فقدنا قبل شهر اثنين من عمالقة السينما في العالم، وقد قدمت (الكلمة) في هذا العدد دراسة عن أولهما: أنطونيوني، وتقدم هنا تغطية لمسيرة إنجمار برجمان وترجمة لمقابلة أخيرة معه.

سينما انجمار برجمان

محمد مظلوم

في أوائل الأربعينيات، كان أهم مخرج سينمائي في السويد هو "آلف سيوبرج" (1903 1980)، وهو مخرج مسرحي متميز أيضًا. قام "سيوبرج" في عام 1944 إخراج فيلم بعنوان "تعذيب" اعتمادًا على سيناريو للشاب الجديد الموهوب الذي يدعى "إنجمار برجمان" (ولد في عام 1918). وسيناريو فيلم "تعذيب" أو "نوبة جنون" (1944) يتناول قصة قوية تدور حول ولد في مدرسة ثانوية، يتعرض للتعذيب على يد مدرس اللغة اللاتينية القاسي، ويقع في حب فتاة تعمل في محل ليبع التبغ، ويكتشف الولد أن هذا المدرس السادي، يقوم بتعذيبها، أيضًا. وهذا الفيلم قام بدوري الولد والفتاة الصغيران على الترتيب "ألت كيلين" و"ماي زيتيرلينج" (سوف يحظيان لاحقًا بسمعة مهنية عالمية) قد تم تنفيذه بأسلوب تعبيري، وحظي بإعجاب جماهيري واسع. وبسبب نجاح هذا الفيلم حصل المخرج الشاب "إنجمار برجمان" في ذاك الوقت على الفرصة لإخراج أول فيلم له، وكان عملا أول تعوزه البراعة إلى حد ما، بعنوان "أزمة" (1945)، ويتناول قصة ميلودرامية عن امرأة صغيرة متمزقة بين أمها الحقيقية وأمها بالتبني.

في السنوات التالية، كان "برجمان" يقوم بإخراج فيلم كل عام تقريبًا، وسرعان ما حظي بالقبول كاسم شاب واعد في السينما السويدية الجديدة. وسيصبح "برجمان" في النهاية الشخصية البارزة في السينما السويدية، وفيما بعد واحدًا من أكثر المخرجين أهمية في العالم. وكانت له أهمية كبيرة بالنسبة للسينما السويدية، إلا أنه كان من الصعب دائمًا على المخرجين الآخرين التطور في ظل أهميته الكبيرة هذه. وفيما يقرب من خمسين فيلمًا، إلى جانب الأعمال التليفزيونية التي قام بها "برجمان"، كان يعود بشكل ثابت إلى نفس الموضوعات وإلى نفس القضايا السائدة. كان والده قسيسًا بروتستانتيًا صارمًا، ومنذ أفلامه المبكرة و"برجمان" يتناول المسائل الدينية والوجودية. غالبًا ما يبحث أبطاله بيأس عن إجابة من عند الله، فقط من أجل المواجهة مع التحرر من الوهم ومع الخواء. موضوع آخر من موضوعاته هو الفنان في صراعه مع المجتمع، والفنان كضحية مهانة ومستضعفة في عالم العوام. وكان "برجمان"، الذي تزوج عدة مرات وصار أبًا لعشرة من الأطفال، يستخدم بصورة دائمة العلاقة بين الرجل والمرأة كواحد من أهم موضوعاته، وتحلل أعماله هذه العلاقات بنوع من السخرية والحدة. وجرى الاحتفاء به كمخرج رجل له قدرة خاصة على تصوير وتجسيد النساء وعالمهن.


أعمال برجمان المبكرة
كثيرًا ما ركزت أعمال "برجمان" المبكرة على القلق واليأس الذي انتاب الشباب في السنوات التي تلت الحرب، وفي هذه المرحلة من مهنته كان يصف بالفعل الصراعات الشخصية، والنفسية والروحية أكثر من وصفه للظروف الاجتماعية والاقتصادية. وكان أن تطور أثناء أعماله المبكرة إلى واحد من كبار المخرجين المسرحيين في القرن عمل في "هالسنجبورج"، و"مالرنو"، وأخيرًا في "دراماتين/ المسرح الملكي" في استوكهولم، في نشاط مهني عبر ما يزيد عن ستين سنة وقرابة المئة عمل. خلال عمله في المسرح، قام بتجميع زمرة من الممثلين الذين استعان بهم في أفلامه (كان يعمل في الأفلام غالبًا في فصل الصيف عندما كانت المسارح تغلق): "ماكس فون سيدو"، و"جونار بيورنستراند"، و"هارييت أندرسن"، و"بيبي أندرسن"، و"إنجريد ثولين"، و"إيرلاند جوزيفسون"، وفي أفلامه المبكرة، "برجر مالمستين" و"ستيج أولين".

كانت أفلامه متأثرة بالاتجاهات الحديثة في المسرح مثل الوجودية العدمية في فرنسا (جان بول سارتر، ألبير كامو) والواقعية النفسية لـ "تينيسي وليامز". وكان متأثرًا أيضًا بالأعمال الرئيسية للكاتب المسرحي السويدي العظيم "أوجست سترندبيرج" حيث نرى المشاهد الحلمية العديدة حاضرة في أفلامه وأيضًا الأوصاف القاسية في الغالب للحياة الزوجية وقد استعار في أسلوبه البصري عناصر من المدرسة "التعبيرية" الألمانية في سنوات العشرينيات و"الواقعية الشعرية" الكئيبة للسينما الفرنسية في الثلاثينيات. الموضوع النموذجي في الأفلام المبكرة مثل "تعذيب" هو معاناة الشباب ضد عالم عدائي متمسك بالتقاليد القديمة، حيث يحاول هؤلاء الشباب إيجاد متسع أو مكان لحبهم لكنهم غالبًا ما ينتهون إلى الهزيمة ـ كما في حالة أفلام مثل "إنها تمطر على حبنا" (1946)، و"الليل هو مستقبلي" (1947)، و"مرفأ النداء" (1948)، ويمكننا أن نضيف فيلم "صيف مع مونيكا" (1953). وعمله "السجن أو طيش الشيطان" (1949) هو فيلم مهم، وقصته تجريبية غريبة عن صحفي ينجذب إلى عاهرة شابة. ويهربان معًا من قوادها وأختها سيئة الظن التي قتلت طفلهما الوليد، ويقضيان معًا وقتًا قصيرًا قبل أن يلحق بهما قدرهما وتنتحر الفتاة. والفيلم هو العمل الأول الناضج الذي يبيّن أو يظهر فيه "برجمان" فهمه للأجواء اليائسة، والشخصيات المتحررة من الوهم، والمشاهد الحلمية الملازمة أو المتناوبة.

