسية أنظمة نفعية مغرقة في الواقعية.

ومن القضايا التي كان بالإمكان الانفتاح عليها لتوسيع الرؤية التاريخية الخاصة بهذه الفترة مسألة البادية باعتبارها منتجا سياسيا مهما، لذا كان من اللازم الوقوف عندها بتفكيك أسسها ومكوناتها وتاريخها الخاص باعتبارها المنتج والقاتل السياسي لجل الأنظمة، إذ غاب الحديث عن إشكالية الأرض والأعراف وطرق التعامل اليومي مع الصراعات حول الماء والمرعى. إشكالية أخرى لم تنل حقها من التعامل العلمي وهي مسألة الإقطاع باعتباره سياسة متكاملة الخصائص اخترقت الفضاء الزمني والسياسي لمختلف السلط، وحددت بشكل ما التوازنات السياسية وخريطة الولاءات والارتباطات بين السلطة والقبائل.

غير أن التاريخ الغائب في هذا العمل هو التاريخ الجديد القائم على الأفكار والرموز والخيال والرسومات وهو ما قد ينبئ بقلة البحث الأثري الوسيط من جهة، ويؤسس لتاريخ تطبعه المادة ويموت فيه التاريخ الشفهي الذي يمكن أن يصدح بحقائق عجزت عنها الكتابة المادية، وبالمقابل غاب الحديث عن المخيال الاجتماعي المؤسس لمختلف السلوكات والتصرفات الصادرة عن الإنسان الوسيطي، وكيف تمثل محيطه وصاغ فهمه للإشكالات والطموحات الخاصة به، ولم يقتصر الأمر على هذه القضايا فحسب، بل غاب الحديث عن البحر بالرغم من أنه شكل جانبا مهما من أحداث وصراعات العصر الوسيط الإسلامي في ظل تنازعه مع القوى التي سادت هذا المجال من جمهوريات إيطالية، وممالك إسبانية، مما قد يوحي بغياب ثقافة بحرية لها علاقة بذهنية الإنسان "الوسيطي" الذي مجد الصحراء التي أفقرته إمكانية مناطحته للقوى الصاعدة والمتوثبة في المتوسط.

أما من حيث الشكل، فقد استرعت انتباهنا بعض الملاحظات الخاصة بالهوامش والإحالات منها مثالا لا حصرا ما ورد في الصفحة 149 هامش 4، وفي إطار تفسير الفرق بين أرض العنوة والصلح والأرض التي أسلم عليها أهلها اعتمد على دائرة المعارف الإسلامية وهو ما يثير قلقا منهجيا مفاده الإحالة على مصادر ومراجع ليست لها حجية معرفية وتوثيقية دامغة، الأمر نفسه يخص هامش 5 ص 150 حيث اعتمد كذلك على دائرة المعارف الإسلامية في إطار تعريف فرق الخوارج “المغاربية “كالصفرية والإباضية، وكان بالأحرى الاعتماد مثلا على دراسة الأستاذ محمود إسماعيل في كتابه المعروف الخوارج في بلاد المغرب، أو عمل الأستاذ هاشم العلوي القاسمي في كتابه مجتمع المغرب الأقصى حتى القرن الرابع الهجري، وقد سار على الخطوة ذاتها في الهامش 6 ص 153 حيث أحال على دائرة المعارف الإسلامية في إطار التعريف بالمنصور بن أبي عامر. أما ص 162 هامش 8 و9، الخاصين بالدولة الزيرية ومصطلح حرب الاسترداد، فلم يذكر المؤلف مرجعه وسنده في هذين التعريفين، الشيء نفسه ص 165 أثناء تعريف عملية التمييز الموحدية. الإصرار على ذكر الإحالة والمرجعية يكتسي في نظرنا حجية علمية، قد تجنبنا الكلام العام والمرسل، وهو ما تداركه المؤلف في الصفحات الموالية خاصة 167،171، 174، 177، 178، 180، 181، 206 على سبيل المثال.

إن شرعية الكتابة في تاريخ المغرب لم ترق إلى "مشروعية" علمية أثناء الرصد والتتبع، إذ تغاضى المؤلف عن قضايا وظواهر لها قيمتها في توجيه وصياغة العديد من الظواهر التاريخية التي ميزت تاريخ المغرب، وإن كان هذا لا ينقص من الطابع العلمي الجاد والمسئول لهذه المحاولة التي تبقى رغم ذلك محاولة تفضل المستحيل الشبه الحقيقي على الممكن الذي لا يصدق، بل من الخطل نكران قيمتها التي ترتب ما تهدل من أعمال سابقة، وتسدي خدمة وطنية للجيل والأجيال القادمة الراغبة في توسيع مجالات البحث التاريخي وإثراءها بحثا وتمحيصا ونقدا.

 

باحث من المملكة المغربية