يبتدع الروائي العراقي تقنية سردية طريفة يكون بها عنوان النص جامعاً لحكاياته المتنوعة المتعلقة بالتاريخ العربي في علاقاته بالغرب بنقطة التماسه التاريخية، أسبانيا (الأندلس) لينسج لنا نصا روائيا بوجهة نظر مختلفة لصيرورة العلاقة بين العرب وأسبانيا من خلال تجربة ما جرى للعرب فيها في القرن التالي لطردهم منها.

مخيم المواركة (رواية)

جابر خليفة جابر

إهداء اول

الى آل روميرو..

 عبد الصمد وأديبة

 «إعتراف»

لأن عمار إشبيليو،هو من ارسل هذه الرواية كاملة الى بريدي الالكتروني،

(jabir_kh@yahoo.com)

ولأنه – كما اعترف بنفسه - نقلها عن راوٍ آخر، من أسلافه، عاش قبل أكثر من أربعة قرون، واسمه، عمار اشبيليو، أيضا.

ولأن عمار اشبيليو الأول ذاك، هو الأخر ليس المؤلف الحقيقي للرواية، كما ذكر حفيده، عمار اشبيليو الأخير عنه.

ولأن عمار اشبيليو الأول لم يذكر لنا بالتحديد من هو مؤلف الرواية، المسمى ب حامد الاندلسي،

هل هو شقيقهُ حامد بن قمرين، أم هو حامد بن كناري أخته؟

وغير هذا،لا أحد يعلم كيف اجتازت الرواية مئات السنين لتصل الى عمار إشبيليو الاخير؟

لهذه الأسباب مجتمعة، ولكي لا يضيع القارئ في متاهة البحث عن المؤلف،

قررت أن أدعي تأليف الرواية، وأضع اسمي على غلافها..

 

أحمد رودميرو
بودي ان اتحدث لك ايضا عن الدكتور رودميرو، احمد رودميرو، شخصية جذابة، ستعجبك كثيرا، إسباني كاثوليكي، تعرف على الاسلام منذ عشرين عاما، ثم اسلم، في الاصل كان من سلامنكا القريبة من البرتغال، لكن اصوله موريسكية، على ما اظن من إشبيلية، جنوب الاندلس. قالت له امه حين رأته يقوم بحركات غريبة كأنها رأتها من قبل: امادو ماذا تفعل؟ وكان هذا اسمه الاسباني.

- اصلي ماما، اصلي المغرب. تحدث لها من قبل عن عودته لدين الموريسكيين، قال اموراً كثيرة لم تفهم اغلبها، لكنها تحب امادو، ابنها الوحيد، والحركات التي رأته يؤديها ظنّتها اول الامر نوعا من الرياضة، لكن نقاط ضوء صغيرة تلامعت في ذاكرتها من بعيد فسألته : امادو ماذا تفعل؟..

ثم قال لها: ماما ارجوك سميني احمد وليس امادو، ماما.

-                     اوه امادو .. كنت وانا صغيرة متعلقة بجدك، احبه جدا امادو، ولم اكن افارقه، حتى انني كنت اترك ابويّ ليلا لانام في احضانه واعبث بلحيته البيضاء المشذبة، كنت اتبعه اينما ذهب، ولم يكن ذاك يضايقه الا عندما ينزل الى القبو، كان يتخلص مني برفق ويغلق الباب خلفه، لكني اذا عرفت انه في القبو، لم اكن افارق الباب وكنت ابذل جهدي لاقف على اطراف اصابعي كي اراه من شق المفتاح، وحين نجحت لاول مرة، رأيته وسط الشق الصغير تماما، رجل كبير كجدي في شق المفتاح الصغير، حير هذا الامر عقلي انذاك، وما حيرني ايضا الحركات الغريبة التي كان يؤديها وعيناه دامعتان، امادو ما كان جدك يقوم به من قيام وانحناء وقعود، يشبه ما فعلته قبل قليل، كان يلصق جبهته بالأرض ايضا، ويبكي، يا الهي هذا يعني انه كان يصلي المغرب ايضا.

صديقي هذا ما حكاه لي الدكتور رودميرو نفسه، شخص لطيف اتمنى لقاءك به، يبدع الشعر والقصص وعازف كيتار، كان مولعا بالموسيقى اكثر، ومولعا بالتجريب في الادب ايضا والبحث الدائم عن الجدة والغرابة في مؤلفاته، حتى قاده اهتمامه بالموشحات الاندلسية الى اقصى اعماقه، اقصى اعماق القلب كما يعبر احمد رودميرو نفسه، حيث كان الاسلام مختبئا وخائفا من محاكم التفتيش، الحكاية طويلة صديقي، سأمدك بالمزيد، اعرف انك متعطش، المهم انه أسلم مذ ذاك، اشهر إسلامه وحج الى مكة المكرمة.

سنلتقي غدا باذن الله، اعترف اني كسول في الكتابة من قبل والان كسول في الطباعة ايضا، لذا سأختصر، ولولا اني احبك ايها الموريسكي الذي لم اره، لما اتعبت نفسي، انت تثير محبتي، الى لقاء اخر، عبر النت طبعا، واعتذر عن كسلي.

 عمار إشبيليو
هذه احدى رسائل عديدة كان- عمار اشبيليو- وهذا هو اسمه، ارسلها لي بمبادرة منه. ادهشتني اولى رسائله، لا ادري لماذا خاطبني بالموريسكي، تفاصيل كثيرة يعرفها عني، بعضها يعود لايام الطفولة، يعرف اسم مدرستي، مدرسة الاندلس الابتدائية للبنين، وموقعها بالتحديد ذكره لي، على ضفة شط العرب، قرب جامع الفضلي في الفاو يوم كانت عامرة باهلها، حتى انه ذكر الكوسج المحنط والمعلق قريبا من مكتب مدير مدرستنا، ادهشتني معرفته بهذه التفاصيل عني، لا ادري كيف عرفها، الا انني لم استغرب كثيرا تحدثه عن الكتب التي قرأتها عن تاريخ الاندلس وشعبها، مدجَنين ومواركة تحت سطوة قشتالة واراغون وغيرها من الممالك الكاثوليكية الشمالية، من الواضح انه عرف ذالك من دخولي للمواقع المهتمة بالشأن الاندلسي، ولهذا ظن -عمار اشبيليو- اني من اصول موريسكية جاءت الى الخليج العربي والبصرة مع السفن البرتغالية ايام الاحتلال الاسباني للبرتغال، قال ان الالاف من المواركة فعلوا هكذا، وابحروا متخفين تحت قناع النصرانية الى الهند والساحل الافريقي وقد اكتشف الباحثون ان مقابر العديد من القرى في امريكا اللاتينية تتجه الى القبلة .

وعزز ظنه قائلا : الم تسأل نفسك يوما لماذا ادخلك ابوك في مدرسة اسمها الاندلس مع ان مدرسة اخرى كانت اقرب منها الى داركم؟ لاشك ان اباك كان موريسكيا مخلصا رحمه الله.

لا ادري ان كان موضوع بعد المدرسة عن بيتنا صحيح ام لا، لكني استغربت معرفته بهكذا تفصيل. وكان رده انه يتابع كل مهتم بمأساة شعبه الاندلسي ويحب ان يعرف كل شيء عنه، واضاف : لم انت مندهش؟ شعب الاندلس احبه يا اخي، احب الموريسكيين، رضعت حبهم وحكاياتهم طوال طفولتي، لم يترك ابي اي حكاية او حدث يعرفه الا وقصه علي ولا شيء احب الي من سماعها، بل لا حياة لي الان من دون استرجاع تلك الحكايات وتنفسها .

هذه الحكايات تقطر ألماً ومرارة وانسانية، وهي التي جمعتنا معا كصديقين، انا والدكتور رودميرو، حتى اننا بعد تعارفنا لانكاد نفترق الا لنلتقي ثانية،

مع ان للدكتور رودميرو- او امادو كما يحلو لمواطنيه الاسبان تسميته - انشغالات كثيرة، فهو عضو ناشط في احدى المنظمات المدافعة عن حقوق الانسان في مدريد، وهو وان كان مستقلا الا انه شارك في الحملات الانتخابية بقوة لصالح مرشحين يعتقد بقربهم من توجهاته التي تتلخص بضرورة تخلص اسبانيا الملكية الديمقراطية من الظلال السوداء المخجلة لعهد الجنرال فرانكو وسياسات قشتالة القديمة وما ارتكبته من مجازر وابادات جماعية للشعب الاندلسي وللعديد من الشعوب في الامريكيتين، واسيا وافريقيا كذلك، ويرى ان الاعتذار الملكي من اليهود امر جيد لو انه شمل غيرهم، خاصة وان ما تعرضوا له اقل بكثير مما تجرعه الاندلسيون وهنود المايا والازتيك والاخرون. يصف الدكتور رودميرو ذاك الاعتذار بالبراغماتية السلبية التي تسىء لوطنه اسبانيا اكثر مما تنفع، باختصار صديقي، ان رودميرو يدعو الى مجتمع متسامح متعدد الالوان والثقافات التي تتلاقى معا لرسم اللوحة الاروع لفنان اسبانيا العظيم، وهو الشعب الاسباني - كما يقول - بكل اطيافه وثقافاته المتلاقحة عبر التاريخ، وغالبا ما يقول لاصدقائه وتلاميذه وزائريه:

ان مقولة فرانكو الشهيرة (في اسبانيا عليك ان تكون كاثوليكيا او لا تكون اي شيء) باتت من الماضي وعلينا ان لا ندع لها اي حيز مهما كان صغيرا، لا في افكارنا ولا اقوالنا ولا في اي من افعالنا وسلوكنا مع بعضنا ومع الاخرين.

هل يكفيك هذا تعريفا بالدكتور احمد رودميرو؟ اتركك اليوم، لاحدثك بعدها عن مخيمنا، انتظرني.

 أول المخيم
قبل عام تقريبا – يقول عمار إشبيليو- وخلال احدى لقاءاتنا الطويلة المتكررة - كل يوم تقريبا - ولدت فكرة المخيم، من صاحبها انا ام رودميرو؟ لاادري، لكنه باشر بالسعي لتنفيذها في ذات اليوم وتحقق لنا نحن جماعة من المواركة الشباب ذاك الاجتماع الجميل، بعض الموريسكيات كن معنا وايضا اساتذة وطلاب اسبان وقيل ان اديبا ارجنتينيا ومثقفين من امريكا اللاتينية حضروا لعدة ايام، كما تكرر حضور كاتب هولندي وزوجته...

اسمع صديقي، جلسات عديدة بصحبة الدكتور احمد رودميرو سبقت انبثاق مشروع المخيم، لااحلى منها غير ايام المخيم نفسها، جمعتنا هذه الجلسات لساعات، قرأت عليه بعض ما كتبت، كانت قصاصات سرد تتضمن ما يشبه الشعر...

حين قرأها سألني : شعر؟

قلت كوكتيل من الشعر والسرد وربما الرسم ايضا، من كل باقة وردة او اكثر.

واسمعته العديد منها..

أفرحني انشداده، لا تتصور كم فرحت وأنا أراه منشدا لما أقرأ وكان دامعا.

ورسمنا تلك الليلة- أول ايام 2009- بعد اربعة قرون من قرار الإبعاد الدامي، رسمنا برنامج المخيم، وكان حافلا وغريبا بمساراته..

المطرودون الى البحر
المطرودون الى البحر

تسحلهم اليها، شمس فالنسيا،

وبما تبقى من ثيابهم، سيتماوج البحر..

ثمة وهران في الافق،

والطريق اليها، سيغرق ايضا،

خلفهم، في نهر الوادي الكبير – ربما - ستغرق الاندلس.

 مخيم المواركة
اقمنا مخيمنا الجوال في اماكن عدة، عسكرنا اولا في غرناطة ثم ابعد قليلا على سفوح جبل البشرات وانتقلنا الى ضواحي اشبيلية، جنوبها الى جانب الطريق الى قادس، وعلى ضفاف نهر شنيل عدة مرات، هنا وهناك، وتوقفنا - من دون ان نخيم - عند نهر حيدرة على مشارف غرناطة..

رغب بعضنا بالنزول تجاه المرية او قرطاجنة لكن هذا لم يتحقق، اما المرة الاخيرة فقد كانت في غرناطة طبعا، وفي حي البيازين تحديدا، ثمان اوتسع مرات غيرنا مكان المخيم وكان تعبنا لذيذا، وقد ادركنا متأخرين ان الدكتور رودميرو اراد لتنقلاتنا ان تحاكي حالات الطرد المختلفة، وللاقتراب اكثر من مشهد البحر، عبرنا بالقوارب نهر شنيل ونهر حيدرة وعمل الجميع بالمجاذيف، صدقني لقد تم القاء إثنين منا في الماء وهم في دهشة وغضب، لكن المخيم كله ادرك السر لهذا، قدر الكثير من المواركة ان يلقوا في البحر، هكذا علق احدهم وانتشرت المشاعر المختلفة من ضحك وانشراح الى وجوم وحزن واستحضار للمأساة، احدى الموريسكيات كانت تبكي، اسمها على ما اتذكر(مارتينا) وكان اثنان من الضيوف احدهما اسبانياً يقومان بتصويرها، بكت وسط اضواء الكاميرات، مشهد مؤثر فعلا، ليتك كنت معنا يا صديقي.

المخيم بشكله وتنقلاته وطريقة توزيع الخيام القريبة الى الفوضى والتشتت اريد لها ان تحاكي عمليات الطرد الوحشية التي تعرض لها شعب كامل بمختلف انتماءاته واطيافه، اما الثيمة الاساس لفكرة المخيم فهي اجتماعاتنا او حفلاتنا القصصية والتي ابتدأت بان يطرح اي مشارك ما يعرفه من حكايات المواركة بجمل مكثفة، كتلك التي تبادلتها مع الدكتور رودميرو، يمكن ان اسميها قصاصات سردية أو حبات قصصية ..

اربعون حبة او قَصاصة اوقُصيصة، لنقل اربعون جملة سرد مركزة وازيد عرضت على المشاركين، ليقوم احدهم او اكثر بالانطلاق من اي جملة والتوسع فيها ضمن آفاق الخيال المنتمي الى واقع كان معاشا وبمعنى اخر، بسط الواقع الموريسكي المتخيل ورسم مشاهده.

وزعها الدكتور رودميرو على جميع الخيام بعد ان جمعها منها، وقال لهم ليختر كل منا جملة، جملتين، لايهم، ولنعبر عنها بحكاية ويمكن الاستعانة باية وسيلة ابداعية الشعر او الرسم وحتى الموسيقى، الابداع هو المبتغى وخصوبة الخيال..

اقفال
 القذارة على جسر قرطبة،

 وحمامات الموريسك التسعمائة اغلقت..

ثبتي شمعك الاحمر جيدا

 يا قشتالة..

 نساؤك وحدهن لن يغير الاغلاق،

 في اجسادهن حالا.

لا ادري ان كانت هذه البذرة القصصية لي او للدكتور رودميرو او لاخر من رواد المخيم.. ينبغي ان تتذكر اننا جميعا شاركنا في اعداد وكتابة هذه الجمل المكثفة، لقد اشتركنا حتى في كتابة الجملة الواحدة، كلمة من هذا او ذاك، حتى نستقر على الصياغة الاخيرة لها.

 احد الشباب علق على جملة (اقفال) لكن باختصار :

 فرح
 بعد سلامة الوصول الى البر المغربي

 نقطة الفرح الوحيدة

 للموريسكيات الجميلات

 هي حمام بعيد - عن الانظار- ليغسلن أدران قشتالة

 ولو بماء البحر..

نحن وزعنا القصاصات- آميكو- او الجمل المكثفة على الجميع، مع اننا جميعنا شارك في ابداعها وحول القصاصة كتبت تعليقات عدة اذكر لك منها ما كتبه مشارك اخر بعنوان :

 ختم
 على شمع الباب الخشبية

 كان الختم بهيئة المسيح المصلوب

 وكانت الاقفال اكبر..

 حين تمر الموريسكيات – بباب الحمام - يتلفعن جيدا بعباءاتهن،

 ولا يتذكرن..

 سوى انتعاشة الماء،

 وغير خوابي الحنة.

اما المشاركة السردية الاولى فكانت من الخيمة الثامنة التي تضم خمسة اشخاص أصولهم من مدن متقاربة، تيرويل وكوينكا، وثلاثة من فالنسيا، وهي ميناء على المتوسط.

كانت مشاركتهم قصيرة واحداثها مختزلة حين نشروها اول مرة، لكنهم عادوا مرارا لتطويرها، واشترطوا ان تنشر بنسختها الاخيرة وليس مجزأة كما هو الاصل، وهذا وان جرى خلاف برنامج المخيم، لكن الادارة اضطرت للموافقة بعد ان استطلعت اراء الجميع، بما فيهم الضيوف والزائرين.

تجربة الاستطلاع كانت ممتعة، وكانت مشاركتهم بعنوان (بستان الحرير).

قال احد الضيوف وكان شاعرا ارجنتينيا اسمه خوليو سوريس:

 ان الاقفال، وهو عنوان القصاصة السردية، تثير عند القارىء انثيالات شتى، منها السجن والمطاردة ومصادرة الحريات وتكميم الافواه ومنها انها تعني هنا، القبض على الحمّامات والقائها في السجن، تخيل حمامات بابنيتها ومغاطسها وروادها ملقاة داخل الزنازين، تخيل ذلك، هذه قراءتي كشاعر، اما كلمة الحرير فقد اسر في اذني صديقي امادو (يقصد الدكتور احمد رودميرو) ان حروفها وصوتياتها قريبة من كلمة حرية بالعربي، وهذا يؤيد قراءتي، ان بستان الحرير وفقا للعربية يعني بصورة ما السعي للتحرر من الاقفال بصناعتها القشتالية الثقيلة على القلب والمتقنة..

بستان الحرير – آميكو- هو عنوان لما نشرته الخيمة الثامنة انطلاقا من جملة (اقفال).

 بستان الحرير
اراد مارتينو ان يجيد التقشتل ويتقنه مرتعبا من مصير حل بابيه على يد رجال محكمة التفتيش في اشبيلية، فخرج الى قرطبة ومنها الى فالنسيا مبتعدا عن كل معارفه الموريسك، واستقر بها مستعينا بما يملك لشراء بيت وبستان حرير ليس بعيدا عنه.