سرعان ما أصبح "برجمان" من المنتمين إلى ما يعرف بـ "سينما المؤلف" كان البعض من أفلامه المبكرة مبنيًا على مادة أدبية، إلا أنه كتب الغالبية العظمى من أعماله بنفسه. أعقب فيلم "طيش الشيطان" ثنائية درامية عن المتزوجين، "عطش أو ثلاث قصص حب غريبة" (1949). و"نحو البهجة" (1953)، وفيلم جميل بعنوان "استراحة في الصيف" (1951)، وهو عبارة عن قصة حب شعرية مأساوية تدور في فصل الصيف في السويد، وهو فصل مميز لأنه أجمل فصول السنة وأكثرها ضوءا في هذا البلد الذي يعاني من الظلام والعتمة نصف السنة، حتى أنه سيتم تصويره في فيلم شهير بعنوان "صيف مع مونيكا" (1953)، ويدور حول قصة فتى وفتاة يركبان سفينة هربًا من بؤسهما الشخصي والاجتماعي وأملا في العثور على الحب والحرية، وفي النهاية فقط يتحرران من الوهم عندما ينتهي الصيف. كان فيلم "نشارة وبهرجة" أو "الليلة العرية" (1953) تحفة فنية غير عادية عن فرقة متجولة من فناني السيرك. ونرى في هذا الفيلم مشهدًا متميزًا يجد فيه المهرج زوجته تستحم عارية في البحر مع فرقة من الجنود يسخرون منه، وتم استعراض المشهد في لقطات مفرطة في استخدام الإضاءة بشكل مزعج، تصاحبها موسيقا تجريبية "لكارل بيرجر بلومدال".

أخرج "برجمان" في عام 1955 فيلمه السادس عشر، وهو كوميديا شبقية تدعى "ابتسامات ليلة صيف" (1955). وعلى الرغم من أن الفيلم عبارة عن حبكة مرحة عن المكائد والعلاقات الغرامية غير الشرعية التي تدور في قرية ريفية سويدية صغيرة في القرن التاسع عشر، إلا أن هذا الانحراف أو الانعطاف النادر من جانب "برجمان" صوب الكوميديا كان وسيلة لتحقيق "برجمان" لإنجاز عالمي. وقد فاز الفيلم بجائزة "السعفة الذهبية" في مهرجان "كان" وتم تحويله فيما بعد إلى عمل مسرحي موسيقي عرض في "برودواي" من إخراج "ستيفن سوندييم" وحمل عنوان "ليلة موسيقية قصيرة" في عام 1973، وتم تصوير المسرحية سينمائيًا في عام 1978.

شهد عام 1957 فيلمين كبيرين "لبرجمان": الفيلم الأول هو "الختم السابع"، والثاني هو "الفراولة البرية" كانا من الأعمال الرئيسية في عصرهما، وتم الترحيب بهما كتحفتين فنيتين. "الختم السابع"، مبني على مسرحية كتبها "برجمان" وأخرجها وهو في مدرسة الممثلين عام 1954، وتدور في العصور الوسطى. فارس (لعب دوره الممثل "ماكس فون سيدو") يعود من الحروب الصليبية إلى بلد دمره الوباء، ويواجه ملك الموت ذات صباح. يتمكن الفارس من جعل ملك الموت يشترك معه في مباراة شطرنج، وبذلك يتسنى له مد فترة حياته.

ثم يقوم بعمل جيد وهو مساعدة ممثل مسرحي يريد السفر، وزوجته الصغيرة، وطفلهما الوليد العائلة المقدسة (اسمهما "جوت" و"ميا") يساعدهم الفارس على الهرب من القدر المظلم، بينما تشاهد الشخصيات الأخرى الآثمة بطريقة خيال الظل، في النهاية، وهي ترقص رقصة الموت. والفيلم، الذي جسّد بشكل مقنع السويد في العصور الوسطى في تصوير استغرق خمسة وثلاثين يومًا وبميزانية صغيرة جدًا، بالإمكان رؤيته كاستعارة أو رمز للوضع السياسي المعاصر في الدول الغربية أثناء الحرب الباردة، حيث هيمن الخوف بسبب الرعب النووي. وقد صرّح "برجمان" بأنه فيلم عن الخوف من الموت. وهو أيضًا انعكاس عن الإيمان والشك يستنجد الفارس بالرّب دون جدوى، إلا أنه لا يستطيع التخلي عن فكرة الرّب: "الإيمان مرض قاس"، يقول الفارس.

كان فيلم "الفراولة البرية" انتصارًا آخر "لبرجمان"، وربما كان أعظم أفلامه التي حظيت بالمدح. أستاذ طب مسن، "إيساك بورج"، على وشك أن يمنح دكتوراة فخرية من جامعة "لند". وبدلا من أن يسافر بالطائرة من استوكهولم إلى جنوب السويد، يقرر السفر بسيارته، بمصاحبة زوجة ابنه المنفرة، "ماريان". تصبح الرحلة سفرة طويلة عبر ماضيه، يستعيد فيها ليس فقط معاملته الباردة والمتغطرسة لزوجته، وإنما أيضًا صيفًا في شبابه فقد فيه "سارة" الفتاة التي أحبها، تنتابه كوابيس شنيعة حيث يفشل في امتحان الحياة الكبير، لكنه يلتقي "سارة" مرة ثانية في الماضي وفي الحاضر إنها جالسة في مكان خفيّ حيث تنمو الفراولة البرّية. تدريجيًا، عندما تواجهه حياته وعيوبه، يتوصل إلى تفاهم مع نفسه ويذعن لحياته في النهاية. والفيلم يردد أصداء الإيمان بالبشرية ومثل هذا الموضوع كان مهمًا في أفلام ما بعد الحرب مثل فيلم "راشامون" (1950) للمخرج "أكيرا كوروساوا"، وفيلم "الطريق" (1954) للمخرج "فيدريكو فيلليني". ويعمل "برجمان" بفاعلية مستعينًا بشرائح زمنية متعددة، وهي فكرة استعارها من إعداد "آلف سيوبرج" لمسرحية "الآنسة جولي" (1951) للكاتب "أوجست سترندبيرج". حيث تشاهد "جولي" الطفلة و"جولي" المرأة معًا في نفس المشهد.

استمرّ "برجمان" في إخراجه لأفلام مثل "الوجه/الساحر" (1958)، وهو عن قصة تدور في سنوات الأربعينيات من القرن التاسع عشر عن، "فوجلر"، المنوم المغناطيسي/الساحر، وأيضًا الفيلم الحائز على الأوسكار "الربيع البكر" (1960)، وهو حكاية سويدية قوية وقاسية من القرون الوسطى، حيث يعدم مزارع غني الرجال الثلاثة الذين اغتصبوا وقتلوا ابنته الصغيرة. وقد أعلنت الطبيعة القاتمة لهذا العمل عن ظهور أسلوب جديد "لبرجمان" يتميز بالكآبة، وهو الأسلوب الذي سيصل إلى تعبيره الأكثر اكتمالا في أفلامه الثلاثة التالية.

