رافق الكاتب الفلسطيني محمد عثمان مسيرة زميله محمد شاويش وتابع تحولاته الفكرية وتغير مساراته في زمن العاصفة، ويقدم هنا تحليلا موسعا لمشروع شاويش واستقصاءاته الفكرية.

مآلات المثقف العربي في زمن العاصفة

محمد شاويش في كتابين جديدين

محمد عثمان

لن يرضى الصديق محمد شاويش على الأغلب إن قرأ ما عنونت به مقالي هذا عن كتابيه الجديدين الصادرين حديثاً في دمشق: (نحو ثقافة تأصيلية-البيان التأصيلي) دار نينوى، و(مالك بن نبي والوضع الراهن) دار الفكر، إذ هو منذ عرفته في نهاية السبعينات يتشكك في مفهوم "مثقف" ولا يني يتساءل عن الدور الحقيقي لـ "الثقافة" بمفهومها السائد عربياً، وبالذات في سوريا، أما في السنوات الخمس عشرة الأخيرة فكان كثيراً ما يعد كلمة "مثقف" شتيمة لأنها تقترن عنده بكلمة أخرى هي "الحداثة"، ذلك أن المألوف في عصرنا أن لا يُقَر لأي مطلع كبير على كتب التراث بأنه "مثقف" إن لم يكن مطلعاً على الثقافة الغربية. فمن غير المألوف أن تصف حتى شيخا ً "مستنيراً" مثل محمد الغزالي بأنه "مثقف"، وستجد كثيراً من "المثقفين" (بالمعنى المعترف به!) يستهجنون فعلك إن فعلت ذلك!، وبسبب هذا الاقتران رأى محمد شاويش، لا سيما في مرحلة الكتابات "التأصيلية"، أو ربما "التأصيلية الصرفة"، أن كلمة "مثقف" صارت تعني ذلك النصير المتعصب للثقافة الغربية الداعي للقضاء على الهوية الثقافية العربية المتميزة، بل ذلك الخصم للمجتمع الأهلي، والمحتقر له بناء على حبه لما يسميه "المرجع الاستلابي الغربي". 

لكني أستعمل كلمة "مثقف" بمعنى محدد: إنه ذلك المنشغل بقضايا تخص الوعي، أكان وعياً أيديولوجياً (يتضمن ذلك الوعي السياسي) أم فنياً (وهو المجال الذي اسمه الشائع "الجمال") أم فلسفياً. وعلى هذا فهو المهتم بمسائل تخص الجماعة وتؤثر على حركتها بما هي جماعة، ومن هنا يشغل المثقف موقعه المميز والمهم، وهو الذي يجعله موضعاً لمحاولات القوى السياسية رشوته أو تخويفه. هو "شغّيل في ميدان الثقافة" أو "شغّيل ثقافي" ولعل هذا اللقب الأخير هو الأحب إلى قلبي لأنه يذكرني بزمن الفتوة الثورية يوم كنا نناصر الشغيلة، ونعوّل عليهم (بعضنا كان يحبهم حباً أفلاطونياً إذ لم يكن منهم بالمعنى الكامل)، حتى لقد بنى بعض ناشطي اليسار الجديد المتحمسين، وأغلبهم كانوا من الطلاب، تنظيمات اسمها "رابطة الشغيلة" (في لبنان) و "اتحاد الشغيلة" (في سوريا) وهذا في منتصف السبعينات. 

كان أمراً ساراً جداً لي وصول كتابين جديدين صدرا في وقت واحد (النصف الأول من عام 2007) للصديق محمد شاويش، الكاتب الفلسطيني المقيم منذ مطلع التسعينات في برلين، وسأتكلم في فقرة لاحقة عن تاريخ كتابة الكتابين. ومحمد بالنسبة لي لم يكن كاتباً عادياً أتابع ما ينشره في بعض الجرائد، بل كان دوماً يمثل لي حالة مهمة من الحالات التي تشخص تطورات المثقف العربي الذي لا يستطيع أن يدفع عنه هاجس الالتزام بالقضايا المصيرية، مع كل تنقلاته الفكرية التي تبدو للناظر المتعجل تنقلات بين معسكرات فكرية متناقضة، إذ حيثما تغيرت منطلقاته تجده "ملتزماً" بالمجتمع لم يحد عن هذا الالتزام قط في اتجاهات فردية مألوفة عند كثيرين غيره ممن بدؤوا ملتزمين وانتهوا فرديين متطرفين. 

فقد بدأ حياته الفكرية نصيراً متحمساً للحداثة والعلمنة الجذرية للمجتمع والسياسة، ثم انتقل (مع انتقاله للعيش في الغرب، وهذا ما قد يبدو مفارقة للوهلة الأولى) إلى موقع سماه "التأصيلية" وهو موقع المدافع بلا قيد ولا شرط عن التركيبة الاجتماعية والفكرية العربية "السائدة" (التي يميزها عن نقيضتها "المسيطرة"،  "السائدة" هي التركيبة الأهلية بينما "المسيطرة" هي التركيبة الحاكمة المتسلطة على المجتمع)، وأخيراً اعتباراً من عام 2001 انتقل إلى موقع جديد هو موقع الدعوة إلى تغيير ما يدعوه "السلوك الحضاري" للمجتمع العربي ليتحول إلى مجتمع قادر على إثبات وجوده في العالم والدفاع عن هذا الوجود بكفاءة: وهو موقع يختلف عن الموقع "التأصيلي" الذي ظل يكتب منطلقاً منه عشرسنوات (1992-2001)، لأنه هنا غير منشغل بالدفاع عن جدارة الهوية الحضارية العربية بالوجود ومهاجمة من يدعو إلى إزالتها واستبدالها بهوية غربية (وهي دعوى الحداثيين المتعصبين، وبعض المناضلين ومن أكثرهم وضوحاً وانسجاماً ياسين الحافظ) بل هو يدعو لتغيير شيء جوهري في هذه الهوية هو السلوك الاجتماعي في اتجاه مجتمع كفء في مواجهة تحديات الوجود كما قلت أعلاه، كل هذه الصيرورة الفكرية تبدو عاصفة في هذا الزمن العاصف، تغير اتجاه سيرها بحدة وقد تنقلب من النقيض إلى النقيض، ولكنها فيما أرى عند النظر الدقيق تنجلي عن خيط متين يجمع مراحلها معاً وأساس واحد تستند إليه وإن تناقضت الألوان الفاقعة التي تظهر بها. 