 وهناك بالغ الموريسكي مارتينو باظهار نصرانيته، اغلب اصدقائه قشتاليون، كما انه بدا قشتاليا اكثر من القشتاليين انفسهم، لا يتحدث الا بالقشتالية ويضمن كلامه ازدراءا وتجريحا لكل ما هو موريسكي وغير كاثوليكي، كان مواظبا كل احد على الذهاب للصلاة في الكنيسة، وحرص دائما على الظهور العلني في الاسواق ايام الجمعة وخلال اعياد المسلمين المعروفة لئلا يتهم بالصلاة سرا في بيته كما هي تهمة كل موريسكي لا يأكل لحم الخنزير او يتغيب عن الكنيسة، بيده نقش مارتينو علامة الصليب على قمصانه، ثم مثل دور الحب مع شقراء يبدو ان دم الفايكنغ المجوس يلوح في قسماتها المتوحشة، فعلا كانت جميلة بشقرتها وملامحها الجرمانية - كما تقول الحكاية - وقد انخدعت به، كان شابا اسمر فارعا ووسيما، ملامحه تشي بالقوة والرجولة، لكنه بعد ان اوقعها بشباكه لم يدم تمثيله معها طويلا، اذ وفي اول خلوة لهما لم يستطع تحمل قربها ولا قبلاتها، سليلة الفايكنغ تلك لا يرى الماء جسدها، لم يطق رائحتها، والنهر حيث تستحم القشتاليات احيانا بعيد عن بيتها، وقبل ان يعود زوجها من البحر توارى صاحبنا الموريسكي وتهرب من الحاحها.

 آميكو، صديقي، اكاد ارى استمتاعك بما تقرأ، تأمل هامش - أروى- وهي معلمة من تونس، اصولها من بلنسية، لكنها من خيمة قرطاجنة، انظر هامشها:

نهايات
 لم تذكروا خاتمة الحكاية يا اخوة، لا شك انها مؤلمة، هل مر انسحاب الموريسكي من صاحبته بلا عقاب؟ لا اظن، خاصة في ظروف كتلك، الغلبة فيها للمرأة، والانتقام لها متاح، ومع ان النهاية كما ذكرتم محتملة، لكني ارسم اكثر من نهاية مختلفة للقصة..

نهاية رقم 1-

في الايام الاولى مر الحادث بسلام، بينما كانت الشقراء تبحث عنه، فقد ادركت انه تركها متعمدا وتعلق باخرى اجمل منها، فظلت تتقصى اخباره وسعت للانتقام منه، لكن مارتينو كان قد اختفى عن الانظار وهو ينوي - كما توقعت الشقراء - ان يرتبط بقشتالية غيرها ليذوب اكثر في المجتمع الكاثوليكي ويبعد عنه شبح المحاكم، يقال انه ظل يحلم بهذا حتى بعد خمس سنوات من الحكم عليه بالعمل سخرة على سفن الاسطول الاسباني.

(لاشك ان مارتينو وهو يحلم لم يكن يشعر بسياط البحارة الاسبان تلهب ظهره العاري خلال التجذيف)

هذه تعليقة ليست لأروى لكن صاحبها لم يكتب اسمه.

نهاية 2-

ان الجميلة الشقراء وبحس الانوثة المرهف لاحظت اشمئزازه منها فشكته لزوجها او ابيها العامل في ديوان محكمة التفتيش مدعية انه يتحرش بها، ولهذا قبض عليه والتحق صاحبنا بابيه، لم يعلم مارتينو بالشكوى، فقد داهمه الجنود ليلا ودفعوا الكمثرى الخشبية في فمه لئلا يصرخ، وبين السحل والضرب، رموه في حوض عربتهم ومضوا، ومنذ ذاك، لم تر الشقراء مارتينو ولم يسمع باخباره احد..

 هناك شائعات تقول ان وكيل الكاردينال زمنيز قضى بان يزف مارتينو الى السيدة العذراء الجميلة في تابوتها المرعب، وهناك في حفل الزفاف الرهيب انغرزت المسامير من كل صوب ومزقت جسده وبقي ينزف، قطرات قطرات حتى استراح، وكانت الكمثرى لم تزل تغلق فمه الدامي .

نهاية -3 –

ان زوجها البحار تجاهل شكواها اولا، لكنه بعد ان علم ان المتحرش موريسكي، استغل الامر للاستيلاء على كل ما يملكه مارتينو، اي داره وبستانه الذي يضم 400 شجرة توت والالاف من دودة الحرير..

 ومع ان مارتينو المسكين تنازل عن املاكه الا ان الناس في فالنسيا تجمعوا بعد اسبوع ليشهدوا حفل احراقه حيا لهرطقته وارتداده عن الدين.

وبينما كانت هذه الحكاية تعرض على الخيمة الرابعة، خيمة الجزيرة الخضراء وفيها لاجىء سياسي من العراق وثلاثة مغاربة، اضيفت هذه الخاتمة الموحية بتهكمها ومرارتها..

نهاية -4- (لشمُرشكُش)

في اول عناق ملتهب صدمت رائحتها الزنخة مدمن الحمامات هذا فانكمش وافتضح امامها.. لم تحتمل الجرمانية الاهانة فشتمته بالقشتالية :

-                     كافر لُشمُرشكش، ورفعت يدها بوجهه، لكنه وهو الاندلسي صفعها مرارا الى ان توزعت جسده سيوف الجنود الثلاثة الذين هبوا لنجدتها، لقد نجا الموريسكي من المحرقة .. مبروك.

حكاية إغلاق حمامات قرطبة جذب اهتمام الخيام كلها، ساروي لك حكايات اجمل، انتظرني ..محبتي

 عمار اشبيليو

اهلا صديقي السلام عليكم، حكاية حلوة هذه او مرة، لا ادري، انت تقدر، اقرأها، هم في خيمة إشبيلية، الخيمة السادسة، اعادوا كتابة القصيصة او جملة السرد، اعادوا صياغتها وقدموا نصين مختلفين قليلا :

 -صياغة اولى-

«القذارة على جسر قرطبة

 وحمامات الموريسك، لا حيطان لها..

 داكنة أرديتك قشتالة

 ونسوتك، لم لا يغتسلن؟»

 صياغة ثانية_

«أخرجي حمامات الموريسك،

 من توابيتك،

 و جسر قرطبة ايضا،

 ارديتك داكنة قشتالة،

 فابدليها بالوان الاندلس،

 وعودي فتياتك على الاغتسال»

 ثم أضافوا حكايتهم الجميلة التي تلاقفها المخيم بسرعة وابتهاج، وكانت بعنوان:

مايوركا
اسمه الاندلسي كريم، يتهامس به الموريسكيون سرا فيما بينهم، اما كاسياس فهو الاسم الذي عمدوه به في الكنيسة الكاثوليكية..

 كريم كاسياس لم يكن في قرطبة عام 1567 حين اصدر ملك اسبانيا فيليب الثاني قراره باغلاق حمامات المواركة، لانهم كما تقول الكنيسة المقدسة يستخدموها للوضوء والصلاة المحمدية سرا، في قشتالة وغيرها من ممالك إيبريا لا احد يبني الحمامات العمومية او يرتادها غير الموريسكين، كان الشماليون كلما تراكمت القذارة واضطروا للاستحمام فان مياه البرك والجداول تكفي، لم يعرفوا الصابون ولا المناشف المنسوجة من القطن ولا الدلاكات، هذا فقط، من شؤون المواركة ..

كان كريم كاسياس في اشبيلية، نما وهو يرى اباه ينقل الحطب الى الحمامات شتاءا، اما في اوقات الحر وانتفاء الحاجة للحطب، فان بعض اصحاب الحمامات يستخدمونه لتقديم الشرابات للزبائن كنوع من المساعدة له، وكان كريم بعد ان شب وتولى العمل بدلا عن ابيه يشعر بالحرج من هذا، فبدأ بتعلم صناعة الدمى وبيعها في الوقت المخصص للسيدات الموريسكيات اللواتي كن يصطحبن اطفالهن للاستحمام، لم يكن ما يربحه كافيا في الصيف، لكن ما يكسبه وقت البرد من نقل الحطب وبيعه لحمام السيدة قمرين اكثر من حاجته، قمرين هذه كانت تعطيه اجورا مجزية، وكنت تكلفه ايضا بالاعتناء بأقنان حمائمها على سطح الحمّام، وكان الاهتمام بالطيور يريحه، طالما الح وهو صغير على والده ان يشتري له حمامات بيض ليربيها ويلهو بها، لكن ابوه كان يرفض ويقنعه بشراء حاجيات اخرى او لعب، ويتهرب من اجابة طلبه..

كان توريده للحطب مقتصرا على حمام السيدة قمرين ولم يكن يتعامل مع غيرها من اصحاب الحمامات في اشبيلية وهم كثيرون، وكان يتهرب من الاجابة اذا سأله احدهم عن سبب تمسكه بالعمل في حمام قمرين فقط، وكان يقضي اغلب اوقات فراغه اذا كان وقت الاغتسال مخصصا للرجال بالتواجد على السطح مع الطيور، اما في الصيف فقد كان يكتفي بنحت الدمى وبيعها، لكن قرار الاغلاق الملكي طبق بسرعة وقوة، ليس في قرطبة فقط، بل في كل مناطق قشتالة، حتى انهم عندما اقتحموا حمام قمرين كان كريم كاسياس يقوم بانزال حمولة الحطب فتناوشوه بالركلات واخذوا حمارته مايوركا، هكذا يسميها، ولم يعيدوها اليه، سيراها بعد شهر وهم يحثونها بالسياط، هزلت كثيرا مايوركا وكان يتألم لحالها، ونسي ولعه بالحمائم حزنا عليها، حتى انه وبعد ان غدت صناعة الدمى مهنته الوحيدة، نحت دمية جميلة على شكل حمارته اولا، ثم بعد عدة تجارب اخذت الدمية من دون ان يقصد شكل ظبية وادعة وجميلة، نحتها من اغصان الزيتون الطرية وسماها مايوركا تعاطفا مع حمارته، وبعد ايام قلائل من شروعه ببيع نماذج من دميته اشتهرت وذاع صيتها بين الاطفال وراجت مبيعاته، ولما ازداد عدد زبائنه حاول ان ينحتها من اخشاب اخرى غير الزيتون للعجلة وكثرة الطلبات فلم يقدر،لم تطاوعه انامله ولا ازاميله، ارتبطت مايوركا باغصان الزيتون الطرية وارتبط شكلها الجميل بخضرتها الخفيفة وباسمها، مايوركا..

كان يصبغها بالحناء التي رخصت كثيرا وتوفرت بعد منع الموريسكيات من التزين بها، ويحلي عنقها بقلادة خرز ملون واستخدم صمغ الاشجار ليلصق على رأسها عصابة محلاة بالازهار، كما تفعل الاندلسيات عادة، كما جعل لكل مايوركا يدين بعشرة اصابع ناعمات، ونحت لها قدمين ورديتين وليس اظلافا، وثمة خاتم او اكثر في يد كل دمية، كانت الخواتم مزينة بفصوص من الاحجار و الزجاج الملون، واجمل ما يجذب النظر الى المايوركات، انظار الرجال والنساء معا، هو الخال الاسود اللماع المنقوش على خد كل مايوركا، فكان مع جفونها المدهونة بصبغة يتراوح لونها ما بين الزرقة والبياض، كلون الفضة تقريبا، يظهر المايوركا وكأنها عروس موريسكية انهت للتو حمامها استعدادا للزفاف، وكان كريم يُلبس المايوركا خمارا شفافا وجلبابا طويلا ليستعيد ما كانت النسوة في الاندلس يرتدينً من زي اسلامي وما يتزينن به من حلي واصباغ قبل ان تطبق قرارات المنع الاخيرة لفيليب الثاني، لكنه كان يحرص على اظهار مهاراته بعرض بعض المايوركات وهن سافرات ليستمتع المارة بجمال صناعته، ويجمل الباقيات كالاندلسيات تماما بالخمار والعباءة والسراويل الطويلة الزاهية، فيثرن الاعجاب وفضول الناظر اكثر..

هكذا انتشرت - بدلا عن تلك المطية التي سرقها جنود الملك وجوعوها - الاف من الدمى المايوركات في اشبيلية والبلدات القريبة، مثل قادس وقرطبة وملقا وغرناطة ووصلت نماذج منها الى مدريد وغيرها من مدن قشتالة والبرتغال، وبلغ ببعض المصادر ان نسبت للمايوركا سبب تسمية احدى جزر البليارد الاسبانية بهذا الاسم لكثرة تداولها واشتهارها هناك، بعد ان وصلت اليها من اشبيلية بواسطة التجار والمسافرين والجنود..

واضحى من النادر ان تجد بيتا في اشبيلية لا يعرض احدى المايوركات، ومن النادر ان تجد بنتا لا تحتضن مايوركتها حين تنام، وكانت البنات وحتى الاولاد يلهون بها في ازقة اشبيلية وبيوتها.

حتى ان الشعراء الاسبان تغنوا بها، بل ان بعض الباحثين عزى تطور القشتالية من لهجة مغمورة الى لغة الى قصائدهم الغزلية التي كانوا يتفننون فيها بوصف حبيباتهم بالمايوركا، وكانت النساء في أشبيلية وغيرها من المدن اذا اردن المبالغة بوصف جمال فتاة ما، شبهنها بالمايوركا، وشاعت جمل، مثل:

 ابنة فلان جميلة جدا كأنها مايوركا.

او : انظر اليها مايوركا تمشي على الارض.

او : اترك هذه الفتاة يا ابني انها لا تصلح لنا وسازوجك بصبية كالمايوركا.

خلال اشهر جمع كاسياس نقودا لم يكن حتى يحلم بها، اصبح غنيا واشتهر، لكنه لم يكن متزوجا، بل لم يكن راغبا بالزواج، فالمضايقات التي فرضت على الموريسكيين لم تمكنه من شراء بيت جيد او بستان او معصرة، وبسببها محى من ذهنه فكرة الزواج، كان يدرك بالتجربة، وكما حدث مع الكثير من المواركة، انهم سيطمعون بنقوده وسيصادروها، بل قد تكون سببا في سوقه الى محاكم التفتيش، اما الى السخرة سنوات طويلة على سفن الملك واما الى المحرقة..

 لذا قصد قمرين في دارها الملاصق للحمام المغلق، وكانت تقترب من الفقر وتفكر ببيع كل شي كي ترحل باولادها حين طرق الباب..

-                     سيدة قمرين ارجو ان تتفضلي بحفظ نقودي لديك، ثم ارتشف ثانية من شراب النعناع الدافيء، واضاف: اخشى من هؤلاء البرابرة ان يسرقوها ويقتلونني ذات يوم، ولا اريد ان يستفيدوا منها.

 - كريم، ولدي، الا يوجد موريسكي اخر لتأتمنه على مالك؟ لم يعد لي بقاء هنا وقد نرحل قريبا.

- سيدة قمرين اخترتك، لانك بنت اصل كريم، رحم الله جدك هلال رودريغو والباقين، كما اني لا انسى وصية زوجك الكريم ابي حامد لي، لقد اوصاني بك وباولاده، فله علي فضل كبير كما تعرفين، وهولاء القشتاليون -على كل حال- يحترمون والدك، ملاح الاندلس العظيم، المرحوم حامد خوان رودريغو، لذا

لن يستهدفوك، كما انك سيدة قمرين تعرفين اكثر اخواننا الموريسك هنا وتستطيعين مساعدة من يحتاج منهم دون ان يشك القشتاليون بك.

-                     انت تعلم ولدي كريم لم يعد لدي ما يكفي، ذاك زمان، راح الحمّام، حمّام قمرين، وراح كل ما ورثته من ابي من رحلاته - ليته لم يذهب فيها - لقد حرمتنا منه سنوات طويلة

(دمعت عيناها، ثم احنت راسها، حاولت تمالك مشاعرها، لم تقدر، بكت، اجهشت بالبكاء ,ودمعت عينا كريم والى جوارها كان ابنه الاصغر امَاريو ينظر الى امه ويبكي).

-                     سيدة قمرين، لهذا جئت بمالي اليك، إعتبريه مالك وتصرفي به كما تشائين، بعد وقت قصير او طويل سيقتلني هؤلاء او يأخذوني سخرة، اريدك ان تنفقي منه على اخواننا، ليس بعد ان اموت، لا منذ الان باشري بذلك، هو ملكك من الان، لست بحاجة لهذه النقود، انفقيها على من يحتاج من اخواننا، حتى بيت تيرالدا النصرانية المسكينة اعطِهم شيئا، كما كنت تساعديهم، امس وقف امامي ابنها الصغير باولو، لم يكن يملك نقودا، ملابسه بالية، ونظر الى المايوركا بحسرة، فانكسر قلبي عليه، اليست السيدة ماريا زوجة نبينا محمد نصرانية، انا لم اكن اكره النصارى، ولكني لا افهم لماذا يقتلوننا ويسوقون الاندلسيين الى المحاكم ويحرقوهم، صدقيني سيدة قمرين، كأنهم عندما اغلقوا الحمام بالاقفال، كأنهم اغلقوا قلبي، حينها كرهتهم من اعماق روحي، لكن حين رأيت اليتيم باولو بن تيرالدا تذكرت ابراهيم ابن نبينا محمد اللهم صلي عليه وعلى اله واصحابه الصالحين، ردداها معا، اليس ابراهيم ابنه من السيدة ماريا وهي نصرانية، لذلك اعطيت باولو اجمل مايوركا عندي، اخذها وركض ومن فرحته سيدة قمرين كاد يطير.

-                     مسكينة تيرالدا، نصرانية مثلهم، لكنهم اخذوا زوجها ليعمل على سفن الملك،، يقال انهم حكموا عليه بالسخرة ست سنوات، هل صحيح؟

-                     صحيح سيدة قمرين، مجرمون، قساة، لايعرفون الرحمة، وفي الصلاة يوم الاحد، يوصينا قساوستهم بالرحمة.

-                     ابتسمت قمرين، الرحمة، وما جريمة زوجها سانتو المسكين؟ لم يفعل شيئا، سوى انه تشاجر بالكلام مع هذا القس، كم اغتاظ حين اراه.

-                     سيدة قمرين، في امان الله، وترك عندها نقوده..

سيزور كريم بيت قمرين عدة مرات لايداع ما يكسبه، واحيانا كان يرسل النقود اليها بيد خوان ابنها الكبير وكان ذكيا وعمره خمسة عشر عاما ولم يكن يجازف بارسالها بيد أمّاريو فما زال صغيرا وقد يستدرجه جواسيس الكنيسة بالحديث او الضرب..