الأفلام القاتمة
كان "برجمان" في أوج نشاطه المهني، إلا أن أفلامه في هذا الوقت كانت قد انعطفت نحو مزيد من الكآبة والصعوبة، وتميّزت بالعذاب والتأزم. بدأت هذه الفترة القاتمة بثلاثة أفلام سيتم تقديمها فيما بعد باعتبارها ثلاثية الفائزة بجائزة الأوسكار "عبر الزجاج المعتم" (1961)، و"ضوء الشتاء" (1962)، و"الصمت" (1963). وهذه الأفلام الثلاثة، على الرغم من أنها غير مرتبطة ببعضها البعض في ملامح الحبكة، إلا أنها تشترك في الأفكار العامة حول الأسئلة الوجودية والدينية.  فيلم "عبر زجاج معتم" مسرحية حجرة مكثفة عن روائي متوسط العمر (جونار بيورنستراند) تستسلم ابنته (هارييت أندرسن) بشكل تدريجي إلى المرض العقلي. تسمع أصواتًا تتحدث إليها من خلال الجدران، وتعرف أنه ليس هناك أمل في إنقاذ حالتها بشكل مؤكد عندما تقرأ في يوميات والدها عن إعجابه بدراسة تدهورها العقلي. وفي نهاية الفيلم تتصور خلاصًا إلهيًا قد جاء لإنقاذها، لكن لا تأتي سوى طائرة هليكوبتر (هي في الحقيقة الطائرة الطبية التي استدعاها والدها بعدما اشتد عليها المرض) تأخذها بعيدًا عن الجزيرة التي كانت تعيش فيها. والفيلم يقدم صورة حادة ومكثفة للمرأة المختلة، لكنه أيضًا فيلم عن أخلاقية الفنان الذي يستخدم الآخرين من أجل الفن، والذي يشعر هو نفسه بالوحدة في معاناته.
 
فيلم "ضوء الشتاء" هو قصة قاتمة عن قس (بيورنستراند) في مقاطعة سويدية في الشمال، حيث تكون فصول الشتاء مظلمة كئيبة والحياة صعبة وقاسية. أحد أبناء الأبرشية (ماكس فون سيدو)، نجار ورب عائلة، ينتحر لأنه يشعر بالرعب من العالم، وهو ما يجعل القس يشعر بالعجز والعذاب. إنه غير قادر على قبول الحب الذي عرضته عليه عازفة الأورج "إنجريد ثولين"، وعلى الرغم من ذلك فإنه يستمر. وربما هذا هو الفيلم الأكثر قتامة في أعمال "برجمان"، وهو دراسة في العزلة الإنسانية واليأس.

في فيلم "الصمت"، أختان، "إستير" المهذّبة (إنجريد ثولين مرة أخرى)، المريضة على نحو خطير، و"آنا" الداعرة ومعها ابنها الصغير، يقطعون رحلتهم في بلد أجنبي وينزلون في فندق قديم. تصبح حالة "إستر" الصحية أكثر سوءًا، وبينما يتسكع الولد الصغير في حجرات وممرات الفندق، تذهب الأخت الأخرى إلى المدينة وتمارس الجنس مع شخص غريب عنها تمامًا. والفيلم تدور أحداثه في عالم رمزي، في مدينة بدون لغة (غالبيتها في الواقع "إستونية" حيث كانت زوجة "برجمان" في ذاك الوقت "كاباي ريتي" عازفة بيانو من "إستونيا")، وتحتشد من أجل حرب تقترب. كان الفيلم قد تمت رؤيته وتفسيره على أنه تفكير في غياب أو صمت الإله في العالم الحديث، وفي غياب الحب والاتصال الإنساني الحقيقي بين البشر في عالم عدائي. الموسيقا فحسب يوهان سيباستيان باخ هي الاتصال الروحي بين الأخت المريضة وخادم هذا الفندق القديم، الموسيقا فحسب هي التي تبدو وجودًا مقدسًا وسماويًا.

هناك أصداء من مسرحية "سارتر" الشهيرة "بلا خروج"، حيث تم تقديم الجحيم على هيئة غرفة فندق بها ثلاثة غرباء. وعلى الرغم من حقيقة أن فيلم "الصمت"، وهو رمز قاس للألم والبؤس في العالم الحديث، إلا أنه قد حقق نجاحًا كبيرًا في شباك التذاكر في السويد (حيث شاهده مليون ونصف المليون مشاهد) وفي الخارج أيضًا، ومردّ هذا النجاح ليس الأسئلة الوجودية التي أثارها، وإنما هذا العدد من المشاهد الجنسية الفاضحة إلى حد ما المرأة المريضة التي تمارس العادة السرية، والرجل والمرأة اللذان يمارسان الجنس في المسرح أثناء حفلة عرض نهارية، والأخت الأخرى مع الرجل الغريب. ساهم الفيلم في الانطباع العام بأن السينما الاسكندنافية تعاملت مع الموضوعات الجنسية بطريقة جريئة انطباع تم التأكيد عليه بإلغاء الدانمرك في عام 1969 للقوانين المضادة للبورنوجرافي وهو ما يظل ساريًا حتى اليوم (على الرغم من حقيقة أن إنتاج السينما البورنوجرافية العالمية في أغلبه قد أصبح ومنذ مدة طويلة عن طريق الولايات المتحدة). اختفت الإباحية الدانمركية السينمائية بسرعة مرة ثانية، إلا أن أسطورة اسكندنافيا كمأوى للبورنوجرافيا لا تزال موجودة حتى اليوم.

في سنوات الستينيات، جاء جيل جديد من المخرجين السينمائيين الشبان السويديين المتأثرين بـ "الموجة الجديدة" إلى الساحة. وبالضبط مثلما كان "فرنسوا تروفو" قد هاجم ما يسمى بـ "تقاليد الجودة" في السينما الفرنسية الراسخة في مقالاته المبكرة في مطبوعة "كراسات السينما"، كذلك فعل المخرج الشاب "بو فيدربرج" (1930 1997)، الذي كان هو والمخرج "يان ترويل" (المولود في 1931) معًا من أهم المخرجين الجدد، حيث قام بنشر كتيب في عام 1962 هاجم فيه حالة السينما السويدية بصفة عامة، وبصفة خاصة رمزها الأبوي، "برجمان". انتقد "فيدربرج" الرائد "برجمان" لكونه بعيدًا عن الحقائق الاجتماعية للحياة اليومية، وبدلا من هذه الحقائق وظف موهبته الفنية في التأمل والتفكير في الموضوعات الدينية: "الإله المفقود، وبقعة الفراولة البرية المفقودة، والصيف المفقود، هي، بالطبع، أفكار رئيسية محفزة للإخراج السينمائي. لكنني أعتقد أن هذا النوع من الحنين الشخصي، إذا سمحنا له بأن يصبح اتجاهًا، فإنه سيكون خطرًا على تطور السينما السويدية". (فيدربرج 1962: ص 31).
وعلى مدى سنوات العقد قام الجيل الجديد بوضع بصمته المميزة. فقام "فيدربرج" بإخراج فيلمه "نهاية غراب" (1963)، وهو وصف معبّر وشديد الغنائية الريفية للنشأة في المناطق الفقيرة حول "مالمو" أثناء الثلاثينيات، و إلى جانب فيلم "إلفيرا ماديجان" (1967) وهو قصة حب رومانسية وأفلام ذات اهتمام سياسي مثل فيلم "أدالين 31" أو "اضطرابات أدالين" (1970)، الذي يتناول حادثًا أدى إلى تغيير في السياسات السويدية، وفيلم "جوي هيل الأمريكي" (1971) عن حياة زعيم العمال الأسطوري. وقام "يان ترويل" بإخراج فيلم "هنا حياتك" (1966)، وهو معتمد على رباعية للكاتب "أيفيند جونسون" الفائز بجائز نوبل في الأدب تدور حول الطفولة والشباب في شمال السويد في بداية القرن العشرين، وتبعه بفيلم يسرد قصة ملحمية عن الهجرة السويدية إلى الولايات المتحدة في أواخر العقد الأول من القرن التاسع عشر، وهو معتمد على الروايات الشهيرة للكاتب "فيلهالم موبيرج"، وحمل عنوان "المهاجرون" (1971)، وفيلم "الأرض الجديدة" (1972)، من بطولة اثنين من أفضل الممثلين لدى "برجمان"، "ماكس فون سيدو" و"ليف أولمان".

