تهدف رواية «بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات» للكاتب المغربي محمد برادة إلى مُساءلة التاريخ المغربي الحديث، والحفر في الدوافع الخفية والأسباب التي بدّلت ملامح أوجه الحقب المتعاقبة خلاله. ولفهم فلسفة وملابسات التاريخ المغربي، في فترتي ما قبل وما بعد الاستقلال، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أي بدءاً من حدود عام 1947، وحتى العقد الأول من الألفية الثالثة، تنطلق الرواية من ثلاثة أسئلة محورية لإنجاز مهمتها: «الأول: ماذا تعني – لك – مقاومة الاستعمار وما الذي كنت تنتظره من الاستقلال؟ الثاني: كيف ترى أن الأزمة تعبّر عن نفسها الآن من خلال الواقع اليومي؟ الثالث: هل نتوفر على الشروط الضرورية للانخراط في الألفية الثالثة؟».
تناقش الرواية قضايا اجتماعية معاصرة يعيشها المغرب، كالبطالة والأزمات السياسية والهوية الثقافية، حيث تشير إلى أثر التحولات الكبرى على هوية المجتمع، ويحضر التاريخ في هذه الرواية «بقدر ما هو صيغة حياتية محتملة لمرحلة ضاعت معالمها في غضون الأحداث الكبرى». تنشغل الرواية في البدء بعرض أسلوب سردها، وطريقة تقديم مادتها وتوثيق أحداثها التاريخية، التي وإن كانت مستلة من واقعٍ مضى، إلا أنها ستعمل على إنتاج تاريخ تخييلي، تاريخ آخر، لا يذعن لسلطة الوقائع، في شكل سردي جديد، يتمثل تقنيات ما وراء الرواية التي تنبع من مقولات ما بعد الحداثة. فيضيء كاتب الرواية المُؤطّرة، أو الداخلية، الطريق أمام قارئ عمله، يُبيّن حدود عالمه الروائي ويُعرّف بشخصياته الأساسية.
أربعة مستويات للسرد
تنقسم الرواية إلى أربعة مستويات حكائية، يتخذ كل منها شخصية مستقلة تصاغ أحداثه حولها:
المستوى الأول: على لسان مؤلف الرواية الداخلية، وهو شاب اسمه الراجي، ولد عام 1975، حاز شهادة في التاريخ، وأقعدته البطالة بلا عمل، لكنه بعد ذلك عمل مساعداً للأستاذ الرحماني، المؤرخ الذي يحاول إنجاز دراسة كبيرة عن تاريخ المغرب قبل وبعد الاستقلال، وقد كلفه باستطلاع الآراء عن تلك الفترة، وتسجيل الوقائع مما يتذكره الأشخاص الذين عايشوها. من خلال عمله هذا واختلاطه بطبقة خاصة من المجتمع، تولدت لديه فكرة كتابة رواية تتمثل فيها أحداث تلك الفترة، تخييلياً وليس تسجيلياً، حيث استوحى محكيات روايته من لقاءاته وإجابات من التقاهم على أسئلة المؤرخ الرحماني.
يقوم الراجي بمهمة تأطير الرواية الداخلية التي ستمتد على مدار المستويات الثلاثة التالية، بالتقديم لكل مستوى منها والتعقيب عليه، وإيراد ملاحظات وإيضاحات حولها، لكن ملاحظاته تفوق بطبيعة الحال مستوى الكاتب الشاب في تجربته الأولى، لتصل إلى تخوم خبرة الناقد العالم بأسرار هذا الفن وخفاياه، لكنها في نهاية الأمر تكون بالنسبة له بمثابة مهرب من جحيم الواقع وأغلاله، إلى حرية التخييل وفضاءاته الرحبة.
