كيف يمكن الكتابة عن أحمد اليبوري، من قبل الباحثين والناقدين و"مريديه"؟ وبأي طعم؟ وأي لون ورائحة؟ وهو الأستاذ والأب الذي تربت على يديه أجيال وبعضهم الآن في مقدمة الصف الثقافي المغربي والعربي.
وكيف لي أنا كذلك، أن أتحدث عن أحمد اليبوري، الباحث والناقد، وأنا الذي أعتبر نفسي أحد تلامذته وخريجيه حينما التحقت بجامعة محمد الخامس -كلية الآداب الرباط، قادما من جامعة القاضي عياض- كلية الآداب مراكش، إذ وجدت في أحمد اليبوري الباحث والإنسان الذي يتسع صدره لطلبته، تتلمذت عليه في الدراسات المعمقة، وفق النظام القديم المأسوف عليه، وسجلت معه بحث التخرج، قبل أن أستمر في صحبته، بعد إشرافه على أطروحة دبلوم الدراسات العليا، مكرسا قيم التروي والجدية والحوار والإنصات، متوسعا في مجاله، ملتزما بما يؤمن به، وزاهدا في شؤون الأحوال التي لا تعنيه.
يُعرف برؤيته الهادئة الهادرة كيف ينحت ويصوغ المفاهيم والرؤى العلمية والنقدية والمنهجية، ومتى يكيفها وفق متطلبات البحث وظلاله، وهذا لا ينفصل عن شخصه المترفع، والمؤصل لأساسات الثقافة الحديثة وأسئلة الوجود والذات والتاريخ والمجتمع.
يبقى أحمد اليبوري، في كل هذا، هو ذلك الإنسان الذي يختار الظل والصمت، في زمن ترتفع فيه الأصوات الطنانة والملتبسة.
ما أحوجنا إذن، في هذا الليل الكئيب والقاسي والعنيف إلى أحمد اليبوري وأمثاله، إلى حكمته في زمن عزت فيه قيم الالتزام والوفاء والسير بأجنحة تحلق بعيدا في الأفق الأخاذ.
هذا ما يجسده أحمد اليبوري على مستوى شعرية الكتابة، ورؤيا العالم، بلغته الأنيقة والمسبوكة فنيا، وبذلك نكون إزاء كتابة ثانية فيها مزيج من النقد والإبداع، ومتن له مضمراته وخفياته، برهافة وجمالية متميزة تغترف مادتها من مرجعيات ابستمولوجية مختلفة، وتعرف كيف تعيد صناعة الأشياء وبناء خطاب مواز في مقاربة الأشكال والدلالات العميقة، متسلحة بوجع السؤال وجدلية العناصر وارتباطها ببعضها بعض.
يقول في تقديمه لملف النقد العربي المعاصر، المنشور بمجلة الوحدة في عددها 49/ 1988، والمعنونة بـ"أوهام الحدود وحدود الأوهام":
"ومن جملة الأسئلة التي واجهت النقد الأدبي الحديث، عامة، مسألة رسم الحدود بين ما هو نقدي صرف، من جهة وما هو نظري، أو شعري من جهة أخرى، مع العلم أن المسألة لا ترجع، بالأساس، إلى مقاربات متجاورة، منفصلة داخل فضاء التخييل، بل إلى جدلية الخاص والعام، والجزئي والكلي حيث تبدو الحدود، في هذا المجال، بين ما هو نظري وما هو تطبيقي، مجرد لحظات في زمن القراءة".
ولذلك لم يكن أحمد اليبوري مفتتنا بالأدوات والرؤى المنهجية وإنما مطوع لها، يرتق من خلالها، وفي ضوء النصوص مختلف "الجروح" النقدية والأدبية وإشكالية الوجود والمعيوش و"الأشياء المركبة من ضروب المعاني".
بتعبير ابن رشيق القيرواني، والاستزادة منها متى عن له أن ذلك ضرورة وغاية.
بشفافية لافتة تتأسس اللغة النقدية عند اليبوري برؤيتها وأسلوبها الذي يراعي طبيعة تكون النصوص واعتبارها مجالا حيويا للمقاربة، التي تعتمد على تفكيك المفاهيم وإعادة تركيبها، وتتلخص هذه الرؤية المنهجية في:
أولا: ما يمكن أن نسميه الملاءمة المنهجية بين متطلبات التلقي، والمقاربة النفسية والبنائية، في إطار مرجعية متحركة وفق ما يعتمل بين المناهج والنصوص الأدبية، التي بقدر ما تتغاير فإنها تتضام وتتعاضد، كلما برزت الحاجة العلمية إلى ذلك.
