صدر هذا الكتاب (الاقتصاد السياسي لصناعة التقنية العالية في إسرائيل) حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت لمؤلفيه الفلسطينيين فضل مصطفى النقيب، أستاذ مادة الاقتصاد الرياضي في جامعة واترلو في كندا، ومفيد أحمد قسوم، المحاضر في الجامعة العربية-الأميركية في جنين ونائب رئيس الجامعة للعلاقات الدولية. ويتكوّن هذا الكتاب، الذي يقع في 207 صفحات من القطع الكبير، من تمهيد وتلخيص، ومن فصول ستة، بالإضافة إلى قائمة بالجداول والخرائط والرسوم البيانية والصور الفوتوغرافية، وثبت بالمراجع.
يذكر المؤلفان، في "تمهيد وتلخيص" الكتاب، أن غرضهما من إصداره هو شرح الأسباب وراء تمكّن إسرائيل، الدولة التي يبلغ عدد سكانها 1، 7 ملايين نسمة، من أن تتفوق في صناعة التقنية العالية على بلاد كاليابان والهند والصين وكوريا، ومن أن تجعل من هذه الصناعة عجلة النمو في الاقتصاد الإسرائيلي، وصاحبة الدور الرئيسي في الإنتاج والتوظيف والتصدير، وفي جذب الاستثمارات الأجنبية.
في الفصل الأول، الذي جاء تحت عنوان: "الإطار النظري للبحث"، يشير المؤلفان إلى أن صناعة التقنية العالية تتألف، وفقاً لتصنيف منظمة التعاون والتطوير الاقتصادي التي تضم اليوم 34 دولة من أغنى دول العالم، من ستة مكونات هي: الطيران/ الفضاء؛ الدواء والأجهزة الطبية؛ معدات الحوسبة والمكاتب؛ معدات وآلات علمية؛ معدات الاتصالات؛ ماكينات كهربائية. وتشترك هذه الصناعات كافة في اعتمادها الكبير على المعرفة ورأس المال البشري، وهو ما يستتبع قيام الدولة أو القطاع العام بتمويل الجزء الأكبر من نشاطين مهمين هما: "البحث العلمي البحت"، والبحث التطبيقي المعروف باسم "البحث والتطوير".
يعرض المؤلفان، في الفصل الثاني بعنوان: "اقتصاد إسرائيل السياسي"، المراحل الخمس التي مر بها تطور الاقتصاد الإسرائيلي، ابتداءً من مرحلة تكريس الاستيطان اليهودي على أرض فلسطين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وصولاً إلى مرحلة تكريس وضع إسرائيل المركزي على المستوى العالمي والإقليمي من سنة 1985 حتى الوقت الحاضر، ليخلصا إلى أن تبوّؤ صناعة التقنية العالية مكانة مركزية في الاقتصاد الإسرائيلي في العقدين السابقين كرس وضع إسرائيل كدولة من بلاد المركز على الصعيد العالمي، ودعم طموحها في أن تصبح بلد المحور في نظام "المحور والأضلاع" على الصعيد الإقليمي.
"البيئة الحاضنة لنشأة وتطور صناعة التقنية العالية في إسرائيل" هو عنوان الفصل الثالث للكتاب؛ وفيه يستعرض المؤلفان العوامل التي خلقت هذه البيئة الحاضنة في إسرائيل، والتي تمثّلت في وجود نظام تعليمي متطور، ونظام صحي متقدم، وإنفاق حكومي داعم لنشاطات البحث العلمي والتطوير التقني (أنفقت إسرائيل على نشاط البحث والتطوير، في سنة 2011، 77, 4 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي، مقابل 84، 2 في المئة للولايات المتحدة، و 27، 0 في المئة لمصر). أما القفزة النوعية في مجال تطور هذه الصناعة، فقد جرت في تسعينيات القرن الماضي، بفضل تضافر ثلاثة أحداث تاريخية عزز بعضها بعضاً، وهي: ثورة الاتصالات الإلكترونية التي حدثت متزامنة مع حركة العولمة الاقتصادية؛ تدفق هجرة الروس التي شكلت في غضون ست سنوات (1990-1996) زيادة 20 في المئة في السكان، كما جسدت تحسناً في رأس المال البشري لأن وضع المهاجرين التعليمي كان متفوقاً على وضع سكان إسرائيل التعليمي؛ ما سُمي العملية السلمية في الشرق الأوسط التي انطلقت من مؤتمر مدريد في سنة 1991 وحققت لإسرائيل مكاسب اقتصادية هائلة.
