لاتكشف هذه المراجعة لمجموعة القاصة العراقية صبيحة شبر عن المتهمين الذين دمروا بلدها فحسب، بل عن الظروف الصعبة التي يعمل فيها الكاتب الفلسطيني تحت الاحتلال الصهيوني البشع كذلك.

مع اتهامات «لائحة الاتهام تطول»

زياد جيّوسي

أتيح لي أن تكرمني الزميلة الكاتبة صبيحة شبر بنسخة من مجموعتها القصصية (لائحة الاتهام تطول)، حيث تكرمت بإرسالها إلى عنوان أسرتي في الأردن، ومن هناك تم إرسالها لي بعد تيسر من يحملها بعد شهر وأكثر من الزمان، فكانت رحلة طويلة لوصول كتاب أدبي ولكنها رحلة تروي معاناتنا هنا في فلسطين المحتلة في الحصول على كتاب. في اللحظة الأولى لفت نظري العنوان الذي حملته المجموعة وهو عنوان أحد القصص التي يضمها الكتاب، ودققت النظر في لوحة الغلاف فوجدت خارطة العراق خضراء لا لون آخر سوى الرافدين دجلة والفرات باللون الأزرق، موضوعة في قفص الاتهام، وشجرتي نخيل مخلوعة من الجذور، وملقاة مكسورة تحفها من اليمين واليسار شجرتان أخريان ما زالتا شامختين كما هو نخيل العراق، هذه اللوحة مع العنوان أثارا بداخلي التساؤلات والمسارعة بالبدء بالقراءة متخطيا عادتي بأن أقرأ حسب تاريخ وصول كتاب ما إلى يدي. 

وكالعادة بدأت بعد تدقيق الغلاف بالنظر إلى الإهداء الذي يشي بالمعنى الذي تهدف إليه هذه المجموعة فكان "إلى وطني الذي أدين له بكل شيء جميل"، وهذه إشارة واضحة لا تخفى على قارئ، وقد أتيح لي الإطلاع على بعض القراءات ووجهات النظر في هذه المجموعة، فوجدت بعض القصور في فهم ما تريده الكاتبة من خلال نزف قلمها، فالمجموعة تحمل في ثناياها الهم الوطني الكبير، وألم الوطن وجرح الوطن من خلال المعاناة، معاناة الوطن الذي أثخنته الجراح، ومعاناة البعد والاغتراب الذي طال، ومعاناة المجتمع وأمراضه، فالمؤلفة عراقية المنبت والمحيا ولكنها تعيش خارج الوطن منذ عام ألف وتسعمائة وتسع وسبعون حين غادرت للكويت، وبعد سنوات إلى المغرب واستقرت هناك. 

وما أن بدأت بالقراءة وبعد عدة قصص حتى أدركت أن لائحة الاتهام تطول، تطال العديد من المتهمين في ثنايا النصوص مما دفعني للمسارعة في القراءة لأطلع على هذا النوع من القصص الهادف، الذي يحمل في طياته المعاناة وألم البعد والاغتراب وجرح الوطن النازف، والذي لم يتوقف عن النزف في حروب متعددة لم تتوقف منذ عام مغادرتها الوطن حتى وقوعه تحت ربقة الاحتلال، والصراع الدموي الذي يجري في داخله فينزف الدم اليومي، وأصبحت أخبار العثور على عشرات الجثث المشوهة والمغتالة خبر اعتيادي في نشرات الأخبار كل يوم، وأصبحت أخبار العربات المفخخة والتي تفتك بالناس والأسواق والأفراح والجنازات خبرا متكررا بالكاد تجد لها زاوية في عالم الإعلام. 

وما بين أربع وسبعين صفحة وتسع عشرة قصة تتوزع لائحة الاتهام وتطول، ويزداد النزف ويكبر حجم الألم ويتفتح الجرح، وسأحاول في هذه القراءة المتواضعة أن أصل لتحديد شخصيات المتهمين، والتهم الموجهة إليهم، تاركا للقارئ الحكم عليهم، وبعد الإطلاع على لائحة الاتهام جمعت كل مجموعة من المتهمين الصغار ضمن المتهم الأكبر، والذي لا تمثل شخصيات المتهمين إلا أجزاء من المتهم الأساسي الذي يضمهم في ثناياه، وقد لفت نظري اقتصار المجموعة على تسع عشرة قصة! فهل الرقم أتى صدفة مجردة أم مقصودا؟ أم أنه المخزون التراثي في العقل اللاواعي هو الذي حدد هذا الرقم والمرتبط ارتباطا وثيقا بالمعتقدات الدينية؟ 

