يكشف التحليل الدقيق والجديد لقصيدة أمل دنقل الشهيرة للكاتبة الفلسطينية ـ وهي من فلسطينيي 48 ـ أن وقوع فلسطين تحت الاحتلال لما يقرب من ستين عاما لم يشتت رؤيتها ولا شوش بوصلتها.

سيفان سيفك صوتان صوتك

نسرين مغربي

لا يكفي ان تكون ضحية من اجل تفعيل التضامن والهاب الخيال الاعلامي.. بل يجب ان تكون ضحية تقاوم بافق انتصار.

عزمي بشارة

 

يجيب الشاعر امل دنقل على السؤال الذي وجهه اليه جهاد فاضل حول اختلاف قصيدته او قصيدة شعراء جيله عن قصيدة صلاح عبد الصبور واحمد عبد المعطي حجازي بقوله: "مختلفة في اشياء كثيرة جدا. بادئ ذي بدء ان استخدام جيل صلاح عبد الصبور للاسطورة كان مختلفا عن استخدام جيلنا. كان جيل صلاح يعتمد التراث اليوناني والتراث الاغريقي معتبرا ان الانتماء للتراث العالمي هو واجب الشاعر، بينما جيلي اعتبر ان الانتماء الى الاسطورة العربية والتراث العربي هو المهمة الاولى للشاعر".

وفعلا عند الرجوع الى القصيدة (بأل التعريف) المتميزة التي اشتهر بها الشاعر ـ "لا تصالح" ـ نلاحظ انه وظف فيها الفكرة اعلاه ، وعندما اعدت قراءتها مؤخرا استوقفني ما كتبه الشاعر في تذييل لديوانه "اقوال جديدة عن حرب البسوس"، حيث يقول: "وقد حاولت ان اجعل من كليب رمزا للمجد العربي القتيل او للارض العربية السليبة التي تريد ان تعود الى الحياة مرة اخرى، ولا نرى سبيلا لعودتها او بالاحرى لاعادتها الا بالدم .. وبالدم وحده .. لقد استحضرت الملك كليب نفسه في ساعاته الاخيرة، وادلت اليمامة التي كانت ترفض الصلح بشهادتها، وكذلك فعل المهلهل الذي قاد الحرب انتقاما له.. وقدمت شهادة جساس مع تبريراته لجريمته ثم شهادة جليلة بنت مرة الممزقة بين البطلين".

وفي تعقيب على كلام الشاعر ورد ما يلي (بين يدي نسخة الاعمال الشعرية الكاملة للشاعر امل دنقل الصادرة عن دار العودة - بيروت ومكتبة مدبولي - القاهرة ، ط 2 -1985): "والديوان بصورته الاخيرة هذه يحتوي على شهادتين او قصيدتين فقط هما: الوصايا العشر واقوال اليمامة ومراثيها، وقد كتبت قصائده ما بين (1976-1977). اما الشهادات (القصائد ) الاخرى التي تحدث عنها امل فقد ظلت تتبدل وتتغير يوما بعد آخر، رافضة الوصول الى حل يقنع الشاعر باكتمالها النهائي .. ومات امل قبل ان تكتمل شهاداته (قصائده) في ذهنه المبدع، وقبل ان يقتنع ذهنه المبدع بصيغة ابداعية اخيرة، وقبل ان ينتقم الزير لمقتل اخيه كليب، وقبل ان تضع الحروب اوزارها، لتظل الرؤيا باحثة عن حل يكتمل في الابداع، او يتحقق في الواقع".