الكتابان ليسا هما أول كتب الصديق محمد، فقد سبقا بكتاب صدر في بيروت عام 1995 ـ دار الكنوز الأدبي ة ـ وعنوانه (حول الحب والاستلاب: دراسات في التحليل النفسي للشخصية المستلبة)، كتب محمد الجزء الأساسي من مخطوطة الكتاب المتضمنة نظريته في الاستلاب عام 1986 وشاركه في الكتابة شقيقه الدكتور حسين شاويش وهو بالمناسبة لم يكن طبيباً فقط بل هو مثقف واسع الاطلاع من ذلك الجيل السوري المتميز الذي ظهر في السبعينات وعصفت باستقراره حقبة الثمانينات التي شهدت القمع الهستيري لليسار السوري الجديد. 

انتقالات صديقي محمد الفكرية شيء يجذب اهتمام شخص مثلي كرّس جل وقته تقريباً للتأريخ للثقافة العربية في القرن العشرين، وللعاملين (أو "الشغيلة"!) في هذا الفكر و "سأستغل" في هذا المقال معرفتي الشخصية اللصيقة بهذا الكاتب لأحاول من جهة وصف المسار الفكري الذي ساره، ومن جهة أخرى تحديد الدوافع التي دفعته للسير في هذا المسار، وفي نهاية الاستعراض سيرى القارئ فيما آمل أن هذا الوصف والتحليل فيه فائدة لمن يريد مقاربة موضوع تطور الثقافة العربية المعاصرة وتحولات "الشغيلة الثقافيين" الذين صاغوها وتحملوا تبعات عملهم (أو تهربوا منها!). 

تعرفت على الكاتب الذي أنا بصدد الحديث عن كتابيه الجديدين في مرحلة مبكرة من حياته وحياتي، فقد عرف بيننا آنذاك بنظرياته الخاصة عن "الحب" واقترانه بظاهرة وجود الجمال. وكنا مجموعة من الأنصار المتحمسين لتوجه يساري جديد قطع العلاقة مع الفكر الماركسي في نسخته السوفييتية ومع الأحزاب الشيوعية التي تبنت هذا الفكر، وتوجه للاقتباس من مدارس فكرية أخرى منها الثوري العالم ثالثي (ماو وكاسترو وجيفارا وهوشي منه) ومنها الفكري الغربي (الفكر التروتسكي وبعض مجددي الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية وبعض فكر اليسار الجديد الذي رافق انتفاضات 1968 في فرنسا وأوروبا الغربية) وكانت العودة إلى لينين ونبذ "التحريف الستاليني" من سمات هذا اليسار، غير أن محمد بالذات كان من قلة قرأت أيضاً فرويد وفكرت في دمج التحليل النفسي مع التحليل الطبقي الماركسي، ولكن هذا التطور أتى بعد عام 1980 على حين كتب مقالاته الأولى عن التفسير النفسي ـ الطبقي لعاطفة الحب والشعور الجمالي في وقت مبكر يعود لعام 1977. وفي ذلك الوقت لم يكن محمد قرأ فرويد (الذي ستنتشر كتبه في سوريا اعتباراً من عام 1980 مترجمة بيد جورج طرابيشي وصدرت عن "دار الطليعة" بيروت). 

هذا اليسار السوري الجديد كان من ميزاته انعدام التفريق القطري أو القومي (إن جاز التعبير)، فقد كنت تجد في صفوفه بلا تمييز الفلسطيني والسوري، العربي والكردي، ومن البديهي أنك كنت تجد أيضاً في صفوفه أناساً من شتى المحافظات السورية بلا تمييز طائفي (حتى ولو قيل إن الذين جاؤوا من "الأقليات الطائفية" كانوا يشكلون في هذا الاتجاه نسبة تزيد عن نسبتهم من السكان)، وفي هذا الاندماج تميز هذا اليسار عن كل من الأحزاب الكردية ومنظمات المقاومة الفلسطينية والأحزاب الشيوعية أيضاً، فكل هذه التنظيمات كانت ممن يحرص على "تمييز المهام"، مما يقود إلى بناء تنظيمات منفصلة على أساس هذه الخطوط الإقليمية والقومية. 

اشتهر محمد بنظرية كانت تثير استغراب بعضنا، فقد كان مما يثير العجب أن نسمعه يقول بأن الزنوج لو كانوا هم الطبقة المسيطرة لوجدت الشقراوات يصبغن شعرهن بالأسود ويجعّدنه ويحاولن تسمير لون بشرتهن بقدر ما يستطعن! وهذا استنتاج استنتجه من قوله بالترابط بين معايير الجمال الجسدية والطبقات الاجتماعية، إذ السمات الجمالية كما كان يرى ما هي إلا "السمات المميزة للطبقة الأعلى"، تماماً كما أن السمات القبيحة هي "السمات المميزة للطبقة الأدنى". وعاطفة الحب (كما تتجلى في الشعر العربي الغزلي مثلاً) ترتبط بالإعجاب بمحبوب جميل هو استنتاجاً ممثل رمزي للطبقة الأعلى، وعلى هذا فالحب هو انتقال رمزي لا شعوري للطبقة الأعلى. لقد كان هذا تجديداً جديراً بالذكر في اعتقادي في علم النفس المستفيد من التحليل الطبقي الماركسي، لكن الماركسيين الذين كانوا في سوريا آنذاك مريدين غير نقديين للمنشورات السوفييتية في ميدان علم النفس وميدان "علم الجمال الماركسي اللينيني" لم يتقبلوا هذه الآراء وتحمس لها عملياً فقط من لم يكن منا "راسخ العلم" بتلك المنشورات!. 

