انقضت أربع سنوات، على دوران ماكينة، طحن أحشاء السوريين، وها نحن نلج عتبة السنة الخامسة. بلغ الحصاد 200 ألف قتيل، عفوا! لم يكونوا، قتلى بل مجرد ممثلين سينمائيين، طُلب منهم تأدية الدور، فأتقنوه اتقانا، إذن نعتذر كنا فقط بصدد تصوير فيلم رعب، من أعظم ماأنتجه مخرجو سيناريوهات المنتظم الدولي؟
3.9 مليون سوري، التجؤوا هربا إلى دول الجوار، سعيا نحو هامش بين طيات هامش، شعوب أخرى، تعيش جل فئاتها على هامش الهامش، فازداد الهامش تهميشا، عفوا! كنا نهزأ معكم، وإن كانت مزحة ثقيلة؟
6.5 مليون سوري، شردوا داخل بلدهم، حيث يقتاتون الموت، ويتنفسون الموت، ويتكلمون الموت، ويدمنون الموت، ولم يعد لهم من سبيل إلى الموت غير الموت، عفوا! ابتغينا، فقط أن نختبر نفسيا، شجاعتكم!
13 ألف سوري، قضوا تعذيبا داخل أقبية أجهزة المخابرات، ونصف أطفال سوريا، لم يعد بإمكانهم الالتحاق بالمدارس، عفوا! كنا نلعب معكم لعبة الغميضة، أليس من حقنا وحقكم اللعب؟
انهيار شبه كلي للبنيات التحتية، أربعة من كل خمسة مواطنين سوريين باتوا يعيشون تحت خط الفقر، و12 مليونا يحتاجون إلى مساعدات عاجلة، تقف عند حدود بدائية، ولا نقول إنسانية، عفوا! هي وصلات إشهارية، أردناها على سجيتك أيها الشعب السوري، غير مدع، ترويجا لعمل دعائي، يهم منظمات خيرية.
فقدت العملة السورية 80% من قيمتها، ونصف السكان عاطلين، وازدادت الاضطرابات النفسية بنسبة 25%، وارتفعت محاولات الانتحار، و40% من السوريين، تلزمهم متابعة سيكولوجية بسبب أهوال ما يكابدونه، عفوا! لا تفزعوا! نحن فقط نهيئ سلسة فكاهية، من نوع الكاميرا الخفية، كي تتابعون حلقاتها خلال شهر رمضان.
ألقى طيران النظام من السماء، مايفوق 5150 قنبلة برميلية، فسلخ حرقا جلد المدنيين، أغلبهم نساء وأطفالا، عفوا! أردنا فقط أن نبكيكم من الضحك، كي لا تفرطوا في الضحك، ألا تعلمون حديث النبي محمد: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا!"
أرقام ليست نهائية، والعد لازال مستمرا، وكل الدلائل ترجح بأنه سيغدو بحثا عن إبرة وسط قش. تفقد اللغة، علتها وتصير مجرد حشو في حشو، تنمو كالطحالب على حواشي مستنقع المنتظم الدولي، هكذا ضاعت سوريا، تحت أقدام ذئاب هذا اللامنتظم الغابوي، (سقط القناع عن القناع عن القناع)(محمود درويش): "ارحل!لاترحل! ارحل أو لاترحل! سنرى في مسألة رحيلك! قد ترحل وربما لاترحل! من قال لك ارحل! هيا عليك بالرحيل! اجلس حتى رحلة أخرى!
إذن، بعد كل الوطيس العبثي، والذهاب والإياب وعجعجة العرب والعجم، يصرح جون برينان، مدير الاستخبارات الأمريكية، أن واشنطن لاترغب في انهيار نظام بشار!
إن كانت جمجمتي، لازالت تحتوي على مضغة من المادة الرمادية، سأقول، بكل تأكيد، بغير شك أخطأ الرجل في النطق، وقصد روسيا وليس سوريا، حتى لا يقول السويد أو النرويج؟ وإلا، فأين هذه الـ"سوريا''المفترضة، وهي التي تخرب كل دقيقة بالنار والنار والنيران على امتداد أربع سنوات؟ ماذا بقي منها، لم يمسه بعد الانهيار؟ ربما انهيار الانهيار؟ ولأنهم حدسوا، أن المعنى لم يتم تبينه بجلاء، سيضيف كيري وزير الخارجية، بعربية العربية والمستعربة والبيداء والحاضرة، يفهمها العربي كالأعرابي والمشرقي كالمغربي، إن الولايات المتحدة الأمريكية، على استعداد للتفاوض مع الأسد، في إطار ماذا: جنيف؟ ياسلام!