في حين اقترب المخرجون الشباب في النهاية من أفكار تاريخية وموضوعاته غير بعيدة عن موضوعات "برجمان"، كان "برجمان" نفسه يقوم بالتجريب بحثًا عن أشكال جديدة للتعبير السينمائي، فابتعدت أفلامه التالية عن الموضوعات الدينية، وركزت أكثر على مأزق الفنان. وفيلمه "برسونا" (1966)، منفذ بأسلوب يعمل على تعطيل السرد وتقويضه، فالممثلة (ليف أولمان، الممثلة النرويجية التي سترافق برجمان في أفلامه على مدار السنوات القادمة) نجدها تتوقف عن النطق فجأة. وكجزء من علاجها، تقوم طبيبة نفسية بنقلها مع ممرضتها الشابّة إلى كوخ صيفي في جزيرة معزولة (تم التصوير في جزيرة "فارو"، القريبة من "جوتلاند"، حيث عاش برجمان على هذه الجزيرة منذ الستينيات). وبالتدريج، تندمج المرأتان إحداهما مع الأخرى، وفي النهاية، في لقطة مزعجة، يذوب وجهيهما معًا. يوظف الفيلم "التغريب البريختي" (الانفصال الحاسم) عن طريق استخدامه للمقاطعات والتداخلات حيث نرى جهاز عرض الفيلم (البروجيكتور)، ويفقد الفيلم قوامه، ويرق ويلين ثم ينصهر وينسكب من الماكينة. والفيلم بهذه الطريقة هو أيضًا فيلم عن السينماتوجرافي أو التصوير والعرض السينمائي. ونجد هنا "برجمان" الذي في منتصف عمره، دون المخرجين الشباب، ينضم إلى رواد البحث الدولي الحداثي عن شكل جديد للتعبير السينمائي، جنبًا إلى جنب مع "مايكل أنجلو أنتونيوني"، و"آلان رينيه"، و"جان لوك جودار".

في فيلم "ساعة الذئب" (1968)، ينتقل رسام (ماكس فون سيدو) إلى جزيرة صغيرة مع زوجته الحامل ("ليف أولمان"، التي كانت في ذاك الوقت حامل فعلا في ابنة "برجمان"، "لينا"، التي ستصبح فيما بعد روائية ناجحة). وفي الجزيرة يجد الرسام نفسه ليس معذبًا فحسب من جانب الطبقات الراقية المنافقة في هذه المستعمرة المحلية (الذين يعجبون بفنه إلا أنهم يشعرون أيضًا بالمتعة في إذلاله) بل أيضًا يتعرض للإغواء من جانب عشيقته السابقة وتتلبسه الشياطين.

فيلم "العار" (1968) بالإمكان رؤيته على أنه رد موجه إلى النقد الذي تم توجيهه إلى "برجمان" بأنه يفتقر إلى الانهماك في القضايا السياسية. ويدور الفيلم حول قصة مجتمع صغير تعذبه الحروب إلا أنه قد تم تقديم الحرب، بالأسلوب النموذجي "لبرجمان"، كظاهرة مجرّدة وغامضة، من دون تحليل سياسي، فقط في صورة أحداث قاسية تصيب السكان. موسيقيان، قام بدورهما "ماكس فون سيدو" و"ليف أولمان"، ينجذبان وينخرطان في الأحداث المضطربة، ونشاهده هو وقد أصبح ساخرًا وعيابًا وأنانيًا بشكل متزايد في حين تبقى هي طيبة ومتواضعة ومحبة للغير.

بعد أفلام "الطقوس" (1969)، و"شغف" أو "شغف آنا" (1969)، و"اللمسة" (1970)، وكلها عن قصص موجعة وقاسية للمعارك الزوجية، أبدع "برجمان" تحفة فنية جديدة بعنوان "صرخات وهمسات" (1972)، وهو من أفلامه الملونة الشديدة التميز في توظيف اللون، خاصة الأحمر كعنصر أسلوبي مهيمن (وتقنية التلاشي التدريجي للمشاهد تتم أيضًا باللون الأحمر). ويدور حول ثلاث أخوات يتقابلن في عزبة ريفية في فترة ما في أوائل سنوات القرن العشرين، تحتضر "آجنس" العزباء (هنرييت أندرسن) بسبب السرطان، ونعلم بزواج الأختين الأخريين، تعيش واحدة منهما (إنجريد برجمان) في علاقة باردة مع زوجها في إحدى المرات تقوم بجرح مهبلها بقطعة من الزجاج لكي تمنع زوجها من ممارسة الجماع معها بينما الأخت الأخرى (ليف أولمان) تقيم علاقة مع طبيب المستشفى، وتدفع زوجها إلى محاولة لقتل نفسه بسكين عندما يكتشف خيانتها. وفي النهاية تموت "آجنس" ميتة بشعة، لكنها تستيقظ مرة ثانية أثناء الليل. وتذهب الأخت الميتة من باب إلى باب، بحثًا عن الراحة، إلا أن أختيها ترفضان إدخالها. وفي النهاية تجد النجدة في المربية، التي تأخذها إلى صدرها فيما يشبه مشهد "المنتحبة"، وهي صورة تمثل العذراء وهي تنتحب فوق جثمان المسيح.