المتهم الأول: القدر
في قصة "الخطافة" يلعب القدر لعبته في قصة حب وانتظار وحلم لقاء "أيام طويلة تمضي وأنا أمني النفس أنني سألقاك"، "وفجأة وأنا أحلم باللقاء رأيتك إلى جانبي"، هو حلم واستدعاء للذاكرة والطفولة "حكايات الماضي..حين كنا صغارا نلهو مع الزمان"، "أتسلق السطوح، أمك وحدها تبقى معنا تغزل باستمرار وكأنها تحوك للناس أحلامهم"، وتستمر الذكريات واستدعاء صورة الحبيب الذي غادر ولم يعد سأذهب لإكمال دراستي وأعود جديرا بك .. يطول بك الغياب وأشعر بالعجز لبعدك، تهجرني إرادتي وأصبح مشلولة أمام قوى تريد اختراقي، تأتي من السفر وتهرع لرؤيتي، وإذا بك أمام مخلوقة أخرى ضعيفة مستسلمة، فيغادر إلى حضن آخر ويأتي القدر على صورة "امرأة ممتلئة في العقد الخامس من العمر"، "تصرخ بقوة" لا رجل لك... قصص الحب عندك مبتورة منذ البداية... هذا الذي جنبك جاء إحياء للذكرى وليس من أجلك، "تلتفت لي: فرصة أخيرة لك، انه بعيد ويهواك، اطلعي البحار من أجله وحين تصلين إليه تعيشين ثلاثة أيام في الجنة ثم يتركك إلى العالم الآخر"، من هو الحبيب الذي غادر وتجسد على شكل رجل؟ هل هو الغياب عن الوطن والبعد، هل هو الوطن الذي يعاني فما أن يعود إليه محبوب حتى يكون ضحية اغتيال أو سيارة موت متفجرة تقف في الزوايا لترسل العشاق إلى العالم الآخر؟ وهذا القدر على شكل امرأة خماسينية العمر هل هو عمر الدولة الحديث الذي انتهى بالاحتلال؟ هي تساؤلات لا يمكن التغافل عنها من خلال تداخل المعنى والأهداف في هذا القصص الجميل. 

في "محاولة" نرى عبث القدر مرة أخرى وبشكل آخر، امرأة تقف أمام مرآتها، فتشعر أن "المرآة تضحك مني، تنظر إلي شامتة، تخرج لسانها، تسخر من عجزي واستسلامي"، "وددت لو أفعل شيئا، أن أنتصر عليها، أحطمها"، وما المرآة هنا إلا قدر يخاطب بطلة القصة، "ابتسمي.. اهربي من سجنك، حطمي قيودك، ثوري على جلاديك، انتصري لمبادئك وقيمك"، فتجيب "ماذا عساي أن أفعل وأنا غريبة هنا ؟ كبر الأبناء وتركوني، فارقت أهلي وأحبابي منذ دهر، ولا أصدقاء لي هنا، أحبابي رحلوا... وأنا لا أجيد السباحة ضد التيار، أصبحت خانعة أرضى بما يبتغونه لي"، إنها عملية استسلام هائلة للقدر، لكنها تقرر أن تقاوم قدرها "عليّ أن أقهر خنوعي واستسلامي، الإنسان مخلوق قوي، إن تردد يوما فانه يعود للحزم والعزم مرة أخرى... ينبغي أن أتحلى بإرادتي..."، "أعاود الضحك تنتصر إرادتي، تنقشع الغيوم السوداء"، تستعين بأغنية لفيروز تقول فيها " لم لا أحيا وطل الورد يحيا في الشفاه"،   
تنظر في مرآتها "مخلوقة جديدة أمامي، متفائلة، واثقة تحب الحياة، تهزم همومها بالضحك، قادرة على الابتسام". 