وفي اعتقادي فان شهرة قصيدة وعبارة "لا تصالح" راجعة لكونها تختزل مرارة ما بعدها مرارة في المجتمع العربي، على خلفية معاهدات السلام المنقوصة، في الذات العربية، الامر الذي يعيد الى الذهن فكرة الجرح النرجسي الذي شخصه المفكر السوري جورج طرابيشي في كتابه (المثقفون العرب والتراث)، عند حديثه عن الرضة والنكوص في المجتمع العربي اثر هزيمة حزيران، حيث يتساءل: "لماذا كان لهزيمة 1967 وحدها، دون سائر الهزائم العربية في الحروب مع اسرائيل، وقع الرضة ومفعول الرضة؟". ويجيب على هذا السؤال ـ بين امور اخرى ـ "لان الهزيمة اللامتوقعة لم تكن مغطاة ولا قابلة للتغطية من وجهة نظر الدفاع عن التمامية النرجسية. كانت طعنة صماء للمثال الانوي العربي، ولم يكن لها صمام امان لتنفيس ضغطها الذي لا يطاق على عزة الذات القومية. فهزيمة 1948 كان يمكن تبريرها بالقاء التبعية فيها على الطبقات الحاكمة "العميلة"، و"الرجعية"، وهزيمة 1956 كان يمكن تمويهها، بل قلبها الى نصر، ما دامت اسرائيل قد شنت الحرب بتواطؤ مباشر مع اعتى دولتين استعماريتين وبمشاركة مباشرة لقوات انزالهما الجوي والبحري. فخصم كبير ارضى للنفس وابرأ للجرح النرجسي من خصم صغير".

وبطبيعة الحال فقد كتب الشاعر هذه القصيدة على خلفية معاهدة السلام الموقعة بين مصر واسرائيل، وعبر فيها عن اسباب رفضه لها. وسأحاول في هذه المقالة تناول اساليب الاقناع التي يوظفها الشاعر على لسان بطله كليب للتأثير في نفس القارئ، اضافة الى ايراد خطاطة لمبنى القصيدة كما تراءى لي. لكن قبل ذلك بودي التعقيب على عدم اتمام الشاعر لمشروعه، حيث لم يورد الا اقوال كليب (ممثل الانا المطعونة في نرجسيتها) وابنته اليمامة الرافضة للصلح، وبرأيي فان قصيدة "لا تصالح" اكثر تميزا من مراثي اليمامة، اساسا لان الشاعر وضع فيها ثقله ونَفَسه معبّرا عن صوته كرجل فقد عزته الوطنية من خلال الهزائم الحربية، والتي تلتها معاهدة سلام نكأت هذا الجرح النرجسي من جديد. فصوت كليب هو صوته، وهو محاولة منه لابراء هذا الجرح نفسيا عبر وعيه لما يدور من حوله، وتوجيه الرفض القاطع لمعاهدة سلام منقوصة رفضها الشعب المصري مثله، رغم قبول قياداته السياسية لها.

وفي اعتقادي فان هذا الرفض المصري الشعبي ـ تحديدا ـ جعله يبني هذه القصيدة على شكل المثلث/ الهرم، كبديل للهرم المصري السلطوي الحمائمي، واستبداله بهذا الهرم الشعبي الصقوري الذي يحتضن حيثيات هذا الرفض والعصيان. من هنا ورغم ان عنوان القصيدة الفرعي هو "الوصايا العشر" فان هذه الوصايا عبارة عن وصية واحدة هي "لا تصالح"، فصوت الانا/ صوت الشاعر هو صوت ذو بعد واحد من منطلق رجولته المقهورة. وقَوام القصيدة الحاد برأس المثلث المدبب هو هذا الهرم الشعبي الرافض، وهو رأس الحربة المقاوِم. فالقصيدة ـ كما يبين اسمها الفرعي ـ عبارة عن عشرة مقاطع، تتشكل اذا نظرنا اليها من عين الطير على النحو الهرمي التالي:

القاعدة المؤلفة من اربعة مقاطع (الاول، الثاني، الثالث والرابع)، ثم متن المثلث المؤلف (تدريجيا من الاسفل الى الاعلى) من:

المقطعين الخامس والسادس

المقطعين السابع والثامن

المقطع التاسع

ومن ثم الرأس الحاد المؤلف من مقطع واحد شديد الايجاز (المقطع العاشر)، مما يشكل هرما بنسب 1، 1، 2، 2، 4 من اعلى الى اسفل:

 

 

 

 

10

 

 

 

 

 

 

9

 

 

 

 

 

 

7

8

 

 

 

 

 

 

5

6

 

 

 

 

 

1

2

3

4

 

 

 

