لم أعد أفكر .. ما عاد يهمني شيء من الماضي أو الحاضر أو حتى المستقبل .. لا أعرف بالضبط متى بدأ هذا الأمر .. لكنه و للأسف قد حصل .
مؤخرا لم أعد أبكي ولا أضحك .. تضايقني السعادة كما يضايقني الحزن.. أجل اكتشفتُ مؤخرا بأني قد اختلفتُ عما كنت عليه في السابق فلم تعد الحماسة القديمة تلهمني.. فإن كان أولادي يتحمسون لمباراة ما أو يشعرون بالاستياء إن ضرب أحدهم الباب بحجر أو يفرحون لزيارة أحد الأقارب.. فما عادت هذه الأمور وسواها تشكل عندي أي فرق.. ربما لكثر ما عشت وجربت صارت هذه الأشياء لا تؤثر.. ربما لأني فقدت إيماني بالمباهج الصغيرة والمقدسات وحتى الحياة ذاتها!.
لا أدري لم صار كل شيء يشبه كل شيء. كل شيء متشابه حد اللعنة.. كل شيء يبدو في النهاية تافها ولا يستحق حتى أن تجر أقدامك نحوه.. لا أدري لم حصل كل هذا.. صدقوني لا أدري؟!.
لطالما اعتقدت بأني مميز وإني أمتلك عقلا غاية في الروعة والتنظيم.. لكني الآن عاجز حتى عن التفكير.. أحاول جاهدا أن أعثر على شيء مميز.. على فكرة مبهرة، وأكاد أقسم لكم بأني ولأكثر من مرة قد لمست تلك الأفكار التي لا تغدو بعد فترة أكثر من بزاقات متعبه ومحرجه تتحرك ببطء مقيت على جدران عقلي.. إني هالك لا محالة!.
لا أدري لم أحقد كل هذا الحقد على عقلي الرائع.. على عقلي النير والمميز فربما هو قلبي. قلبي الذي ما عاد يشعر حيث استحال إلى مجرد خردة محاطة بأقنية عاطلة.. صار مجرد شكل هلامي يكمل الديكور الداخلي لأحشائي أو صار ستارة حمراء قد أسدلت وأسدل معها الكثير.. أجل إنه قلبي.. إنه قلبي بلا شك!.
في فترة ما بعد الظهر حيث الحرارة الوخيمة تفتك بما حولها وجدتُ نفسي أبتسم وأنا أتطلع إلى صورة السماء المطبوعة بكل مزاياها العظيمة على البلاط اللامع لأرضية غرفتي. السماء الناعمة.. السماء العظيمة مطبوعة بهدوء على أرضيتي.. بدت كلوحةٍ غارقةٍ بماء شفاف . استلقيتُ على سريري بالرغم من شعوري بالتخمة. وحاولتُ أن أتذكر ماذا أكلتُ قبل نصف ساعة لكني لم أتذكر. أفكار لا أهمية لها ولجت إلى رأسي.. أعقبتها أفكار لامعة.. سامية.. ربما أوحت لي السماء المعكوسة على أرضيتي رأسا على عقب بها.. أجل عدت إلى الفكرة السامية حيث أقنعت نفسي أخيرا بضرورة مراجعة أحد الأطباء.
دخلت إلى ردهة مزدحمة بالمرضى.. مرضى ثرثارون كانوا يتظاهرون بالأهمية لكن عيونهم كانت تعكس تلك الوحدة المبهمة.. ذلك الضياع الذي حشرنا به.. آه.. إنه قلبي.. أجل إنه قلبي بلا شك!.
أدخلتني سكرتيرة نزقة ذات أسنان زرقاء بارزه من تحت شفتيها الغليظتين المطليتين بلون أحمر دموي إلى ردهة أخرى مليئة بالنوافذ، حيث انتظرت لبرهة، ورحت أراقب من موقعي ذلك حركة المرور وبعدها أشارت لي ذات السكرتيرة بالدخول إلى غرفة أنيقة توسطها مكتب فاخر وهناك استقر طبيب وقور المظهر استقبلني بلطف وبابتسامة هادئة.
شرحت له بشيء من الحذر ما أشكو منه، فنظر إلي باستغراب، وهو يسند ظهره إلى كرسي ذي نقش أسود بارز. أبتسم مجددا وأشار لي أن أتجه إلى سرير الفحص. رحت أراقبه وهو يتنقل بين الأجهزة الطبية وسرعان ما وجدت نفسي محاطاً بأسلاك ملونه ذات نهايات معدنية حادة قد غرزها في صدري وأجهزة ذات أزرار بلاستيكية مضيئة بألوان مدهشه.
أخذ الطبيب يراقب النتائج على إحدى الشاشات وبدأ كلاعب قام بنقلة شطرنج ذكية حيث استحق وجهه الوقور أن ترتسم عليه تلك الابتسامة الحانية.. إلا إنها سرعان ما سحقت من فرط دهشة ما.
النهايات المعدنية إلحاده لتلك الأسلاك الملونة المغروسة في صدري بنسق مؤلم متعدد الجوانب بدأت تضايقني. حركت جسدي قليلا في حين فكك الطبيب تلك الأسلاك و أعاد ترتيبها من جديد و شغل الأجهزة مرة أخرى فأضاءت الأزرار البلاستيكية بلون غريب .
لمعة فضية باهته ترجمتها نظارته الضيقة على شكل تساؤل.. و بدأ يفرك يديه بقلق و كأنه يزيل صدأ ما منهما.. أخذ يتمتم بشيء ما و هو يعيد ربط الأسلاك الملونة للمرة الثالثة على التوالي ولا أدري إن كان يراجع معلوماته الطبية أو كان يلعنها.. أم كان يجرب تعويذه سحرية علها تنفع معي.
استدار نحوي وقد أثقل شيء ما كاهله.. فرك يديه باستغراب وبدا وكأنه سيكلمني فانتقلت إلى حالة الإصغاء له على الرغم من إيماني بأني أعرف ما سيقوله لي .
ــ حسنا يا أستاذ ...
ــ صالح
ــ حسنا يا أستاذ صالح.. لا أعرف ماذا أقول لك بالضبط!.
وفرك يديه للمرة الألف على ما أعتقد بنفس ذلك النمط القلق.. في حين رحت أسعفه بمعلوماتي الطبية الضحلة التي أملكها .
ــ ماذا .. هل أعاني من تضخم في القلب ؟؟ من انسداد في الشريان التاجي ربما؟.
ــ أعتقد بأن قلبك قد استحال إلى شيء لا يوافق معرفتي الطبية .. لقد استحال إلى
إلى.... إلى ما يشبه....
وأكملت بحسرة
ــ ستارة حمراء!.