- قبل ايام ضربوا ميرينا الصغيرة (اسمها الاندلسي، مهدية) فاعترفت لهم بان اباها وامها كانا يغلقان عليهما الحجرة ويقرآن، وخطأ اهلها انهم تركوا ابنتهم ميرينا تعرف انهم يقرأون القرآن، كان ابوها يعلمها القرآن كل يوم احد، قبل خروجهم للصلاة في الكنيسة، ويشدد عليها ان لا تخبر احدا بذلك، لكنهم ضربوها، وكانت بنت صغيرة وناعمة، ضربوها بعنف فخافت وقالت لهم كل شىء، هذا سيدة قمرين سبب اختفائهم جميعا حتى الاطفال اخذهم عمال التفتيش، اخبرني جاري النصرني ابو تيريزا انهم باعوا الاطفال، ميرينا واخويها الى اشخاص من مناطق مختلفة هكذا اوامر الكنيسة، وباعوا الام لاحد ملاكي المزارع خارج اشبيلية، وكانت تبكي وتتوسل اليهم ان تباع مع اطفالها سوية، لكنهم لم يهتموا بتوسلاتها، اما الاب فقد مات تحت التعذيب..

 لذلك سيدة قمرين، ارجوك، لاتطلعي اماريو على اي شيء، خوان شجاع وذكي، اعرفه من قبل، الموريسك يصبحون رجالا بسرعة، الحمد لله (هذا ما قاله لها معتذرا لرده أمّاريو).

 لكنه بعد اشهر من عمله في نحت المايوركات وبيعها، وبتصرف اثار استغراب الموريسكيين وغيرهم، سيتوقف عن نحت المايوركا فجأة ويختفى اثره...

 = اتعبتني الطباعة آميكو، كما قلت لك انا كسول جدا، لكن صدقني لم اكتب لغيرك ولم اتعب نفسي بالكتابة كما اتعبها الان معك.. اعتذر وساكتب لك لاحقا ان شاء الله.

 إشبيليو صديقك.

= تاخرت في الكتابة مضطرا، اعتذر، اعرف مقدار تلهفك لتتمة الحكاية التي انتشرت في كل الخيام بسرعة كما انتشرت المايوركا في اشبيلية وخارجها، لكن مراكشيا من فاس اصوله من قادس، اعترض بشدة وطلب شطب الحمارة والاكتفاء بذكر الظبية فقط اكراما لنساء الاندلس ودار حوار طويل ومتشعب في المخيم الذي انقسم الى فريقين حتى تم الاقتناع اخيرا ان ذكر الحمارة ضرورة فنية في السرد وان المايوركا هي ظبية بعينين واسعتين، ولائقة بالجمال الاندلسي ..

هذا ما اخرني عن الكتابة اليك، ادارة الانسان- يا صديقي- اصعب بدرجة لاتتصور من ادارة شؤون اي مخلوق اخر حتى اشد الوحوش فتكا وشراسة..

وبعد تهدئة الامور، اضافت خيمة طليطلة بعد ان انشغلت بالنص طويلا، اضافت نهاية ربطت بين جملتنا السردية الممتعة وبين جملة سرد اخرى، اذكر لك نصها:

 المارانوش الذين اعتذر منهم خوان كارلوس،

 الملك،

 كانوا يهودا..

 والمواركة الذين نستهم حتى مدارسنا

 كانوا مواركة!

انت تعرف صديقي انهم عندما نصّروا اليهود اطلقوا عليهم هذا الاسم مارانوش اي خنازير، كما اطلقوا على مسلمي الاندلس المنصرين : لشمرشكش وتعريبها موريسكوس اي مغاربة للتصغير والتحقير.

 مارانوش
 ثلاثة من اطفال الموريسك كانوا فرحين بشراء احدهم مايوركا، اثار فرحهم عطف كريم كاسياس فاعطاهم واحدة اخرى مجانا، تقافز الصغار مبتهجين وتضاحكوا، ويبدوا انهم لم يستطيعوا الصبر حتى يصلوا الى دارهم، فاخذوا جانب الدرب بعد قليل وباشروا اللعب وتقليب الدميتين بدهشة الطفولة والبراءة تشع من وجوههم، في ذات الوقت كانت امراة ترتدي زيا اراغونيا تمر قريبا منهم وهي تمسك بيد ابنتها الصغيرة التي ما ان رأت المايوركا حتى انفلتت من امها وركضت تجاه الاطفال وتبعتها امها تهرول خلفها، هذا المنظر للمراة وهي تركض وتتعثر وللطفلة وهي تتعارك وتحاول بيأس ان تاخذ الدمية من يد الصغير القوية، هذا المنظر اثار ضحك مجموعة من الجنود كانوا واقفين قرب احد الرهبان الدومينيك، كانت الام تحاول منع ابنتها من العراك والجنود يضحكون حين همس لهم مارانوشي قريب منهم:

(هؤلاء الصغار الملاعين من الموريسكوس سادتي)

وهنا تغير كل شيء، توقف الضحك، وقطب الراهب جبينه، تحرك الجنود وضربوا الاطفال فهربوا مذعورين، ثم توقفوا على مبعدة، ليرو مصير المايوركا التي انتزعت منهم واعطيت للبنت، اما المايوركا الاخرى فقد ترافست بها احذية الجنود وقهقهاتهم حتى تحطمت..

لم يكن يستطيع التدخل، كان كاسياس يرى الاطفال ويرى حبيبته المايوركا وقلبه يعتصر، ومنذ تلك الحادثة لم يعد كريم يسمي نفسه كاسياس، ولم يعد لنحت اغصان الزيتون، لقد اعتكف في بيته زمنا، ثم -كما يقول بعض المواركة- خرج الى الاحراج المحيطة باشبيلية وهو يتابط سيفا صنعه بمطرقته.

(قيل ان هذا سبب توقف كريم عن نحت دميته المحببة ..)

 = اكاديمية موريسكية وزميلة لها من بلباو كانتا في خيمة اسمها، خيمة الزهراء، ربما حملت هذا الاسم اعتزازا بقصر الزهراء أو لان االموريسكية كان اسمها زهراء، هذه الخيمة رسمت نهاية مؤلمة لكريم ..

 المغارة
ترك نحت المايوركات وخرج بسلاحه الى الاحراج الكثيفة والى الجبال، ومن هناك كان يتربص بدوريات الجنود القشتاليين ويصطاد من ينفرد منهم عن جماعته، وقيل انه كان يكتب على جسد كل قتيل كلمة مايوركا بحروف الخميادو التي لا يعرف الكتابة بغيرها، حتى ضجت اشبيلية بما يفعل وكانت الامهات القشتاليات ينومن اطفالهن وهن يخوفنهم بكريم كاسياس، او كاسياس مايوركا، ويقال ان المارانوشي ذاته الذي وشى بالأطفال هو من ترجم للسلطات معنى الكلمة الموشومة على اجساد القتلى، وهكذا غدا كريم كاسياس مطلوبا، فاستنفرت دوريات عديدة حتى تمكنوا اخيرا من محاصرته في مغارة صغيرة لكنهم عجزوا عن الدخول عليه لضيق فتحة المغارة ولانه كان يقتل كل من يقترب منه، فعمدوا الى تكويم الاغصان اليابسة في باب المغارة واشعلوها فكاد ان يختنق واضطر للخروج عليهم بسيفه، لم يتمكنوا من اسره كي يحرق حيا كما هي الاوامر، وهكذا سحلوه قتيلا الى اشبيلية وعلى الطريق كانت الاعشاب الطرية تصطبغ بدمه، كأنها تتحنى به كما تفعل الموريسكيات، واحرقت جثته ومنذ ذاك لم يسمح لاي طفل ان يلهو بالمايوركا ..

«اشارت ملاحظة من خيمة الزهراء ان لهذه المساهمة صلة بالجملة القصصية التالية»:

 اغلقوا المغارة عليهم بالنار والدخان

سمع الجنود سعالهم والصراخ فتضاحكوا

وفجأة، انفلتت راكضة، ام شابة ورضيعها

لكنهم في الخارج،

وكانوا يرقصون..

قطعوهما بسيوفهم .

 = ما اقول لك صديقي، هكذا هي حكايات الموريسك، هل هي جميعا محزنة؟ لا أدري..

ولا اظن ان احدا يدري، ارجوك إقرأ هذه الجملة القصصية قبل ان اذكر لك نهاية اخرى لكريم كاسياس، نهاية اقترحتها خيمة البشرات.

«عندما اختطف القشتاليون الاربعة ابنته

طاردهم بخنجره،

ثمة خيول اندفعت،

اربعة عشر ربيعا يا الهي

وكان قتيلا

حين رآها الى الابد.»

 تقول خيمة البشرات :

هناك من يقول ان اختطاف هذه الفتاة الصغيرة من يد ابيها، ثم قتله بوحشية وفرح، امام ابنته وامام الناس علنا، هو الذي دفع كاسياس للتوقف عن نحت المايوركات والصعود الى الجبال، لكنا لا نملك وثائق تؤيد هذا الخبر، وما نحن واثقون منه، ان ما حدث للاطفال مع الجنود والمرأة الاراغونية لم يكن هو سبب توقف كريم عن نحت المايوركات والاختفاء، هذه الحادثة وقعت فعلا، كما تذكر مخطوطة تنسب الى حامد بن قمرين الاديب الاندلسي البارع، لكن المخطوطة ذاتها في موضع اخر، قبل نهايتها باربع صفحات، تقول :

 قبل ساعة من غروب يوم حار من ايام يوليو، كان كريم كاسياس يلملم بسطته فقد نفذت كل المايوركات التي نحتها اليوم، حينها وقفت على رأسه فتاة جميلة في سن المراهقة يبدو عليها انها من بنات النبلاء او رجال الدولة، وكانت تمتطي فرسا، وأحد العبيد من الموريسكوس المحكوم عليهم بالرق، كان يمسك بلجام الفرس، قالت لكريم بتعال وغرور:

- انت موريسكوس، ما اسمك؟

(لم يرتح لاسلوبها)

- كاسياس سيدتي.

- اسمك الكامل؟

- كاسياس رودميرو سيدتي.

- اين مايوركاتك، لا اراها؟

- نفذت سيدتي.

- اسمع، اصنع لي مايوركا جميلة جدا، احلى واحدة، اجعلها تشبهني، هل انا جميلة موريسكوس؟

- جميلة جدا سيدتي.

- انا اجمل ام مايوركاتك هذه؟

- بالطبع انت اجمل سيدتي.

(دقات قلب كريم و تصاعدت، ماذا تريد منه؟ دعا الله ان ينقذه من شرها وتغير لونه)

-                     ما بك؟ هل انت خائف ام بهرك جمالي؟ قل.

-                     انت جميلة سيدتي قلت لك، فقط انا مرتبك لتكرمك بالوقوف عند بسطتي المتواضعة هذه.

-                     اذن اصنع غدا مايوركا مثلي، ولا تبع اي واحدة للموريسكوس، مفهوم؟

-                     مايوركا مثلك؟ (هنا تغيرت لهجة كريم قليلا ولم يخاطبها بسيدتي) ولكني لا اعرف نحت غير هذه المايوركا، ولا يستطيع احد غيري نحت اجمل منها.

(اندهشت الفتاة من تغير لهجته وغضبت)

-                     موريسكوس، حقير، قل سيدتي، ورفعت سوطها في الهواء.

فتفاداه كريم وصرخ بوجهها..

-                     انت واجدادكِ الحقراء، الموريسك هم الذين علموك كيف ترتدين ثيابك يابنت البرابرة، بصق تجاهها وغاب عن الانظار..

(علق بن قمرين في ذيل الخبر ان كريم اراد تأديبها، لكنه تراجع في اللحظة الاخيرة لأنها امرأة)

واضافت الخيمة ذاتها - بعد ساعة - تتمة للحكاية..

تألم كريم كثيرا لما حل بالعبد الموريسكي الذي كان يقود فرس الفتاة، اذ عذبوه بالدواليب الدوارة ليدلهم على اسم كريم ومكانه وهو يصرخ ويقسم، لا أعرف، توسل اليهم بالسيدة العذراء وبالطفل المسيح، لكن لا احد يصغي، شدوا يديه وقدميه الى اربعة دواليب، كل دولاب يسحبه الى جهة وشدوه، حتى اغمي على المسكين وتمزق جسده قطعا اربعة..

 لهذا خرج كريم الى الاحراج المحيطة باشبيلية زمنا، ثم شارك في ثورة الاندلسيين بعد عام من قرار فيليب باغلاق الحمامات، كان قائدا شجاعا وقتل خلال معركة في جبل البشرات قريبا من غرناطة، وثمة زيتونة معمرة ما زالت الى الان تظلل المكان الذي دفن فيه، و الى الان المزارعون الاسبان يتبركون بهذه الزيتونة الوارفة ويسمونها مايوركا من دون ان يعرفوا سبب التسمية.

وعلقت الخيمة : ان غرناطة احق من غيرها بكريم وسنثبت هذا بحكاية اخرى.

لكن خيمة اشبيلية لم تتقبل ما ذكرته خيمة البشرات وادعائهم بكريم ووزعت هامشها:

ما ورد في النهاية المقترحة للحكاية من خيمة البشرات اثار دهشتنا لانه تضمن خطأ فنيا واضحا يظهر منه ان الخاتمة كانت مختلقة، لان كريم أعلم المراهقة

القشتالية باسمه: كاسياس، فلماذا يسأل المحققون عن اسمه؟ كما انه معروف، فهو الوحيد الذي كان يبدع نحت المايوركات ويبيعها، ووقتها لم يبدأ احد بتقليده، هذا حصل بعد وقت طويل وكان الناس يميزون بسهولة بين مايوركات كاسياس الاصلية كما يسمونها وبين النسخ المزورة للاخرين، فلماذا يحتاجون لتعذيب العبد الموريسكي؟

ان الثابت لدينا ان حامد بن قمرين اديبنا المبدع ذكر انهم عذبوا الموريسكي المستعبد، بتمة التواطؤ مع كريم كاسياس على اهانة القشتالية، لكنهم لم يقتلوه، بل عوضوا السيد المالك له بموريسكي اخر وارسلو هذا مقيدا الى برشلونة للعمل مدى الحياة على السفن الملكية في الارمادا..

وقالت السيدة المخولة للتحدث باسم خيمة اشبيلية : ان لدينا ما يؤكد ان كريم بقي مرابطا قريبا من اشبيلية حتى استشهد رحمه الله، وسننشر هذا قريبا.

لم نكن نتوقع، لا الدكتور احمد رودميرو ولا انا، ان يتشعب السرد بهذه الطريقة، وقال رودميرو غامزا (كأنه هو من رتب ما يجري) الا يذكرك تنافسهم بهذا الشكل بملوك الطوائف وصراعاتهم حتى استعانوا بالشماليين على بعضهم؟

 سيحاصرنا الوقت اذا استمرت حكاية كريم و مايوركا بهذه الطريقة، وسنعجز عن تناول الاقصوصات الاخرى وهي كثيرة، لكنه استرسال سردي مدهش شدنا وانجذب الجميع الى متعاته.

اراسلك غدا ان شاء الله، اشعر بالارهاق، للتذكير فقط، وعدت خيمتا (البشرات واشبيلية) باضافات موضحة لوقائع الحكاية، حكاية المايوركا. وفوق هذا ستقدم خيمة اشبيلية، حكاية جديدة وجميلة كما يقولون ..محبتي

بعد يومين ارسل -عمار اشبيليو- لي حكاية اصدرتها خيمة غرناطة تأييدا لادعاء البشرات بكريم كاسياس، وذيل رسالته بسلام حار ووعد بالمزيد من المتعة في الآتيات من رسائله:

 زيت زاكاو
كاسياس الموريسكي لم يكن من اهل اشبيلية في الاصل، ولم يكن اسمه كريم او كاسياس وانما اسمه الاندلسي زكي، وبالقشتالية سمي زاكاو، وكان الابن الرابع لمهدي احد ملاكي مزارع الزيتون في غرناطة الذي سمته الكنيسة الكاثوليكية، غارسيا، وقد مات اثنان من ابناء مهدي بسبب المرض، لكن الاكبر منهم، صالح او سولينو هو من قتل على يد القشتاليين بعد ان دافع عن امرأة موريسكية حاول الجنود التحرش بها وهي في بيتها، كانت جارة لهم، وكانت الاوامر الملكية تقضي ان تبقى ابواب الموريسكيين ونوافذهم مفتوحة دائما كي لايصلوا او يقرأوا القرأن، فاستغل الجنود الامر ودخلوا بيتها بذريعة التفتيش، ولما كانت وقتها وحيدة تحرشوا بها فصرخت بهم وعلا صراخها، ومن دون تردد اندفع صالح الى بيت جارته وادمى رؤوسهم بخشبة تسلح بها قبل ان يتكاثروا عليه ويقتلوه..

 خلال اسبوع قضت محكمة الكاثوليك بان يرسل الاب للسخرة في مزارع الملك في سانتا ياغو، على ساحل الاطلسي، ومن حينها لم يعد الى غرناطة ابدا، كما صادروا كل مزارعه ومعصرة الزيت التي يملكها، ايامها كان زاكاو في اوائل شبابه، ولكي يعيل امه العجوز المنهكة عمل حطابا لعدة اعوام، كان في العشرين من عمره او ازيد حين حمل الحطب على حمارته لبيعه كما يفعل كل يوم تقريبا، وجلب معه دورقا وفي نيته ان يشتري بثمن الحطب زيتا للطعام او الاضاءة، في الطريق الى سوق القيصرية، ناداه احد الخدم واشترى منه الحطب لكنه دعاه ليتبعه قليلا الى قصر سيده كي يعطيه نقوده..

 قال لزاكاو: السيد لا يسمح بدخول الغرباء، هذه اوامره، انتظرني قليلا ثم قاد الخادم الحمارة بحملها عدا الدورق فقد اخذه زاكاو لئلا ينكسر، لكن الخادم تاخر، وزاكاو بدأ يقلق، قلقه على حماره اكثر من قلقه على ثمن الحطب، جن جنون زاكاو، لا الحمارة ولا الحطب، هذا كل ما يملك، سأل عن الخادم، انكروه، اراد الدخول، منعوه، لم يسكت وحاول الدخول بالقوة، فتصايح الخدم وتجمع حراس القصر عليه، فاوجعوه ضربا وهددوه بالقتل..