المتهم الثاني: المجتمع
المتهمون نماذج مختلفة وعديدة، وكل نموذج يلعب دورا ما في المجتمع، وان كان الكل يلعب دوره بصورة أو بأخرى باضطهاد المرأة وقمعها وقمع تطلعاتها، ولكني آثرت أن أضع جميع المتهمين تحت خانة المجتمع بغض النظر عن كل جريمة وطبيعتها، ففي النهاية المجرم هو النظام الاجتماعي بأدواته المختلفة، والجريمة واحدة وان اختلفت صورها.  في "استغاثة" نجد نموذجا متميزا من النماذج التي توردها الكاتبة، نموذج المرأة التي يطلب منها أن تلقي محاضرة عن الحياة الزوجية السعيدة، في الوقت الذي لا تشعر فيه بالسعادة أبدا، فهي وبغض النظر عن مستواها التعليمي المتقدم، ما هي إلا ضحية من ضحايا المجتمع عامة والمجتمع الذكوري بشكل خاص، ولكنها تستغل غياب الذكور والزوج لتتكلم بوضوح وصراحة مشرحة المجتمع العربي بكل ما يعانيه من ازدواجية في التعامل، بكل ما فيه من الصور المزورة والأقنعة والزيف، وتشير بأصابعها بوضوح إلى المجتمع متهمة إياه، "سأكون صريحة معكن وأتحدث بلا أكاذيب أو اختلاقات وعندما ترينه مقبلا أخبرنني كي آخذ حذري وأعود إلى حديثي المرسوم و المقرر، بلا مساواة ولا بطيخ في مجتمعاتنا العربية"، "هراء ما تدعيه بعضكن، هل تزعمن المساواة، أي مساواة تجدنها في الوطن العربي ؟"، "ألا ترون أن علينا معشر النساء واجبات كثيرة؟ وليس لدينا حقوق"، " أجد نفسي هكذا، أنا آلة صماء"، "هراء ما بقينا نسمعه طوال عمرنا المهدود عن دعاوى المساواة"، "لماذا يفرض على المرأة أن تحب من نسيها"، "المرأة العربية تكتسب عادات زوجها وتتخلق بها بمرور الوقت "، ومن ثم تنتقل لتصوير المرأة المقموعة من داخلها "المرأة كالوردة تذبل إن لم يتم ارواؤها"، "حلمت مرارا برجل يحبني ويضمني إليه بحرارة"، "هو القدر، جعلني أبدو هادئة ساكنة، وداخلي يغلي كالمرجل"، "لا شيء غير الحب يبعث الأمل في النفوس"، وفي النهاية بعد تصوير هذه الحالة التي تمثل النساء العربيات، الحالة المقموعة من المجتمع الذكوري، نجدها بمجرد إطلالة الزوج تعود لترتدي القناع المزيف من جديد "إنها حياة حافلة بالنجاحات، زاخرة بالأفراح، عشتها مع توأم روحي"، "نحن زوجان متعاونان في كل أمور الحياة، ناجحان سعيدان..وشريكي إنسان ذو قلب كبير"، هكذا تعود لارتداء القناع المزيف وتبقى صرختها تهدر في الأذن وفي عيون القراء "لم يعد يراني امرأته، ومن أكون؟

وتتكرر الاتهامات للمجتمع في أكثر من قصة، ففي قصتها "تراجع عن قرار"، نجد نموذج آخر لامرأة مضطهدة من المجتمع المتمثل بزوج سكير، وأبناء لا تستطيع أن تتركهم وتنال حريتها "كيف يمكنها أن تتخلص من العبء المرهق وهؤلاء أولادهما المشتركون، ويريدونهما أن يكونا مع بعضهما البعض، طيلة الحياة"، ولكن " لقد حلمت مرارا أن تضع حدا للمعاناة المستمرة بلا طائل"، فهي تعاني من زوج "يحرص على نكرانها وإقصائها من حياته كما أبعدها عن قلبه"، رغم أنه "يقرأ كثيرا، يريد أن يظهر أمام الناس أنه مثقف، كأن الثقافة قراءة وتحول إلى دودة كتب، ودفن النفس بعيدة عن الحياة واشراقاتها، لم يبال يوما بمشاعرها وأحاسيسها"، هذا الإهمال كان يدفعها للتفكير بالخلاص، ومع زواج ولدها يدفعها البؤس النفسي لتدبير جريمة قتل محبوكة كما خيل إليها للخلاص من الزوج، "سيبدو الأمر طبيعيا، والجريمة بدون فاعل، فمن يشك بها؟؟"، تسائل نفسها "كيف يمكنها أن تعيش مع إنسان غريب عنها، لا شيء يجمعهما ويوحد مشاعرهما المتباينة"، إنها ضحية أخرى تمثل نموذجا من ضحايا المجتمع واستلاب حق القرار للمرأة، حتى تفكر بجريمة قتل وكل ما تحتاجه أن تشعر بإنسانيتها لاغير وبحضن دافئ يضمها، وفي لحظة مفاجئة يحضر إليها ليعرض عليها حضور فيلم سويا، "يفاجئها حضوره، لعله يشعر بوحدة قاسية بعد أن ذهب الأولاد كما تشعر هي"، تسأل نفسها "ما بال هذا الرجل؟؟ هل فراق الأولاد يجعله حنونا، رأت في عينيه ومضة حب لم تجدها وكانت تبحث عنها..ومضة جعلتها تود احتضانه كما كانت في الأيام الماضيات"، والنتيجة تكون "ستؤجل قراراها، وتنتظر، عله يعود". 

وتتكرر صورة أخرى تصور اضطهاد المرأة في قصة "يوم في حياة امرأة"، حيث نرى المرأة التي تتحمل كل أعباء البيت إضافة لعملها والزوج الذي لا يرضى أبدا ولا يكف عن التذمر وإلقاء اللوم عليها أمام أي قصور مقصود أو غير مقصود، فالزوج هنا يمثل شريحة من المجتمع تريد من المرأة العمل الذي يجلب الدخل الإضافي إضافة للعناية في كل شؤون البيت، وأما هو فيكفيه العمل الحر الذي لا يستعبده والجلوس على المقاهي دون أن يفكر بمساعدتها، أو على الأقل الكف عن التعنيف والتذمر و "جعل الزوجة حائرة لا تدري بم ترضي زوجها". 