في نهاية السبعينات وسّع محمد نظريته ليدخل فيها مفهوم "الاستلاب" ويعد الحب ظاهرة من ظواهر عديدة يمكن تفسيرها استناداً لمقولة "الاستلاب" الذي عرّفه بأنه تبني المقهورين في المجتمع الطبقي لوجهة نظر القاهرين فيهم، وقد قسم الاستلاب إلى أربعة أنواع بحسب المقولة التي يتبناها المقهور عن نفسه هي "الاستلاب الطبقي"، و "الاستلاب العنصري" و "الاستلاب التغلبي" و "الاستلاب الأخلاقي"، وعلى الرغم من الاكتشافات القيمة المتضمنة في هذه النظرية فإن عندي إلى الآن شك في حتمية هذا التقسيم الرباعي، ولم أفهم إلى الآن لم كانت الأنواع أربعة بلا زيادة ولا نقصان!.

عام 1986 مر محمد بظروف صعبة ناتجة عن مشاكل أمنية شهدتها تلك الفترة الصعبة قادته إلى التواري، وفي الأشهر الثلاثة الأولى من اختفائه كتب الجزء الأساسي من المخطوطة التي عرض فيها نظريته الاستلاب وتطبيقات عنها، وشارك شقيقه حسين كما ذكرت في بعض فصولها، والتي لن ترى النور إلا بعد تسع سنوات عام 1995 حين نشرتها "دار الكنوز الأدبية" في بيروت والكاتبان في المنفى في ألمانيا، ولم يكن بإمكانهما التصحيح ورفضت الدار أن تنشر تصحيحاتهما لتلك الطبعة المليئة بالأخطاء. 

مع انتقال محمد إلى المنفى الأوروبي (ألمانيا) في عام 1991 تغيرت وجهة نظره كلياً، وأول ما فعله أن أعلن كفره بالنظرية المادية الجدلية (التي كان له شكوك فيها في الحقيقة منذ نهاية الثمانينات، لكنه لم يعلنها كتابة واكتفى بالحديث عنها في حواراته الشخصية مع الأصدقاء)، وعاد للإيمان بالعقيدة الإسلامية ثم أعلن أن المجتمع العربي خلافاً لما كان يعلنه في الوطن من نقد تحطيمي (لم يزل رفاقه السابقون يتبنونه) هو مجتمع مبني على أسس أكثر إنسانية من الأسس التي بنيت عليها الحضارة الغربية الحديثة، ومن هنا فإن بقاء الهوية الثقافية المتميزة لهذا المجتمع أمر جوهري ليس لذلك المجتمع فقط بل للحضارة البشرية بمجموعها. وقد اختار محمد من المقالات التي نشرها بين العامين 1992 و2001 مقالات رأى أنها مناسبة لتوضيح أبعاد "التأصيلية" ليجمعها في كتاب عنوانه (نحو ثقافة تأصيلية: البيان التأصيلي) وأرسلها إلى دار نينوى بدمشق وظن أنها لن تنشر لأنه لم يأته رد من الدار لكن الدار بعد بضعة أعوام اتصلت به فجأة لتخبره أن الكتاب نشر! وحين وجد أن الكتاب (الذي نشر بطبعة أنيقة بالاشتراك مع "الدار العربية للعلوم") لا تمكن قراءته لكثرة الأخطاء طلب من دار نينوى اعتماد نسخته الإلكترونية وقد فعلت الدار هذا وصدرت طبعة دار نينوى وحدها وهي طبعة دقيقة نادرة الأخطاء. 

من المفارقات أنه في الكتابين الأول والثاني كان تاريخ النشر متجاوزا بسنين المرحلة الفكرية التي يمر بها الكاتب! فكتاب (نحو ثقافة تأصيلية) هو من نتاج "المرحلة التأصيلية الصرفة" التي انتهت عام 2001 كما أخبرني الكاتب، ونشر عام 2007، أما كتاب (نحو الحب والاستلاب) فمقالات مخطوطة عام 1986 تشكل مفارقة مع تفكير الكاتب في عام النشر 1995 وقد ذكر ذلك في "مقدمة عام 1995" في بداية الكتاب، ومع ذلك فإن نشر هذه الكتب عمل مفيد ومبرر في تقديري لأن هذه المراحل الفكرية المتلاحقة لا تنفي بعضها، بل هي تتكامل في بعض الجوانب وتخالف بعضها في التركيز على قضايا معينة في كل مرحلة، ولعل الحالة الوحيدة التي نشر فيها كتاب يتوافق مع وجهة نظر الكاتب وقت الصدور كانت حالة الكتاب الثالث الذي صدر أيضا في منتصف عام 2007 بعنوان (مالك بن نبي والوضع الراهن)، إذ يعكس هذا الكتاب ما يدعوه محمد "التأصيلية الفاعلة" أو "ما بعد التأصيلية" واختلافها عن "التأصيلية الصرفة" ذكرته قبل قليل. 

ما يختلف بل يتناقض بين مرحلة "نحو ثقافة" ومرحلة ""حول الحب والاستلاب" هو الموقف من الدين ومن المجتمع، فقد انقلب الكاتب إلى مؤمن متدين في المرحلة الثانية، لكنه لم يتحول إلى تبني ما يسميه "الأيديولوجيا الإسلامانية" وهي الأيديولوجيا السياسية التي تمحور مطالبها حول قيام ما تسميه "دولة إسلامية"، إذ "التأصيلية" تختلف عن هذه الأيديولوجيا في نقطة مهمة وهي أن "التأصيلية" نزعة للدفاع عن التركيبة الحضارية القائمة للمجتمع، على حين تلتقي "الإسلامانية" مع الأيديولوجيات العربية الثورية الأخرى في عدم الرضا عن هذه التركيبة، والسعي الإرادي إلى تغييرها وإعادة "هندستها" وفق مخطط ذهني جاهز. ولا شك أنه في بعض النقاط هناك لقاء ولكنه ظاهري بين "التأصيلية" و "الإسلامانية"، ولكن هذه النقاط هي بالذات النقاط التي تدافع فيها الإسلامانية عن جزء قائم من البنية الاجتماعية، ولكن من منظور مختلف.