المستوى الثاني: على لسان إحدى الشخصيات الثلاث التي اختارها المؤلف الشاب لبناء روايته، وهو توفيق الصادقي، المولود عام 1931، ويصفه بالمخضرم الطموح، وهو نجل القايد الصادقي في منطقة زعير، يتحمل مسؤولية العائلة بعد وفاة والده، فيعمل موظفاً في مصلحة الضرائب ثم محامياً. توثق ذاكرته اللحظات السياسية المهمة في حياة المغرب، ويسجل خيبة أمله في مرحلة ما بعد الاستقلال، فيقول: «كنت أعلق أملاً على الاستقلال في أن يجعلني أستفيد من الجهود التي بذلتها في الدراسة وإعالة الأسرة، وإذا به يضعني أمام متاهات مُضيّعة، ويطرح عليّ أسئلة معقدة لم آلفها. بعد الاطمئنان والوثوق بالنفس على امتداد ثلاثين سنة من حياتي، أجدني مقذوفاً في وطيس ملتهب من الصراعات والطرق المتشابكة». يعيش الصادقي صدمة التحولات التي مرت على بلده في ذهول وسكات، فلم يعد يعثر بعد الاستقلال «سوى على أحداث دامية مكفهرة». بدا له «كما لو أن أزمنة الرصاص تغير جلدها»، وعندما يسرد أحداثاً كان لها وقع كبير في حينها، يرى أن ثمة «شيئا ما مُطفأ في العيون والوجوه ومعجم الكلمات»، وفي ذلك تمثيل لخيبة الأمل الشاسعة التي تلت عقود ما بعد الاستقلال، وضياع الأمل بدولة الأحلام.
يُرجع توفيق الصادقي أسباب الانتكاسة السياسية الكبيرة إلى ذلك الصراع القائم بين النظام الملكي وأتباعه المتخمين من جهة، وبين الثوريين وقوى المعارضة من جهة أخرى، وهو برأيه ما أدى إلى تدهور الأوضاع في البلد.
المستوى الثالث: على لسان المحامي فالح الحمزاوي، وهو من مواليد عام 1956، يعيد سرد ذكرياته أو رؤيته الخاصة عن أزمنة الرصاص، ويتطرق خلالها إلى دور أحزاب المعارضة في الحياة السياسية المغربية، ومن ثم مشاركتها في حكومة غير متجانسة، والتحولات التي طرأت على طبيعة النظام الحاكم أواخر القرن الماضي ومطلع هذا القرن، وحتى صعود التيارات السياسية الدينية في انتخابات عام 2011.
المستوى الرابع: على لسان نبيهة سمعان، ولدت عام 1956، وهي «طبيبة نفسانية عزباء وجريئة» كما تعرف بنفسها، أسست صالوناً فكرياً اجتماعياً. تطرح الطبيبة قضايا فكرية واجتماعية وإنسانية ملحّة، وتقوم بتحليلها سردياً، أو حوارياً من خلال صالونها، مثل موضوعات: الهوية الفردية والتقاليد الموروثة وحقوق المرأة ووضعها في المجتمع، إضافة إلى قضايا النسوية الأخرى، مثل سعي الرجل إلى تشييء المرأة وتسليعها، فضلاً عن قضايا السياسة والحكم وإشكالياتهما، كما أنها بحكم اختصاصها تسلط الضوء على جوانب ومشكلات نفسية أخذت تنتشر وتؤثر على تركيبة شخصية الفرد ومن ثم على بنية المجتمع.