وفي قصتها "أهدي نفسي باقة ورد"، نجد نموذج المرأة المكافحة بجانب حبيبها حتى يحقق طموحه ثم يتناساها وينسب الفضل فيما وصل إليه إلى ذاته متناسيا الجهد المشترك، "قلت لي انك تطمح أن تكون أكثر نجاحا.. أسعدني طموحك وناضلت من أجل نجاحك، ظانة أنه نجاح لي"، وفي الحفل الذي تقيمه للأصدقاء احتفالا بهذا النجاح وتتكلم عنه بكل ايجابية، يتكلم هو ويقول "فكرت أن تختار من النساء من تعينك بالمهمة الجديدة، لكنك لم تجد ضالتك... المرأة رغم نضالها الطويل لم تصل إلى المستوى الذي نريد.. وان المرأة.. لا يمكن أن تنجح بالمهام العظيمة"، وهكذا يتغافل عن كل دورها ويحط من شأن المرأة، فتضن عليه بباقة الورود التي أحضرتها "نظرت إلى باقة الورد بيدي، وجدتها تشفق أن تذهب إلى يد لا تعرف قيمة الورد"، "يا من تسطو على انتصاراتي ناسبة إياها لك وحدك، متناسيا تضحياتي المتواصلة للوقوف بقربك". 

نموذج آخر تقدمه لنا الكاتبة في قصتها "ما عاد لك"، حيث الزوج الذي يتخلى عن زوجته بإغراء امرأة أخرى، ونجد ما جرى على لسان المرأة الغريمة " رفيق حياتك أسيري، وأنت تعانين التشتت والضياع، كلمات غزل مني صيرته معبودا لي، وأنت قد زالت منك الحياة، ودخلت في سراديب البرودة والثلج". حالة أخرى تقدمها لنا الكاتبة من خلال قصتها "سطو"، فهنا المرأة تتعرض للشك والتخوين دون أن يتاح لها الدفاع عن نفسها، فتعيش ذكريات الحب القديم فتتذكر "كنا نسير وحيدين، أنا وأنت يا حبيبي، كفك حمامة تحط في يدي، كلماتك غيث تتشربه روحي، وأنا جذلى أزغرد"، هنا هي ليست أكثر من ذكريات حب قد رحل ولم يدم الفرح "لم أعتد البهجة، فسرعان ما تعاونت مجموعة أياد لتغتال مني الألق وتخنق في نفسي الوهج"، انه الشعور بالظلم الذي تعرضت له فدمر حياتها، فالمرأة في المجتمعات الشرقية يمكن أن تعاقب على الإشاعة، ويمكن أن تقتل أيضا تحت مسمى جرائم الشرف، التي تتيح للرجل قتل المرأة تحت بند الدفاع عن الشرف وتبييضه، والمجرم لا يعاقب إلا بالسجن شهور قليلة ويخرج من السجن مرفوع الرأس، والمجتمع ينظر له بالإعجاب والتقدير، "لم أجن إثما.. ماذا نقلوا لك ؟ وأي نوع من الآثام اقترفت يداي، يشلني الشعور بالظلم، أتصدق كل ما يقولونه عني وأنت بحر حنان؟ لم تدع لي مجالا للدفاع عن نفسي". 

في قصتها "شعور عارض" تأتي القصة على لسان رجل، وهي القصة الوحيدة التي نجد الرجل هو المتكلم معبرا عما في داخله تجاه زوجته، فهو يسمعها تحاول أن تكتم ألمها ولا تصرخ فيشعر بالإثم وانه كان قاسيا على زوجته "شعور بالإثم سيطر علي لحظة هذا الصباح"، "انتابني إحساس بأنني ظالم وأنني جانبت الإنصاف، واضطهدت هذه المخلوقة بدون قصد مني"، "وفي كل مرة تتكلم فيها، أحاول أن أقنعها بأن ما تشعر به من ظلم ليس صحيحا، وأن مرد هذا الشعور حساسيتها المفرطة، ونفسها المرهقة"، "فكرت أنها أبعدتني عن عواطفها كما فعلت أنا منذ زمن"، هل هي صحوة ضمير في لحظة ما وهو يتذكر الماضي وهي تكتم ألمها ؟؟ لكن سرعان ما يدق هاتفه ويأتي صوت صديقته تدعوه لسهرة في بيتها فيصحو من الشعور العارض الذي انتابه "رحبت بالاقتراح وأبعدت ذلك الشعور العجيب الغريب وكأنه زائر جاءني دون استئذان". 

