تحمل قصائده ألماً وتضمر وجع في دواخلها، لكنها لا تتهم بل تؤشر واقعاً وتحاكي أزمان بصورها ومآسيها على بلد قصدت الأقدار أن يكون مكاناً للوجع والألم.
يجذب القارىء إليه رغماً عنه، فكلماته تنادي بصوت مسموع ليقرأها الناظر بألم وحرقة يقصدها (الحجاج) ليعبر من خلالها الى آهات السنين التي حملت همها نفوس شعب لا يملك غير الأنين تعبيراً حتى عن الفرح، توصف كلماته بأنها عفوية تنبع من رحم المعاناة، لذلك تأتي صادقة يلمس فيها القارىء لشعر كاظم الحجاج صدق انتمائه إليه وللوطن، هادئ جداً لكن مرجلاً يغلي في داخله كفورة غضب على واقع لا يملك من تغييره إلا الكلمات ليوجهها وبصوته الخفيض رصاصة لمن لا يرحم ولا يريد للعراق وأهله الراحة والسلام.
يقدم الحجاج الحرص في انتقاء الحرف، ليبادله السامع بحرص أخر يتحول مع مسار القصيدة وتحولاتها الى دهشة لا يخفيها شاعرنا في طيات أبياته، حتى يكاد المتلقي أن يتحين سطوره باحثاً عن مسارات الدهشة تلك ليقف مشدوداً أمام تنسيق الأبيات وانسيابها كماء شط العرب الذي ينشر رطوبته مثل أجواء البصرة على قصائد كاظم الحجاج، فالناظر لشط العرب يقف مشدوهاً أما سحر مياهه، ومأخوذاً بعبير نسائمه وقت الشمال، ولا ينفر من رطوبة ما يحيط به هواء الجنوب الذي يعرفه أهل الجنوب (الشرجي).
عرف كاظم الحجاج بصراحة تعاطيه مع قضايا كبرى ومهمة، رسم عبر تناولها شيئاً من خوف ورهبة وحذر، فكانت صراحته هادرة واضحة حين تناول موضع الصلاة ن قائلاً:
أنا لا أصلي
أنا أتوضأ، دون صلاةٍ، وهذي شماليْ
أعف وأطهر ممن يصلي نهاراً، ويسرق في الليل خبز عيالي
أنا لا أزكي
فمن أين ليْ
وحتى لحافي.. قصير على أرجلي
هي صورة لفظية عبر من خلالها الحجاج عن حنقه على واقع مزري مخزي تمارسه فئة بأسم الدين الذي عماده الصلاة، ومنها نستشف ما يذهب إليه الحجاج في صوره السوداء ليصف واقعاً أكثر سوداوية مما هو عليه بدون كلمات الحجاج.
يختزل الحجاج كثيراً من المشاهد بثنائية، هي جميلة دائماً وأبدا ومعبرة حد التخمة في الفهم، ليرسل إشاراته عبرها للقارئ ويترك مفردات مقارنته تتحكم بالتفسير الذي يبغيه من حروف القصيدة، وليس المعنى كما عند غيره (في قلب الشاعر)، بل معاني كثيرة يحملها كاظم الحجاج ويطرحها للمتلقي على طبق الدهشة والاستغراب بأسلوب الفهم المبسط دون حاجة لتعقيد، كما ذكرنا في الآبيات السابقة، وهي تحمل فرق شاسع بين اليمين والشمال، كاصطلاحات قرآنية لها رمزيتها ودلالتها اللفظية والمعنوية، لذلك تعمد الحجاج أن تكون (شماله) نظيفة،فيما يمين من يصلي مشكوك فيها، ولا نعمم بل لتوصيف الحالة ليس إلا.
وجاء في وصف الأستاذ محمد صالح عبد الرضا، للحجاج على قصيدته "أنظر بعين من نهرين" (في وقت يدفن بعض الأدباء رؤوسهم في الرمال واللهو بأوهام طائشة تلهينا عن الواقع الحقيقي، والزمن الحقيقي يضع الشعراء الحقيقيون أنفسهم في وهج التجربة بنضوج فيصرخون في دوامة الواقع وفجائعه بحيث لا تحتاج قصائدهم الى تفسير أو شرح، ولكي لا نضع المجاملة فوق الشعر فان الألم من الواقع الملتبس حقيقة من حقائق الحياة التي لا قرار لها، وبعيدا عن النثرية والإطالة والتقرير لا تمنح أي كتابة فرصة لاعتبارها شعرا إذا كانت المسألة مسألة وزن وتفعيلة أو قافية لتكون لها علاقة بالشعر).