فالمقاطع 1، 2، 3 و4 تشكل قاعدة هذا المثلث، لكونها ترتبط من ناحية مضمونية بالاطار الحميمي والاسري الخاص في علاقة انا ـ انت في القصيدة. اما المقطعان 5 و 6 فانهما يُدخلان طرفا ثالثا، هو صوت الـ "هم"، أي الآخر (لكن الواقع ضمن مجموعة الـ "نحن" الداخلية)، على هذه العلاقة الثنائية لتتم مناقشة طروحاته في قضية الحرب والسلم قيد البحث، وهذا يعني الانتقال الى اطار اكثر عمومية وابعد عن الخصوصية. ويقوم المقطعان 7 و 8 بالارتفاع درجة حيث يتم الانتقال من الاطار العمومي الى الاطار الكوني المطلق، فالظروف المحيطة بمقتل كليب المظلوم تستوجب تفعيل قوانين العدالة المطلقة واعادة النواميس الكونية الى سابق عهدها قبل حدوث الخلل. ومن ثم هناك عودة في المقطع 9 الى الآخر، الى الـ "هم"، لكن الاكثر عتمة، والذي يكاد يتطابق مع العدو من حيث جوهره الذي يعمل ضد القضية الوطنية، وضرورة انبثاق الفرد الوطني الصادق للوقوف في وجه هذا التخاذل. واخيرا يأتي المقطع 10 كرأس المثلث، ليشكّل رأس الهرم ورأس الحربة الايديولوجية التي تغلف الاجراء العملي المرجو: لا تصالح!

أما بالنسبة للناحية المضمونية فاقول بشكل عام ان القضية الوطنية التي يتناولها الشاعر، معروضة كقضية رجولية بحتة، بل يتم الحديث من رجل لرجل (حاول الشاعر ادخال العنصر النسائي في مشروعه الاشمل الذي لم ير النور، عدا قصيدة مراثي اليمامة التي ذكرتها). وهو في هذا صوت اصيل وعميق لانه كما اسلفت نابع عن صميم تكوين ونفسية الشاعر، فهو لا يتفرج على هذا الجرح من بعيد، كما انه ليس ببغاء تردد شعارات، بل هي قضية حياة او موت بالنسبة اليه. هذا الصدق، وهذا الايمان بعدالة القضية وبحتمية الوصول بها الى بر السلامة ـ جميع هذه الامور هي التي دخلت الى قلوب تلقفت هذا الصدق ورددت صداه الى يومنا هذا. فالهزيمة من منطلق رجولة الشاعر/ الانا/ البطل المطعونة تفقده دوره الاجتماعي، وبالتالي هيبته وعزته، كما يعبرعن ذلك بقوله:

كيف تنظر في عيني امرأة.

انت تعرف انك لا تستطيع حمايتها

كيف تصبح فارسها في الغرام؟

كيف ترجو غدا .. لوليد ينام

كيف تحلم او تتغنى بمستقبل لغلام

وهو يكبر ـ بين يديك ـ بقلب منكس؟

 

وكرد فعل فانه يستشرف افقا مغايرا يقلب الموازين:

          وغدا

          سوف يولد من يلبس الدرع كاملة

يوقد النار الشاملة

يطلب الثأر

يستولد الحق

          من اضلع المستحيل

 

هذه الخلفية تجعل صوت الشاعر/ الانا/ البطل في القصيدة ذا بعد واحد كما اسلفت، تساوقا مع الهدف الواحد الذي وضعه نصب عينيه، الامر الذي يبرر هذه المفارقة المقصودة ما بين عنوان القصيدة التوراتي "الوصايا العشر"، ومضمونها الذي يختزل هذه الوصايا الى وصية واحدة مقدسة هي "لا تصالح"، فلا صوت ولا وصية غير هذه الـ "لا". من هنا في اعتقادي عدم رضى الشاعر عن نصوص غير مكتملة كان يفترض به الحاقها بديوانه لكنها لم تر النور، وبالتالي عدم نجاحه في استحضار اصوات اخرى، لم يغفل وجودها وضرورة التعبير عنها كما يليق باي دراما حقيقية، الا ان طاقته النفسية غير شاغرة فهو مشغول بمعالجة وتمثيل هذا الجرح النرجسي بداخله، ولا مجال لاستحضار اصوات اخرى قبل معالجة وتنظيف هذا الجرح المنكوء. هذه اللحظة المأزومة بالذات في تاريخ اية مجموعة تستوجب طبعا تسليم السلطة/ العرش من بطل لبطل، من رجل لرجل، في مفهوم الحرب الرجولي الذي يشيع في جو القصيدة. (ولا اجد في ذلك اية غضاضة نسوية "فيمينستية"، فهذا صوت الشاعر وخياره وتعبيره الصادق عن لحظته الراهنة).