المتهم الثالث: النظام السياسي
"تعلمنا أن الأب معاملة حانية وحازمة، حنان متدفق، دفء متواصل..إن الحياة جميلة وأننا يجب أن نتعلم العطاء مثلما تعلمنا الأخذ"، هكذا هو الأب في قصة "الفقدان"، وفقد الأب ليس سهلا في حياة الإنسان "لا أصدق أنك رحلت، وأنني لن أراك بعد الآن"، فهذا الأب يختلف عن الكثيرين من الآباء "لم أسمع منك كلمة خشنة، أباء صديقاتي كانوا يضربون بناتهم بالحزام دون أن يبالوا أنهن فتيات وحرام أن يضربن بباقات الورود... تخرج معي ونذهب إلى دور الكتب نشتري كتابا معينا أو للسوق فتختار لي ما أريد بذوقك الذي حسدني عليه الجميع"، هذا الأب يموت قهرا وألما من سطوة النظام السياسي الحاكم "قضوا على حياة والدك، وأجبروك ألا تخبر أحدا بالنبأ وألا تقيم مجالس العزاء، وإلا أبادوا جميع أفراد أسرتك"، "الأسرة... يغتال أفرادها الواحد تلو الآخر، تمني النفس أن أحد أولادك الموقوفين ما زال حيا... ولكن أحلامك قد تحولت سرابا حين علمنا أن جميع الموقوفين قد أبيدوا، حكم عليهم بالموت ونفذ الحكم دون أن نعلم بالأمر"، وهنا تلخص حال الشعب وحال المجموع "ولماذا ينبئونا ونحن مجرد أرقام"، والنهاية هي "أحاط بك الحزن من كل جانب"، "واليوم تغادر دون وداع".... والنتيجة تشتت أبناء الأسر المنكوبة بأنظمتها فالنظام السياسي الفاسد المعادي لجماهيره هو متهم رئيسي يتحمل المسؤولية كاملة. 

وفي "المعلم" تقدم لنا الكاتبة صورة لامرأة من هذا الشعب اضطرت للمغادرة والعمل في مكان آخر وبلد آخر لتقع تحت نظام آخر ينخره الفساد فيستغلها أبشع استغلال من خلال مسئولين حكوميين، فالغريب مضطهد كالعادة "الساعة الآن الثالثة صباحا، اتصلوا بك قبل دقائق يأمرونك بالقدوم، عليك السمع والطاعة والامتثال لما يقررونه من أمور، والا حلت عليك اللعنة"، "عليك أن تبتسمي، وتعلني عن طاعتك وامتثالك لأوامرهم، والا أعادوك من حيث أتيت"، هي لقمة الخبز والفرار من الاضطهاد الذي يؤدي بالروح إلى الموت، إلى الاضطهاد الذي يمتص قطرة العرق والكرامة، "أسمعوك كلمات عديدة أنك لولاهم لمت جوعا وما استطاع أولادك أن يتعلموا"، "يحكمون عليك بما يقررون لأبناء وبنات وطنك، ولكنك ارتأيت أن تكوني بعيدة عن أياديهم الطويلة، فغادرت إلى هذه البلاد"، " قد يطردونك من العمل، لكنهم لا يسجنوك أو يعذبوك، أنت شبه آمنة هنا"، "لم تجدي عملا إلا حيث يرهقونك ويخفضون من راتبك"، رغم أنهم "رحبوا بقدومك قائلين أنك كفاءة في القدرات التعليمية والتربوية"، وفي النهاية يكون هدف هذا الاستدعاء المرعب في الثالثة صباحا هو "عندنا طلاب ثلاثة أريدك أن تساعديهم...الأمر بسيط ..اكتبي لهم الأجوبة، اصعدي للطابق الأعلى كي لا يراك أحد واكتبي"، وأيضا "ولدين في مدرسة أخرى يرغبان بأخذ دروس خاصة عندك...تذكري أن لي خمسين بالمائة من الأجور"، انه القهر بعينه يتحمل مسؤوليته المتهم \ النظام السياسي.." أنت مسيرة، ماذا بامكانك أن تفعلي وأنت غريبة هنا ؟ بعيدة عن الأهل والخلان واليد الواحدة لا تصفق". 

وفي قصة " تشابك مهن" تتكرر المعاناة من خلال سفر النموذج الذي تورده الكاتبة لعلاج ابنتها، فيتم احتجازها في المطار ونزع ابنتها منها في الدولة التي تقصدها وزجها في السجن مع مجموعة من المجرمات، ويتم التحقيق معها في المطار "لماذا انتم تتخذون من خارج البلد مأوى لكم ولأبنائكما؟؟ والوطن عزيز على الجميع، مشهود له بالغنى الوفير وبتنوع الخيرات، التي تجعل الغرباء يتوجهون إليه وأنتم ارتأيتم البعاد عنه". 