النسق اليساري المضمر
هذه المستويات الحكائية تلتقي، إذن، في مصب واحد هو تلك الحقبة التاريخية المفصلية والملتبسة في عيون من عاشوها وعايشوا أحداثها، كما أنها تكشف كثيراً من خبايا المجتمع المغربي، خصوصاً لدى الطبقة الوسطى والبرجوازية المثقفة منه، التي تلقت تعليمها في فرنسا على الأغلب، والتي تنحو نحو التحرر والانفلات من القيود الاجتماعية ومجاراة ظروف العصر، حيث تكاد تنحصر شخصيات الرواية في هذه الطبقة من المجتمع، ولا تتعداها إلى الطبقات المسحوقة والفقيرة والمهمشة، لتبقى – هذه الطبقات – بلا صوت، حتى في الرواية، كما يراد لها أن تكون في الواقع. فلا يأتي ذكرها الا عابراً، خصوصاً بتوجيه الانتقاد لبعض تقاليدها وممارساتها وطقوسها، على ألسنة الشخصيات الأساسية، وليس من خلال تمثيل واقعها. كما أنها تتغافل عن تمثيل واقع الطبقة الأرستقراطية الحاكمة أو المتسيدة في المجتمع، التي ربما كان ضرورياً تمثيلها، بوصفها طرفاً في الصراع؛ لإشباع الرؤية المسلّطة على الفترة التاريخية التي جسّدتها الرواية، وإبرازها من زوايا ووجهات نظر مختلفة أو متضادّة. ورغم ادعاء المؤلف الراجي أن روايته جمعت أنماطاً بشريةً متباينةً، إلا أن واقع شخصياته يقول إنها تكاد تعيش نمطاً حياتياً واحداً أو متقارباً، وتجمعها طبقة ثقافية واجتماعية واحدة، حتى أنها كانت تلتقي في صالون حواري واحد؛ وذلك بتحريض من الميول اليسارية المضمرة في ما وراء متنها الحكائي، بحسب ما نرى.
فضح السلطة وتعريتها
تحرص الرواية على أن تمنح قارئها فهماً عن طبيعة التشكّل السياسي الحديث في المغرب، يضاء من خلال الأحداث التي تسردها الشخصيات المختارة، وشهادات التخييل التاريخي التي ترد على ألسنتها، كما أنها تقوم بفضح سلطة المخزن وتعرية ديكتاتوريتها وتعسفها وطبيعتها المستغلة والمخادعة: وهي سلطة الملك والكتلة الحاكمة في الحاشية الملكية والمستفيدين من وجودها، كالإقطاعيين والزعماء العشائريين والقادة العسكريين والمديرين الأمنيين وغيرهم. تقول الرواية: «المخزن يشبه قطاً بسبع أرواح… لعنة المغرب هي المخزن الذي يتلبّس أزياء متعددة ليستديم الامتيازات والسلطة المطلقة والتقاليد الماضوية…». كما أنها تعمل على تمثيل مدى التناقض الذي وصلت إليه أحزاب المعارضة، بين الشعارات التي ترفعها والواقع الذي تعيشه.
مَحوَرَة السرد على الشخصيات:
اعتمدت مستويات الحكي، كما اتضح، على بناء الشخصيات، ومَحوَرَة الأحداث حولها، ولم تتكئ على البناء الزماني، كما هو في كثير من الروايات متعددة المستويات، في حين نجد أزمان هذه الشخصيات مشتركة غالباً، تتقاطع وتلتقي في مواضع عديدة. وعلى امتداد هذه المستويات المتعاقبة تحافظ الرواية على جودة سبكها وتوازن بنائها، وتمتاز بلغتها العميقة والثرية، وهي تستعير شيئاً كثيراً من قاموس الناقد لتنير خصائص بنيتها، إضافة إلى نجاحها في تمثّل واقع شخصياتها والتحدث بما يقتضيه من مفردات. كما أنها تقدم درساً عملياً قيماً في بناء الرواية الجديدة، وما وراء الرواية، وتقنيات تأثيث فضاءاتها الحكائية بسلاسة وانسجام، وإدخال مرويات حياتية عادية، ضرورية لاكتمال الصورة التخييلية في الرواية: فمن التخييل داخل التخييل، إلى كسر مبدأ الإيهام بواقعية الحكي، إلى تعدد الأصوات، إلى توظيف اللغة الدارجة، إلى استثمار بعض العلوم وكذلك الفنون المجاورة الشفاهية والمقروءة، إلى غير ذلك مما زخرت به الرواية.
(*) محمد برادة: «بعيداً من الضوضاء.. قريباً من السكات»، دار الآداب، بيروت 2014، 248 صفحة.