وسموني زهرة، جدتي تناديني بلكنتها الأمازيغية "زهور"، وأصدقائي في المدرسة يطلقون علي اسم "زهيرة". أما أنا فأحب اسم "زهرة". أختي الكبرى هي التي سمتني هكذا. وأنا أحب أختي الكبرى سميرة.
يوم ولدت، امتلأت الدار البسيطة بالأفراح. جاءت الجارات والأخريات من كل نواحي القرية يباركن لأمي آخر العنقود المؤنث. كنت الأنشودة التي تتحلق حولها الأسرة، ولكن هذه الحظوة لم تدم طويلا؛ إذ سرعان ما حبلت أمي، وخرج إلى الوجود أخي الأصغر سعد.
وتعلقت كثيرا بسميرة أكثر من أمي. كانت جميلة؛ بشرة خمرية، وليل طويل يتموج إلى ردفيها، ورموش طويلة تحمي مقلتين سوداوين من الغزاة. نفرت مبكرة من حضن أمي لأنها كانت تضربي بقسوة، أما والدي فلم أكن أراه، إلا حين يحط النهار ترحاله، وتجتاحنا جيوش الظلمة، فيعود من الحقل.
كانت عقارب الساعة تحط رحالها عند الثانية زوالا، والشمس أقرب إلى الأرض من أي وقت مضى، حممها الحارة ترسم في الأفق قوسا ناريا وهاجا. طلبت مني سميرة مرافقتها إلى البئر القريبة من البيت للسقي. لم أكن لأتردد حين تطلب مني شيئا. ونحن ننقل أعضاءنا المفككة بالحر، بدت البئر أبعد بكثير من المعتاد.
توقفت عند شجرة التين الوارفة الظلال، بينما واصلت سميرة طريقها. راقني النسيم الخفيف المنبجس من أصابع التينة. شرعت أحفر بئرا قريبة حتى أجلب منها الماء البارد. كنت على مقربة من ذلك، الماء البارد ينبجس من بين أصابعي، وأختي على مرمى بصر مني.
اقترب مني رجل يقطر العرق من كل تفاصيله. خمنت أنه في الخمسين من عمره، كث اللحية، يقطر وميض مخيف من عينيه. التفت نحو سميرة فبدت لي منهمكة في رفع الدلو من جوف البئر. تقرفص الرجل بالقرب مني وسألني بنبرة هادئة:
- ماذا تفعلين هنا؟
أجبت بهدوء مصطنع:
- أحفر بئرا قريبة من الدار.
نظر إلي مليا ثم ابتسم ابتسامة مهذبة. بعدها قال لي:
- تعالي معي تلعبين مع أولادي الصغار.
رفعت رأسي نحوه فداهمتني أنفاسه الكريهة، واستولت علي خيفة تولدت من أسنانه المتآكلة، ندت عني صرخة، لكن كفه الثقيلة كانت أسرع من صوتي، فخنقت أنفاسي على حين غرة. صرخت ... صرخت عاليا، لكن دون جدوى. ابتعدت سميرة عن ناظري. فجأة، وجدتني في حقل القمح الشاسع وجها لوجه مع جارنا.
في البدء، حاول طمأنتي، وحين كنت أتصبب خوفا، انهال على خدي بقبضته القوية. شرع الغريب يتحسس صدري الذي لم يبزغ فجره بعد. هالتني أصابعه الخشنة، ارتعدت، صرخت، انفجر دمع حار من مقلتي، لكن هو كان ينزع ملابسي، وأنفاسه الكريهة ترسم مع رائحة عرقه العطن وطنا للخنق على مهل. قاومت بيدي الصغيرتين، كان هائجا مثل الثور.
انفرد الوحش بجسدي اللدن. بكيت، توسلت. قلت في نفسي والقلب عصفورة تتخبط في شرك الموت: "ما الذي أغراه في؟ جسد هلامي لم تتشكل خارطة تضارسيه بعد". قلت له والدموع غصة من فولاذ تخنقني:
- عمي... حرام ما تفعله ... أنت تؤلمني ... أنا صديقة ابنتك هبة.
توقف قليلا، ثم انهال علي من جديد يحاول تجريدي مما تبقى فوقي من قطع ممزقة.
كان ينضح عرقا غزيرا، فتوقف برهة يستعيد أنفاسه، لكن كفه ظلت تمنعني من طلب النجدة. قلت في نفسي: "هل ضميره يعذبه في هذه اللحظة؟
انتصب واقفا، فبدا لي فارع الطول مثل كائن خرافي يبحث عن شيء ما. فجأة، أخذ منجلا كبيرا كان رابضا على مقربة منا، أحكم قبضته عليه، فانهال على يدي... تقطعت الأوصال ففار الدم ساخنا. صرخت بكل ما أوتيت من قوة، فوجه طعنة جديدة إلى رقبتي... ألم شديد، نار، دم فائر. طعنة أخرى إلى وجهي فانفصلت الأذن اليمنى عن باقي الجسد، تهشمت الأسنان... صار الجسد كتلة لحمية هلامية... وغبت عن العالم.
كانت الأصوات تأتيني مثل همهمة في طقس بدائي. تعرج من مكان سحيق. هل عدت أخيرا من الأبدية البيضاء؟ فتحت عيني، المكان غريب، هياكل آدمية في ملابس بيضاء وخضراء، جدران باهتة. قلت في نفسي: "أين أنا؟".
هالني منظري حين لمحتني، ركام من القماش الأبيض يلفني من الأعلى إلى الأسفل. قلت في جزع:
- أين أنا؟ هل هذا كفني؟ ولم لا تتحرك أعضائي؟
صرخت بلا إرادة، فطوقتني الهياكل البيض والخضر والجلابيب. قالت الممرضة التي تعتني بي:
- الحمد على سلامتك. أنت الآن بين أيد أمينة، لا تخافي سنعتني بك. أنت في المصحة.
استطردت قائلة والألم ينز من كل ذرة في جسدي:
- أين وجهي؟ أريد أمي ... أريد سميرة. ماذا حدث لي؟
ولم أتلق جوابا. كانت فقط دمعة تقطر من خد الممرضة، ثم تلتها أمواج حارة من أعين أمي وسميرة ووالدي.
عرفت عندها أني تعرضت لتحطيم وحشي لجسدي الصغير شلوا شلوا، واغتصاب همجي من جارنا. قلت في نفسي: "ما الذي أغراه فيّ وله زوجة جميلة وثلاث بنات يكبرنني؟
أكادير 22/09/2013