رسالة العراق

عشر سنوات على رحيل الجواهري

سهيل نجم

مرت قبل ايام الذكرى العاشرة لوفاة الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري (1900- 1997) الذي لقب بشاعر العرب الأكبر، وهو اللقب الذي اسبغه العراقيون على شاعرهم الجواهري ربما لأنهم يرون في أنفسهم المتفوقون في صنعة الإبداع الشعري وبدل إمارة الشعر التي منحها المصريون لأحمد شوقي اختار العراقيون أن يكون شاعرهم  هو شاعر العرب الأكبر. على أن هذا النزوع نحو الألقاب تلاشى فيما بعد مع ثورة الشعر المعاصر على الرغم من أن أبرز رواده كانوا من العراق ربما لأن الحداثة لم تجد ما يبرر تلك الألقاب وربما لأن النظرية النقدية المعاصرة صارت ترى أن على الرغم الجهود الفردية في نحت الأصوات الشعرية صار ثمة جهوداً جماعية أو لا وعي جمعي عمل بمثابرة في تطوير القصيدة الحديثة وأوصلها إلى ما هي عليه الآن من تكنيك خاص.  

على أن الاهتمام بشعر محمد مهدي الجواهري ظل متبايناً بين شعراء الحداثة ونقادها أنفسهم. فبينما عده محمود درويش آخر عمالقة الشعر العربي الكلاسيكي يرى ناقد وشاعر مثل مالك المطلبي أننا لو طبقنا معايير الشعرية الحديثة على شعر الجواهري فلا نعثر إلا على قصائد قد لا تتجاوز أصابع اليد. 

بين هذا وذاك عد الجواهري صرحاً كبيراً من المنجز الشعري الثر ذو البلاغة العربية في أشد تفاصيلها جزالة وإيجازاً في التعبير مثلما هو طويل النفس وباذخاً في معماريته في الوقت نفسه. فضلاً عن كل ذلك تختصر حياة الجواهري وشعره تاريخ العراق المعاصر بكل تقلباته وثوراته التي ظل ملاصقاً لمعتركها ومنفعلاً بأحداثها ومساهماً نشطاً في خضم التباساتها، إذ لم يكن الجواهري مبدع اشعار ثورية ووطنية وحسب بل احترف العمل السياسي وكان عضواً بارزاً في حزب الاتحاد الوطني الذي كان يرأسه الاستاذ الكاتب والسياسي المعروف عبدالفتاح ابراهيم خصوصاً في فترة عنفوانه الحياتي والشعري إبان عقود طويلة منذ الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات بل وحتى في عقود شيخوخته المتأخرة ظل ذلك الشاعر المناهض للدكتاتورية البغيضة على الرغم من حبه وتبجيله للشخصيات السياسية التي عدها ذات روح وطنية صادقة وتأمل فيها بطولة فردية وقيادية ربما كان العرب بحاجة إلى أمثالها في حين من الأحيان. لقد دعاه ضميره الحي الذي لا يستكين ووطنيته الطافحة وإيمانه العميق بالمثل الديمقراطية وحرية الإنسان إلى مناهضة الطغاة صراحة على الرغم من الإغراءات الكبيرة التي قدمت له. كان يرى أن الشعب "باق وأعمار الطغاة قصار"، فعادا النظام السياسي العراقي في عهد صدام حسين من دونما مواربة وحين لم تنفع الإغراءات في كسبه جرأ رجال النظام السابق إلى التشكيك في عروبية الجواهري لكن ذلك لم يؤثر في ثقة الناس في فروسيته الشعرية العربية وحسه الوطني الصادق وارتباطه بتراب العراق من الشمال إلى الجنوب.   

شاعر بمثل هذه القامة لم ينل حتى الآن ما يستحقه من الاحتفاء والتقييم والدراسة في بغداد التي تغنى بها في لوحات طويلة من شعره الغزير. وإذ حاول اتحاد الأدباء العراقي ومنذ سنة 2003 إقامة أول مهرجان شعري ونقدي سنوي سمي بإسمه تكرس بعض فعالياته لدراسة فن شعر الجواهري وآخرها المهرجان الرابع الأخير الذي أقيم يومي 25 و26 من شهر تموز (يوليو) 2007، الذي ألصقت فيه عنوة دراسات في شعر الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة (وهي وحدها تستحق مهرجاناً وحلقات دراسية خاصة بها) وكأن الأخوة في الاتحاد أرادوا إكمال الفرض الواجب عليهم ليس إلا، إلا أن الملاحظ أن هذه المهرجانات في غالبها تكاد تكون خجولة وفقيرة من الناحية الفكرية والشعرية وغير معدة على نحو مدروس لأسباب كثيرة ربما حدد البيان الختامي للمهرجان الأخير جزءاً منها في ضعف الدعم المادي الذي تقدمه الدولة لمثل هذه الفعاليات وللظروف الأمنية السيئة التي تعصف بالبلاد التي تجعل من الصعب على اللجنة المنظمة للمهرجان استدعاء باحثين وشعراء وأدباء كثر لأغناء تلك الفعاليات. 