وفي قصة "مع سبق الإصرار والترصد" تلجأ الكاتبة إلى الرمزية في الإشارة إلى فرار أبناء الوطن بمجرد أن تتاح لهم الفرصة، من خلال تصوير زوج من البلابل هربا من القفص "عندما فتح لهما الباب طارا معا وتركاني وحدي، أنتظر عودتهما، فلا شك أنهما فقدا معالم الطريق".

وفي قصة "رسالة إلى صديقتي المقتولة"، نجد نموذجا آخر لامرأة كانت تهزأ بالصعاب وتقاومها " انك تطردين الهموم والأحزان بضحكك المستمر، وابتسامتك المتواصلة"، ترفع شعارا واحدا "بعدا للألم..وسحقا للانهزام "، ولكنها تقع أيضا تحت ظلم النظام السياسي " أعدموا زوجك وابنك الكبير، فقدت ابنتك الوحيدة...بقيت وحيدة غريبة، في ذلك المنزل الكبير والمتهدم، تمنين النفس أن يعود ابنك المتبقي لك في هذه الحياة"، ولكن.."يأتيك النبأ بأن ابنك قد أبيد مع الآخرين، وأن حكما بالإعدام قد صدر بحقه، دون أن تعلمي أو يبلغوك"، ومع هذا تقول "بعدا للألم، سحقا للانهزام"، لتقع في النهاية ضحية تفجير في سوق شعبي في ظل الاحتلال.

"سطو" قصة تتحدث أيضا عن الآم الاغتراب، وتلخص نظرتها إلى دور النظام السياسي ودوره بهذه العبارة المعبرة "كل شيء سرقوه يا حبيبي..الوطن، الأهل، الأصدقاء، الهوايات، الاهتمامات، الشعور بالأمان، لم يبق لنا إلا الخيال". ويلاحظ تكرار الحديث عن المقابر الجماعية في العديد من القصص الواردة ضمن هذه المجموعة، ويتكرر هذا بشكل إنساني حين العثور على مقبرة جماعية فتذهب امرأة لتبحث عن رفات ولدها، فتجد بعض من العظام ولا تجد الآخر، فتلح بالسؤال على الحارس بينما روح ولدها ترف من حولها، فيقول الحارس بانفعال " سيدتي لم تبق فينا عظام، تهرأ كل شيء فينا، أصبحنا رمادا تذروه الرياح". 

وفي أراجيح العيد تتكرر حكاية الذين خرجوا ولم يعودوا، الذين اختطفهم النظام السياسي ولم يعرف لهم مصير، "العيد آت، رغم رحيل الوالد، واستمرار غيابه..هل لا زال على قيد الحياة، أم أنه أبيد كالآلاف من أبناء وبنات شعبنا الطيبين". 

المتهم الرابع: الحكومات العربية
"لائحة الاتهام تطول" نموذج آخر بأسلوب متميز، فهنا نجد صورة لمحاكمة شعب بأكمله وتهجما عليه من قبل الأشقاء، من خلال محاكمة فرد، هي قصة رمزية تصور محكمة وامرأة في قفص الاتهام "أنت واقفة منذ دهر، تورم منك القدمان، وانتفخ الساقان، وانتفض القلب وأرعد وأزبد، يبست شفتاك، وإحساس هائل بالظمأ يجتاحك برعب، ربطوا فمك، فماذا يمكنك أن تفعلي؟؟ طالما انتفضت، ثرت، قاومت، قواك أوشكت على الانطفاء، وعيناك المربوطتان ما زالتا وهاجتين"، المرأة تتمازج هنا بين الوطن وبين الذات "قومك مثيرون للشقاق والنفاق"، "قومك أهل شقاق ونفاق..شقاق ونفاق..شقاق ونفاق"، إنها العبارة المنسوبة للحجاج الحاكم الظالم الذي أعمل سيفه برقاب الأمة من أجل إخضاعها، فتم تداولها عبر التاريخ وأصبح كل حاكم وغاز ومحتل يستخدمها ويستخدم الأسلوب ذاته، القمع والقتل والتشريد وكأن شعب العراق مختلف عن شعوب الأرض قاطبة ولا يساس إلا بالقمع والسوط، إنها لعنة تاريخية على رقاب شعب حر أبي يطمح لأن يعيش حرا. 