والقصيدة المربدية التي نتناولها هنا هي قصيدة الشاعر كاظم الحجاج التي عنوانها (أنظر بعين من نهرين) وفيها يجيب بطريقة إجمالية يجيز لنفسه الجواز الذي صار سليقة شعرية فاستطاع ان يصيب عصفورين بحجر واحد هما الجو المحموم والقصيدة المنتفضة، إن أدوات لتغبير في مدار صياغة القصيدة هو تعبير عن الحساسية والحالة والوضع جميعا ومحاولة ربطها في وعي حضاري حديث، وبهذا المعنى يكون الإبداع نوعا من التفرد بالصياغة والأداء التعبيري بما يكفل للشعر حضوره على محك النقد الموضوعي للواقع، فوجوب الابتكار في الصياغة والرؤى هو من شرائط الشاعر المتمكن، فهذه لقصيدة ذات نبرة مثيرة يرتفع فيها الصوت عاليا لكي لا يضيع الإنسان في زحمة التدهور فقد ائتلق فيها الحس الشعري في لحظة رؤيته وبيقظة في روح الجرح:
أغسل عينا بدجلة، وعينا بالفرات
جَـدِّد عينك دوما، وانظر بعين من نهرين
فســّر (لنهريك) ما يبصران
عَـرِّ جلدك لشمس العراق
فلا جنسية لك إلا بالسُمرة
جدّد سومريتكَ وبابليتكَ، وجدّد (بغـداد)
خذ بصيرتك من (البصـرة)..
مـَسِّ (ميسان) بالخير.. خير الأهـوار.
جمع الحجاج بين العقلانية والواقع، فألتمعت بين سطوره فكرة الإبداع، وهنا استحالت كلماته كصوت جرس يرن عالياً، في عالم تشوبه التناقضات في كل أوجهه، ليخلق مقارنة بين ما هو معاش وماهو مفترض أو صحيح، وهذه جدلية قد تتشابه بمضمونها بين (جدلية الخير والشر) المعروفة، والتي ولج الحجاج أبوابها عبر آبياته ليرسم لنا صورة ذلك التناقض بحروف تشبه الصرخة بوجه ما يمثله تناقض الشر حين يحاول فرض إرادته على الخير، وتلك مخالفة لنواميس الكون.
الحجاج أراد أن تكون قصائده تلك الصرخة التي يحملها ضمير الشاعر ليجسد ما في دواخل الناس كثورة على الواقع المتناقض، ونجح في تكوين مملكة الرفض لمتناقضات أريد لها أن تكون عكس الواقع الصحي للمجتمع، فرفع صوته ليسجل خلوداً ينفرد به على ساحة الشعر في العراق بأسلوبه الرافض، والذي إن عددنا رواده سوف نجدهم قلة يتقدمهم أحمد مطر، وسعدي يوسف، ومظفر النواب، وكاظم الحجاج، وهي مدرسة ربما أسس لها الجواهري رحمه الله، وتنوعت فصولها فكانت بثورتها تتمثل بالبياتي ن ومن قبله الرصافي والكرخي والعديد من رواد مدرسة الشعر الناقد أو الشعر الثوري إن جاز لنا تسميته.
(تقول الجريدة):
تسرقُ العشائر النفط الذي يمر بها والشيوخ يتلقون ثمن الحراسة
و(الحراسة) ليست بين قوسين في الجريدة..
سـمِّ (العماليق) وسـمِّ (الأقـزام)
جـَدِّد أجدادك إن استطعت.
(تقول الجريدة)
ونقول: هي بداية مثمرة لمشروع (تقليم الجنوب!)
ثبت على رأسك عقالك
ومسّد بإصبعين شاربك!