وينهي المؤلفان هذا الفصل بالإشارة إلى البرامج البحثية التي توصلت إليها إسرائيل مع دول أخرى؛ فيذكران أن "مركز البحث والتطوير الصناعي الإسرائيلي"، بصفته الهيئة الحكومية المسؤولة عن عقد وتنفيذ اتفاقيات ثنائية مع الدول الأخرى في مجال البحث والتطوير الصناعي، عقد حتى اليوم 29 اتفاقية ثنائية، من أهمها الاتفاقيات الموقعة مع الولايات المتحدة. فالدور المحوري الذي صارت تلعبه صناعة التقنية العالية في الاقتصاد الإسرائيلي ما كان ليتحقق من دون الدعم الأميركي الذي ساهم بشكل فاعل ليس فقط في تمويل نشاط عمليات البحث والتطوير، بل عبر توظيف المعارف التقنية الأميركية أيضاً في خدمة التقدم التقني الإسرائيلي، وبخاصة في مجال الأسلحة، التي تعد إسرائيل واحدة من أول عشر دول في صناعتها في العالم، وما بين الرابعة والسادسة في حجم تصدير السلاح (بلغ حجم صادرات الأسلحة الإسرائيلية، في سنة 2012، 7 مليارات دولار).
يعالج المؤلفان في الفصل الرابع "طبيعة وحجم وفروع صناعة التقنية العالية في إسرائيل"، فيشيران إلى أن هذه الصناعة تتألف من فروع ثلاثة هي: الصناعة الحربية؛ صناعة الأمن الوطني والمراقبة؛ الصناعة المدنية.
كانت الصناعة الحربية هي الصناعة التي ولدت من رحمها، وبإشراف المؤسسة العسكرية، أولى التقنيات الجديدة. فأول كومبيوتر استُعمل في إسرائيل كان ذلك الذي بُني في "مركز الحوسبة وأنظمة المعلومات" الذي أسسه الجيش الإسرائيلي في نهاية خمسينيات القرن الماضي. وبعد أن انتشر استعماله في مختلف مجالات الصناعة الحربية، انتقل بالتدريج إلى المجالات الاقتصادية المدنية. وشكلت "الوحدة 8200" في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، التي تقوم بتجميع المعلومات وتحليلها وإرسالها إلى الجهات المعنية في قيادة الجيش أو مؤسسات الاستخبارات، مركز التقدم التقني في كل ما له علاقة بالاتصالات والمعلومات. وتتكون صناعة الأسلحة في إسرائيل من نحو 150 شركة، منها ثلاث شركات يصنفها معهد "ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" ضمن أول 100 شركة لإنتاج السلاح في العالم.
أما صناعة الأمن الوطني والمراقبة، التي تتركز على ضمان أمن الحدود والبنى التحتية والاتصالات والبيانات والسيبرانية، وعلى مواجهة الإرهاب والمتفجرات والقضايا الكيمياوية والإشعاعية والنووية والبيولوجية،، فقد طمحت إسرائيل إلى أن تكون "عاصمة" هذه الصناعة على مستوى العالم، وبخاصة بعد وقوع الهجوم الإرهابي في 11 أيلول/ سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، وذلك من خلال "بيع التجربة الإسرائيلية في مكافحة الإرهاب". ويشير سجل الصناعات الإسرائيلية إلى وجود نحو 600 شركة في هذه الصناعة، منها 21 شركة مسجلة في سوق الأوراق المالية "ناسداك"، كما يشير معهد إسرائيل للتصدير والتعاون الدولي إلى أن 352 شركة من هذه الشركات تقوم بتصدير سلع وخدمات إلى الأسواق العالمية.
وتتكون صناعة التقنية العالية الخاصة بالاستعمال المدني من ثلاثة مكونات رئيسية هي: قطاع تقنية المعلومات والاتصالات؛ قطاع علوم الحياة، الذي يتألف من قطاع الطبابة وقطاع التقنيات الحيوية وقطاع الصيدلة؛ قطاع الزراعة، الذي يعتمد على تراث أكثر من 100 عام، ويحتل اليوم مكاناً رائداً على مستوى العالم.
