عقب تتويجه بجائزة نوبل للآداب اكتشف الوسط الثقافي العالمي جغرافية شعرية غاية في الأهمية ظلت لسنوات بعيدة عن الضوء والبحث والتقصي، واليوم برحيله يفقد الشعري السويدي ومن خلاله الشعر العالمي صوتا متفردا يغوص عميقا في الكينونة وفي الهوية البشرية وأبعادها الروحية، تجربة تتقصى المجهول وتكشف على جزء نابض بالحياة، ورغم رحيله ستظل قصائد الشاعر حية في الذاكرة الشعرية جمعاء.

رحيل الشاعر السويدي توماس ترانستورمر

قالت صحيفة سفينسكا داجبلادت السويدية يوم الجمعة إن الشاعر السويدي توماس ترانسترومر الفائز بجائزة نوبل في الآداب قد توفي. ونقلت الصحيفة نبأ وفاة ترانسترومر عن عضو بالأكاديمية السويدية. وتوماس ترانستورمر (80 عاما) الذي حاز جائزة نوبل للآداب للعام 2011 من أكثر الشعراء الاسكندينافيين على قيد الحياة شهرة مع أعمال يستكشف فيها العلاقة بين حميمية الإنسان والعالم الذي يحيط به. ويدعو ترانسترومر الذي تابع دروسا في علم النفس، إلى تفحص شعري للطبيعة يسمح بالغوص في أعماق الهوية البشرية وبعدها الروحي.

وقال ناقد سويدي عن أشعار ترانسترومر إن "وجود الكائن البشري فيها لا ينتهي عند حدود أصابعه" واصفا قصائده بأنها "صلوات علمانية". وشهرة ترانسترومر في العالم الناطق باللغة الانكليزية عائدة بجزء كبير منها إلى صداقته بالشاعر الأميركي روبرت بلاي الذي ترجم إلى الانكليزية قسما كبيرا من أعماله. وقد ترجمت أعمال الشاعر السويدي إلى حوالي خمسين لغة. وتزخر أشعار توماس ترانسترومر بالاستعارات والصور وهي تعكس مشاهد بسيطة مستقاة من الحياة اليومية ومن الطبيعة. أسلوبه الاستنباطي الذي وصفته مجلة "بابلشيرز ويكلي" انه "زاهد حزين ومتغير"، يتناقض وحياة الشاعر الملتزم في نضال من اجل عالم أفضل وليس فقط من خلال قصائده.

ولد توماس ترانسترومر في 15 نسان/ابريل 1931 في ستوكهولم وقد تولت والدته تربيته بعد رحيل والده المبكر. حصل على إجازة في علم النفس العام 1956 وعمل في المعهد النفسي التقني في جامعة ستوكهولم قبل أن يهتم في ستينات القرن الماضي بشباب جانحين في معهد متخصص. بموازاة انجاز أعمال شعرية غنية، عمل مع معوقين وسجناء ومدمني مخدرات. في سن الثالثة والعشرين اصدر وهو لا يزال طالبا، ديوانه الأول بعنوان "17 قصيدة" لدى اكبر دار نشر سويدية "بونيرز" الذي بقي مرتبطا بها طوال حياته الأدبية. وترى دار النشر هذه أن شعر ترانسترومر "تشكل تحليلا متواصلا للغز الهوية الفردية في وجه التنوع المتفرع للعالم". حاز العام 1966 جائزة بيلمان العريقة ونال بعدها مكافآت عدة بينها جائزة بيترارك (ألمانيا العام 1981) ونويشتاد انترناشونال برايز (الولايات المتحدة العام 1990). في 1997 استحدثت مدينة فاتيراس العمالية حيث عاش ثلاثين عاما قبل عودته إلى ستوكهولم في تسعينات القرن الماضي جائزة ترانسترومر. وقد صدرت له حوالي عشرة دواوين. أصيب توماس ترانسترومر العام 1990 بشلل نصفي وصعوبة بالنطق اثر سكتة دماغية مما اضطره إلى الحد كثيرا من نشاطاته. اصدر بعد وعكته الصحية هذه بست سنوات ديوانا بعنوان "غندول الحزن" الذي بيعت 30 ألف نسخة منه وهو رقم جيد على صعيد الشعر. بعد هذا النجاح لم يصدر الشاعر السويدي إي عمل على مدى ثماني سنوات باستثناء مراسلاته مع بلاي. ويعود أخر إصدار له إلى العام 2004 مع نشر ديوان يضم 45 قصيدة قصيرة بعنوان "اللغز الكبير". ومنذ ذلك الحين طغت الموسيقى على عالم ترانسترومر عازف البيانو الهاوي. وهو يعزف على هذه الآلة يوميا بيده اليسرى لان اليمنى مشلولة وكان يمضي فترة ما قبل الظهر يستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية على ما روت زوجته في مقابلة مع صحيفة "داغنز نيهيتير" السويدية هذه السنة. وكان يقيم توماس ترانسترومر مع زوجته مونيكا ولهما ابنتان.

وحين منحته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للآداب العام 2011  حددت السبب الذي دفعتها إلى منحه موضحة: "لأنه من خلال صور مركزة وواضحة، يعطينا منفذا جديدا على الواقع". وعلق الأمين العام للأكاديمية بيتر انغلوند "يتناول الموت والتاريخ والذاكرة التي تحدق بنا وتزيد من قيمتنا (..) لا يمكننا أبدا إن نشعر بالصغر بعد قراءة شعر ترناسترومر".

وأضافت الأكاديمية إن "غالبية دواوين ترانسترومر الشعرية تتسم بالإيجاز والوضوح والاستعارات المعبرة". أوضح انغلوند "ليس شاعرا غزير الإنتاج" الا أن بساطة قصائده المعبرة جدا سمحت بترجمة أعماله إلى أكثر من ستين لغة. انطلق في بداياته بقصائد تقليدية تمحورت حول الطبيعة إلا أن أعماله اتخذت رويدا رويدا طابعا أكثر حميمية وحرية بحثا عن الارتقاء بالذات وفهم المجهول. في دواوينه الأخيرة ولا سيما أخر عمل له صدر في 2004 وضم 45 قصيدة صغيرة جدا.