في الحقيقة لقد تعاملت مع القصيدة كخطبة يلقيها زعيم تاريخي يتمتع بكاريزما لا يستهان بها على "جمهوره" ويناقش فيها قضايا الساعة، ربما تمهيدا لخوض حرب آتية لا محالة، فالقصيدة وليدة هذه الازمة. وفعلا وجدت ان انسب الادوات التي يمكن فيها تحليل اسلوب خطاب الشاعر في النص هي الادوات المستوحاة من علاقة القائد بمؤيديه. فكليب/ الملك يتبع اسلوبا قياديا يسمى في علم النفس الاجتماعيtransformational leadership، بمعنى انه قائد يسعى الى اعادة تشكيل وعي من يخاطبهم. فهو يرسم ملامح الحق والباطل، ويعبّر بخطبته عن الهوية والطموحات بصوت عال، بل ويحفز على الحفاظ على ما يسمى التقدير الذاتي (self esteem)، والقيمة الذاتية (self value)، كما انه هو الذي يطلق الاحكام على طبيعة هذا التقدير والقيمة. وقد عمل صوت الشاعر اساسا على تفعيل ثلاث آليات نفسية هي:

(1) التماهي (identification) ـ التماثل بين شخص القائد والجمهور.

(2) فقدان الذات (self loss) ـ وهي درجة اعلى من التماهي، ينصهر فيها الجمهور تماما مع شخصية القائد، ويفقد اية استقلالية في اطلاق الاحكام.

(3) الانعكاس المرآتي (mirroring) - أي وضع مرآة نفسية تعكس ماهية الآخر. فعادة تلعب الام دورا في هذا الانعكاس المرآتي لدى الطفل، ليكوّن من خلال ردود فعلها فكرة عن هويته وماهية شخصيته، سواء كانت سلبية ام ايجابية. وفي حال القائد صاحب الكاريزما فانه يعيد جمهوره الى حالة نكوص(regression) يتحول فيها الى مجموعة اطفال، والقائد هو الاب الكبير، الآمر والناهي بما فيه لمصلحتهم.

وقد وظف الشاعر على لسان كليب هذه الآليات التي تخللت معظم مقاطع القصيدة، اضافة الى اساليب اقناع اخرى، اهمها الاكثار من الطباقات التي تعرض الصورة ونقيضها، الفكرة وتفنيدها نظرا للمحاججات المنطقية والنفسية التي يوردها. لنبدأ بالقاعدة وبالمقاطع 1-4:

 

(1) انا = انت. هنا يوظف الشاعر الآليات النفسية الثلاث المذكورة:

أ) المرآتية العاكسة -

لا تصالح!

... ولو منحوك الذهب

اترى حين افقأ عينيك،

ثم اثبت جوهرتين مكانهما..

هل ترى..؟

 

ب) التماهي:

هي اشياء لا تشترى..:

ذكريات الطفولة بين اخيك وبينك،

حسكما فجأة بالرجولة،

....

تلك الطمأنينة الابدية بينكما:

                   ان سيفان سيفك..

                   صوتان صوتك

انك ان مت:

                   للبيت رب

                   وللطفل اب.

 

ج) فقدان الذات:

هل يصير دمي ـ بين عينيك ـ ماء؟

اتنسى ردائي الملطخ

تلبس ـ فوق ثيابي ـ ثيابا مطرزة بالقصب؟

 

(2) في هذا المقطع يكرر كليب توظيف آلية التماهي، مع ادخال تعديل طفيف على معادلة انا=انت السابقة، لتصبح انا > انت (انا فوق انت)، وبهذا فانه يعيد المتلقي الى حالة من النكوص ليصبح كليب الاب، والمتلقي بمفهوم معين الطفل الاصغر بعدة مفاهيم. ويفعل ذلك لغويا اساسا عبر انزال رتبة اخيه ونعته بانه الامير قبالة كليب الملك:

سيقولون:

          جئناك كي تحقن الدم..