ولنأخذ مثالاً من الكتاب هو مقال "ثقافة النماذج المفروضة" (صفحة 134) فالكاتب "يدافع عن الحجاب"، إن شئنا تلخيص رأيه تلخيصاً غير كاف، لأننا لم نعرض بعد السياق الذي يجيء فيه هذا الدفاع، ولكننا حين نقرأ المقال (ومقالات أخرى لاحقة غير موجودة في الكتاب نشرت في الموضوع في صحف مثل "القدس العربي" اللندنية و "التجديد" المغربية و "المجتمع" الكويتية) سنرى وجهة نظر خاصة مختلفة، فالكاتب لا يدخل نفسه في محاججة فقهية عن حكم الحجاب (أهو واجب أم غير واجب وما إلى ذلك)، بل يدرس مسألة الزي كجزء من التركيبة الثقافية الاجتماعية، ويميز بين أنواع من زي المرأة فهناك "حالة الالتزام التلقائي البسيط بالنموذج السائد ـ الأصل" وهو الزي التقليدي للمجتمع الذي هو أيضاً "محجب" إن شئنا أن نوقع أنفسنا في مفارقة تاريخية كون هذه المقولة (حجاب ـ لا حجاب) ظهرت لاحقاً، وتتميز المرأة فيه بأنها لا يخطر على بالها أن زيها فيه شيء غريب (ليس جميلاً مثلاً)، ومن هنا هي تظل ترتديه حتى لو كانت لوحدها أو مع نساء مثلها وهي حالة أمهاتنا وجداتنا وحالة بعض البلاد التي ظلت محافظة على زيها التقليدي. 

وهناك ثانياً  حالة "النموذج السائد المخترق استلابياً" وهو حالة النساء اللواتي يحسسن بأنفسهن أنهن مجبرات على ارتداء زي "غير جميل" فهن يخلعنه حيث ذلك ممكن، و "الزي الجميل" طبعاً هو الزي الغربي، وهناك ثالثاً "الحالة العقائدية" وهي حالة الحجاب الحديث الذي ترتديه المرأة لقناعة بأنه فريضة دينية، ويلاحظ الكاتب أن هذه النسوة يعتبرن أن الزي الغربي هو الجميل فهن يرتدينه لأزواجهن وفي الحفلات غير المختلطة، مما يجعله يقرر أن هذا النموذج مخترق استلابياً خلافاً لنساء النموذج التقليدي القديم حيث كان المثل الأعلى لجمال الثياب داخلي قرره المجتمع لنفسه بنفسه، والحالة الرابعة هي حالة الانخلاع المخترق من النموذج السائد، وهو حالة النسوة اللواتي خرجن عن الزي التقليدي ولكنهن يحسسن بشعور الذنب، وهذا النموذج لو تحول هذا الزي إلى زي لكل المجتمع سيتحول إلى نموذج سائد تلقائي جديد. 

لعل القارئ يلاحظ أن المحاججة من أولها لآخرها لا تنطلق من الهم الإسلاماني المعاصر بعودة المرأة إلى ما يعدونه "الزي الإسلامي"، بل تتعلق بتحليل "سيميائي" للحجاب كعلامة من علامات "نص" متكامل إن شئنا استعارة مصطلح هو هذه الأيام "موضة"، والهم الذي يحرك التحليل هو الهم العام في الكتاب: إنه الدفاع عن "المجتمع الأهلي" تجاه من يحتقرونه ويريدون نسف بنيته وبنائها من جديد كما قلنا أعلاه.

بالمناسبة الكاتب في مقالاته اللاحقة التي نشرها بعد أن كان أعد الكتاب طور ملاحظاته هذه، فهو مثلاً يلاحظ ملاحظات طريفة منها أن الرجال أيضاً في مجتمعنا كان من المعتاد في معظم الحالات أن يغطوا رؤوسهم! وهو يرى أن قضية الحجاب ظهرت حين تبنى بعض المجتمع الزي الغربي فظهر لأول مرة الوضع التالي: وحدها المرأة تجبر بالحجاب على مخالفة الزي الغربي! وفي رأيه أن الرجال لو حافظوا على زيهم الوطني لما سهلوا مهمة اضطهاد المحجبات حين جعلوهن في وضع من يرتدي "زياً شاذاً" أو زياً مميزاً له دلالة سياسية مثلاً، فحين قضي على الزي التقليدي تحول الحجاب إلى "زي غير طبيعي" كون "الزي الطبيعي" هو الزي الأوروبي الذي التزم به الرجال كلياً وطلبوا من النساء فقط أن يخرقنه بإضافة "ناشزة" هي الحجاب، ويشبه الكاتب في مقال نشر في جريدة "بانياس" الجولانية وضع الحجاب في منظومة الثياب بوضع الخليجي مثلاً الذي يرتدي الدشداشة ويرتدي على رأسه قبعة بدلاً من الحطة والعقال!. 