مهنة برجمان حديثًا
كان عمل "برجمان" التالي عبارة عن مسلسل تليفزيوني في ستة أجزاء، بعنوان "مشاهد من زواج" (1973)، تم تسويقه في عدة بلدان في نسخة سينمائية مختصرة. ويدور حول قصة زوج وزوجة، لعب الدورين "إيرلاند جوزيفسون" و"ليف أولمان"، ينفصلان، ويعثر كل منهما على شريك جديد، ويلتقيان ثانية بشكل متقطع، وقد قوبل العمل بنجاح ضخم في الدول الاسكندنافية، حيث كان إنجازًا شعبيًا هائلا "لبرجمان"، الذي كان ينظر إليه بوجه عام كمخرج سينمائي نخبوي إلى حد ما. وقام برجمان أيضًا بإخراج فيلم ساحر ونابض بالحياة بعنوان "الناي السحري" (1975)، عن أوبرا "أماديوس موتسارت" التي تحمل نفس العنوان.

كانت السنوات التالية موسومة بأزمة. ففي أحد أيام خريف عام 1976، وفي منتصف بروفة كانت تجرى في "دراماتين" في "استوكهولم"، اعتقلت الشرطة "برجمان" بتهمة التهرب الضريبي والنصب. وتمت تبرئته فيما بعد من جميع التهم (وتم فصل بعض كبار مسئولي الضرائب من العمل)، إلا أن الحادث كان له تأثير مؤلم على "برجمان". فغادر السويد غاضبًا، وبعد فترة استقر في "ميونخ"، بألمانيا. أثناء السنوات التالية قام بإخراج "بيضة الثعبان" (1977)، الذي تم تصويره في ألمانيا باللغة الإنجليزية، وهو عن قصة تدور في فترة بداية ظهور النازية (كان "برجمان" قد قضى أحد الأصياف أثناء مراهقته في ألمانيا النازية عام 1934). وفي النرويج، قام بتصوير فيلم "سوناتا الخريف" (1978)، وهو دراما متعمقة حول أم وابنة تعاني من اضطراب نفسي شديد، مع "إنجريد برجمان" (التي لا علاقة لها به، مجرد تشابه أسماء)، كعازفة بيانو مشهورة عالميًا و"ليف أولمان" كابنة مهملة من جانبها. كما قام أيضًا بإخراج دراما جريمة زوجية قاسية في فيلم بعنوان "من حياة الدمى" (1980)، وتم تصويره باللغة الألمانية.

وأخيرًا، تمت تبرئة "برجمان"، وعاد إلى السويد والسينما السويدية مع فوزه بجائزة "الأوسكار" عن فيلمه "فاني وألكسندر" (1982). هذا الفيلم الضخم الممتد لثلاث ساعات (تم إخراجه أيضًا للتليفزيون في أربع ساعات، وهي النسخة التي صرح برجمان أنه يعترف بها لهذا العمل) كان خلاصة لعمله، وتجسيدًا لفنه كله، وموضوعاته التي كان منشغلا بها، وعمله مع الممثلين. إنها قصة ساحرة، تدور في أوائل القرن العشرين، عن طفلين ينشآن في عالم المسرح، وفجأة، بعد موت والدهما وزواج أمهما مرة ثانية من أسقف صارم قاس، يجدان أنفسهما سجينين في أسرة مستبدة، هي أسرة زوج أمهما، وفي النهاية تنقذهما القدرات السحرية لتاجر قطع أثرية يهودي وشخص غامض يدعى "إسماعيل".

منذ ذلك الوقت، قام "برجمان" بإخراج عدد من الأفلام التليفزيونية مثل "بعد البروفة" (1984)، و"في وجود مهرّج" (1997)، عن مريض عقلي يحلم باختراع أفلام ناطقة في عام 1925. كما قام أيضًا بكتابة سيرته الذاتية، "المصباح السحري" (1987)، التي يعرض لنا فيها رؤية قاسية لحياته الشخصية والفنية، ويصرح بإيمانه بحكمة "هنريك إبسن" الشهيرة "الكتابة هي تقييم المرء لنفسه". كما كتب أيضًا سيناريوهات لمخرجين آخرين، مثل "أحسن النوايا" (1990 1991)، وهو عن قصة حياة والدي "برجمان"، وقام بإخراجه المخرج الدانمركي "بيل أوجست" عام (1992)، و"أطفال الأحد" (1992)، عن علاقة برجمان بوالده، والذي قام ابنه "دانيال برجمان" بإخراجه، والأكثر حداثة، "الغادر" (2000)، وهو عن قصة خيانة زوجية، وقامت بإخراجه "ليف أولمان".

وواصل "برجمان"، حتى الثمانينات من عمره ، وجوده الفاعل والمؤثر في الثقافة السويدية. وقد قام بإخراج فيلم جديد نسبيًا، وقيل أنه آخر عمل له، وهو إنتاج تليفزيوني بعنوان "ساراباند" (2003)، يستكمل فيه قصة فيلم "مشاهد من زواج" مع "إيرلاند جوزفسون" و"ليف أولمان" بعد ثلاثين عامًا. كان "برجمان" لما يزيد عن نصف قرن من الشخصيات الأكثر بروزًا في الثقافة الاسكندنافية. وهو واحد من أكثر مخرجي العالم عمقًا وقد منح الاحترام للسينما السويدية وارتقى بمقاييسها الثقافية. وبتأمله لمهنته، قال برجمان: "أشعر اليوم أنني كنت في "برسونا" وبعد ذلك في "صرخات وهمسات" قد مضيت إلى أقصى ما وسعني المضي. وفي هذين الفيلمين على سبيل المثال، حيث العمل بحرية كاملة، لمست الأسرار الخفية، والتي لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، والتي بإمكان السينما فقط أن تكتشفها". (برجمان 1994: ص 65). وقد أخرج برجمان أربعة أفلام تسجيلية هي: "دانييل" (1967) عن أحد أولاده، و"فارو" (1969) عن الجزيرة السويدية التي يسكن عليها، و"فارو بعد عشر سنوات" (1979) عن نفس الجزيرة، و"وجه كارين" (1986) وهو صورة فوتوغرافية عن والدته.
روائي ومترجم مصري



مواجهة مع إنجمار برجمان
ستيج بركمان
ترجمة محمد هاشم عبدالسلام

المقابلة التالية مع المخرج إنجمار برجمان مأخوذة من الفيلم التسجيلي "برجمان"، الذي قام بتنفيذه "ستيج بركمان" لصالح معهد السينما السويدي" أثناء تصوير برجمان لفيلمه "اللمسة".