"أرضنا تشققت، خيراتنا اضمحلت، هواؤنا تسمم، ماؤنا تلوث، نفطنا تفجر وتبخر، أطفالنا تبعثروا، أشلاؤهم تناثرت، سيقانهم قطعت، أيديهم بترت، عيونهم انطفأ نورها"، ويتم تحميله وزر كل شيء من خلال المحاكمة المفترضة للمرأة هنا، والتي هي محاكمة لوطن بأكمله والحضور "ينظرون بشماتة، يتناولون المرطبات بسرور وبهجة، يتفرجون على مخلوق غريب، في وسط القاعة، معصوب العينين، مربوط اليدين، قد خيطت منه الشفتان، وتورمت القدمان، وانتفخت الركبتان، والقلب قد مل الوجيب"، فمن تكون المرأة إلا الوطن الذي تخلى عنه الأهل والأشقاء، وتركوه يعاني الحصار والجوع والاحتلال والقتل والتدمير، وكأنه لعنة يريدون التخلص منها، "أنت نقمة سلطها الشيطان على هذه الأمة المنكودة، فسلب منها اليقين المفرح، وسرق رضا الله، حين عصت ولي الأمر"، !!!! "هذه المتهمة الماثلة أمامكم أم المصائب التي حلت في ديارنا، أطالبكم أيها القضاة، يا رجال العدالة أن توقعوا بالمجرمة أقصى العقوبات وأن تعيدوا إلى ربوعنا المعذبة أمنها المسلوب"، وهنا أضع أكثر من خط تحت عبارة "أم المصائب". 

المتهم الخامس: الاحتلال..
في قصتها الأولى "أرق ونحيب مكتوم" نجد الكاتبة تتحدث عن النساء المناضلات المعتقلات في السجون الضيقة والقبور التي تلتهم الروح والجسد في لوحة تجسد الألم والمعاناة، فالمعتقلات أرواح بشرية لها معاناتها الإنسانية رغم الصمود في مواجهة الجلاد، وهنا تكمن القدرة على تصوير الجانب الآخر في نفسية المناضل، المعاناة الإنسانية وألم الروح وليس تصوير جانب الصمود فقط كما اعتدنا مغفلين معاناة الإنسان كانسان يحب ويرتبط بآخرين داخل القضبان وخارجها، فمن تصوير المعاناة بالنحيب المكتوم من رجاء "لماذا تراها تبك؟

وهي القوية الصامدة، المتمتعة بتلك القدرة العجيبة على الصبر والاحتمال"، "كانت قوية وصلبة على الدوام"، وتتحدث مع نفسها وكأنها تتحدث مع رفيقة الأسر والقهر"ما الذي يدعوك إلى البكاء والنحيب هذه الساعة المتأخرة من الليل وقد هجع الجميع، أو تظاهرن أنهن في نوم متواصل وعميق"، انه الشعور الإنساني بالفرح الآتي والقدرة على التضحية من أجل بسمة على وجه طفل وارض تنبت سنابل قمح، احترام الذات والآخر بعيدا عن العنجهية التي يصور بها البعض الأسرى والمعتقلين وكأنهم قدوا من صخر وليسوا بشر، انه تقدير لحظات الضعف الإنساني للمناضل أثناء نزفه الليلي دون أن ينتقص من صموده الأسطوري " ولكن الأمل ينبعث بقوة داخلك أن رجاء عزيزتك هجرت بكاءها، وعادت إلى قوتها المعهودة". 

إلى تصوير ذوبان الفرد في المجموع والحرص عليهم "تظل الليل كله يغلبها السهاد، مخافة أن تأتي بحركة غير مقصودة تسبب إيقاظ رفيقتها المتظاهرة بنوم عميق، تتخلله الأحلام الباسمات"، إلى تذكر لحظات التحقيق التي يفتقد فيها المحقق عن أي نوع من الشعور الإنساني "تتعالى ضحكاتهم، يستعملون الأحزمة للضرب المبرح على المناطق التي يكون ألمها بالغا، يطرحون الأسئلة من كل جانب، أسئلة متنوعة.... لماذا تقرئين بهذه القوة وهذا النهم؟ من تعرفين من المخربين؟ هؤلاء الحمقى الذين يطمحون إلى تغيير الشمس وشكل القمر"، تشدها الروح الإنسانية والرغبة في الفداء التي ألقت بها في هذا القبر المكتظ الذي لا يعرف الشمس "تسمعين صرخات متصاعدة من رجل يضرب بإصرار متواصل.... تتمنين لو تستطيعين أن تمدي له يد العون.... تتساءلين من يكون ذلك الرجل المكبل؟؟ أخبروك آخر زيارة أنهم قبضوا على من منحك الحب والرعاية والحنان في طفولتك"، وتعود الروح الإنسانية للحلم في المستقبل الذي لولاه لما وجدت نفسها أسيرة خلف القضبان بعيدا عن الدفء والشمس "تحلمين بصباح جديد تشرق فيه الشمس، وباب مفتوح وبنافذة لا يوصدونها بالمسامير، تسمعين تغريد البلابل، تغنين مع العنادل، تأكلين ما يحلو لك، تعانقين من تحبينهم، تنامين إلى وقت الظهيرة أيام عطلتك، ولا تعودين إلى سماع ذلك الصراخ المرعب"، إنها الروح الإنسانية التي تحلم بقطاف ثمن التضحية فرحا وبسمة وراحة وليس ذاتية تتجلى بمنصب ومقعد مسئول، انه الحلم بالغد المشرق " فالصباح لا بد أن يكون مشرقا ذات مرة". 