 عاد زاكاو خائبا مهتضما، وشاء القدر ان يمر بطريقه على حانوت زيات نصراني، لا احد في القرب، ولا احد يعرف ما دار في نفس زاكاو حين قرر التوقف والتوجه للحانوتي، ومد اليه الدورق طالبا منه ان يبيعه زيتا، كان الحانوت كبيرا مليئا بخوابي الزيت وفي جانب منه، راى زاكاو معصرة صغيرة واكواما من حبات الزيتون داخل الحانوت، ذكره المشهد بايام الطفولة حيث كان يلهو قرب معصرتهم الخشبية الكبيرة بين اكوام الزيتون وابوه يعمل قريبا منه ويلاعبه بين حين واخر، ملأ الشمالي الدورق زيتا واعطاه لزاكاو منتظرا منه الثمن، لكن زاكاو ادار وجهه وسار خطوات، لم يكترث لصيحات الحانوتي خلفه، فتبعه هذا، وهنا استدار زاكاو وطرحه ارضا وانهال على وجهه وصدره بقبضته القوية حتى افقده الوعي، اخذ زاكاو دورق الزيت واختفى، ومنذ ذاك شاعت الحادثة بين الموريسكين وتندروا بها وكانوا يضربونها مثلا على الاصرار والشجاعة، فيقول الموريسكي اذا اصر على تنفيذ امر ما (والله كزيت زاكاو)، اي بكل الاحوال ساخذ ما اريد، ان شئت ام ابيت سافعل كذا، اما زاكاو نفسه فقد فارق امه الى الابد، اختبأ في دار احد الموريسكيين، ثم غادر غرناطة متنكرا الى اشبيلية وعاش فيها باسم كاسياس، وثمة مثل اخر تداوله الناس يؤكد حصول حكاية زاكاو هذه في غرناطة لا في غيرها، وهو قول الناس الى الان في غرناطة، حتى سكانها الاسبان الحاليين، وحتى في الشتات الاندلسي يقولون: لا الحمارة ولا الحطب، وبعضهم يقول: لا زاكاو ولا مايوركا.

اضافت غرناطية بالاسبانية (مايوركا اسم حمارة زاكاو التي اخذت منه مع الحطب) واعتذر الاخوة في الخيمة نيابة عنها، لانها لاتجيد التعبير بالعربية.

 ثم ذيلوا حكايتهم الممتعة بتقديم طلب باسم خيمتي غرناطة والبشرات بان يعتمد الاسم الاندلسي زكي وليس كريم، وزاكاو بدلا عن كاسياس.

- سيفتح هذا الطلب صفحة جديدة من الصراع بين (ملوك الطوائف).

علق رودميرو، وضحك كل من فهم قصده.

الاستثارة على اشدها، رائعة في المخيم، الجميع يتداولون الاخبار و الحكايات ويعيدون قراءتها للخروج بالجديد، وبينما كان المشاركون بانتظار ما وعدت به من تتمة تعزز ماروته عن كاسياس واحقيتها به، فجّرت خيمة اشبيلية مفاجأة غيرت الاجواء وقدموا بدلا عما وعدوا حكايتهم الرائعة، حمام قمرين.

 حمام قمرين
 مما كتبه لزوجته:

 قرّبت كرسيي من الشباك، واجهة الحمام قبالتي، تاملتها كعادتي كل يوم دون ان أمل، أفعل هذا منذ ان جئت الى اشبيلية متاجرا بالتيل الهولندي والحرير اللازم لاردية النبلاء و القساوسة، احمل اسما ايطالياً، كولاني، وادعيت التدين الكاثوليكي، عزيزتي ديانا مع تلهفي للعودة و شدة اشتياقي لاحضانك ولانفاس كريستينا الحلوة، الا انني - لا اخفي عليك - مشدود الى الحياة هنا، هذه التفاصيل السرية لحياة الناس هنا، والتي استطعت ملاحظتها، قسوة جنود الملك ورجال الكنيسة الكاثوليك الذين يتحكمون بكل شيء وفظاظتهم مقابل امارات الخوف والقلق التي تسم نظرات وملامح اغلب من أراهم هنا، حتى النصارى القدامى، اما الموريسكوس، فحالهم الاسوأ، انجذبت روحي اليهم، اناس ضعفاء وطيبون، مع قلقهم الواضح على كل سلوكياتهم فان البشاشة واللطافة سمتهم الاولى، كرماء جدا، ورأيت منهم في مواقف عدة وهم يساقون الى الموت والى التعذيب في ديوان التفتيش المقدس شجاعة مدهشة لم أتوقعها..

 وبعد اشهر من اقامتي في قشتالة وليون واراغون، عرفت ان السبب الخفي لما يحل بهم هو ذكاؤهم ونشاطهم الذي يجعلهم اغنياء بعد كل مصادرة لاموالهم، مما يعرضهم في كل مرة لمكائد الجشعين من رجال الدولة او الكنيسة، اما السبب الاهم المعلن فهو اصرارهم على التمسك بزيهم وعاداتهم وتجنبهم اكل لحم الخنزير او تناول الخمور، والقبض عليهم متلبسين بالصلاة او التطلع لرؤية الهلال، ديانا حبيبتي، المسلمون يتطلعون الى الهلال لكي يصوموا، طبعا صيامهم يختلف عن صيامنا، وبواسطة الهلال عندما يرونه صغيرا جدا يحتفلون باعيادهم..

من المشاهد التي كنت أحب التفرج عليها بين يوم واخر، مشهد مجموعة من البنات الموريسكيات الصغيرات، كن يأتين في اليوم المخصص لاستحمام النساء الى حمام قمرين للاغتسال، وكنت أعجب من مداومتهن على الاغتسال بين يوم واخر مما لم أعهده في بلادنا الجميلة هولندا وفي كل اوربا، ليس وحدهن، اغلب الموريسكيين هكذا يحبون ارتياد الحمامات العمومية..

من مكاني كنت أنتظر البنات، اصابع يقطعها الظل، هو الوقت المتبقي لموعد مرورهن، منظر مختلف جماعات المواركة التي تمر امام نافذتي في طريقها الى حمام قمرين تبهجني، ليتك كنت معي لتشاركيني المتعة، لكني اخشى عليك من هؤلاء القساوسة، انهم يرتكبون فظائع بحق الناس هنا اضعاف ما فعلوه في بلادنا، عزيزتي كنت أستمتع بمشاهد وفود الموريسكيين والموريسكيات بهيئة جماعات الى الحمام كل يوم، لكن بشكل خاص كنت استمتع ايما استمتاع بمجيئ البنات الموريسكيات، منذ رآيتهن لاول مرة ياتين للاغتسال في حمام كامرينا، هكذا يلفظ الاسبان اسم كمرين صاحبة الحمام، انا ايضا الفظ اسمها الموريسكي بصعوبة، هي امرأة تجاوزت الخمسين، محتشمة الملابس، لايكاد يرى منها غير جانب من وجهها، الجميع هنا يحترمونها، حتى القشتاليين، والدها ملاح شهير، شارك كولمبس في رحلته وهو اول بحار يرى الارض الجديدة، امريكا، وهذا سبب احترامهم له ولابنته كامرين ..

 لا ادري ما شدني لهؤلاء الصغيرات وجعلني انتظر مرورهن كل يومين، ربما لانهن بعمر ابنتنا كريستينا ومرحات مثلها، كن صغيرات لاتتجاوز اعمارهن العاشرة او الحادية عشرة، اثوابهن فضفاضة وملونة، متعددة الالوان، زاهية ومزركشة بخيوط ذهبية وفضية وبيضاء، منظر ما لم أره عند القشتاليات اللواتي تذكرني اثوابهن الداكنة بالشتاء الرمادي الثقيل عندنا، وهذا يفسر لك سر ارتياحي للمتاجرة مع البلاد الدافئة، وما ادهشني وفاجئني يا عزيزتي، هو ما لم تكن تفعله حتى بنات بلادي، بلاد الازهار، ان اغلب سيدات الموريسكوس هنا يغطين رؤوسهن بقبعات محلاة بالورود الجميلة، اكاليل ورد، تصوري كم هو بديع ان تري ازهارهن تحركها النسمات ويضوع منها اذ اقتربت منهن – وعادة أفعل ذلك، اعترف- عطر منعش ومريح يعيدني الى مروج الربيع ومراتع صباي، هذه الدهشة ما زالت تلازمني كلما رايت سيدة موريسكية تزين راسها بالازهار الطرية الملونة، اي ذائقة بديعة ذائقتهن نساء اندلوثيا، كل الموريسكيات صغارا وشابات وسيدات، كن ايضا يصبغن اصابعهن وراحات اكفهن الناعمة بصبغة حمراء تشد الناظر، لافاقعة ولا خفيفة، حمرة لم أرها من قبل، اخبرتني كامرين، انها صبغة اوراق الحناء، يزرع القليل منها هنا في اسبانيا ونوعيته رديئة، لكن جيد الصبغة منها يجلبه التجار من مراكش وبلاد العرب الحارة.

البنات الصغيرات حينما يأتين ينشرن مرحهن على طول الطريق، من النقطة البعيدة حيث تقع عيني عليهن والى ان يقتربن اكثر، اسعد لحظاتي النفسية حين يصلن امامي مباشرة، ثم يختفين في الحمام، يتراكضن ويمزحن وتتناهى الي ضحكاتهن، حتى بدا لي احيانا اني أحلم، كلما اراهن أتذكر ابنتنا كريستينا، بشقاوتها وشقرتها، أتذكر لعبنا معا، واحتجاجاتك اذا غبنا عنك قليلا..

اضافت خيمة اشبيلية:

«منذ اكثر من شهر وهو ينتظرهن، بين يوم وآخر يأتين للاستحمام، هكذا كل الموريسك، يدمنون المجيء الى الحمامات، حتى الرجال..

اليوم تاخرن قليلا ثم ظهرهن، استغرب مشيتهن، كن مترددات، ينقصهن المرح، شىء من الخوف سرى حتى اليه، استشعره على ملامحهن من بعيد كما لو كان يشمه، وحيت توقفن دارت عينه الى حيث ينظرن، امامه عند باب الحمام، رأى مشهدا غريبا، جنودا قشتاليين وراهبين، كانوا يغلقون الحمام باقفال كبيرة ويختموها بطين احمر يشبه الشمع، كانت قمرين واقفة ومذهولة حين غادروا،

عدد قليل من النسوة ابتعدن عن الحمام مسرعات، لم ير قمرين حزينة بهذه الحال حتى عندما كانت تحدثه عن جدها (هلال رودريغو) وما جرى لافراد عائلتها، لم تكن حزينة يوما كما هي الان، وعلى مقربة وقف موريسكيان بملابس قشتالية، بدا عليهما الامتعاض، والى الخلف منهم التمت البنات الصغيرات على بعضهن، ساكنات كن وخائفات.

-                     سيدة كامرينا ماذا يحدث؟ نزل وسألها.

-                     اغلقوا الحمام، يقولون كل الحمامات تغلق بامر صاحب الجلالة الملك.

وقالت بهدوء حيرني، انها لم تعترض قط والا ستساق الى التفتيش واقل ما أحكم به لو اعترضت هو ان أباع كجارية وهذا حصل للالاف من الموريسكيات، لذا لم افعل شيئا ولا احد يستطيع فعل شىء.»

لم يكن لدي ما اقوله لها ولا حتى مواساتها - كتب لزوجته -، حقا لا احد يمكنه مساعدتها الا الرب، عدت الى الفندق لاصلي من اجلها، خطرت الصغيرات امامي، تذكرت كريستينا، وصليت لهن ايضا.

عند العشاء قال لي صاحب الفندق : سنيور كولاني لاحظت تأثرك عند إغلاق الحمام، هذا لأنك مسيحي صالح، واضاف بحماسة:

-                     سنيور كولاني، لا تتاثر لحال هؤلاء الموريسك، انهم اخطر من المارانوش اليهود، انت كاثوليكي صالح..

(لاحظي ديانا، اجادتي للتمثيل والتنكر، يقول لي انت كاثوليكي صالح، الغبي يظنني كاثوليكيا، وكثيرا ما يحدثني عن اعجابه بفلورنسا وهو يعتقد اني منها)

-                      هؤلاء الموريسكوس مخادعون سنيور، يظهرون بمظهر المسيحين الاتقياء ويواظبون على الصلاة في الكنائس اكثر منا نحن النصارى القدماء، لكنهم في الواقع هراطقة ومرتدون، جميعهم هراطقة، لاتثق بهم، انا سنيور لا اثق باي منهم، كلهم يعبدون نبيهم محمد ويقراون كتابه في بيوتهم، يصلون سرا ويعلمون اولادهم صلاتهم اليومية..

انت يا سيدي غريب لا تعرف هذه البلاد وانا اخشى عليك من مخالفة ارادة صاحب الجلالة حين تتعاطف معهم، دعني اخبرك ان لم تصدق، مرات عديدة، عشرات المرات، اوه ليقطع لساني ماذا اقول، ليس عشرات سيدي، بل مئات والاف المرات يقبض رجال ديوان التفتيش المقدس عليهم وهم يمارسون صلاتهم وسحرهم، والعديد منهم حكم عليه بالحرق لابطال سحره وشعوذته، هذه الموريسكية كامرين التي تتودد اليك، لا تصدقها، انا اعرف عنها الكثير، جدها كان كافرا ومن اعداء الدين، حتى انه اخفى احد اعداء المسيح من المارانوش في بيته وكان يتآمر معه، وقد تم احراقه هنا في هذا الميدان قبل ثمانين عاما، لا تنخدع بها سيدي ..

((هذه المعلومة كنت اعرفها حقا وقد شعرت بالخوف من تهديده المبطن))

-                      ولماذا امر صاحب الجلالة باغلاق حمامها؟

-                     سنيور كولاني، الم اقل لك انك جديد على بلادنا، هؤلاء الموريسك لايستخدمون هذه الحمامات للاغتسال، ما حاجتهم لذلك كل يوم او يومين، يستطيع السيد القشتالي البقاء شهر او اكثر دون استحمام، فهل هؤلاء الموريسك الصعاليك افضل من نبلائنا وقساوستنا؟ هل هم افضل من المقدسة ايزابيلا التي اعادت غرناطة الى احضان الكنيسة المقدسة، ايزابيلا المقدسة هي التي افتخرت بانها لم تستحم سوى مرتين، الاولى حين ولدت والثانية عند زواجها، هل هم او نساؤهم العاهرات افضل منها؟ قل سنيور؟

لاسيدي انهم يستغلونها لغسل وجوههم وايديهم قبل ان يصلون، هذه اوامر نبيهم وهم لايخالفونها مع انهم في بلاد المؤمنين الكاثوليك، اؤكد لك انهم يغتسلون للصلاة وهذا كفر، لذلك امر جلالته باغلاق بيوت الشيطان هذه، الحمامات .

ليس هذ فقط سيدي، لقد امر صاحب الجلالة بمنعهم من ارتداء ازياء الكفرة الخاصة بهم، ولايسمح لهم بعد الان ان يتحدثوا بلغة دينهم المحمدي، كما منعت نساؤهم من التزين بالاصباغ، انهن يغرين المؤمنين الكاثوليك في الطرقات والاسواق وحتى عند حضورهن الكاذب للصلاة في الكنيسة، حتى الكنيسة لاتحترمها نساؤهم، فكيف يسكت عنهم صاحب الجلالة.

صديقي، حكاية قمرين التي ولدت في خيمة إشبيلية، شدت المخيم كسابقتها حكاية مايوركا التي ولدت في ذات الخيمة، نسيت ان اقول لك ان الدكتور احمد رودميرو ورد اسمه ضمن اعضاء هذي الخيمة وكذلك اسمي انا، عمار إشبيليو، لكني وقد قضيت حياتي حالما، لا استطيع التمييز بوضوح بين ما اعيشه وأمر به فعلا في الواقع، وبين ما احلم به، دائما تراني حالما، يقظا ونائما احلم، حتى وانا في اشد انشغالاتي لا انفك احلم، آميكو، لا احلم يعني لا اتنفس، صدق او لا تصدق، احيانا احلم اني انت، او بالعكس، هكذا هو صديقك عمار، لا اطيل عليك وسنلتقي، اعدك، بإذن الله.

كانت رسائل عمار اشبيليو ترد الى بريدي ولا ارد عليها الا بإيجاز، ليس عندي ما اقوله سوى حثه على اكمال حكايات المخيم، مخيم المواركة المقام جنوب الاندلس بين غرناطة وإشبيلية، تصفحت الانترنيت والمواقع التي ارتادها بحثا عن خبر عن

المخيم او اي اعلان عنه او معلومة فلم اجد اي ذكر، ربما اخفوا اخباره لكي لايعكر صفوهم احد، كتموا اخبار المخيم، لكن، لماذا التكتم؟

اجاب عمار:

- الغياب والتواري عن انظار التاريخ حال لازم المواركة وما حل بهم، تاريخهم مسكوت عنه، يبدو لي ان هذا هو المبرر الفني لاخفاء اخبار المخيم وتغييب فعالياته، وربما كان في هذا التكتم احتجاجا منهم على اهمال الاخرين لما حل بهم من مآسي.. لنقل ان فكرة المخيم هي اختلاق اندلس مصغرة، اندلس الموريسكيين في القرن السادس عشر وما تلاه، اعادة تمثيلها على خشبة مسرح، يمثلها هذا المخيم..

 اقرا معي ارجوك هذه القصاصة مرة اخرى:

«المارانوش الذين اعتذر خوان كارلوس منهم،

 كانوا يهودا

 والمواركة الذين نستهم حتى مدارسنا،

 كانوا مواركة.»

الكاتب الموريسكي يشير هنا الى اعتذار الملك خوان كارلوس بنفسه مما جرى لليهود في قشتالة، لكن، كما قلت لك، ان كتم حالنا وغيابنا هو الواقع وهكذا فعلنا بأخبار المخيم، اليس مخيم للمواركة هو؟!

لا اريد ان اؤذيك اكثر، لكن لتطّلع لاغير، فقط لتطلع، اقرا معي واعد قراءاتك كلها، لست انت فقط، كلنا يحتاج لاعادة قراءاته للتاريخ وحقائقه، كلنا..

 لماذا؟!
 ما فعله الكاردينال زمينز

 وبشاعات خوان اوستريا،

 تجاهلها ليون الافريقي او حسن الوزان،

 لماذا؟! تساءل موريسكي بمرارة،

 وامامه في التلفاز قدمت جائزة استورياس للادب 2010.

 حقا تساءلت معه، ولكن حكاية قمرين تتراءى امامي وعمار تأخر في الكتابة، ايميله لا يستلم، وغير هذا لا اتصال بيننا، احيانا اشك في نفسي واكاد اصدق باني انا من يختلق كل هذي الاحداث والحكايات ويكتبها..

 بعد ايام افضيت بشكوكي وما انا فيه من تشوش الى عمار اشبيليو، والغريب انه رد ببرود:

- ان هذا ما يحصل لي تماما.

 لكني لم اتوسع معه في الموضوع، كي اتيح له التفرغ ليحكي لي عن قمرين او كامارينا كما يسميها كولاني تاجر الحرير المتنكر، وكتب ..

خيمة غرناطة، وهي الاولى في الترقيم طبعا، عزفت على وتر الحكاية، حكاية قمرين او حكاية إغلاق الحمامات، كأنها لم تتقبل انفراد خيمة اشبيلية بها، فنشرت على رواد المخيم ما ابدعته ريشات اصحابها من حكاية تجمع بين الالم الانساني والمحبة، حكاية سوق القيصرية..