السؤال: هل يمكنك أن تعرف مصطلح الإخراج السينمائي بطريقة أكثر تحديدًا؟
برجمان: الإخراج السينمائي؟ حسنًا، هناك مخرج قال أن المخرج السينمائي هو شخص لا يجد الوقت أبدًا للتفكير بسبب المشاكل كلها. هذا هو أقرب تعريف يمكن أن أفكر فيه. ثم، بالطبع، يمكن أن يبتكر المرء الكثير من الأشياء بطريقة ارتجالية. بمقدور المرء أن يبتكر كل أنواع التفسيرات. بوسعه أن يقول إن الاتجاه السينمائي هو تحويل الرؤى، والأفكار، والأحلام، والآمال إلى صور بحيث تقوم بنقل هذه المشاعر إلى الجماهير بأكثر الطرق فاعلية. يخلق المرء نوعًا من الوسيط، هذه اللقطة الطويلة من الفيلم التي تعيد توليد أحلام المرء عبر الكثير من الآلات، والصور إلى مشاعر الآخرين، إلى الناس الآخرين. أنا لا أعرف.
يمكن أن يقول المرء أيضًا إن الإخراج السينمائي بوسعه أن يعطي تعريفًا تقنيًا. من خلال مشاركة قدر كبير من الناس، والممثلين، والفنيين، وكم كبير من الآلات، يصنع المرء منتجًا. إنه منتج يومي أو عمل فني، أيًا كان ما يفضله المرء. ما هو عليه في الواقع أو كل هذا أو لا شيء من هذا، إنني لست قادرًا على أن أجيب على الرغم من أنني أقوم بإخراج الأفلام منذ سبعة وعشرين عامًا.
 
السؤال: هل لديك أية أفكار موحدة من فيلم إلى آخر بحيث ترجع أو تعود إليها أثناء عملك، كيف تخرج أفلامك إلى النور؟ أم أنها تتغير؟
برجمان: لا، لديّ طريقة تطورت بعناية بالغة وقد أخذت في التشكل عبر سنوات طويلة. رأيت في "فارو" قاربًا قديمًا ذات يوم كان قد بني منذ مئة سنة. كان جميلا للغاية، لكن هؤلاء الذي يمتلكونه تحدثوا أيضًا عن كم كان صالحًا للإبحار بشكل يفوق الوصف. بني القارب بنفس الطريقة التي بنيت بها السفن والقوارب منذ قرن. فقد بني طبقًا لوصف خاص، الذي، بالطبع، كان قد تم تطويره عبر قرون من الخبرة فيما يتعلق بكيفية تغير المناخ بالنسبة للسفينة وشروط الإبحار الشديدة أيامها. يمكن للمرء القول أنه خلال السبعة والعشرين سنة التي عملت فيها كمخرج بنيت لنفسي سفينة يمكنني بها الإبحار عبر مشاكل الإخراج. قمت ببناء ماكينة عملية، طريقة استخدمها من وقت إلى آخر. لكن، بطيعة الحال، هذه الطريقة يجب أن تناسب كل الظروف فيما يتعلق بالموضوعات التي أتعامل معها أو أتناولها في أفلامي. لكن من حيث المبدأ لديّ نظام محسوب بعناية.

السؤال: هل يمكن أن تصف العمل بطريقة عملية كلية؟ كيف تم تنفيذ أفلامك. من أين تستقي أفكار أفلامك؟ بالطبع، إنها أوقات مختلفة، مختلفة جدًا لكن هل بمقدورك أن تعطينا مثالا لكيفية الحصول على فكرة فيلم عن تحويلها إلى فيلم؟

برجمان: إنها عملية غير منطقية إلى حد بعيد جدًا بحيث تبدو مختلفة كلية في كل مرة. قلب أو لب الأفلام، المادة المفجرة في الأصل هي التي تخلق الفيلم، ويمكن أن يتكون الفيلم النهائي ربما من الرغبات التافهة بغرابة فيما يبدو. فكرة فيلم "برسونا"، على سبيل المثال، جاءت من صورة. في يوم من الأيام رأيت أمامي فجأة امرأتين جالستين إحداهن بجوار الأخرى وتقارنان يديهما معًا. قلت لنفسي إن إحداهن خرساء والأخرى تتكلم. هذه الفكرة الصغيرة عاودتني مرارًا وتكرارًا وتساءلت: لماذا تعاودني، ولماذا تكرر نفسها؟ كان الأمر كما لو أنها تعاودني حتى أبدأ في العمل عليها. ثم أدركت أن هناك شيئًا ما وراء هذه الصورة، بدا الأمر كما لو كنت بصدد أحد الأبواب. إذا قمت بفتح الباب بعناية، سأرى ممرًا طويلا يصبح أعرض وأعرض وسأرى فجأة المشاهد التي تطور نفسها بنفسها والناس الذين يبدءون في التحدث والأوضاع التي تبدأ في نمو وتطوير نفسها على كلا الجانبين.

لكنني أعتقد أن هذا ينطبق على جميع الأعمال الفنية. قد يكون الفيلم بصريًا بصفة خاصة. بالنسبة لي، يستمر الفيلم في تطوير نفسه عبر الإيقاع والضوء. إذا عدت إلى الصورة في "برسونا"، ستجد أن الضوء ينكسر أو يتعطل عن طريق القبعتين (ارتدين نوعًا من قبعات السلال) ويحجب عن وجه الفتاتين. كانت الشمس قوية في هذه الصورة. إنها غريبة جدًا، لكن الضوء جزء متكامل من خبرتي الأولى. وهذه الخبرة في كثير من الأحيان عبارة عن صور ملموسة جدًا ونوع من ما من الإحساس السمعي. يمكن أن تنمو الأفكار الأخرى من حلم أو من قطعة موسيقية. فيلم "الصمت"، على سبيل المثال، نما من كونشرتو "بارتوك" للأوركسترا. فيلم "ضوء الشتاء" من ترنيمة سيمفونية لـ "سترافنكسي". أنا لا أعرف كيف، لكن أحيانًا تخلق الموسيقا فيّ توترًا، وضعًا أو حالة ما. فيلمي التالي مبني أيضًا على لحن منفرد (سوناتا) لـ "باخ"، لحن منفرد للكمان. أنا لا أعرف لماذا؟ لكن الموسيقا تحرر شيئًا ما يريد أن يقال، يريد أن يحكى ويُسرد ويمكن أن يستغرق وقتًا أبديًا قبل أن يجسد نفسه في كلمات. قبل أن يصبح مكتوبًا على الإطلاق. الفترة الأكثر إمتاعًا هي في الواقع عندما ترتبط بشيء ما فيك ليس مكتملا على الإطلاق.

السؤال: عندما يقرأ المرء سيناريو فيلم "اللمسة"، يبدو له مختلفًا إلى حد بعيد عن أفلامك السابقة، قبل كل شيء يبدو أنه قصة يومية تتجاوز بكثير ما ارتبط به في السابق.