عبث على عبث! طيب يا أخي، فلماذا كل هذه الرحلة عبر أبواب جهنم؟ هذا، ليس بتدبير للسياسة عبر آلية فن الممكن، ولا البراغماتية كتراث فكري يسترشد به الأمريكي في حركاته وسكناته، بل الميكيافيلية في أحقر تأويلاتها ستنتهي بـ"اللامنتظم الغابوي"، عفوا ماكان ينعت بالمنتظم الدولي، إلى جوف البركان حيث لا قانون ولا أخلاق ولا ضمير ولا مبادئ ولا هم يطمئنون. حيرة مابعدها حيرة؟ هل الجنون في أمريكا؟ أو من يصدق أمريكا؟ هل الجنون في الجغرافية و التاريخ؟ في الزمان أو المكان؟
في مثل هذه الأيام من شهر مارس 2011، هب سوريون نحو شوارع درعة، وقد بلغ بهم السأم مبلغا بعد 44 عاما من سياسة البصق في الوجوه وركل الأدبار، والعالم من حولهم يتغير: أيها الرئيس، العقل العاقل، يا طبيب العيون، الذي تشعره الوزرة البيضاء، بالمعنى الحقيقي للألم الإنساني، نتمنى منك أن تبادر إلى إصلاح حالنا ومن خلالنا الحجر والشجر، فقد صار الجماد يئن مشفقا على أوضاعنا، وحتما تتجلى عظمة الزعماء وشجاعتهم في مدى قدرتهم على قيادة معارك نوعية لتكريس الحياة وليس لتعميم الموت. حتما، البناء أصعب كثيرا من الهدم، وصناع التاريخ الخالدين صنعوا من لاشيئية شعوبهم، أشياء.
لم يتردد الرئيس، كي يصفعهم بالجواب التالي: ماذا تقولون أيها الأوغاد، الحقيرين، يبدو أنكم شبعتم علفا! نعم سأصلح هذه الأرض من قذارتكم، وبيني وبينكم ساحة الوغى، تالله إني لا أرى رؤوسا قد أينعت وقد حان قطافها، وإني لها.
مع ذلك احتمى السوريون بشعار"سلمية سلمية"، عرضت الحكومة التركية وساطة، وقد كان وقتها لأنقرة علاقة جيدة مع نظام دمشق، غير أن الأخير لم يأبه وتوخى فعلا قلب لعبة دومينو الربيع العربي، من خلال شعار: عليكم وعلى الوطن، المهم أبقى أنا، أنا -الوطن والوطن- أنا.
تبعثرت الأسلحة، يمنة ويسرة طولا وعرضا، استشرى العنف الأرعن، انتشرت الفوضى، اختلط الغث بالسمين، ثم صار الجميع يقتل الجميع: القوات الحكومية السورية، داعش، جبهة النصرة، الجيش الحر بمجموعاته التي تصغر كل يوم، القوات الكردية، حزب الله، الحرس الإيراني، مرتزقة من جنسيات مختلفة…، فأين نحن من مطلب حضاري لشعب معروف أصلا بعراقة تحضره وتمدنه، لبناء دولة المواطنة؟
على ضوء معطيات السياق الحالي، تجمع كل الآراء على أن المشكلة صارت في غاية التعقيد والتيه، ولا أحد من صناع القرار الدولي، بوسعه ادعاء امتلاكه لقدرة سحرية على وقف النزاع بصيغة ترضي مختلف الأطراف المتصارعة.
لذلك، تتمنى بين الفينة والثانية، بنفس أفيونية التهكم الأمريكي، أن توهم خيالك وأنت تعلم علم اليقين، أن الواقع غير الخيال: ماذا لو كان مايجري مجرد أضغاث كوابيس، وأن سوريا هي سوريا؟؟
(المغرب)