 سوق القيصرية
 لم يكن اسمه كولاني، تاجر الحرير في حكاية قمرين، كما انه كان بروتستانتيا هولنديا من دنهل، ولم يكن ايطالياً ولا كاثوليكيا، لكن براعته في التجارة مكنته من جمع ثروة طائلة جعلته قربيا من اورانج امير الهولنديين البرتستانت المتمردين على الاحتلال الاسباني لبلادهم، كلفه اورانج بعدة مهام ليقوم بها خلال رحلاته، كان يتقن اللاتينية ولغة الانكليز مما ساعده على النجاح، خاصة في المدن الايطالية، فينيسا وجنوى وفلورنسا، وادعى هناك انه كاثوليكي واختلط بالاضافة الى الاوربيين بتجار عرب واتراك، اشترى منهم التوابل والتمور، وباعهم الحرير الهولندي، الاقل جودة من حرير غرناطة النادر..

لكن في الموانىء الايطالية، كان السؤال دائما عن حرير غرناطة الذي يباع باثمان عالية لندرته وجودته.

 حفزه الطلب على حرير الاندلس، خاصة ما ينسج في غرناطة، على السفر بحرا الى قشتالة التي تعلم لغتها بصعوبة بعد ان قصد غرناطة وسوقها الشهير، سوق القيصرية، وطالت اقامته اشهرا..

(زوجة الكاتب الهولندي المشارك في المخيم - اسمها فيرونيكا كما اتذكر- وكانت مهتمة بالتاريخ، وضعت خطا تحت عبارة " حرير الاندلس" وكتبت بمحاذاتها هامش استغرق جانبي الصفحة كلها)

هامش فيرونيكا
«وفقا للمخطوطات الملكية في لاهاي لم يكن سفر باستن، مصادفة، لأجل تجارة الحرير كما ورد، كان سفر باستن الى غرناطة مقصودا وبتوجيه من امير اورانج للتجسس واثارة المشاكل داخل اسبانيا وللبحث عن مصير بعض الاسبان الذين اعتنق آباؤهم البروتستانتية خلال وجودهم في هولندا ضمن قوات الاحتلال الاسباني، وكانوا اصدقاء للشعب الهولندي، عملوا ما بوسعهم لمساعدة البروتستانت ورفضوا ظلم محاكم التفتيش واضطهادها لهم، وثمة عدة حوادث موثقة من هذا التواطىء مع الهولنديين، في احداها اكتشف القشتاليون تعاون برادو، حامل البريد - بين الكنيسة الكاثوليكية وبين محكمة التفتيش - مع المطلوبين للمحاكم، اذ كان العديد من المتهمين بالهرطقة (اعتناق البروتستانتية) يفرون قبل ساعات من اقتحام بيوتهم من قبل الجنود القشتاليين، تكررت حالات الفرار الغريبة تلك، فاثارت شكوك المحققين في محكمة التفتيش الكاثوليكية في دنهل، واستطاعوا بعد عدة كمائن ذكية ان يعرفوا الفاعل، كان اجداد برادو من سكان ايبريا القدامى الذين كانوا يدينون بالاريوسية، ثم كثلكتهم الكنيسة القشتالية، ويقال ان بعض اقاربه في الاندلس الصغرى، اندلوثيا، كانوا قد اعتنقوا الاسلام قبل انهيار امارة غرناطة الاندلسية، ومنهم من طرد مع الموريسكوس المتنصرين بعد عام 1609.»

لم توافق خيمة غرناطة على اضافة الهامش للحكاية، واكد المعترضون ان حرير غرناطة هو الذي اتى بالهولندي بيتر باستن وليس امرا اخر وان ما تذكره الحكاية عن سؤاله عن البروتستانت الذين احرقتهم محاكم التفتيش في قشتالة كان وليد اللحظة وهو امر طبيعي ان يتعاطف الانسان مع ابناء دينه او قومه.

لكننا للأمانة العلمية ثبتنا الاضافة كهامش، وأيدنا في هذا طيف واسع في المخيم وكذلك بعض افراد خيمة غرناطة والذين حين رفض زملاؤهم من نفس الخيمة اضافة الهامش طالبوا بعرض الموضوع على التصويت الذي اشتركت فيه خيمة البشرات ايضا ولم تكن نتيجة التصويت لصالحهم .

 لا اطيل عليك صديقي، ولكنها تفاصيل ضرورية لتعرف كيف كنا نمارس احتفالاتنا القصصية في المخيم.

لنعد الان الى إكمال حكاية سوق القيصرية، وفقا لما كتبته الخيمة الحمراء، خيمة غرناطة ..

تتمة سوق القيصرية
كان الهولندي بيتر باستن وهذا اسمه الحقيقي يتفحص القماش حين حاذاه احدهم وهمس بان لديه حريرا جيدا ورخيصا .. ثم تنحيا جانبا وخاضا في حديث خافت وطويل، حفظت اوراق باستن بعضا منه..

-                     كيف وثقت بي؟

-                     عرفتك اجنبيا، كما انك لست طليانيا كما تقول، ملابسك وكلامك لا يدل على ذلك، اليس صحيحا؟

-                     صحيح لكن الا تخاف مني؟ انا مسيحي ايضا وقد اخبرهم عنك.

-                     اغلب سكان الاندلس من النصارى يحبوننا ونحبهم، عشنا معا اجيال عديدة، الكثير منهم تعرضوا للظلم مثلنا، حتى ان الكنيسة احرقت عددا منهم، فقط هؤلاء الشماليون الغلاظ يؤذوننا، كما ان وجهك مريح، تشع منه الرحمة، كأنك مسلم، لاحظتك في السوق تتعاطف مع المواركة، واضح انك تعرف مأساتنا، لا ادري لماذا يقتلنا القشتاليون ويفعلون بنا وباولادنا ونسائنا ما لا يمكن التحدث به؟ لاادري لماذا؟ فنحن طوال حياتنا لم نؤذ الاخرين، عشنا معا كالاخوان، لا ادري يا سيد، لاادري لماذا .

-                     ولِمَ تريد بيعي حريرك سرا؟

-                     لا اريدهم ان يعرفوا، لدي الكثير لابيعه لك باثمان ستربح منها، لدي اربع لفات كبيرة من افخر الحرير الاندلسي، اخفيها، ولدي مصوغات ذهبية شغل مراكش والقاهرة وبعضها صياغة اسطنبول، هل تريد شراءها؟ ارجوك، خذها باي ثمن، انا بحاجة لبيعها الان؟ ارجوك تفضل معي الى الدار.

يقول باستن في اوراق وجدت في خزانة كتبه التي اعيدت الى اهله بعد وفاته في الهند او الخليج:

كانت الباب وشبابيك داره مشرعة حين وصلنا، وما ان رأنا صبي صغير له حتى هرع الى الداخل، كأنما يحذرهم مني..

-                     يظنك قشتالي، هذه حياتنا كلها رعب، حتى اطفالنا مرعوبون دائما.

-                     ما اسمه؟

-                      محمد وسمته الكنيسة ميشيل، واذا وصلنا البر المغربي سالمين ان شاء الله، اول عمل اقوم به، هو ختانه، واشار باصابعه اشارة القص بالمقص.

ضحكا معا..(ربما كان ابومحمد نفسه بغير ختان ايضا ولكنه لم يذكر هذا للهولندي)

-                     ولماذا تقصه، المسكين سيتألم، انا ايضا مثله، هل ستقصونني اذا جئت لبلاد المسلمين؟

-                     معاذ الله اخي عيسى بدينه وموسى بدينه، اولا هذا للتطهر، ثانيا المسلمون لايفعلون هذا بغيرهم، لايجبرون احدا، لم اسمع بهذا من ابي وعمي، كانا يعلمانني الاسلام سرا.

-                     تتحدث وكأنك مسلم، الست كاثوليكيا؟ (قالها باستن بمزاح)

ضحك ابو محمد، ثم هز رأسه علامة النفي وهو يربت على كتف باستن.

-                     قل لي الباب والشبابيك مفتوحة هكذا، لماذا؟ الا تخشى من عدوانهم وقد يدخلون على عائلتك، لو كنت مكانك لاحكمت اغلاقها.

- يُمنع علينا اغلاق ابوابنا او شبابيكنا يا سيد، يريدون التأكد من اننا نصارى فعلا، واننا لانصلي مثل المسلمين او نتلو القرآن، هكذا يقولون، ولكن الصحيح انهم يفعلون ذلك لاغراض اخرى، لاذلالنا وسرقة اموالنا، لا استطيع التحمل اكثر، سارحل سرا الى العدوة المغربية.

- اسمع ما زال القشتاليون يتحكمون بنا ايضا، كما قلت لك، انا هولندي يا صديقي ولست كاثوليكيا، بلادنا تقع على البحر، بعيدا في الشمال البعيد، ولو عرف هؤلاء الاوباش بحقيقتي لأحرقوني كما يفعلون بكم، وعندنا احرقوا الالاف من الابرياء لا لسبب، سوى انهم ليسوا كاثوليكا، سأشتري منك ما تريد وسأدفع لك مضاعفا، قلت لي قبل قليل انهم احرقوا بعض المسيحيين، هل تعرفهم؟

 - المساكين الذين احرقوهم اعرف بعضهم، هم لايتبعون البابا الكبير في روما، هل هم من تبحث عن اخبارهم؟

-                     هم، نعم، هم، ما تعرف عنهم؟ اين عوائلهم؟ هل اقدر على مساعدتهم؟

-                     ريكاردو المسكين، اعرفه، كان صديقي، وطالما ساعدني في محن عديدة، كنت كلما اشعر بالخطر اختفي في داره، زوجته الطيبة لارنكا وابنتيه الرائعتين تانيا وانخيلا، عشنا معا من زمان بعيد، لسنا نحن، اجداد اجدادنا عاشوا معا، جارنا سالم رحمه الله، عذبوه حتى مات، كان متزوجا اخته، عذبوه لانه موريسكي ولانه صهر ريكاردو، قبل عامين شتمني جندي قشتالي من دون سبب، كان مخمورا حين شتمني ولم اتحمل، كان مسلحا، لكني هاجمته بكل قوتي ومع انه في شبابه الا ان الله نصرني عليه، فطرحته ارضا وادميت وجهه بلكماتي قبل ان اتوارى، خشيت ان يكون قد عرفني فقصدت ريكاردو واخبرته بما حصل، ظل قلقا علي واستضافني في بيته

اسبوعا كاملا، عشت معهم كأني احدهم، وفي اليوم الثامن قتلوا ثلاثة موريسكيين تعرف الجندي عليهم، كان كاذبا طبعا وجبانا، وكانوا ابرياء، انا لوحدي تغلبت عليه وعلى سلاحه واشبعته ضربا، لكنهم هكذا، وبعد عام او اقل قبضوا على ريكاردو وسالم مع عدد من المسيحيين يسمونهم الهراطقة، اتهموهم بالكفر، واحرقوهم، سكت الموريسكي للحظات و كان اسمه القشتالي ماركوس، ثم قال وكانه ينظر لمكان بعيد..

اتذكرها، كانت لارنكا محلولة الشعر وتركض، كأنها مجنونة تركض، وابنتيها خلفها، كن يركضن، لم اكن اعرف بالقبض على ريكاردو زوجها، فصحت وراءها واردت الجري لكن جاري الموريسكي الكوازيل وكان موظفا عندهم في القصر، شدني بقوة واغلق فمي.. مجنون، ما تفعل؟ زعق بي، وقال : هل تريد ان تهلكنا؟ سيحرقوك معهم، اسكت ولاتفعل شيئا، ولاتذهب لبيت ريكاردو ولا سالم ابدا.

كان الكوازيل يعرف ما يجري في محكمة التفتيش..وكان حفل الاحراق قد حدد موعده بعد ايام لا اكثر.

-                     اين زوجته وبناته الان؟

-                     اين هن، هه، جواري يا سيد جواري، يشتغلن كالخدم في بيوتهم، ويفعلون بهن ما يريدون، وبكى الاندلسي ماركوس..

ما جرى بعدها لبيتر باستن والاندلسي لانعرفه يقال انهما اتخذوا طريقا الى الجنوب من غرناطة، بين ملقا والمرية، وتنقلوا كتاجرين كاثوليكيين من مواطني فلورنسا ومعهما عائلتيهما، اجادوا التنكر وارتدوا الزي الفلورنسي لئلا يشكوا بهم، كانت لارنكا وابنتيها مع باستن والغرناطي وعياله، لكنهم كانوا اذا لمحوا دورية من الجنود او فرق الكنيسة، يخبئون النساء والاطفال في الاحراج او خلف الصخور، حدث هذا مرارا حتى بلغوا الشاطئ ومعهم البضائع وهي التي ابعدت عنهم الشكوك طوال الطريق، ومن هناك اكتروا مركبا الى مليلة على الساحل المغربي..

طويلة هذه الحكاية يا صديقي، لست انا من قال ذلك، عدد من المشاركين في المخيم انتقد طريقة السرد فيها وقالوا انها مملة بعض الشيء وتفتقر الى الجاذبية، بينما مدح غيرهم ما حواه مضمونها من اخوة ومحبة انسانية بين ابناء الاندلس مسلمين ونصارى، الدكتور رودميرو اكد على اهميتها كوثيقة وقام بتوزيعها بنفسه، مما اشعر الغرناطيين بالارتياح، وعلى كل حال فان بلوغ البر المغربي نهاية طيبة، لكن دور باستن لم ينته بعد وساقص عليك في رسالة قادمة ما ابدعته اضافة الكاتب الهولندي وزوجته فيرونيكا.

لم يخبرني بما كتبه الهولنديان، يبدو انه نسي، او اجل الموضوع، فقد ارسل لي حكاية ثانية تمثل تتمة اشبيلية لحكايتها عن كاسياس وعنوانها :

كناري
ملاحظتان لخيمة اشبيلية اوردتها قبل الحكاية..

«ملاحظة اولى: كناري هي الابنة البكر لقمرين، تاريخ ولادتها مسجل في كاتدرائية اشبيلية بتاريخ 24-6-1547، ولقمرين ولدين غيرها، هما، حامد او خوان رودريغو كما مثبت في الكنيسة، وهوليس الملاح الموريسكي المعروف بنفس الاسم، لكنه حفيده، ولد حامد الذي اشتهر في الادب باسم حامد بن قمرين، ولد عام 1552، بينما ولد اخيه الاصغر عمار او امّاريو بعده بخمس سنوات ايضا .

ملاحظة ثانية : ذكرنا هذه التفاصيل الموثقة لكي لايزعم اخرون انتساب قمرين اليهم كما حصل مع كاسياس، هذا السبب الاول، والثاني، كي يميز القارىء بين كناري بنت قمرين التي سيتداخل اسمها مع كناري اخرى، لكن من نوع مختلف.»

كان كاسياس مسلحا بسيف قصير، مختبئا في الادغال الكثيفة المحيطة باشبيلية حينما لمح من بعيد ثلاثة فرسان قادمين على الطريق المحاذي لمكانه حيث كان يترصد، ادرك انهم قشتاليون قبل ان يقتربوا، ودعا الله ان يمكنه منهم، تلا فقرات من دعاء الثغور، صدره يغلي غيظا، ثم بانت شخصياتهم، كانوا فارسين وراهبا، ذاهبين ربما الى قرطبة او ملقا ..

(لسنا متأكدين من وجهتم، فاذا كان مكمن كاسياس شمال اشبيلية، فان وجهتم قرطبة، اما اذا كان كاسياس الى الجنوب من اشبيلية فهم يتجهون الى ملقا او قادس).

قريبا من مكمن كريم، ترجل احد الفارسين لقضاء حاجته، ومضى الاخران على مهل، لم يضع كريم الوقت فانقض على القشتالي وهو عار واجهز عليه بصمت، اخذ بارودته القصيرة وسيفه، فرح بالبارودة واسرع بتفحصها ليعرف كيف يستخدمها، كانت محشوة ويبدو انه اخطأ فانطلقت الرصاصة واستدار الاخران بارتباك، عادا بحذر، لايعرفان ما جرى، وصاحا باسم صاحبهما مرارا، هذا التاخر وفر لكريم كاسياس وقتا لاعادة حشو البارودة وتصويبها على الجندي الاخر فقتله، اما الراهب فقد سقط من فرسه مرعوبا، استرجع كاسياس وهو ينظر الى وجه الراهب ما شاهده من احتفالات احراق الاحياء من الموريسكين، تذكر انه رآه في اكثر من حفل احراق او تعذيب في الميدان العام باشبيلية، تذكر ملامح الابتهاج والوحشية على وجهه، وتذكر المايوركا وحمام قمرين، وكان سيفه القصير - وهو يتذكر- ينغرس اكثر فاكثر في صدر الراهب، وقف للحظات، ثم انحنى على جثث الثلاثة وخط على كل جثة بدمها، حروف كلمة مايوركا بالخميادو، تمنى لو انه يعرف الكتابة بالقشتالية.. ثم غير مكانه الى جهة اخرى، مشى عشر ساعات دون توقف، قطع بعض المسافات بالفرس وبعضها مشيا، ومحى آثاره لمسافة، ولم يعثروا عليه، مع انهم كانوا خيالة و بالعشرات.

 احد المارانوش اليهود فك لهم رموز الخميادو، وعرفوا ان القاتل هو كاسياس، وانتشر الخبر في اشبيلية، وشعر المسافرون بالخطر، اما المواركة، فقد كانت اخبار كريم تخفف عنهم وتفرحهم، ربما كانت قمرين اكثرهم فرحا وافتخارا بما يفعل..

 مما كتبه حامد بن قمرين بيده، انه فوجىء وهو على السطح برجل يناديه بهمس، التفت، وجدته كاسياس، اعطاني دوقات ذهبية، قال اعطها لامك، اوصاني بالكتمان وحذرني من انهم سيحرقوننا اذا عرفوا باي شيء، ثم اخذ معه حمامتين وقال : اخبر السيدة قمرين اني اذا احتجت اليها سارسل لها رسالة بقدم الحمامة، وقال لي : حامد تفقد برج الطيور كل يوم فاذا وجدت ورقة مربوطة بقدم احدى الحمامات خذها لامك بسرعة ولا تعطها لغيرها ابدا، ثم ودعني، وكان الوقت ليلا.