برجمان:
نعم. "اللمسة" مفترض أن يكون قصة يومية. تم تصور الفيلم أصلا كبورتريه لامرأة. إنه لا يتناول امرأة مبهرة ومتميزة ورائعة. إنها ربة بيت منتمية إلى الطبقة الوسطى تعيش في بيئة محمية بدرجة كبيرة، في عالم منقطع ومعزول للغاية عن العالم الحقيقي وكوارثه وعجزه واضطراباته العصبية.
إنها زوجة لطبيب كبير في بلدة صغيرة. هي وزوجها ثريان، يعيشان بشكل جيد، لديهما طفلان مؤدبان ويحيون معًا في بيئة جميلة. كل شيء رائع تقريبًا بصورة مؤلمة. ما كان مهمًا بالنسبة لي هو تصوير هذه المرأة ورسم بورتريه لها في وضع معين. نتيجة لذلك، كانت مهمتي أن أشغل نفسي بسلسلة من التفاصيل الملموسة بدرجة كبيرة. ومن ثم تنمو القصة منها. ستكون القصة مستحيلة من دون المكان. كل شكل من أشكال إضفاء أسلوب خاص على العمل محظور.

السؤال: هل أردت انتقاد النمط التقليدي الخاص بالطبقة الوسطى في الحياة أو شيء من هذا القبيل؟
برجمان: أظن أن أسلوب حياتها يصبح منتقدًا بصورة تلقائية. لكنني أعتقد أن الجميع ينبغي أن يروا هذا كما يريدون. شخصيًا، أجده باعثًا على الملل. مثل هذا النقد لم يتم التعبير عنه بقسوة أو كراهية، لكنه نقد ينمو بطريقة تلقائية من المادة. في نهاية الفيلم تحاول المرأة إيجاد أسباب لبقائها مع زوجها وفي بيتهما. تقول إنه واجبها وكل هذه الأمور، التي من الممكن أن تكون صحيحة وحقيقية. ثم يقول عشيقها: "أنت تكذبين". يكررها لها ثلاث مرات. الأمر متروك إذًا للمشاهد بخصوص أي جانب يود الانحياز إليه. هل تكذب أم تقول الحقيقة؟ هل هي مقادة بإحساسها بالواجب لتنكر بشكل عاطفي مشحون ومغامر أي شيء سوى عيش الحياة واللجوء إلى "عالم الجمال النائم" الخاص بها؟ أم تقرر التعايش مع الحب الذي لم تنجح في تحقيقه أبدًا؟ هل تكذب أم تقول الحقيقة؟ بالنسبة لي لا يمثل هذا أي اختلاف.

السؤال: لكن يجب أن يكون هناك شيء ما مفقود في حياتها نظرًا لأنها تسمح لنفسها بعنف شديد أن تنجرف بعاطفتها نحو الرجل الذي يدخل حياة "الليبرالية" الصغيرة؟
برجمان: بالطبع. إنها تبحث عن هذا الجرح، تبحث عنه بعاطفة مشبوبة. من فورها تشارك بدور وتسحب السكين باتجاه قلبها بيقين السائر أثناء النوم. هذا هو السكين الذي يمسكه هو. ويمسكه بقدر ما يمكنه ويلويه من كل جانب عدة مرات. السؤال هو إذا ما كان هذا كافيًا بالنسبة لها، هل ستعود بتجربة إنسانية؟ لا أريد أن أكون ساخرًا من بيئتها. إن هذا ليس ضروريًا، إنها ساخرة في حد ذاتها. إنه لمن السهل جدًا أن تجد الجوانب الساخرة والافتراضية فيما يتعلق بها. لقد دللت على هذا قليلا. هذه هي البيئة التي بلغت فيها أنا نفسي وعشت فيها لفترة طويلة جدًا لدرجة أنني صرت معتادًا عليها جدًا.

السؤال: لماذا اخترت ممثلا أجنبيًا ليقوم بدور العشيق. هل كانت فكرتك من البداية أنه من يظهر في حياتها يجب أن يكون أجنبيًا؟
برجمان: يجب أن يكون شخصًا من عالم غريب تمامًا. أن يكون هذا الشخص "زنجيًا"، كان في اعتقادي أمرًا بعيدًا جدًا ومجاوزًا للحد. ولكن أخذ شخص ما من بيئة لا جذور لها كلية بجذور مقطوعة تمامًا هو ما كان مهمًا بالنسبة لي. فكرت في شخص "يهودي" تم إعدام عائلته كلها أثناء أيام هتلر. جاء إلى أمريكا هرب إلى أمريكا مع قريب له ثم ذهب إلى إسرائيل، التي يغادرها أيضًا. إنه شخص مشرد تمامًا. إنه إذًا على النقيض من العالم الكبير الموصول الجذور الذي يحيا على وفي ظل التقاليد. وهذا يمنحه قوته بعيدًا عن التقاليد.

السؤال: في كثير من الأحيان ترى العالم من الجهة المقابلة. فعلت هذا في فيلم "الصمت" وحتى في "برسونا"، على سبيل المثال.

برجمان:
إنه ينتهي إلى هذه الطريقة. أنا كاتب مسرحي. لديّ هذه التوترات بداخلي. إنها طبيعية كلية.
السؤال: تعمل مع نفس طاقم التمثيل من فليم إلى آخر. في فيلم "اللمسة" استعنت بممثل أجنبي للمرة الأولى. كيف حدث أن اخترت "إليوت جولد"؟
برجمان: عندما تشاهد عرضًا لمدة ثلاث ساعات، أو ربما دقيقة، أو عشر ثوان، فأنت تعرف إن كنت سترغب في العمل مع الممثل أم لا. تعرف أيضًا إن كان ممثلا جيدًا أم مجرد محتال. كل الممثلين الحقيقيين من الممتع العمل معهم. في أي مكان تذهب إليه في العالم، اعتقد أنك تتعلم عن طريق الخبرة أن الممثلين هم نفس النوع من الناس لهم نفس الرغبات والحاجات. هؤلاء، هم الممثلون الحقيقيون. لهذا السبب لا يسبب وجود ممثل جديد أية مشاكل.

شاهدت "إليوت جولد" عن طريق الصدفة البحتة في أحد الأفلام وكان الجزء الذي قمت بكتابته من فيلم "اللمسة" مختلفًا تمامًا في الحقيقة. ثم خطر لي فجأة أنني لدي هنا ممثل. وكان مجرد حظ أنه كان راغبًا فجأة في هذا وكان قادرًا على الظهور في الفيلم. وبينما كانت الأشياء تتضح، اكتشفنا أن كلينا قد خرج بالكثير من خلال عملنا معًا.

السؤال: هل تأكدت من اختيارك بعد مشاهدة الفيلم؟

برجمان: لو شاهدت دقيقة واحدة فقط من هذا الفيلم كان يمكنني أن أعرف هذا. هذه هي الطريقة التي عليها الأمر. هنا لا يمكن للمرء اقتراف أخطاء.