بنى الحجاج شعره على تأملات الواقع ن فجاءت قصائده بسيطة لكنها ليست جامدة، بل استطاع أن يبث فيها الروح من فرط ما حملها من تفاعلات خص بها حياة الناس ن بل خرجت من معاناتهم، وتلك ميزة تحسب للحجاج وتفرد له مساحة من القبول في الوسط الثقافي، وعند المتلقي الذي ينتظر كلمات الحجاج بانسجام تام وكأنها تنبع من دجلة والفرات أو شط العرب عند تقاطع النهرين ومصبهما ن بمنظر لا يعرفه غلا من تفاعل مع اللحظة وعاشها، وهو ما يعبر عن مكنون الحجاج ابن تلك البيئة التي غفت وعاشت بين ثنايا ذلك التقاطع والمصب الذي يولد من خلالهما (شط العرب) بفيضه وعطاءه، ومثله الشاعر المبدع كاظم الحجاج.
مـدد رجليك عروقا الى الطين
وكن أنت نخلتك، تكن نخلتنا
اسمع نشيد موطني أولا،
وانظر هل تبكي مثلي أو لا تبكي
تأكد من عراقيتك بالدمع!!
ليس عراقيا من لم يبكه (الحسين)
من لم يبكه الحر الرياحي لحظة الاختيار.
من لم يبكه (وهب النصراني) وأمه من لم يبكه (موطني)!
ثبت بالدم عراقيتك، ثم كن ما تكون:
أعتمد كاظم الحجاج صيغة التعبير الحسي والحركي، فرسم صوره الشعرية وكأنها ناطقة من خلال المزح المعنوي بين مابين الإحساس وتفسير العاطفة، فجاءت حروفه منسجمة مابين النطق بها والإحساس الصادق الذي سجلته اللحظة، فبرزت فكرتها تحمل قوة التخيل للواقع المعاش والمنظور الحسي.
تفاءل (بعدنان) ـ لأنه في القاموس (عدن)
و(عدن) في القاموس (الجنة)
وتشاءم من (قحطان):
(قحطان) في القاموس مثنى (للقحط)
التحويل الذي يعتمده الحجاج في لغته الشعرية يحمل دلالات المعاني عبر ألفاظه التي ينتقيها بعناية، ليشكل تناقضات المفردة ويوصل من خلالها معنى ما يريد، وهي عملية إيحاء مرسلة بمهارة فائقة لتدل على المعنى.
كان زغبُ خديّها
مثل بُخار يتطاير
من ضوءٍ مسلوق
وفي موضع أخر يقول الحجاج:
إني رجل خاض الحرب
أذكّر أني -وأنا أتقدم أو أتراجع
في الأرض الأخرى-
قد دستُ وروداً.
وقطعت لأجل التمويه، غصوناً
لا أدري كم كانت
ورأيتُ النخل يقُصّ
ولم أحتجّ ولم أذرف دمعاً
* * * *
كاظم الحجاج شاعر عراقي من مواليد البصرة 1942، ينحدر من (مدينة الهوير) في البصرة جنوب العراق. يحمل الحجاج بكالوريوس شريعة وآداب من كلية الشريعة جامعة بغداد 1976، تقاعد بعد ممارسة التدريس لثمانية وعشرين عاما. وله عدة مؤلفات شعرية منها: مجموعته الشعرية الأولى (أخيرا تحدث شهريار) والتي صدرت ببغداد 1973. ثم لحقتها مجموعته الشعرية الثانية (إيقاعات بصرية) بغداد 1987. فيما صدرت مجموعة شعرية الثالثة (غزالة الصبا) عمان 1999. وله أيضا دراسة أنثربولوجية في كتاب بعنوان (المرأة والجنس بين الأساطير والأديان) صدر في بيروت 2002. ومن بعدها صدرت مجموعته الشعرية الرابعة (مالا يشبه الأشياء) في بغداد 2005. والخامسة (جداريه النهرين) دمشق 2011.
كتب للمسرح أربع مسرحيات، عرضت منها ثلاثا، وفازت اثنتان منها بجوائز، يكتب عمودا صحفيا أسبوعيا في صحيفة (الأخبار) البصرية منذ صدورها في آب 2003 عنوانه (بهارات).