إن الوفاء لهذا الشاعر الكبير يقتضي من العراقيين التخطيط لمهرجان قادم يليق بقامته ضمن فعاليات يعد لها إعداداً جيدا لا متعجلا ومحدوداً وبعيداً عن الميادين والمرابع والجسور البغدادية التي جال وصال فيها الجواهري وألقى فيها أهم قصائده الحماسية والوطنية الصادقة وهو محمولاً على الأكتاف، هذه الميادين والشوارع والجسور البغدادية التي أمضى فيها الجواهري زهرة شبابه ونضوجه وودع فيها أحباب له ضحوا بدمائهم (من بينهم أخيه جعفر الجواهري الذي استشهد في مظاهرة وثبة كانون) في سبيل نيل الحرية الكاملة لهذا الوطن هي الجديرة أكثر من أي الأماكن الأخرى في احتضان وترديد قوافي شاعرها الأصيل كما رددتها من قبل أكثر من نصف قرن. 

إن من الجميل أن يتم الاحتفاء بالجواهري في ربوع كردستان العراق ويقام له تمثالان واحد في السليمانية وآخر في أربيل خصوصاً وأن الروابط التي تربطه بكردستان وأهلها جد قوية إلى حد أن رئيس الجمهورية السيد جلال الطلباني يعد نفسه من المقربين الشخصيين للشاعر لا بل يعد نفسه من دراويش الجواهري وأحد رواة شعره وهو يفضله حتى على الشعراء الكرد لكثرة وجمال ما قاله في الشعب الكردي بشهادة الطلباني نفسه في لقاء تلفزيوني معه على قناة الحرية الفضائية ونشرته الصحف. 

نقول تمثالان كبيران وشوارع كبيرة باسم (شاعر العرب الأكبر) في كردستان يضطرنا للسؤال أما حان الوقت لتشمخ قامة الجواهري في ساحة الوثبة ببغداد مثلاً ليس بعيداً عن تمثال ربيبه الرصافي في شارع الرشيد أو في ميدان من ميادين مدينته الأم "النجف"؟

للأسف الشديد أن مشكلات الثقافة العراقية مشكلات بالغة التعقيد كما هو حال الأوضاع الأخرى السياسية منها والأمنية والاجتماعية وغيرها. وإذا كان من يملكون زمام الأمور السياسية والاقتصادية ينظرون  إلى الحالة السياسية والأمنية بعيون مفتوحة لا تنام فقد أغمضوا عيونهم تماما عن حال الثقافة التي استحكم فيها الهزال واستشرى بها الوهن، ولم يترك الخيار للمثقفين سوى الاعتماد على إمكانياتهم البسيطة والمتواضعة في دعم فعالياتهم وأنشطتهم الثقافية، وكأن البلاد تعيش فقرا مدقعا (وهي حقيقة فعلية إذا أخذنا بالتقرير الذي نشرته منظمة الأوكسفام للتضامن الدولي وأعدته منظمات غير حكومية تنشط بالعراق وعنونته (الارتقاء لمواجهة التحديات الإنسانية في العراق) الذي يصدم بتفاصيله من خلال الإحصائيات المهولة بالفقر والمرض فيورد أن أربعة ملايين عراقي يعانون من النقص الغذائي بينما 43% من الشعب يعانون من الفقر المدقع! أين مليارات الدخل النفطي؟ إذا كنا نرى بوضوح تردي الخدمات حتى للمنكوبين بالسيارات المفخخة الانتحارية والهمجية فهل سنعد المطالبة بدعم الفعاليات الثقافية بطرا؟ سؤال يقض مضاجع من يحملون الهم الثقافي وأحوال المثقفين في حلهم وترحالهم. 

سهيل نجم

بغداد

2آب (أغسطس) 2007