يحفل كتاب (نحو ثقافة تأصيلية) بالتحليلات عن معنى التغيرات في الثقافة العربية الحديثة انطلاقاً من مقولته الأساسية التي استعارها من مرحلته الفكرية السابقة "الاستلاب"، وبعض هذه التحليلات هو بالفعل مبتكر ودقيق (انظر تحليله لرواية "قنديل أم هاشم" ومقاله عن بيرم، ومقاليه عن الموسيقى "هل تفهم في الموسيقى الكلاسيكية"و"التذوق والفهم"). والكاتب يوضح وجهة النظر التي ينطلق منها في البداية بالفصل الذي عنوانه "البيان التأصيلي"، وفي بدايته يبدأ الكاتب بذكر اقتناعه بالإسلام " في المعركة الثقافية المحتدمة في بلادنا نحن نؤمن أن الإسلام، الذي أرسله الله للناس كافة،هو الخيمة الأخيرة التي ستلجأ إليها الأمة العربية إذا أرادت أن تأخذ مكانها العزيز ولا تندثر بل هو الخيمة الأخيرة للبشرية جمعاء التي تسير، بفرعنة لا مثيل لها،نحو الهاوية، فقد صنمت القوة المادية (وخادمها المطيع : العلم الطبيعي)،ورأت أنها بامتلاك هذه القوة المجردة من الروح ستتحول إلى إله وهيهات فالإله واحد وما البشر إلا عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله فلا يجب أن نعبد القوة أو العلم بل يجب أن نأخذ من القوة والعلم ما يخدم الإنسان إذ الإنسان هو الهدف وكما في القول المنسوب إلى عيسى عليه السلام: "ماذا يفيد الإنسان إذا ربح العالم وخسر نفسه ؟ " (نحو ثقافة.."- ص20). 

وهو نص لا يخبرنا بوضوح عن اهتمام الكاتب ومنظوره للهوية: هل الهوية التي يدافع عنها هي الهوية الإسلامية؟ أم هي الهوية العربية؟ أم هو ينطلق في طموحه إلى البعد الأممي فيدافع عن بديل عالمي مقترح؟ ولكنه بعد قليل في النص نفسه يقدم تصوراً مركباً للقضية التي يدافع عنها الكتاب وهي قضية حماية التمايز في الهوية الثقافية فيقول إن الطريق إلى المطلق يجب أن يمر بالنسبي، ويضرب باللغة مثلاً فأنت لا تستطيع أن تتكلم عن ما هو عام في اللغات قبل أن تدرس كل لغة على حدة، وبالمثل لا يمكنك أن تعرف ما هو مشترك بين البشر قبل أن تدرس ثقافاتهم منفردة، وكل تعميم لا ينطلق من هذه المعرفة التفصيلية سيؤول بمطلقه إلى العنصرية إذ هو سينطلق من الادعاء صراحة أو بصورة مضمرة، شعورياً أو لاشعورياً، أن لغته هي المعيار والمطلق وما عداها خطأ أو شذوذ، فالاعتراف بالتنوع أولاً هو شرط البحث لاحقاً عن ما هو مشترك وإنساني عام، والنظرة النسبية هي الطريق الوحيد الصحيح للوصول لاحقاً إلى إنسانية عامة، أما الادعاءات الإنسانوية التي تقفز إلى مقولة "الثقافة الإنسانية المشتركة" قبل الاعتراف بالفروق المميزة فهي عنصرية إن كانت الثقافة العامة هي ثقافة الإنسانوي أو عنصرية معكوسة مازوشية إن كانت الثقافة التي منحت صفة الإنسانية هي ثقافة الآخر، وهذا على رأي محمد حال الثقافة السورية الحديثة كما نرى في المقال الذي خصصه للاستلاب في هذه الثقافة في الكتاب، وفي هذا الرأي عمق لا يخفى وتجب الإشادة به، ويبقى أنني أشك في أن الكاتب نفسه عمل به إذ هو بدأ النص بالنقد اللاذع لإحدى ثقافات العالم التي هي الثقافة الغربية! بل إنني أعتقد أن "التوجه التأصيلي" للكاتب يعود في واحد من أسبابه على الأقل لرد فعل على تجربته في مجتمع غربي التي جعلته يفضل رؤية مجتمعه الأصلي للعالم على الرؤية الغربية، وهذا ما جعله يتماهى عملياً ولو في طريق معاكس مع تجربة محمد أسد، وهو يستشهد في مقال من "مقالات الكتاب "على هامش كتاب محمد أسد "الإسلام على مفترق طرق". "بقول محمد أسد": لقد رأيت نظاماً اجتماعياً ونظرة إلى الحياة تختلف اختلافاً أساسياً عما هي عليه الحال في أوروبة. ومنذ البداءة الأولى نشأ في نفسي ميل إلى إدراك للحياة أكثر هدوءاً - أو إذا شئت - أكثر إنسانية، إذا قيست تلك الحياة بطريقة الحياة الآلية العجلى في أوروبة. ثم قادني هذا الميل إلى النظر في أسباب هذا الاختلاف. وهكذا أصبحت شديد الاهتمام بتعاليم الإسلام الدينية (ص180). 

في المقال "عن الهوية" يحاول الكاتب أن يحدد ماهية الهوية التي هو بصدد الدفاع عنها: إنها "الهوية العربية، ولها مكونان: اللغة العربية والإسلام، وهو هنا ليس العقيدة بل التجربة التاريخية التي بناها الإسلام وشارك فيها كل المنضوين تحت لواءها من مسلمين وغير مسلمين والإسلام إذن هو السلك الناظم للتاريخ العربي وهو نفسه، في الجزء الذي تركه الشرع للاجتهاد البشري،وهو جزء كبير جدا، نتاج لهذا التاريخ، و هذا الجزء بالذات، المتضمن للتجربة التاريخية الجماعية لشعبنا، هو الذي يبرر لنا أن نعد مثلا المسيحية الشرقية جزءا لا يتجزأ من الهوية الإسلامية العربية إذ أنها جزء من الكل الثقافي المتكامل الذي ميز تجربتنا الحضارية و ما ينطبق على المسيحية الشرقية ينطبق على الطوائف الأخرى التي تكاملت تجربتها التاريخية و تداخلت تداخلا لا ينفصم مع التجربة الحضارية للأكثرية الإسلامية السنية". 