بعد ايام ستعرف قمرين ان مؤونتهم نفذت، وستجازف بجرأة يفتقر اليها الكثير من الرجال وستوصل الخبز والتين المجفف وانواعا اخرى من الطعام اليه بنفسها، لم تخبر احدا، حتى حامد، الذي عرف بذلك بعد حين، وحرصت على ان تكون تحت يد كريم دائما حمامة او حمامتين كي لا تنقطع اخباره، وفي اشبيلية انتشرت الشائعات عما يفعله كريم كاسياس بضحاياه وحيكت الاساطير والقصص الخيالية حوله حتى ان القشتاليات كن يخوفن صغارهن بكاسياس ذباح القشتاليين، وفي كنائس اشبيلية كان جميع المصلين، رجالا ونساء يختتمون صلواتهم بالدعاء الى القديس ياغو ذباح الاندلسيين ليخلصهم من كاسياس، وبعثت الكنيسة بعدة مجموعات ليحجوا مشيا الى سانتاياغو في كومبوستيلا البعيدة ويتضرعوا لديه بالخلاص من كاسياس، وكل هذا كان ينزل كالماء بارد على قلب قمرين، ابنتها كناري كانت تفرح ايضا وحامد واغلب المواركة، عدا بعض الخائفين من انتقام الكنيسة ورجالها المرعبين، ولم تطلع قمرين ابنها عمار على اي شيء لصغر سنه.

انا متعب اخي وعلي ان التقي بالدكتور احمد لترتيب وضع المخيم، بالتاكيد سنتواصل، باذن الله، لكني متعب الان، دعاءك.

ما علاقة كناري بمضمون الحكاية؟ لم افهم، ولماذا اوردوا الملاحظتين عنها في المقدمة؟ كنت اتساءل وانتظر، بعد ايام ظهرت رسالة من عمار فقرأتها متلهفا، اكثر من حكاية انتظر نهايتها بشوق، كأنما كان ذلك التاخير مقصودا منه، لكنه اكد لي فيما بعد، ان سير الاحتفالات القصصية في المخيم كانت على هذا النحو العشوائي الغريب والمثير للمتعة والانشداد..

كانت رسالته تتمة لحكاية كناري الجميلة واسموها:

كناريات
انتشرت عادة تربية الحمام عند المواركة، خلال وقت قصير وبشكل غريب لم يفطن القشتاليون له، كان المواركة يسمونها كناريات، وكان بعض الحمام، ربما لكثرته يحط احيانا على سطوح الاخرين، ظاهرة جميلة ارتاح لها سكان اشبيلية، حتى الشماليون منهم، واكثر الابنية جذبا للكناريات كانت كاتدرائية اشبيلية وغيرها من الابنية العالية، ومنها قصر الطين الذي بناه احد الاندلسيين قبل 300عاما، بناه في نفس المكان الذي لعبت فيه بالطين إعتماد الرميكية زوجة المعتمد بن عباد، امير اشبيلية وكان الطين الذي امر المعتمد باعداده لها لتلعب به مع وصيفاتها، معجونا ومضمخا بأغلى واندر انواع العطور..

في هذا القصر يقيم الان الدون الفونسو خيمينز، الرجل الاقوى والاغنى في اشبيلية

وصديق الدون خوان اوستريا اخ صاحب الجلالة الملك فيليب الثاني ملك قشتالة المعظم، يقع القصر في قلب اشبيلية تقريبا، اغلب بنائه قديم، وبعيد عنه في طرف اشبيلية بنى احد اغنياء المواركة دارا شبيهة به، واسماها، دار الطين، لم تكن تختلف عن قصر الطين الا بحجمها، فقد كانت اصغر بكثير، كما ان مظهرها من الخارج لم يكن جذابا، وقد تعمد صاحبها تشويه جدرانها الخارجية لئلا يطمع بها الاسبان، من الداخل كانت اية في الفن و الروعة وجمال البناء، تغطي جدرانها الفسيفساء الاندلسية ونقوش المغاربة، وكان توزيع الالوان في الداخل مدهشا وساحرا للنظر، واكثر المواركة يعرفون هذا ويكتمونه خشية على اخيهم بن سالم صاحبها، الذي لم يكن يفوت فرصة لمساعدة اخوانه وكانت له بعض العلاقات مع رجال الدولة والكنيسة حتى انهم يرونه كاثوليكيا صالحا وان كان موريسكيا، لكثرة تبرعه للكنيسة ورجالها، وعلى سطح الدار انشأ لويس ابنه قنا واسعا للكناريات، وكان عددها كثيرا واشكالها مختلفة وبريش مختلف الالوان، وتعد من اجود حمام اشبيلية اذ كان بعضها يقوم اثناء طيرانه بحركات تقلب جميلة تثير الدهشة وتنم عن اصالة الحمامات وذكائها، فذاعت شهرة كناريات لويس بين الاندلسيين المواركة، اما القشتاليون فليس لهم اهتمام بتربية الحمام ولا معرفة بفنونه، لكن طيرانه في سماء اشبيلية والعابه كانت تشد بعض المترفين منهم، واحيانا حتى الرجل القوي الفونسو، كان يتلهى بمشاهدة اسرابها في الاوقات النادرة التي يصعد فيها الى سطح قصره، قصر الطين، للترويح عن نفسه، حدث هذا مرات عدة، وكان يعجب لتقلبات الطيور والعابها المدهشة في السماء فساورته الشكوك بانها من السحر الذي يتقنه الموريسكوس والهراطقة، وكي يتقي سحرهم كما اخبره صديق له أمر الخدم بنثر الحب على سطح قصره لاطعامها..

في صباح يوم أحد قبل توجه دون الفونسو الى الكنيسة - كما تذكر مخطوطة محفوظة في مكتبة الاسكوريال بمدريد - وكان في ساحة القصر مع ضيوف له، ذرقت حمامة على صلعته، ومن بين الضيوف سيدتان من قريبات الدون خوان اوستريا وبعض النبلاء، فتضاحكت احدى السيدتين، تبعتها الاخرى بالضحك وسرت العدوى للجميع، حتى الفونسو، اضطر لمشاركتهم الضحك وهو يمسح راسه لا اراديا، وشاع الخبر في الطبقة الارستقراطية وصار حديث الحفلات في اشبيلية على مدى الاسبوع، لكن في الاحد التالي عند اقامة القداس في الكنيسة ادهش القس الجميع بذكر الحادثة واتهم الموريسكوس بالتعمد في اهانة الدون الفونسو وطالب بمعاقبة كل من يربي طيور الشيطان في بيته .. حرمة الكنيسة والقداس وحماسة القس وهو يلقي عظته عن طيور الشيطان لم تمنع بعض المصلين من خفض رؤوسهم والضحك وعلت همهمة خافتة كبحها صوت القس الغاضب وهو يؤنب المؤمنين لاستخفافهم بخطورة الحدث..

جلدوا العديد من المواركة، وشويت الحمامات التي أمسكوها او اطلقوا النار عليها، لكن التهمة وجهت تحديدا الى بن سالم، ربما لكثرة الحمام عنده، ولان الحمامة التي ذرقت على رأس الفونسو كانت من ضمن سرب عائد له، كما ادعى رجال الفونسو، وسيق بن سالم مقيدا الى الكاردينال زمينز الذي وان كان يستمتع ويضحك بكل قوته كلما اعيدت الحكاية على مسامعه، الا انه انزعج لان الفونسو كان مقربا من الدون خوان اوستريا، ولان الفعل نسب الى موريسكي..

بقي بن سالم عدة اشهر، لايعلم مصيره احد، وقد صادر الفونسو كل املاكه، ومنها داره، وزاد من غضب الفونسو انه حين اقتحم دار بن سالم لاعتقاله فوجىء بتشابه صميمها وشكلها من الداخل مع تصاميم قصره فاستشاط وضرب بن سالم امام عياله، ثم امر بتخريبها وجعلها اسطبلا لخيوله، كما اخذ جاريته هيلينيا لتعمل خادمة في بيته، وكان بن سالم قد تزوجها قبل عام لمرض زوجته ام لويس، وفوق هذا طرد الفونسو كل عائلة بن سالم، لكنه عاد بعد ايام و سمح لهم بالسكن في حجرة تقع عند نهاية بستان تفاح ملحق بالدار، كان الفلاحون يتخذونها للاستراحة اوقات العمل، لذا فهي واسعة، بنيت حيطانها من الطين وسقفت بالقش والقصب..

لكن الغريب ان بن سالم عاد الى اشبيلية بوقار، او كما كان اطفال المواركة يرددون (عاد سالما بن سالم - عاد سالما بن سالم) كأن عودة اي شخص سالما بعد اعتقاله من قبل محاكم التفتيش يعتبر معجزة وهكذا سرى هذا المثل بين المواركة

(عاد سالما بن سالم) للدلالة على ان من يكتب الله له الحياة فسيحيا رغم انف النغل اوستريا و زمينز كما يقولون.

ويقال ان وساطات قشتاليين و اراغونيين من اشبيلية اشتغلت لدى الكاردينال لصالح بن سالم فافرج عنه من اليوم الاول، لكنه ابقاه عنده عدة اشهر مراعاة لالفونسو.

عودة بن سالم جعلت العديد من الموريسك يظنون انه كان مقشتلا، اي من الموالين لقشتالة، غير ان استمرار مصادرة الفونسو لداره وبساتينه، وتوضيحات ابنه لويس اذ شرح لهم حقيقة ما جرى من وساطات، بدد الشكوك عنه، وما جرى لبن سالم وفقدانه لداره واملاكه، جعله يتحرق للانتقام، وكان لويس، ولده الشاب، اكثر احتقانا منه، واستطاع هو وصديقه الاصغر عمرا حامد بن قمرين، ان يدخلا في صفوف الكبار الذين كانوا يخططون للثورة ضد القشتاليين، وكلفوا لويس وحامد باستخدام الكناريات سرا للتواصل مع كريم كاسياس وغيره من المواركة خارج اشبيلية وداخلها، ثم امتد نطاق تراسلهم ليستفيد منه كاسياس في التواصل مع المناطق البعيدة خاصة جبال الثلج والجبل الاحمر و ضواحي غرناطة

اتخذ حاكم اشبيلية قرارات عدة لمنع تربية الحمام، واصطياده، اضافة الى عقوبات مخيفة لكل من يربيه ويؤويه او يعتني به، ومنها ارساله للعمل سخرة على سفن الاسطول، وكان المواركة يعرفون ان معنى العمل على سفن الارمادا، هو القيام بالتجذيف لحوالي 20 ساعة في اليوم وبظهور عارية كي يضرب بالسياط اي متراخ في التجذيف، مع قلة الطعام، وكثرة حالات التخلص من المرضى او المعاقبين بالقائهم في البحر..

ومع كل هذه الاجراءات العنيفة، لم يكن امام بعض المواركة الا الاستمرار في استخدام الحمام لانهم كانوا عازمين على الثورة فقد تصاعد تذمر المواركة بسبب تطبيق القرارات الصارمة لفيليب الثاني التي صدرت في ذكرى دخول الجيش القشتالي لغرناطة، لكن حادثة الحمامة مع الفونسو واعتقال بن سالم اثر كثيرا على

نشاطاتهم، فقد غدت مطاردة مربي الحمام الشغل الشاغل للفونسو ورجاله، بل انه وبعد ان كثر اصطياد الطيور، لجأت الكناريات غريزيا الى اعلى البنايات الشاهقة ومع هذا تابعوها حتى في برج الاجراس اعلى كاتدرائية اشبيلية، والذي حل محل المأذنة، فقد صار ملجأ آمنا للكناريات فلم يستطيعوا ايذاءها وهي تختل فيه او حتى عليه، وكان منظرها وهي تتجمع اعلاه مزعجا ومثيرا لغضب الفونسو الذي سرت الشائعات بانه سيكون حاكم اشبيلية قريبا، ولحل المشكلة والتخلص من طيور الشياطين كما يسمونها، تفتقت الاذهان عن فكرة اقتبسها المهندس والنحات القشتالي (هيرنان رويث) من قراءته عن احد تماثيل قصر الحمراء في غرناطة، فقام هذا النحات وبدعم وتحمس حكومة اشبيلية بنصب تمثال لفارس يحمل رمحا على قمة المأذنة، ويرتكز الرمح على محور متحرك لتديره الرياح حسب وجهتها، سمي هذا التمثال بالخيرالدا او دوارة الرياح واشتهر بعروس اشبيلية وكذلك بوردة الرياح لانهم بواسطته تمكنوا من اخافة الحمام من ان يحط على ابراج الكاتدرائية كلها، كانت الحمائم في البداية تفر من الفارس ورمحه كلما حركته الرياح، لكن كثرة تحرك التمثال بفعل الرياح المستمرة في الاعالي والمتغيرة الاتجاهات، جعلت الحمام يهجر برج الكاتدرائية نهائيا، لقد انتصروا بفضل تمثال الخيرالدا على سحر الموريسكيين وحمائم الشيطان، هكذا يقولون..

وخلال نشوته وفرحه بهذا الانتصار عرف الفونسو صدفة ان سبب تسميتهم لها بالكناريات مع انها حمامات وليست كناريات هو اعتزاز الموريسكيين بقمرين، لذلك اتخذوا من اسم ابنتها كناري اسما لطيورهم الشيطانية، واخبره احد افراد حاشيته ان السبب بهذه التسمية يعود الى جمال كناري بنت قمرين، وهكذا دار في حضرة الفونسو نقاش طويل تخلله التهكم بالموريسكيين وحماماتهم..

-                     قمرين، ماذا تسمون حماماتكم اللعينات؟

(سألها الفونسو بعد ان قصد بيتها وحوله عشرون فارسا مدججا بالسلاح.)

-                     لقد تخلصنا منها دون الفونسو، تخلصنا منها جميعا بعد اوامر ابانا القس.

-                     اعرف، سؤالي ماذا كنتم، تسمون بنات الشيطان، حماماتكم؟

-                     ماذا نسميها، حمامات او طيور، دون الفونسو.

-                     ما اسم ابنتك؟

-                     كناري سيدي (قالتها خائفة متلعثمة، واستشعرت الخطر)

-                     وتسمون الحمام كناري ها؟

-                     لاسيدي، اقسم بالعذراء مريم سيدي، لا اسميها هكذا، ربما غيرنا.

-                     اين ابنتك كناري؟

-                     مريضة دون الفونسو، هذه صغيرة، لا شأن لها بالطيور.

-                     نادِها.

-                     اتوسل اليك دون الفونسو، ابنتي لم تفعل شيئا (قالتها وهي تبكي وجثت تتوسل به).

-                     لا، لا تخافي فقط اريد ان اراها، لأسالها هي.

-                     سيدي المبجل ارجوك سيدي، أنت كاثوليكي صالح وهي طفلة بريئة، وهي تكره الحمام مثلكم سيدي ولا تصبغ يديها بالحناء ولا تستحم.

-                     اسمعي قمرين، قلت لك لا تخافي، هاتها بسرعة والا ..

هرعت قمرين الى داخل الدار، لكن الفونسو لم ينتظر، ودخل خلفها، كانت كناري واقفة تسمع الحوار، وندت من قمرين شهقة حين شعرت بالفونسو خلفها..

-                     ها كناري كيف حالك؟ ارني وجهك.

 كانت كناري متلفعة بشال يخفي نصف وجهها كعادة الاندلسيات في الاحتشام، وترتدي جلبابا فضفاضا يغطي ثوبها وسروالها النازل الى القدمين .. نظرت الى امها كأنها تستنجد بها، ثم ارخت شالها، وكانت قمرين تتابع نظرات الفونسو، وادركت بحس الانثى نواياه حين تفرس بوجهها وقال :

-                     ابنتك جميلة قمرين، كأنها قمر، لهم الحق يسمون الحمام باسمها، ثم رمى كناري بنظرة وقحة وخرج..

كتبت مارتينا الموريسكية تعليقا موجزا:

يوم الطين
(قصر الطين الذي كان يسكنه الفونسو بناه خيري بن سالم احد اغنياء الاندلس وصار من بعده ملكا لاولاده حتى آلت ملكيته للجد الثاني لابن سالم الحالي واسمه سالمين وبعض كبار السن من الموريسكيين الى الان يسمونه قصر سالمين ويتحسرون على صاحبه وقد قامت الكنيسة بمصادرته لسبب لم تذكره مصادر التاريخ وقبل سنوات اشتراه الفونسو، وكان بن سالم لايفوت مناسبة والا ويذكر فيها قصره المغتصب، ومن شدة تعلقه به بنى داره كانموذج مصغر لقصر الطين لكنه موه واجهته وحيطانه الخارجية لئلا يلفت انتباه الفونسو ويثير غضبه)

وبعد ساعات اضافت مارتينا توضيحا اخر:

(اعتماد الروميكية حبيبة المعتمد بن عباد امير اشبيلية الاندلسي وزوجته، رأت يوما من شرفة قصرها فلاحات يمشين في الطين وكن يغنين وهن فرحات، فاشتهت ان تفعل مثلهن وتمشي في الطين، فامر المعتمد بان يعجن الطين بالمسك والعطور كي تمشي فيه، وسمي هذا اليوم بيوم الطين)

ثم نزل تعليق ثالث، لم يوقع باسم..

(ومن أضاع الاندلس وجعلنا نسكن في هذا المخيم غير يوم الطين وأمثاله!)

 ادركت قمرين ان كناري غدت هدفا لهذا الطاغية، ولم تضع اي وقت وقررت المجازفة، دعت حامد، وقالت له:

-                     سافر باختك خارج اشبيلية، قل لمعارفك، خاصة النصارى القدماء منهم، انك ستاخذ اختك للعلاج في قرطبة، مرضها خبيث، قل هكذا لاكثر من شخص، اليوم افعل هذا لينتشر الخبر، ثم اخرج بها ليلا.

-                     الى اين يا امي؟ اذا غبت انا معها سيؤذونك انت، ويقولون اني ذهبت الى كاسياس .

-                     لا اوصلها هناك، اسمع تأخر معها بضعة ايام وزوجها لكريم كاسياس، هذا الحل الوحيد، لانترك ابنتنا لوحدها وهي غير متزوجة، زوجها لكريم، اخبر عمنا علي الخير ودعه يتولى الامر، ثم عد الي، ما رأيك؟

-                     عين العقل امي، باذن الله سافعل..

واصل المواركة الاعتماد على ما تبقى من حمامات لتبادل الرسائل سرا، ووطنوا انفسهم على الثورة بعد التطبيق العنيف لقرارات فيليب الثاني، وكان حامد بن قمرين ولويس وابوه بن سالم من الناشطين في داخل اشبيلية، الى ان قامت ثورة الاندلس بعد عام من اغلاق حمام قمرين، وقتها غادر لويس الناجي الوحيد من اهله الى مكان مجهول ورافقه حامد بعد ترتيب سفر امه واخوه عمار مع بيتر باستن الهولندي، حيث اكتروا قاربا ونزلوا في نهر الوادي الكبير الى منطقة على الساحل بين ولقا وقادس، ومن هناك ابحروا الى شاطىء البرتغال القريب..