وتولي إسرائيل اهتماماً كبيراً لموضوع "الملكية الفكرية"، وذلك من أجل خلق البيئة المشجعة على الاستثمار، سواء برأس مال إسرائيلي أو أجنبي. ويشرف على هذا الموضوع "مكتب براءة الاختراع"، وتتم حماية الملكية الفكرية عبر قوانين خاصة مثل قانون "البراءات والتصاميم". وفي مطلع سنة 2014، نشرت مؤسسة بلومبرغ الإعلامية دراسة تناولت نشاط 200 دولة في مجالات الابتكار، واحتلت إسرائيل في هذه الدراسة المرتبة 28 بالنسبة إلى براءات الاختراع.
جاء الفصل الخامس بعنوان: "تأثير صناعة التقنية العالية في مجمل الأوضاع في إسرائيل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً"؛ وفيه يذكر المؤلفان أن تحول الاقتصاد الإسرائيلي إلى اقتصاد يعتمد نموه في الدرجة الأولى على صناعات التقنية العالية، قد صاحبه وتفاعل معه حدوث تغيير جذري في بنية الاقتصاد شمل مجالات الحياة المدينية كلها. ويتوقف الباحثان، في هذه الصدد، عند الظاهرات الثلاث التالية: أولا: تكريس أهمية تكتلات صناعة التقنية الحديثة التي شكلت ظاهرة "وادي السيليكون" في إسرائيل، الشبيه بوادي السيليكون في كاليفورنيا؛ ثانياً: إعادة هيكلة البنى التحتية في إسرائيل، من خلال إقامة "شارع عابر إسرائيل" الذي يمتد من حدود لبنان إلى مدينة بئر السبع وسيصل طوله إلى 300 كم ومن المؤمل أن يكون بمثابة العمود الفقري للشرق الأوسط في عهد السلام، وتوسيع مطار اللد وإعادة هيكلته، وإعادة هيكلة مدينة تل أبيب كمركز عالمي لصناعة التقنية العالية، يعتمد على ناطحات السحاب والأحياء المسورة؛ ثالثاً: تنامي الاستقطاب الاجتماعي-الاقتصادي في ظل النظام النيوليبرالي، وتراجع دولة الرفاه وطغيان الخصخصة وتوسع مساحات الفقر، وبخاصة بين العائلات العربية التي يعيش أكثر من نصفها تحت خط الفقر، وبين المجموعات الدينية اليهودية الأورثوذكسية.
في الفصل السادس والأخير: "دور صناعة التقنية العالية الإسرائيلية في المحيطين الإقليمي والعالمي"، يتناول المؤلفان الإنجازات التي حققتها إسرائيل على طريق اندماجها في الأسواق العالمية متبوئة مكانة "دولة مركز"، وبخاصة بعد صعود شركات إسرائيلية إلى مرتبة الشركات المتعددة الجنسية، مثل شركة "تيفا" التي تحتل مكانة رائدة على مستوى العالم في صناعة الأدوية والأجهزة الطبية، وتنامي صادرات إسرائيل الصناعية، ولا سيما من منتوجات صناعة الأسلحة ذات التقنية العالية، وتعزز علاقات إسرائيل الاقتصادية مع البلاد الآسيوية، وخصوصاً الهند والصين.
أما على الصعيد الإقليمي، فيرى المؤلفان أن إسرائيل سعت إلى توظيف صناعتها ذات التقنية العالية في خدمة استراتيجية عملت، منذ بدأت عملية السلام في سنة 1991، وبدعم أميركي، كي تقود أوضاع السلام وأوضاع التطبيع مع إسرائيل في سياق تكريس دور الاقتصاد الإسرائيلي كمركز، والاقتصادات العربية كأطراف. ولتزكية هذه الفكرة، يتوقف المؤلفان أمام ثلاث علاقات: علاقة إسرائيل الاقتصادية بالفلسطينيين حاملي الجنسية الإسرائيلية؛ علاقة إسرائيل الاقتصادية بفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة منذ الاحتلال في سنة 1967؛ علاقة إسرائيل بمصر والأردن بعد توقيع معاهدَتي كامب ديفيد (1979) ووادي عربة (1994).