          جئناك. كن ـ يا امير ـ الحكم

سيقولون:

          ها نحن ابناء عم.

قل لهم: انهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك.

واغرس السيف في جبهة الصحراء.

الى ان يجيب العدم.

انني كنت لك.

فارسا.

واخا.

وابا.

وملك!

هذه المسافة التي يبنيها بينهما تدعّم مكانة كليب القيادية، وتعطي وزنا ابويا مطلقا لكلماته. (يروى ان الرئيس انور السادات لجأ الى هذه المعادلة أي: انا > انت، حين خاطب الشعب المصري قائلا: ان كنتم نَوَر فانا أنور، وان كنتم سادة فانا سادات!).

 

(3) عملية الانعكاس المرآتي يوظفها الشاعر في هذا المقطع للتنبيه الى التشوه الذي طرأ على امتداده النفسي والعائلي ـ ابنته اليمامة، ليزيد الوقع الدرامي وفجيعة مقتله:

ها هي الان... صامتة.

حرمتها يد الغدر:

          من كلمات ابيها،

          ارتداء الثياب الجديدة،

من ان يكون لها ـ ذات يوم اخ!

 

(4) مرة اخرى الانعكاس المرآتي ـ لكنه يوظفه هذه المرة لتصوير الانا الزائفة لشخصية الاخ في حال قبوله الصلح، وهنا يعطي صوت الشاعر/ كليب علامات مدرسية لسلوك الاخ، وبالتالي يحدد قيمته الذاتية وتقديره لهذه الذات:

لا تصالح

ولو توجوك بتاج الامارة

ان عرشك: سيف

          وسيفك زيف

اذا لم تزِنْ ـ بذؤابته ـ لحظات الشرف

          واستطبت الترف.

 

بعد هذه القاعدة، نأتي الى متن الهرم، حيث ينتقل الشاعر من العلاقة الاسرية الحميمية، الى العلاقة الاكثر عمومية، ويدخل صوت الـ "هم" ـ أي الآخر المنتمي لنفس مجموعة الـ "نحن" الداخلية ـ كمتغير فاعل في الاحداث المتوقعة. ويدرّج الشاعر صوت هذا الآخر، في المقطعين الخامس والسادس، ليكون الآخر مترددا وعاجزا في الخامس، وبراغماتيا في السادس، ويدخل في المقطعين اسلوبا طباقيا يعتمد على عرض الفكرة وتفنيدها.

 

(5) أ) الآخر - العاجز والمتردد:

لا تصالح

ولو قال من مال عند الصدام

".. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام.."

ب) الرد -  تخجيل لفقدان الرجولة لدورها الذكوري الاجتماعي المتوارث:

لا تصالح،

ولو قيل ما قيل من كلمات السلام.

كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنس؟

كيف تنظر في عيني امرأة.

انت تعرف انك لا تستطيع حمايتها؟

كيف تصبح فارسها في الغرام؟

كيف ترجو غدا .. لوليد ينام

كيف تحلم او تتغنى بمستقبل لغلام

وهو يكبر ـ بين يديك ـ بقلب منكس؟

 

(6) أ) الآخر- البراغماتي:

لا تصالح

ولو ناشدتك القبيلة

باسم حزن "الجليلة"

ان تسوق الدهاء،

وتبدي - لمن قصدوك - القبول.

سيقولون:

          ها انت تطلب ثأرا يطول.

          فخذ - الان - ما تستطيع:

          قليلا من الحق..

          في هذه السنوات القليلة.

ب) الرد: لا يقوم الحل على قبول الفتات الراهن انما هي قضية اجيال ذات آفاق مستقبلية.

          انه ليس ثأرك وحدك،

          لكنه ثأر جيل فجيل.

          وغدا..

          سوف يولد من يلبس الدرع كاملة،

يوقد النار شاملة،

يطلب الثأر،

يستولد الحق،

          من اضلع المستحيل.