 في اشبيلية جرت المذابح على المواركة، صغارا وكبارا، حتى النساء والاطفال منهم، بل ذبحوا حتى الرضع انتقاما من ابائهم المشاركين في التمرد ضد صاحب الجلالة..

هكذا صديقي ختم الاشبيليون حكايتهم كناري او كناريات لكنهم وبابداع تركوا النهايات مفتوحة وهذا يعني انهم سيعاودون توليد حكاية جديدة، او، اكثر.

لاحظ صديقي، ان جملة السرد الخاصة باغلاق الحمامات اخذت اغلب اوقات المخيم، ولاشك ان التنافس الواضح بين الغرناطيين واشبيلية هو السبب، وهذا كما تعلم يعود لتاريخ العلاقة بين المدينتين في الاندلس، وخاصة اشتراك امير غرناطة وفرسانها في حصار اشبيلية ومساعدتهم للجيش القشتالي، ويرون ان غدر غرناطة هو السبب الاهم لسقوط اشبيلية، بستان ملوك الاندلس، كما تصفها احدى مخطوطات الخميادو.

ارى انني كتبت لك الكثير، لكن، قبل ان اتركك، ساكشف لك عن جولة اخرى من التنافس بين اشبيلية وغرناطة، اذ انهما مع الحكاية القادمة التي ابدعتها خيمة غرناطة، ستشتركان في شخصية ثانية بعد خلافهما حول كريم كاسياس، باختصار قمرين هي موضع التنافس القادم.

في امان الله

 =

لولا غرناطة لما كان لقمرين شأن ولما كان حمامها موجودا، هكذا صدرت غرناطة حكايتها بانفعال، وكان عنوانها الرئيس هو..

حامد الملاح
نقلا عن احدى المخطوطات المكتوية بلغة الخميادو، والتي عثر عليها مخفاة في جدار عمال بناء خلال هدمهم لمنزل قديم في باجي ديل خالون، في اراغون، وحفظت في جناح الخميادو في مكتبة الاسكور يال..

 تقول المخطوطة الموريسكية :

حامد الملاح الاندلسي المعروف بالملاح خوان رودريغو، واشتهر ايضا باسم

رودريغو دي تريانا، هو الذي رافق القبطان الجنوي كرستوف كولمبس في رحلته لاستكشاف الهند عن طريق الابحار غربا، وكان اول من شاهد الارض الجديدة

(كما ثبت هذا كولمبس بخط يده في دفتره المحفوظ الان ضمن ملفات دي اندياس في اشبيلية..)

وكولمبس الايطالي، كان مغامرا ومتعصبا لكاثوليكيته، فشارك مع القوات الجنوية في حصار غرناطة الاخير، قاتل على ابوابها، وكان في سانتافي، معسكر ايزابيلا وفردينالد وبعد اشهر من سقوط غرناطة تسلم التفويض الملكي بالابحار غربا بحثا عن طريق جديد الى الهند، لا يسيطر الاتراك والمغاربة عليه..

ومع كولمبس، في نفس الرحلة، شارك الملاح حامد رودريغو، الذي كان مقشتلا وموجودا مع جيش قشتالة المحاصر لاهله في غرناطة..

(وبالاضافة الى كرستوف كولمبس، اكدت هذا وثائق المركيز اوف كاديز الذي كتب عن رحلة كولمبس الشهيرة)..

لكننا - تقول خيمة غرناطة - لانؤيد ما ذكرته المخطوطة بان حامد كان مقشتلا، فربما كان حامدا او خوان رودريغو مضطرا للتواجد مع القشتاليين حفاظا على حياته من سطوة محاكم التفتيش وشكوكها، كما اضطر الغرناطيون للمشاركة بشكل رمزي وغير مؤثر في حصار اشبيلية..

كما ان مخطوطة اخرى من نفس الرزمة، تقول:

ان الحاج هلال رودريغو رحمه الله والد حامد، دأب وبصبر وتستر على تعليم ولديه بدر وحامد، الكتابة بالعربية وقراءة القرآن، وكانوا مواظبين على الصلاة والصوم في ظروف لايقدر صعوبتها الا الله العالم وحده باسرار خلقه، ولهذا نرى ان حامدا رحمه الله كان مضطرا للتواجد في معركة الاندلس الاخيرة وانه ربما شارك مع كولمبس في مغامرته البحرية على خطورتها، هربا من بطش قشتالة ولكي لايشترك ثانية في اي موقف مشابه.

وبالاموال التي عاد بها من رحلاته، بنى الحمام المعروف باسم ابنته قمرين، ومن هنا - بفضل غرناطة - جاءت شهرة قمرين وحمامها .

احتجاج خيمة اشبيلية
«حول اتهام حامد الملاح، احتجت خيمة اشبيلية وطلبت ذكر السبب الاتي والثابت تاريخيا بدلا عن اثارة الشبهات للايحاء باتهام لا دليل عليه»

استنادا الى ما ذكرته مراجع تاريخ مختلفة في مكتبة الاسكور يال، اوردت خيمة اشبيلية الآتي حول الملاح الاندلسي الاسباني خوان رود ريغو:

خوان رودريغو
ان الملاح خوان رودريغو كان من موريسكيي اشبيلية التي خضعت لتسلط قشتالة قبل قرنين من سقوط غرناطة، لكنه كان متسترا بالكاثوليكية ولم يكن مقشتلا قط،

فابوه هو الحاج هلال، الذي حمل الاسم المسيحي كروس رودريغو، وسمته الكنيسة ب (كروس) ردا على كلمة الهلال التي هي رمز المسلمين مقابل الصليب رمز النصارى القدماء وكروس او كروث تعني بالقشتالية الصليب.

 كان الحاج هلال تاجرا، وفي سفرته - التي حج خلالها سرا - خرج بذريعة التجارة من قشتالة بحرا الى جنوى، وكان ابنه حامد معه، وهو الملاح خوان رود ريغو، وهناك التقى بكرستوف كولمبس واصبحا صديقين من دون ان يعرف كولمبس ان هلال وابنه كانا مسلمين، ومنه، من الحاج هلال لامن غيره، عرف كولمبس حكايات عن رحلات بحرية للاندلسيين من الساحل البرتغالي تجاه الهند وبطريقين ..

احدهما جنوبا مع سواحل المغاربة والزنج، والثاني الى الغرب بمسار بحري مستقيم ولكنه حافل بالاخطار لاضطراب تلك البحار وتقلبات النوء فيها..

ثم افترقا، ورحل هلال لاداء فريضة الحج تاركا اغلب تجارته عند ابنه حامد – وكان شابا ذكيا - ليتاجر بها ويشتري بضائع يعودا بها الى اشبيلية بعد عودة ابيه من الحج كي لايتهمهما رجال الكنيسة بالذهاب الى الاتراك او المغاربة للتآمر كما يفعل العديد من التجار والبحارة المواركة..

 فكرة الابحار الى الهند شغلت ذهن المغامر كولمبس فتمسك بصداقة حامد، واسفر تواجد حامد الشاب الاندلسي الوسيم بصحبة كولمبس عن تبادله الحب مع كارمن ابنة كولمبس فتزوجها بعد عودة والده الحاج هلال، ثم ابحروا جميعا الى قشتالة ومعهم كولمبس..

نضجت فكرة الابحار عند كولمبس وقرر عرضها على ملكي قشتالة واراغون، بعد ان فشل في اقناع غيرهم بتبني الرحلة وتمويلها، وكان الملكان في سانتافي عند

اسوار غرناطة، فقصدهما ومعه صهره حامد الذي كان يرى في هذه الرحلة خلاصا له من بطش محاكم التفتيش وتهديدها الدائم لحياة اي موريسكي في كل لحظة ..

«وانفرد مصدر موريسكي، مجهول المؤلف: ان حامد كان يضمر غرضا اخر لم يكتشفه القشتاليون الى الان، وهو السعي للبحث عن فرصة لمساعدة اخوانه المحاصرين في غرناطة كما اوصاه ابوه، اذ كان ممنوعا على اي موريسكي ان يتحرك خارج مدينته خلال حرب غرناطة الاخيرة خشية من اشتراكهم في القتال لصالح غرناطة».

اقلعت سفن كولمبس بعد اشهر من دخول الجيوش الكاثوليكية لغرناطة، وكان حامد قد لاحظ فرح كولمبس وكارمن بهزيمة الاندلسيين، لكنه لم يبدِ لهما شيئا، ولم يبح لزوجته بسره، والتي لم تكن تعرف شيئا عن الموريسكيين ولا عما يتعرضون له، ابحر كولمبس ومعه خوان رودريغو وكارمن، وشاءت الاقدار والخبرة بالبحار ان يكون الملاح الاندلسي حامد المسمى خوان رودريغو، هو اول من يرى الارض الجديدة، لذاك - تقول خيمة اشبيلية - اقام الاسبان تمثالا لحامد في اشبيلية تكريما له، قريبا من مكان الحمام الذي شيده خلال حياته ودفن في زاوية منه تجاه الكعبة شرقا كما اوصى ابنته قمرين واوصاها باخفاء معالم القبر، ومن بعده تولت قمرين ادارة الحمام حتى اغلق وهدم ..

بعد هذه الاضافة او التعديل لحكاية حامد الملاح، تدخلت خيمة قرطبة للمرة الاولى بحكاية ثانوية لكنها مهمة..

هلال القرطبي
حامد او خوان رودريغو هو ابن الحاج هلال القرطبي الذي غادر ابوه سعيد وبعض اهله قرطبة وسكنوا اشبيلية، وفيها ولد الحاج هلال وتعلم من والده معالم الدين والقرآن والعربية، وله بعض الرسائل بلغة الخميادو في كيفية تربية الاولاد وتزكية انفسهم في زمان النصارى، منها رسالته (الحفاظ على طهارة الاولاد بعد ضياع البلاد) وكان عاملا بما يكتب، اذ كان يعطي لولديه بدر(اسمه بالقشتالية بيدرو) وحامد، دروسا يومية، ويشدد الوصية عليهما ان لا يتكلما، وفي اخبار وقعت تحت ايدينا قبل دخولنا المخيم بايام ما كتبه بدر(بيدرو) عن كيفية اختبار والده له:

كنت صغيرا في السابعة او اقل عندما بدأ ابي الحاج هلال بن سعيد القرطبي باختباري، اخذني الى غرفة منعزلة اخر الدار وقال لي : لاتخبر احدا بما سافعله معك..وشرع في تعليمي كيف الفظ الاية (بسم الله الرحمن الرحيم) وكنت اعرفها، سمعتها منه كثيرا وهو يصلي بعيدا عنا وكنا انا وحامد نراقبه من دون ان يعلم، وفرح عندما عرف بذلك، دمعت عيناه وقال الحمد لله وسجد، ثم بدا تعليمي كتابة حروف كلمة بسم، طال الدرس وقتا قصيرا، فقال لنخرج، واكد عليً، لاتخبر اي احد، لا اخوك حامد ولا حتى امك بما جرى بيننا، اريدك ان تكون رجلا ولا تقل لاي احد، اي انسان، من داخل البيت وخارجه، ثم قبلني وخرج هو اولا، ثم خرجت انا لكي لا تنتبه امي طيب الله ثراها، فقد ماتت حزينة مظلومة.

بعدها نادتني امي وقالت لي :

-                     ماذا كنت تفعل انت وابوك؟

فلم اخبرها بالصحيح وراوغت في الكلام.

قالت : انا اعرف ما فعلتما، اكان يعلمك شيئا؟

-                     قلت لا، ولم تفلح في جعلي اكشف السر..

عندها ظهر والدي وكان مختبئا يسمعنا واحتضنني، فقد كان ذاك اختبارا رتبه ابي ليعرف هل ساكتم السر ام اكشفه وهكذا واصل تعليمي وتعريفي بتاريخ قرطبة عاصمة الاندلس، حدثني عن اهل الاندلس، تاريخهم، كيف اختلفوا، وكيف ضاعت الاندلس كلها بسبب اختلافاتهم، قص علي مشاهداته في مدن الاندلس الاخرى وعن تاريخ المسلمين، وكيف يعيش المغاربة واسماء علمائهم وامرائهم، كما ذكر لنا قوة دولة الخلافة العثمانية وفتحها القسطنطينية وخوف الدول الاخرى منها، وعمل مع اخي حامد بنفس الطريقة .

كنا انا واخي حامد نتبادل المعلومات، واحدنا يختبر الاخر، وعرفنا بعد ان كبرنا ان اغلب المواركة كانوا يعلمون ابناءهم مثل ابي.

خيمة اشبيلية، تعقيبا على حكاية هلال القرطبي، نشرت وبسرعة حكاية مؤثرة اضاءت الشطر الاخير من قصة الحاج هلال القرطبي كما تسميه خيمة قرطبة، او الاشبيلي كما تشير الوقائع التالية الموثقة تاريخيا..

بهو البرتقال
مع انه يحمل رسميا اسم كروس رودريغو، الا ان جميع سكان اشبيلية يعرفون اسمه الاندلسي هلال، واغلبهم، حتى القشتاليين منهم يناديه به، وهذا نادرا ما يسكت عنه، لكنه كان تاجرا معروفا، والكثير من رجالات الدولة والكنيسة حققوا ارباحا مغرية من اشتراكهم معه في تجارته التي عادة ما تكون مع الموانيء المهمة في الساحل الايطالي كالبندقية وجنوى وفلورنسا، كان يتاجر في اي شيء، ولم يتعرض يوما للخسارة، خلافا لغيره مما مكنه من جمع ثروة كبيرة، حماها بمشاركة المتنفذين القشتاليين معه، وكان يقول لابنائه ومعارفه الثقاة من المواركة (مالك دون نفسك، ونفسك دون دينك)

 ليبرر عمله التجاري مع القشتاليين ويحث المواركة على التمسك بالاسلام مهما قست الظروف وصعبت الاحوال، كان كثير التوكل على الله، لايفتر عن الدعاء، ويوصي بالدعاء كسلاح ما بعده سلاح للمستضعفين الصادقين كما يقول، فرافقه التوفيق اينما توجه، حتى انه بز التجار اليهود، المارانوش، وتغلب عليهم، فاشتغلوا للايقاع به، انزلوا الاسعار متعمدين اكثر من مرة، وقاموا بمضاربات واحتكار للبضائع، كل ذاك ليخسر هلال ويتورط مع شركائه من القادة والقسس، لكنه كان يدرك مقاصدهم، واذا ما تعرضت احدى صفقاته للخسارة، كان يتحمل الخسائر لوحده، معتمدا على ما يملك، ولايخبر شركاءه الذين لايعملون عملا سوى استلام الارباح، لكنهم حين يصل الى اسماعهم ما فعله هلال من تحمل للخسائر لوحده،، تزداد مكانته عندهم ولايتركون مناسبة دون كيل المديح لهذا الكاثوليكي المخلص، ولا يكتفي بهذا بل كان يؤمن لهم الارباح فوق ذلك، وكان مديح القشتاليين ونجاح تجارته يزيد من عداوة اليهود المارانوش له، ومن اشدهم عدواة وكيدا له، هو نقيب المارانوش في حي الخودرية، اليهودي المتنصر، زئيف شاليط، والذي حمل بعد تنصره، اسما مسيحيا قشتاليا، هو، خورخي خوسا، لكن خورخي هذا لم يكن يظهر لهلال سوى المودة الزائفة والتزلف، وكان سلوكه مكشوفا لهلال، حاول مرة ان يناديه بالعربية هكذا:

 - سباخ الخير هاج هلال، كيف هالك؟ فنهره هلال قائلا بصوت عال ليخيفه كي لايعيدها ثانية:

-                     اسمع خورخي اذا كنت مسيحيا مارانوش عمدتك الكنيسة المقدسة فلا تتحدث بكلام ذهب مع اهله، ولا اظنك ما زلت يهوديا.

-                     لا لا، دون هلال، ارجوك لاترفع صوتك، الحيطان لها اذان، (ثم تلفت يسارا ويمينا وقال بالقشتالية بصوت هامس) الكلام العربي انتم اهله حاج هلال.

ادرك هلال انه كرر مخاطبته بلقب حاج ليرد على التهديد بمثله وليخبره انه يعرف بقصة ذهابه سرا الى الحج، فقال:

-                     لم احج بعد الى شانت ياغوب (سانت ياغو)، ولاتتكلم معي بغير لغة الكنيسة بعد الان، افهمت؟

-                     مفهوم، كروس رودريغو، مفهوم..

كثرت مكائد اليهود له، وفي احدى المرات ذهبوا الى اسقف اشبيلية ليقولوا له ان كروس رودريغو، حين يجلس للصلاة في الكنيسة يقرأ ايات من كتاب المسلمين القرآن، ولايردد الصلاة مع المؤمنين كما نفعل نحن المارانوش المخلصين لسيدنا الاسقف وللكنيسة المقدسة، غضب الاسقف واستغرب، لكنه اراد التاكد، فامر ابن اخت له يدعى ريغا وكان يثق به واوصاه :

-                     اجلس خلف كروس رودريغو بعد ان تبدا الصلاة كي لايشعر بك وتنصت عليه اذا كان يتكلم بلسان الكفرة المغاربة ام لا، وتعال واخبرني فورا، اخبرني قبل خروجه من الصلاة، وكان الاسقف ينوي اعتقاله في الكنيسة حالا اذا صدق كلام المارانوش..

كانت اصوات المصلين خافتة وجميعهم يشتركون في الصلوات واغلب الموريسكيين كانوا يحركون شفاههم فقط، من دون ان يلتفت احد اليهم، لكن ريغا مد عنقه وقرب اذنه من هلال بشكل لاحظه الموجودون - في الخلف - وفي اللحظة التي استطاع فيها ريغا الانصات جيدا لخفوت صوت كروس رودريغو كان المصلون يرتلون السلام على ماريام، فارتفع صوت هلال مرتلا السلام على مريم بصدق ومن اعماق قلبه ودمعت عينه وكرر الترديد فرآه ريغا دامعا وسمعه وهو يكرر السلام على ماريام، فقام ريغا الى خاله بسرعة وهمس منفعلا:

-                     كان يبكي يا خال، يبكي وهو يصلي للعذراء ماريام، صلى بلغتنا، انا، انا لم اسمعه جيدا، لكن حتى لو صلى بلسانهم، فقد كان يصلي باخلاص لشفيعتنا العذراء ياخال..

بعدها علم هلال بما جرى، فقال له ولده بدر:

-                     هذه من دسائس زئيف الوسخ يا ابتي، لماذا لا توقع به وتشتكيه الى شريكك دون فرانسيسكو والى الاسقف نفسه، عندما تسلمه ارباحه؟ الم ينتقد القشتاليين امامك ويسخر من كنيستهم؟

-                     لا يا بني، سيحرقوه، واذا حدث هذا بسببي، فسيعذبني ضميري، ثم ماذا اقول لله غدا، لا يا بني، مهما كنت مظلوما لاتفكر هكذا، لسنا يهودا ولا قشتاليين لننتقم هكذا.