ثانيا: إن انحيازه لجمالية النصوص وتداعياتها الخطابية واللغوية بكل تراكباتها واندفاعاتها المتفلتة من عقال الأنظمة الثقافية المتكلسة، والمتدثرة بأردية المتخيل الطافح، لا يضعه في مطب الاستشكالات التي تحول النص إلى بناء منغلق، ولذلك فإنه يجد في وعاء اللغة ما يفتش عنه من ذوات متفجعة، أو مرحة أو تاريخ مترنح أو متوثب، وطبقات اجتماعية مندحرة وأخرى صاعدة وحالمة، وإيديولوجيات تعكس تضاريس المجتمع، وما يمكن أن يتخلق ويتشكل في ظل ما يقترفه الزمن من وحشية واعتداء، وجوديين على الإنسان والطبيعة.
ثالثا: انشغاله العلمي بتحديد المفاهيم المستعملة مثل: النص، الرواية، الدينامية، التمرس، الرؤيا .. الخ بما يستجبيب لمرجعياته المنهجية، المترابطة والمتفاعلة مع النصوص، والتي لا تخضع لتصنيف آلي، متبرمة من أن يتم وضع المتاريس بين كل الأطراف المتدخلة في بناء النص ونقده، وأيضا نقد نقده، وطرح النظرية، وتأسيس التصورات، وبالتالي فإن تاريخ هذه الأشكال التخييلية لا ينفصل عن صوغ السؤال النظري والمنهجي.
رابعا: إن الرؤية المنفتحة والمتجددة، عند اليبوري، مكنته من تفكيك فكرة استبداد النصوص بشكل متساوق مع تهريس فكرة استبداد سلطة النقد و"جبروته"، وبالتالي السير نحو اختبار النظريات والتصورات بكل مرجعياتها وآلياتها ومفاهيمها، عبر المساءلة النقدية، بالارتكاز على منظور نقد النقد بشكل لا ينفصل، ولا يتناقض، مع رؤية البحث في شكل النصوص وأجناسها ودلالاتها، عبر استحضار ذلك التماس الذكي المباشر والمضمر بين النظرية والخطاب، وتداخل مستويات التخييل السردي مع عناصر وإحالات عديدة، تتمثل في الواقع والمجتمع والتاريخ واللاشعور والأسطورة.
ينجم عن ما سبق، أن الأجناس التعبيرية الأدبية والتخييلية لا تعيش في فضاءات جوانية، وإنما تتنفس وسط كل «الاضطرابات» النصية، وتموجاتها الجامحة، في مدها وجزرها، وهذه الصنوف من النصوص تتواءم مع تلك اللغة والرؤية النقدية عند اليبوري، التي تتعامل برفق مع عواملها التخييلية حيث تتحول لغته النقدية إلى لغة إبداعية، وخطابه النقدي إلى أفق جمالي بصخبه الكامن في الثنايا، و«أنين» النصوص وصمتها وهسيسها، المنبثق من رؤية نقدية تعتني بشعرية لغتها وتختبر كل الآليات المستعملة، والعينات النصية المغربية والعربية الموزعة على عقود تاريخية تعكس كل التبدلات التي طرأت على النص السردي التخييلي المؤثر، الفائتة والراهنة لتنسج تعاليها النصي، وبذلك نصير أمام نصوص روائية تحقق رونقها ومنجزها الفني في ما ترتكبه من آثام، حينما لا تلتزم بالحدود والقواعد والأنظمة المبتذلة، فالأشكال التخييلية والتعبيرية هي كيان لا يدعى أو يتقمص قناع الطهرانية والنقاء السرمدي، الذي ينتظر من يأتي مزهوا بنفسه كي يفتض بكارة حارقة ومدمرة.
إن الكتابة النقدية عند أحمد اليبوري هي مساهمة وانغماس في أنساق من التوليدات المتدفقة: توليد المعنى للمعنى والشكل، توليد للنص والرؤية المنهجية، وتوليد لكل هذه التوليدات مدعومة بصبيب فكري ومنهجي مبني على توجه ومتفاعل مع المعطيات المتاحة والكامنة والمتولدة من رحم النظرية وأغوار النصوص بانبجاساتها الخلاقة والولادة.