السؤال: لماذا تعمل بالأفلام وتستمر في عمل هذا بدلا من اختيار وتكريس نفسك فقط للمسرح أو ما تحبه؟

برجمان: في النهاية، سأقلع عن صناعة الأفلام. وربما أكرس نفسي للقيام بأعمال تجريب من أجل متعتي الشخصية. لديّ "ناجرا" و"أريفليكس" ملكًا لي. القيام بإخراج الأفلام ليس مطلبًا عقليًا فقط ولكنه يأخذ الكثير منك جسديًا. على أية حال هناك مخرجون قليلون جدًا تجاوزوا الستين لا يزالون يعملون. إنه لمن العسير جدًا بالنسبة لمخرج من المخرجين القيام بعمل فيلم في اسكندنافيا عنه في أي مكان آخر. يجب عليه التعامل مع الكثير من العمل الإداري والمهام التنظيمية، بخلاف المخرجين الآخرين. وسوف يستغرقون أيضًا وقتًا أطول بكثير في القيام بالتصوير. فترات التصوير القصيرة لدينا متلاصقة وقصيرة جدًا بدرجة خانقة. لذلك, فقد خططت للتقاعد، إذا شاء الله وبقيت واقفًا على قدميّ، خلال سنتين قادمتين. أقوم فيها بإخراج أربعة أو خمسة أفلام ثم أتقاعد. لكن السبب في الاستمرار هو أنني أستمتع بممارسة هذه المهنة. كانت لديّ دائمًا هذه الرغبة.

لا أعرف من أين تجيء أعتقد أنها نتيجة حاجة كبيرة للاتصال. لديّ حاجة كبيرة للتأثير على الناس الآخرين، أن أؤثر في الناس الآخرين جسديًا وعقليًا، أتصل بهم وأتواصل معهم. الأفلام، بالطبع، وسيلة رائعة يمكن من خلالها الاتصال بالناس الآخرين، والوصول إليهم، إما لتتسبب في مضايقتهم أو أن تجعلهم سعداء، لجعلهم حزانى أو تجعلهم يفكرون. لجعلهم يبدءون، بطريقة عاطفية. ربما هذا هو السبب الحقيقي العميق لاستمراري في صناعة الأفلام.

أيضًا هناك شيء ما بخصوص العمل نفسه وهو أنك تصبح معتمدًا عليه إلى حد كبير. أنت جزء من المجموعة. إذا كنت تشعر بالحرج نسبيًا، وشخصًا جبانًا وخجولا مثلي لديه صعوبة في إقامة علاقات عميقة، فإنه من الرائع أن تعيش في العالم الجماعي لصناعة الأفلام. أو ضمن مجموعة في المسرح تعمل في مسرحية. السبب هو أنه لا شيء آخر له أهمية بالنسبة للمجموعة، تكرس نفسك تمامًا ليس أقل من هذا ويجب عليم أن تراهن بنفسك على الأفضل أو الأسوأ ويجب عليك أن تتقبل مجازفة الاستهزاء بنفسك. يجب عليك أن تجازف بأن الناس سيسخرون منك، الأمر الذي لا يشكل أي اختلاف في الواقع. لكن خلال صناعة الأفلام وإخراج المسرحيات تتصل بالناس الآخرين بشكل مستمر يتطفل المرء على مشاكل الآخرين.

الممثلون، أعضاء طاقم العمل، الجميع مدفوعون بشكل شديد العاطفية مفيد جدًا ومسل جدًا، ومدهش باستمرار، لأن التنشيط العظيم للمرء هو أن يظل باستمرار مع الناس. الناس الحية.

السؤال: هل تشعر أنك سمحت للأعضاء الآخرين في المجموعة أن يشاركوا بدور في مشاكل بنفس الطريقة؟

برجمان: عذابهم هو أنه عندما نعمل فيلمًا يجب عليهم أن يعيشوا لثمانية أو عشرة أسابيع مع بعض المشاكل اللعينة التي كانت عندي في فترة سابقة من تاريخي. هذه مسألة أخرى ولها أهمية ثانوية في هذا السياق.

لكن يمكن للمرء أيضًا أن يقول إن هؤلاء الناس يخضعون لصعوبات ومشاكل المخرج لأن المرء ليس أفضل مخرج أبدًا أكثر مما تسمح به حدوده. المرء ليس أفضل رئيس أو قائد أبدًا أكثر مما تسمح به ملكاته. لكن يمكن للمرء أن يقول بسهولة إن هذه رحلة في داخلي، إنها حاجة أو ضرورة ملحة بالضبط مثل الأكل، والشرب، وممارسة الجنس، والنوم. إنها اندماج كامل في كل خلية في جسمي إلى درجة أنني أعتقد أنه إذا حاول المرء إلغاء المهنة مني أو من الفنان الذي يعمل هذه الأعمال فلن يتبقى هناك شيء تقريبًا. ربما سيكون هناك الكثير من الجنون الذي لرجل شبيه بـ "الهليون" يهيم على وجهه من دون أن يقدر على أن يتولى الاهتمام بنفسه.

السؤال: عندما تقول الآن إنك لا تتوقع عمل أفلام لفترة تزيد عن مدى زمني محدود، هل تعتقد أن الأفلام لها
 مستقبل؟

برجمان: ضخم! أظن أنه سيطرأ عليها تغيرات، وطرق وأساليب من أجل التكيّف، لكن كل هذا ليس من الأهمية بمكان. الأفلام نظرًا لأنها مثل الوسطاء أو قنوات التوصيل والموزعين أو الناقلين بالنسبة للأشخاص الحالمين والأحلام، وكذلك لأحلام الناس وآمالهم ومعظم الرغبات السرية، فإنها ستتواجد دائمًا لأنه ليست هناك وسيلة أو محتوى أفضل.

أفلامه الروائية الطويلة:
 1 - أزمة (1946).
2 - إنها تمطر على حبنا (1946).
3 - سفينة إلى الهند (1947).
4 - الليل هو مستقبلي (1948).
5 - مرفأ النداء (1948).
6 - طيش الشيطان (1949).
7 - عطش (1949).
8 - نحو البهجة (1949).
9 - توتر شديد (1950).
10 - استراحة صيف (1951).
11 - أسرار النساء (1952).
12 - صيف مع مونيكا (1953).
13 - الليلة العارية (1953).
14 - درس في الحب (1954).
15 - أحلام (1955).
16 - ابتسامات ليلة صيف (1955).
17 - الختم السابع (1957).
18 - الفراولة البرية (1957)
19 - حافة الحياة (1958).
20 - الساحر (1958).
21 - الربيع البكر (1960).
22 - عين الشيطان (1960).
23 - عبر زجاج معتم (1961).
24 - ضوء الشتاء (1963).
25 - الصمت (1963).
26 - كل أولئك النساء (1964).
27 - برسونا (1966).
28 - ساعة الذئب (1968).
29 - عار (1968).
30 - عاطفة (1969).
31 - الطقوس (1969).
32 - اللمسة (1971).
33 - صرخات وهمسات (1973).
34 - مشاهد من زواج (1974).
35 - الناي السحري (1975).
36 - وجهًا لوجه (1976).
37 - بيضة الثعبان (1977).
38 - سوناتا الخريف (1978).
39 - من حياة الدمى (1980)
40 - فاني وألكسندر (1982).
41 - بعد البروفة (1984).
42 - لتكن الضوضاء وليقم الأحمق بدوره (1998).
43 - ساراباند (2003).