مقالات كتاب "نحو ثقافة تأصيلية- البيان التأصيلي" تنحو منحيين في مسعاها للدفاع عن تميز الهوية: منحى سالب ومنحى موجب، المنحى السالب يتولى نقد استلاب الثقافة العربية المعاصرة، كما نرى مثلاً في مقاله "مسلمات استشراقية في الثقافة العربية المعاصرة" وهو مقال كان من جملة ما أثمرته قراءة طويلة للكاتب امتدت سنين في النصوص المؤسسة للثقافة العربية الحديثة، وفي هذا المقال يكشف لنا الكاتب معلومات لا يعرفها معظم القراء في اعتقادي عن تلقي المثقفين العرب المؤسسين لهذه الثقافة للمقولات العنصرية الغربية عن الثقافة العربية وتطبيقها بلا نقد على ثقافتهم! ومن المدهش أن تقرأ النصوص التي أوردها الكاتب لكتاب كبار من نوع العقاد والمازني وأحمد أمين وغيرهم، فقد تقبل هؤلاء الكتاب المزاعم عن النقص الحتمي الوراثي في "العقل السامي" مقارنة "بالعقل الآري" وعدوها من الحقائق التي لا تقبل النقاش! وكما تكلم الغرب عن "الشرق" فهم أيضاً عرفوا أنفسهم كما عرّفوا: إنهم "شرق"!، ومن مقالات هذا المنحى السالب المناقشة الطويلة لبعض تحليلات كتاب عبد الله العروي "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، ومناقشات أخرى للاستلاب في الثقافة السورية. 

أما المنحى الموجب فيحاول فيه الكاتب الحديث عن عمل بنائي يمكن للتوجه التأصيلي أن ينجزه، ونرى استعراضاً لبعض مناحي هذا العمل في مقال عنوانه "أفكار عن التأصيلية بصفتها ملهماً للبحث النظري في قطاعات محددة من "العلوم الإنسانية""، وفي مطلعه يقول الكاتب إن الانحياز الأيديولوجي المسبق يمكن أن يحرك أبحاثاً أو قطاعات بحثية كاملة في مجالات علم ـ إنسانية محددة، حتى لو قيل إن هذا الانحياز سيؤثر على موضوعية الباحث، ويضرب الكاتب لذلك مثلاً إنجازات ماركس العلمية الكبيرة في مجال دراسة الاقتصاد الرأسمالي، فهذه الإنجازات لم يكن من الممكن تصورها لو لم يكن ماركس قبل البدء بالبحث صاحب قناعات اشتراكية مسبقة، وعنده مقولات يريد أن يبرهن عليها أو يبررها، وهذه الفكرة هي من أفكار هامة كثيرة متناثرة في الكتاب، والكاتب يطبقها على الانحياز التأصيلي الذي يمكن في رأي الكاتب أن يكون ملهماً لأبحاث نظرية علم ـ إنسانية منها علوم اللغة وبالذات البحث في علاقة اللغة بالهوية، ومنها الأدب المقارن وبأبحاث التأثر والتأثير، ومنها "علم الثقافة المقارنة" وهو "العلم الذي يعنى بدراسة الأنظمة السلوكية و التقاليد وأنماط العيش وأشكالها المقننة في قوانين السلوك الاجتماعي المكتوبة وغير المكتوبة وهذا العلم يحاول أن يفسر أوجه الاختلاف بين الثقافات المختلفة والطرق التي تتأثر عبرها ببعضها"-ص198. 

ويعدد الكاتب بعض توجهاته البحثية:
1. تحليل الاستلاب وتحليل الذوق الجمالي كتجل خاص له،
2. توجهات نحو نظرية التفاهم والنظرية العامة للترجمة، ثم ينتقل للحديث عن مدى استطاعة النزعة التأصيلية تقديم حلول عملية تؤثر في الواقع، وهو في هذه الفقرة الصغيرة - ص208 - 211 يعيد تبني الفقرة التي كتبها الدكتور حسين شاويش في الكتاب المشترك "حول الحب والاستلاب" عن "العلاج السلوكي للاستلاب"، وهذه الناحية العملية في اعتقادي هي أضعف نواحي النزوع التأصيلي، وهذا لا يخص النسخة التأصيلية كما تجلت عند محمد شاويش فقط، بل كما تجلت عند غيره من كتاب ذوي أمزجة مختلفة ملتقية مع ذلك في خط واحد من أمثال عبد الوهاب المسيري وغريغوار مرشو وجلال أمين، ولهؤلاء امتداد موضوعي عند كتاب أوروبيين ومن قارات أخرى تجمعهم فكرة انتقاد السعي لمحو التنوع الثقافي في العالم (من هؤلاء مثلاً كلود ليفي شتراوس وكتاب اليسار المعادي للعنصرية المجتمعين في مجلة Race &Class اللندنية)، إذ من السهل الدفاع عن مزايا التنوع ومن الصعب مواجهة الأسئلة العملية مثل أسئلة "النمو الاقتصادي" والهيمنة الواقعية للنمط الثقافي الغربي. 

ويعد الكاتب في مقال أساسي نظرياً هو المقال عن رواية "قنديل أم هاشم" ثلاث خطوات للمثقف التأصيلي: الخطوة الأولى يكون فيها في مرحلة "الأصل" وهي مرحلة المجتمع الأهلي المنسجم مع نفسه بلا استلاب لثقافة خارجية، والمرحلة الثانية هي مرحلة "الانخلاع" وهي مرحلة الاستلاب وفيها ينبذ المثقف "ذاته الحقيقية" ويتبنى "الذات الاستلابية"، وهي حالة المثقف المستلب، أما المرحلة الثالثة فيعود المثقف للتخلص من الاستلاب ويعيد الاعتبار للذات الحقيقية وهي مرحلة "التأصيل" والكاتب يستعين ببطل رواية يحيى حقي لوصف هذه المراحل الثلاث وصفاً تحليلياً متقناً. وسنرى أن الكاتب عدل وجهة نظره "التأصيلية الصرفة"في مرحلته الثالثة التي يسميها مرحلة "التأصيل الفاعل" وعبرت عنها مقالات كثيرة ظهر بعضها في كتابه الثالث (مالك بن نبي والوضع الراهن) وبعضها في كتاب معد للصدور بعنوان (نهضات مجهضة) وهو عن المحاولات النهضوية في التاريخ المصري الحديث، ومقالات كثيرة أخرى نشرت منذ نهاية عام 2001 في مجلات وجرائد عربية. 