 

بعدها نأتي الى القسم الثاني من متن الهرم، والذي يشكله المقطعان 7 و 8. وفيهما يتم الانتقال من الاطار العمومي الآنف الداخل في نطاق مجموعة النحن المحدودة، الى الاطار الانساني والكوني العام. فعند وقوع ظلم على هذه الشاكلة لا بد وان تتضافر جميع القوانين البشرية وقوانين الطبيعة لتبرير استرداد الحق واعادة الامور الى نصابها، فهذه سنة الحياة.

 

(7) أ) es muss sein- وهي عبارة المانية تقابلها بالانجليزية عبارة "it must be" اقتبسها من رواية ميلان كونديرا (خفة الوجود غير المحتملة) ، والتي جاءت على لسان بطل هذه الرواية عندما توجب عليه اتخاذ قرار واحد لا غير، فظل يردد بالالمانية "es muss sein" على ايقاع لحن لبيتهوفن (لا اعرفه!)، والمقابل العربي لهذه العبارة هو طبعا عبارة : لا بد مما ليس منه بد. فحتى لو نهى "الاوراكل" عن هذا الموقف ـ رفض السلام المنقوص والاستعداد للحرب ـ لكان صوت الاوراكل يخالف الناموس نفسه:

لا تصالح، ولو حذرتك النجوم

ورمى لك كهانها بالنبأ.

ب) تبرير الرفض ـ يبرر كليب رفضه بالظلم الذي وقع عليه بدرامية، ينهيها بالكلمات التالية:

لم يكن في يدي حربة،

او سلاح قديم،

لم يكن غير غيظي الذي يتشكى الظمأ.

 

(8) أ) تكرار استعراض الحق المطلق ـ يكرر الشاعر الـ es muss sein لكونها تتيح اعادة الامور الى نصابها:

لا تصالح،

الى ان يعود الوجود لدورته الدائرة:

النجوم .. لميقاتها

والطيور .. لاصواتها

والرمال .. لذراتها

والقتيل لطفلته الناظرة.

 

ب) تكرار التعبير عن طبيعة الجرح النرجسي الناتج عن هذا الظلم بداخله:

والذي اغتالني : ليس ربا..

          ليقتلني بمشيئته

ليس انبل مني.. ليقتلني بسكينته،

ليس امهر مني.. ليقتلني باستدارته الماكرة

 

المقطع التاسع الفرد يمهد الطريق لتشكيل رأس الهرم المدبب، وفيه ينتقل الشاعر الى الآخر الداخلي الذي يكاد يتطابق في مواقفه مع الآخر الخارجي ـ العدو. والذي يستوجب كما اسلفت التصدي له والوقوف في وجهه.

 

(9) لا تصالح،

ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ،

والرجال التي ملأتها الشروخ،

هؤلاء الذين يحبون طعم الثريد،

وامتطاء العبيد،

هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق اعينهم،

وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ.

لا تصالح،

فليس سوى ان تريد.

انت فارس هذا الزمان الوحيد

وسواك .. المسوخ!

 

(10) رأس الهرم ورأس الحربة المدبب:

لا تصالح

لا تصالح!

 

بهذه اللهجة الحازمة والآمرة تنتهي القصيدة تمهيدا لتحقيق نبوءة "فارس هذا الزمان الوحيد" ليكون بمثابة النقيض لشخصية هاملت المتردد، والذي شكا من قلة حزمه مناجيا نفسه (بترجمة جبرا ابراهيم جبرا):

"ما من حدث الا وينبئ علي ويحفز ثأري البعيد. ما الانسان ان كان افضل ما لديه وخير ما يشغله النوم والاكل؟ حيوان لا غير. لماذا اراني بعد حيا لاقول ’هذا الامر يجب فعله‘، ولدي الحافز، الارادة، والقوة والوسيلة".. لكنه يضيف بعد توبيخ نفسه متلمسا صورة نقيضة له بقوله: "فالعظمة الحقة ليس في التحرك دونما سبب عظيم، بل في اثارة النزاع العظيم حول هباءة، اذا ما الشرف هدد بالاذى".

ولا يخفى طبعا ان هذه الصورة الاخيرة هي بالضبط مغزى استحضار الشاعر لقصة واسطورة كليب العربية.

 

de_n44@hotmail.com