وفي قصة "رسالة إلى صديقتي المقتولة"، نجد المرأة التي تقع ضحية النظام السياسي الذي أباد أسرتها "فقدت الجميع ولم تتمكني من توديعهم، ولم تعثري على قبور لهم فقد لا يكون لهم قبور"، وتقع ضحية الاحتلال "تفجير سوق شعبي بسيارة مفخخة"، "وها أنت تقتلين بأيد غادرة، فمن سيقوم بما يلزمك من دفن وبكاء وإنزال داخل القبر"، والنتيجة.."لقد استطاعوا أن يقمعوا تلك الضحكة المجلجلة، كما نجحوا في أن يفقدوني صديقتي الوحيدة". 

في "أراجيح العيد" نجد أن من لم يقضي في السجون يذهب ضحية السيارات المفخخة التي تفتك بالبشر في الأسواق وفي الشوارع وأماكن التجمعات، فالطفلة تنتظر الأم التي ذهبت لتشتري ما يلزم لعمل حلوى العيد، "تسمعين رنينا متواصلا من جرس الباب.. مجموعة من الناس يحملون أمك، لم تكن تحمل شيئا، وكانت هامدة لا قدرة لها على الحراك، يصيبك الذهول، تسمعين أصواتا لا تدركين كنهها،.. سيارة مفخخة"، فتصرخ الطفلة "لماذا ؟؟؟ الآن ؟؟ وقت العيد ؟؟ ولماذا يغيب الآباء والأمهات ولا يعودون ؟؟؟"
اللاعبون في الوطن أصبحوا كثيرين في ظل الاحتلال كما العابثون فيه، وهذا يتجلى بدقة في القصة الرمزية "ضاع عمري"، التي تصور رجل يصرخ " النجدة أغيثوني لقد سرق مني عمري"، ثم الحوار بين المواطن الصالح الذي يشعر أن من واجبه مساعدة المستغيث فيخرج من بيته تحت الظلام، فالكهرباء مقطوعة تماما إلا ساعات محدودة في ظل الاحتلال، فيلتقيه شرطي يسأله أين يذهب ويفهم منه قصة الرجل الغريبة فيعرفه ويشرح له "انه مدمن على لعب القمار خسر كل ما بجيبه من نقود، ولعب على عمره فخسر مرة أخرى"، فهل قامر النظام بكل ما يملك حتى استولى عليه الاحتلال، يكمل الشرطي قوله والشرطي هنا أراه رمزا لنظام آخر "من يدري؟ قد يفيد اللاعبين أن يحصلوا على عمر إنسان قد أوشك أن يودع عمره".  

الخلاصة...
إن القراءة السريعة لمجموعة لائحة الاتهام تطول، تعطي دلالة واضحة على قدرة الكاتبة على تشخيص الأمراض التي تعصف بالمجتمع، من خلال المباشرة تارة ومن خلال الرمز تارة، لكن دون الإغراق بالرمزية التي تضيع القارئ وتبعد ذهنه عن الهدف المنشود، ومن هنا نجد تشخيص الحالات والتي اندرجت تحت عدة لوائح، القدر.. فنحن أمة بطبيعتها قدرية ومؤمنة بالقدر ونلمس هذا بشكل كبير في موروثنا الشعبي والديني، والمجتمع.. فأمراض المجتمع التي تعصف به وتنخره تؤدي إلى أنظمة شمولية لا تؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ومثل هذه الأمراض المنتشرة في أنظمتنا العربية تؤدي إلى التمزق والتشتت والتآمر، مما يؤدي إلى وجود الأرضية الخصبة لإعادة الاحتلال المباشر وغير المباشر، وبالتالي السيطرة على مقدرات الأمة ومصيرها ومستقبلها، إن التشخيص لأمراض المجتمع وللمعاناة التي تسببها الأنظمة الشمولية، يعطي المؤشرات لكيفية معالجة الوضع وبناء مجتمع خال من الأمراض يمكن أن يحقق للإنسان سعادته، إن الكاتبة لم تضع خططا للمستقبل فهذه ليست مهمة القاص، ولكنها تمكنت من تشخيص الحالة والإشارة إلى الخلل بوضوح من خلال هذه المجموعة القصصية، التي تستحق منحها الوقت للقراءة المتمعنة، وتستحق الكاتبة كلمة شكر على هذا المجهود الكبير.