بعد العربدة الأمريكية وانفلات الروح العدوانية العسكرية التي جاءت بعد أحداث أيلول 2001 اختلف توجه الكاتب اختلافاً  هاماً، فبعد أن كان مهتماً بإثبات جدارة الهوية العربية الثقافية المتميزة بالبقاء، وكان يهاجم محاولات اجتثاثها أو تعديلها على النمط الغربي، وهو ما نراه في كتاب "نحو ثقافة تأصيلية" صار مهتماً على العكس بالسؤال عن التغيير المطلوب في البنية الحضارية الذي يجعل المجتمع قادراً على رد محاولات اجتثاثه من جذوره، باختصار: كيف يصبح المجتمع "غير قابل للاستعمار" ومن الطبيعي أن يخطر على باله إعادة الحوار مع مفكر كبير جل كتاباته عن هذا الموضوع، بل هو ناحت هذا التعبير الذي كان محمد أيام "التأصيلية الصرفة" يضيق به إلى حد ما: من جهة لأنه يوحي بنقد لاذع لأسس المجتمع والحال أن "التأصيلية الصرفة" كانت مغالية في الدفاع عن المجتمع القائم كما هو، ومن جهة أخرى لكثرة ما أسيء استخدام هذا التعبير من قبل أنصار الاستعمار الذين كانوا يعدونه دفاعاً عن الاستعمار) والحقيقة أن محمد ما كان يجهل أن مالك بن نبي لم يرد هذا المعنى، وهذا ما نراه في نقده للمفهوم الذي نشره أول مرة في كتاب "نحو ثقافة تأصيلية" ثم عاد إلى توسيعه لينشر في الكتاب الثالث الصادر حديثاً (مالك بن نبي والوضع الراهن). 

وبقراءته لمالك بن نبي واهتمامه بشرح أفكاره للقارئ العادي ركز محمد لا على الجانب النظري العام لبن نبي، بل على جوهر ما يراه طريقته في طرح المشكلة: إنه يطرحها كمشكلة حضارة، مشكلة تغيير في البنية الذاتية وليست الطريقة التي سادت في عصر الثورات التحررية، وهي طريقة التركيز على أمرين حصرياً: مقاومة الفعل الخارجي و دور السلطة والمستوى السياسي في التغيير. فالتغيير والحال هذه كان في ذهن الفاعل السياسي يمر بمرحلتين لا ثالث لهما: مقاومة الاستعمار حتى جلائه والظفر بالسلطة والتحكم في المستوى السياسي وعد كل فعل تغيير مطلوب فعلاً تقوم به السلطة السياسية وحدها. 

"التأصيل الفاعل"، تسمية المرحلة الفكرية الجديدة للكاتب، يتضمن تغيير الذات بحيث تصبح قادرة على مقاومة الفعل الخارجي، ولكن من ملاحظاتي الشخصية على كتابات محمد الصحفية الكثيرة منذ عام 2001 هو غيّر كثيراً في وجهة نظره "التأصيلية" كما تجلت في حالتها "النقية" بين عامي 1992 و 2001، ولذلك دخلت مصطلحات جديدة في كتاباته لا نجدها في تلك المرحلة فهو الآن يركز على "السلوك النهضوي" الذي يعد انتقال المجتمع إلى تبنيه الأمل في تخلصه من حالة "الانحطاط الحضاري"، ومقولة "الانحطاط الحضاري" كما يرى القارئ المدقق مما لم يكن يوجد في المرحلة السابقة التي تميزت أصلاً بنقد مفاهيم "التقدم" و "التطور" وبالتصدي للاعتقاد بأن "الحداثة" هي بصورة مطلقة خير من "التقليد". 

في كتاب (مالك بن نبي والوضع الراهن) مقالات أربعة أولها في "النقد المنطقي لمفهوم "القابلية للاستعمار" وتكلمت عن موضوعه قبل قليل، وثانيها وهو أطولها عنوانه "مالك بن نبي وشروط النهضة" وفيه يشرح الكاتب معظم الأفكار التي جاء بها مالك بن نبي، ثم ينتقل إلى تحديد موقع مالك بن نبي من الفكر الإسلامي المعاصر، (ومن الجدير بالذكر كما نرى في مقدمة الكتاب أن الكاتب منذ مدة اشتق مصطلح "الإسلامانية" للتعبير عما يسمى عادة "الإسلام السياسي" وهذا هو تقريباً محاولة للتفريق بين ما هو "إسلامي" أي منسوب للإسلام بمجموعه وما هو "إسلاماني" يعكس فقط وجهة نظر هذه المدرسة الفكرية السياسية). وفي هذا القسم يوضح الكاتب أن مالك لا ينتمي عملياً لهذه المدرسة لسببين رئيسيين: أولاً لأنه أصلاً لا يهتم بشكل محدد من أشكال أنظمة الحكم، فسيان عنده أن يكون الحكم جمهورياً أو ملكياً أو استبداداً مطلقاً المهم بتعبيره أن يكون الحكم "علم اجتماع مطبقاً"، لنلاحظ أن مالكاً لم يخطر له مثلاً نمط حكم الخلافة، ولم يتكلم قط عن "بناء دولة إسلامية"، ولم يخطر له على بال تكفير الدولة الحديثة أو حتى الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو من هنا لا يمت بصلة فعلاً إلى التيار الإسلاماني. 

ولا بد هنا من الإضافة أن مالكاً هو أيضاً ليس من كتاب التأصيلية الصرفة، وهذا ما يلاحظه محمد في المقال الرابع الذي يقارن فيه مالك بن نبي مع مفكر مشرقي قد يبدو للناظر السطحي نقيضاً له وهو القومي الماركسي ياسين الحافظ، والرابط بين المفكرين هو أنهما كليهما صرفا التركيز عن تغيير المستوى السياسي إلى التركيز على تغيير البنية الاجتماعية، وإن يكن الحافظ اهتم بتحديث المجتمع عبر تحديث "الإنتلجنتسيا" ومالك اهتم بتغيير البنية الاجتماعية عبر التوجيه الإرادي وعبر تغيير الروح التي ينطلق منها الفاعل النهضوي: بدلاً من التركيز على المطالبة بالحقوق يجب التركيز على القيام بالواجبات! ولا شك أن مالك بن نبي ذو نظرة أوسع وأكثر تعقيداً من النظرة التبسيطية لياسين الحافظ التي تؤول عملياً للدعوة لاستنساخ التجربة الأوروبية بكل ما فيها، ولا سيما بنسختها الفرنسية. 

في المقال الثالث عن "الأفكار عند مالك بن نبي" يشرح الكاتب نظريات مالك عن دور الأفكار ويوضح أن مالكاً اقترب في بعض الكتابات (في كتابه "مشكلة الأفكارفي العالم الإسلامي") من التأصيلية حين انتقد الازدواجية الثقافية في الجزائر بين معربين يريدون تقوية الصلة مع الأصول الإسلامية ومفرنسين يريدون قطع العلاقة مع هذه الأصول، حتى إن في الجزائر بالنسبة إليه مجتمعان متراكبان يتكلمان لغتين مختلفتين فما كان يقال في المذياع والصحافة وبعض الكتب المدرسية حين يعبر عن"الأفكار الموضوعة" للأول لم يكن له أي معنى بالنسبة للأفكار المطبوعة الخاصة بالمجتمع الآخر"، ويضرب مثلاً بالنقاش الذي صاحب إلغاء لقب "مجاهد" ليوضع بدلاً منه لقب "الجندي"، ولكن هذه الملاحظات النادرة لا تجعل مالكاً بأي شكل من الأشكال تأصيلياً، إذ لم يكن يخطر على باله أن يضع النضال للحفاظ على تمايز الهوية الثقافية مهمة أساسية له، لكن محمد على ما يظهر يرى أن مالكاً في المقابل لم يكن خصماً للتأصيل الفاعل وإن يكن يختلف بوضوح مع التأصيل الصرف، ولم أره عبّر عن هذه الفكرة التي أفترض وجودها مجرد افتراض.

في الانتقالات الكبيرة التي خطاها الكاتب في مراحله الثلاث التي قد نسميها "مرحلة نقد الاستلاب"، "مرحلة التأصيلية الصرفة" و "مرحلة التأصيل الفاعل و ما بعد التأصيل"، هل من خيط رابط يجعل هذه الانتقالات معقولة وقابلة للتفسير؟ يتأثر الفرد في تبنيه للمنظومات الفكرية التي يتبناها من جهة بالأفكار السائدة في مجتمعه، فالتوجه اليساري للكاتب الذي نحن بصدد الحديث عنه كان شائعاً في تلك الفترة، ولكن طريقة تأويل الفرد لتلك المنظومة الفكرية واستعمالها تتعلق ببنيته النفسية، ومن ملاحظاتي على محمد أنه مذ كان يافعاً كان لا يطيق ظاهرة تسلط الناس على بعضهم، وهو إحساس مرهف بالكرامة جعلته يختار الماركسية اللينينية لقولها بمجتمع يحكمه العمال جماعياً (وهو فكرة لينين في "الدولة والثورة"، وتصور الدولة البروليتارية في هذا الكتاب يتناقض كل التناقض مع الشكل الاستعبادي المعمم الذي آلت إليه الدولة السوفيتية على يد ستالين، ولذلك وصف لينين في بعض الكتابات بأنه اتجه اتجاهاً فوضوياً في هذا الكتاب)، ولعل هذا الإحساس المرهف بالكرامة هو ما جعله ينقلب إلى نصير متحمس للمجتمع العربي بعد أن واجه عياناً العنصرية الغربية تجاه العرب والإسلام في سنوات التسعينات، وواجه أيضاً السلوك الغربي البارد الذي لا يلقي بالاً للعواطف والمشاعر بخلاف السلوك العربي الموصوف بالدفء في أحد جوانبه)، والتحول الثالث باتجاه "التأصيل الفاعل" نتج عن تعاطف الكاتب مع مجتمعه إزاء الخطر الداهم الذي يهدده، وهو في المراحل الثلاث ظل نصيراً للجموع ضد اضطهاد الأقلية، وبهذا المعنى هو لم يغادر أرضية اليسار إن فهمنا "اليسار" كروح تهتم أساساً بتحقيق المساواة بين البشر وإلغاء الاضطهاد والاستغلال. 

لكن هذا التحول الذي تدخل في تفسيره عناصر معقدة لم تخرجه مع ذلك عن أن يكون ضمن خيارات قليلة العدد للمثقف العربي في هذا العصر العاصف، ذلك أن القضايا الكلية التي تطرح نفسها على هذا المثقف محدودة العدد: من جهة قضية التقليد والمعاصرة، ومن جهة أخرى قضية التغيير بين التوجه نحو الذات أو التوجه نحو مقاومة الفعل الخارجي، ومن جهة ثالثة قضية العدالة الاجتماعية والعلاقة بين الطبقات، هذه هي "اللغات الكبرى" التي لا بد للمثقف أن ينتج نصوصه وفقاً لمفرداتها وقواعدها، وإن يكن لكل حالة فردية تاريخ خاص، ولهجة خاصة أيضاً في مجال الفعل في هذا الحقل اللغوي المتشابك. 
 

ليماسول (قبرص).