بعدها ارتفعت مكانة هلال او كروس رودريغو في اشبيلية فقد سرت الاخبار بان

ابنه خوان رودريغو شارك في حرب غرناطة وان الملكة ايزابيلا اكراما له ارسلته في البعثة البحرية الاستكشافية مع الجنوي كولمبس، جعل هذا الخبر هلال واهله في وضع جيد في اشبيلية، وخلال هذا اصدرت ايزابيلا عام 1492قرارها بطرد اليهود المارانوش من كل اراضي قشتالة واراغون..

زئيف بعقله اليهودي لم يجد من يأتمنه افضل من هلال، امواله، ذهبه، ثروته المحمولة ستسرق كلها ان لم يخفِها عند رجل امين، ويهرب بنفسه، فاسرع بمغادرة الخودرية وهو الحي اليهودي في اشبيلية، خرج متنكرا، لم يجد هلال في داره، عرف انه في الكاتدرائية فقصده، التقاه يتمشى لوحده في بهو البرتقال، في كاتدرائية اشبيلية، كان هلال يحب المجيء لبهو البرتقال، المكان هنا يذكره بعظمة الاندلس وانفاس اهلها وما قرأه عن حلقات الدرس هنا تعبق بصدره وتملأ روحه بما يحب، وهو على هذه الحال، وقف امامه زئيف متنكرا بزي قشتالي وتوسل اليه ان يخفيه عنده كي لا يقتلوه، رق قلب هلال له، واخذه معه الى الدار، ولم يكن تطبيق قرار الطرد قد بدأ في اشبيلية، بقي عنده ليلتين، خلالها انذروا المارانوش بالتهيؤ لترحيلهم عن اشبيلية بعد ايام، وكان ابن زئيف واسمه شلومو، قد عرف بمكان ابيه وجاء الى دار هلال ليطمئن عليه كما قال، لكنه بعد ان خرج توجه الى مبنى ديوان التفتيش ليشي بهلال وابيه، اراد شلومو (اسمه المسيحي، شارل) الاستيلاء على ثروة ابيه وفي نفس الوقت اراد ان يثبت للكنيسة اخلاصه لها ولقشتالة، وهكذا قبض على زئيف في بيت هلال وقبض على هلال ايضا..

صودر ذهب زئيف ومجوهراته وسحل مقيدا واشبع ضربا وركلا، ولم يتم التأكد من مصيره او مصير ولده شلومو، لكن ديوان التفتيش حكم باحراق هلال حيا لتأمره على قشتالة وخيانته وارتداده عن الدين المقدس، ونفذ الحكم في اشبيلية علنا، وكان خوان رودريغو- ابنه - لم يزل في البحر مع كرستوف كولمبس.

دخل المخيم ثانية في حراك النقاش الادبي والتاريخي حول حكاية حامد الملاح، واحتدم اشد بعد ان انزلت غرناطة حكاية اخرى تظهر تأثيرات غرناطة وابنائها في حياة قمرين الاشبيلية، وهكذا يا صديقي، ما ان نجحت حكاية مايوركا حتى ادعت غرناطة بانتساب مبدع المايوركات كريم كاسياس لها، وحين ابدع الاشبيليون حكايتي قمرين وكناري، دخلت قرطبة فذكرت ان اصول العائلة تعود اليها، وحاولت غرناطة التقليل من تاريخ قمرين في مشاركتها الاخيرة، وبعد رد اشبيلية القوي طرحت غرناطة هذه الحكاية لتشترك بقصة قمرين عبر ابداع جديد..

بدر البشرات
يقول الاديب الاندلسي حامد فيما كتبه عن تاريخ عائلته : اخبرتني امي رحمها الله : ان جدنا بدر بن الحاج هلال، والمسمى في الكنيسة (بيدرو) لم يكن موجودا في اشبيلية عند هجوم رجال التفتيش على ابيه واخذه بالضرب والركلات مقيدا، فقد ارسله والده الى غرناطة لتقصى اخبار شقيقه حامد الذي ابحر مع كولمبس، وهناك بلغه خبر القبض على ابيه واحراقه حيا بتهمة الكفر والهرطقة، وان امه عرضت للبيع كجارية ولم يشترها احد لكبر سنها، وهي الان في بيت احد الموريسكيين، الذي آواها بموافقة الكنيسة..

ومنذ ذاك ندرت الاخبار عن مصير جدنا بدر المسمى بيدرو رودريغو، واكد الكاتب الاندلسي حامد : ان بدر استطاع التسلل ليرى امه للمرة الاخيرة وكانت مريضة وقتها، ويصف احتضانها لابنها بالمبكي فقد طوقته بذراعيها الضعيفتين وكانت تشمه وتبكي وترفض تركه، بينما الموريسكي الذي تسكن عنده يطلب منها الهدوء وهو يرتجف خوفا من انكشاف الامر، وابت العجوز ان تدع ابنها، حتى

انهارت قواها واغمي عليها، فاصر الرجل على ان يخرج بدر الى مكان اخر مهيأ لاختبائه، ريثما يتوجه بعدها الى جبال البشرات المطلة على غرناطة حيث كان يقوم من هناك مع جماعات من الاندلسيين بغارات على كل من يصادفونه من اعدائهم..

ويقول حامد الاندلسي، ان بدرا بقي يجاهد القشتاليين في جبال غرناطة ووديانها، مع علي العطار وغيره، حتى اندلعت الثورة في حي البيازين في عام 1499، وقتها كان التراسل بين اهل غرناطة في حي البيازين وخارجها يتم عن طريق الحمام الذي اتقن أهالي البيازين تربيته وتفننوا في تعليمه فقد كانوا يتعاطون تربية الصقور والبزاة والصيد بها لذلك سموهم البيازين، اي مربي الصقور، وتربية الحمام والطيور عادة اتقنها بدر المعروف لشجاعته ببدر البشرات، ومنه انتقلت الى افراد العائلة حتى وصلت الينا، وكانت على سطح حمّامنا (حمام قمرين) قبل هدمه اعداد كثيرة منها استخدمت في التراسل بين المواركة المتواجدين على اطراف اشبيلية وشاركوا في ثورة الاندلسيين عام 1568 وما بعدها..

(هامش لتوضيح النص، تقول خيمة غرناطة : هذا يدل بوضوح على ان تربية الحمام في اشبيلية انما كان مصدره حي البيازين في غرناطة)

اما نهايات بدر البشرات وليس نهايته، فقد ذكروا له عدة نهايات..

نهاية 1 – بعد قتال عنيف خاضه علي العطار فر القشتالييون، واسرت المجموعة التي يقودها بدر ثلاثة منهم وكانوا جرحى، فرفض الاجهاز عليهم متذكرا ما نقله اليه ابوه من تعاليم المسلمين لجنودهم، لا تقطعوا شجرة، ولا تقتلوا إمرأة ولا طفلا ولا جريحا ولا مدبرا وغيرها، لكن كان عليهم الاحتفاظ بهم لمبادلتهم، وكان على الاندلسيين عبور نهر حيدرة الى الضفة الاخرى، كي يبتعدوا مسافة آمنة، واثناء

العبور وهو يحاول انقاذ جريح من الغرق غرق هو الاخر ولم يعثر احد على جثته.

(علق احد المشاركين ان هذه النهاية غير مقبولة فنيا ولا يمكن تصديقها لشدة العداء بين الطرفين)

نهاية 2- انه قتل في اشتباك خلال المعارك ودفن بين صخور جبال البشرات ولايعرف مكان قبره على الرغم من محاولات ولده خوان المتكررة في البحث عنه سرا ولعدة سنوات دون ان يجد لقبر والده اثر ويقال ان ثلوج البشرات اخفته بتراكمها عبر السنوات..

نهاية 3- ان بدر بقي حيا زمنا طويلا حتى انهكت الشيخوخة والتشرد جسده فمرض، وخلال مرضه كان احد الرعاة الاسبان يعتني به دون ان يعرفه الى ان مات.

نهاية 4 - وهي رواية ضعيفة تقول انه استطاع العبور الى العدوة المغربية وعاش بقية عمره هناك.

لكن احدا لم يذكر انه احرق وهذا أخشى ماكان بدر يخشاه ويحذر منه، لذا كان يقاتل قتال الميت كما يصفون قتاله .

كان خوان رودريغو شقيقه، بعيدا، ياتي من رحلة ليذهب مع كولمبس باخرى، حتى قبض عليهما، هو وكولمبس وسجنا معا، ثم أمرت ايزابيلا بأن تسجل الخرائط البحرية التي رسمها كولمبس للارض الجديدة باسم امريكو احد معاوني كولمبس من البحارة الاسبان، ثم صدر عفو ملكي عنهما، وعاشا معا في إشبيلية، بعيدين عن البحر ودواوين السلطة، وهناك ماتا ودفنا، لكن كولمبس دفن تقديرا له - لانه من النصارى القدماء - في كاتدرائية اشبيلية بينما دفن خوان او حامد الملاح في الحمام الذي بناه ليعتاش منه، والى جواره بعد عام دفنت كارمن زوجته، وتركا ابنتهما قمرين التي ورثت حمام ابيها ثم اشتهر باسمها ((حمام قمرين)) وتزوجت من ابن عمها حفيد بدر البشرات المسمى بدر ايضا تخليدا لذكرى جده ..

((ملاحظة : ان اسم قمرين جاء من رغبة والدها خوان او حامد بتخليد ذكرى والده هلال واخيه بدر فسمى ابنته قمرين، حبا بهما، وكان كثير البكاء عليهما، خاصة شقيقه بدر الذي لم يره ابدا منذ رحلته المشؤومة مع كولمبس، فجمع اسميهما معا في اسم ابنته، قمرين اي، هلال + بدر))

(يقول الدكتور احمد رودميرو معلقا على تسلسل الاسماء هذا:

 كأن الامر هكذا – هلال، ثم بدر، ثم قمر او قمرين - وليس واحدا، اليس هذا تشبثا حضاريا بالبقاء؟ او ردا على قرار الكنيسة بتسمية ابيه كروث اي الصليب؟ ان حامد الملاح هنا يؤكد اندلسيته، حتى وهو ينتصب الان تمثالا يشير الى امجاد قشتالة الغابرة، كأنه يقول هكذا..)

دعني صديقي اخفف عنك، يا الهي ماذا اقول؟ اي تخفيف .. لنترك الامر دون توصيف، دعني انقل اليك جملة قصصية تُركت جانبا كغيرها لاحتدام الحكايات حول حمام قمرين، لكن الرسام الاسباني يحيى ثاباتيرو عرضها باعلى يده حين تحدث الدكتور رودميرو عن الاهلة والاقمار، ثم قال ثاباتيرو : هذا سبب كل تلك التسميات، التمسك الموريسكي بالهلال الاندلسي، كرد حضاري يقابل تغطرس قشتالة وسعيها لتنصيرهم بالصليب القشتالي..

كانوا يتطلعون
غدا - سيمتنعون عن الطعام سرا-

او بعد غد،

 ثلاثة رجال كانوا،

وثلاثة صبيان،

وطفلتين وكانوا - غربا - يتطلعون لرؤية الهلال،

فلم يروا الخيول وهي تحط عليهم..

بعد يومين فقط،

وشموا جباههم بالصليب،

وفي عيد الميلاد أحرقوهم..

النهايات مؤلمة كما هي البدايات، اي اقدار سبح المواركة في مياهها، صديقي المشرقي، وسط هذا الاحتدام في المخيم بدا واضحا لنا، والدكتور رودميرو اول من نبه اليه، ان الاندلس بجميع بلدانها ومدنها وقصباتها اشتركت في تاريخها، صاغته معا، شاءت ام ابت، كل احداثها رسمت مصيرها، فعاليات الخيام تؤيد هذا، وهو ايضا حال عائلة قمرين، كأن سيرة تلك العائلة حيكت لتصوغ حكاية الاندلس كلها، من ساحل باسكايا اقصى الشمال، الى الجزيرة الخضراء جنوبا، ومن كتالونيا الى اشبيلية مرورا بقرطبة وغرناطة وطليطلة والآسرات من مدن الاندلس وقصباتها..

نهايات مؤلمة حقا، وربما آن لمخيمنا ان ينتهي ايضا، كما انتهت الاندلس، ربما،

 رأي تداوله بعض المشاركين هنا، لكن لم يؤخذ به فتواصل الابداع واستمرت الحكايات..

خيمة مدريد
كان الاصدقاء في خيمة مدريد معنا في اغلب الاحتفالات القصصية، وشيئا فشيئا تركوا في نفوس الاخرين ارتياحا لذائقتهم الفنية والادبية المرهفة، كانوا اربعة، كلهم من سكان مدريد، وكلهم ولدوا وعاشوا في مدريد ايضا، لكن كارمن وهي المرأة الوحيدة بينهم، كثيرا ما تتردد على البرتغال، فامها من هناك، ولم تزل تعيش قريبا من سانتا فاتيما (اي القديسة فاطمة)، وكانت اغلب لوحاتها تستمد مشاهدها من ضريح سانتا فاتيما، الاطفال الذين تجلت لهم العذراء، ووجوه الحجاج المسيحيين الذين يقصدونها من اماكن بعيدة، وكارمن ليست وحدها الرسامة في خيمة مدريد، الاربعة جميعا رسامون، يحيى المدريدي، كما يحب ان يسمى، مهتم بالمنمنمات والارابسك العربي، وانجز ابداعات ذات شأن حين زاوج بين المننمات الشرقية وبين فن البورترية باسلوب جديد ومغاير لم يسبقه احد اليه، ويحيى كالدكتور رودميرو، كان كاثوليكيا ثم اسلم، لكنه اسباني الجذور، وقشتالي تحديدا، والفنون الشرقية والعربية هي التي أسرته و جذبته للتعرف على بيئة العرب والمسلمين، حتى غاص اعمق وتعلق قلبه بالاسلام، فغير اسمه من جون ثاباتيرو، الى يحيى ثاباتيرو، او، يحيى المدريدي، وجون تعني بالقشتالية، القديس يحيى كما يقولون..

وحده يحيى كان مسلما، والثلاثة مسيحيون، كاثوليكيان هما كارمن وخوان بينيكاس، وبروتستانتي هو ماتيو توريش..

عائلة خوان بينيكاس سكنت مدريد من خمسين عاما، وهي تنحدر من اجداد موريسكيين كانوا يعملون في حقول الباسك كعبيد بعد اسرهم او استعبادهم في غرناطة ونقلهم للخدمة في مزارع الكنيسة في سان سباستيان، قريبا من خليج بسكايا ومن جبال البيرانس عند الحدود الفرنسية، كان عددهم بالمئات كما يقول بينيكاس استنادا لمرويات متوارثة في العائلة، وقد جازف بعضهم بعبور الجبال الشاهقة هاربين الى فرنسا من اضطهاد عمال الكنيسة واخرون هربوا اليها عبر البحر، اغلب الفارين لقي حتفه، عدا قلة منهم ما زال بعضهم يحتفظ باخبار بعيدة عن اجداده الموريسك..

 خوان بينيكاس يرى انه مزيج من البشكنس والموريسك المطعم بالكاثوليكية المنفتحة على الجميع كما يصف نفسه، ويقول مبتسما : انا اجمع صفات اسبانيا كلها، مواطن اسباني بامتياز، وكانت لوحات بينيكاس غالبا ما تتناول السفن ومناظر البحر ووجوه عمال التجديف المربوطين بالسلاسل، ويهتم ايضا برسم اشكال لوجوه واجساد منهكة او منهارة على امتداد طرق طويلة..

اما ماتيو توريش، فقد كان لامه الالمانية الجميلة انجيلا تأثير على ابيه الذي تعرف عليها خلال دراسته في فرانكفورت واحبها بجنون وتزوجها، فولد ماتيو في بيت مدريدي بصبغة جرمانية وكان الابوان يتكتمان قليلا على بروتستانتيتهما، الى ما بعد عام 1975، حيث جاهرا بها ولم يعودا يهتمان لانتقادات المتعصبين الكاثوليك

في المجتمع الاسباني .

رسومات توريش تتناول الطبيعة الجميلة والثلوج والمناظر الهادئة كما يغلب عليه استخدام الالوان الباردة المحلاة بظلال من الحمرة الخفيفة او الاصفرار الخافت المريح.

خلال اغلب الاحتفالات القصصية قدم الاربعة، تخطيطات اولية، اسكتشات ومشاهد وبورتريهات، تصور البعد المجسد والمتخيل لمضامين الحكايات، حتى نضج عندهم كما قالوا مشروع لانجاز لوحة تحتوي الحكايات كلها بطريقة ما، قد تعتمد الاشارات او الايقونات الدالة واحيانا انبساطا اوسع لتجسيد الحكايات وتقديمها مشاهد مرسومة للناظرين..

 وهكذا انسحبوا تدريجيا من الفعاليات غير القصصية في المخيم وبداوا بتنفيذ لوحتهم.

كنت يا صديقي كما المغفل، فمع مواكبتي لكل خطوات اقامة المخيم مذ بدأ عندنا، انا ورودميرو، مجرد افكار والى الان ونحن نقترب من نهايته غير الواضحة لي، مع هذه المشاركة الفاعلة والمواكبة والحضور القوي الدائم مني، الا انني بدأت ادرك ان الدكتور احمد رودميرو، رسم كل شيء من البدأ وتحكم بي من دون ان اشعر، وكل مارسمه يسير الان وفقا لما خطط، فقد ادرك الاخرون مثلي، ان اللوحة الرئيسة لرسامي مدريد ستكون المشهد الختام لاحتفالات المخيم وفعالياته، وانا حتى في هذا مازلت قارئا رديئا لما يجري، لكن صديقي رودميرو اقسم لي انه لم يرسم في ذهنه تفاصيل دقيقة للمخيم، لكنه خطط فقط الملامح العامة لمساراته، كما توقعها، واراد لها ان تتجلى ضمن اطار يمكن من فرط شفافيته تجاوزه او الرجوع اليه، من دون ان يؤثر هذا في مسار المخيم او يترك اثرا ما ..

كشف لي اعترافه، فقر مخيلتي قياسا اليه، وجعلني اقرب الى تلميذ يتلقى افكاره ويؤيدها، ومنها – طبعا - ما سربه عبر النقاشات والمداخلات الى خيمة مدريد حتى اختمر عندهم مشروع اللوحة الختام ونضج ..

ادعك الان في تشوقك الى لوحة المدريديين، وارجو ان لا تعتبرني مغفلا فعلا الى حد كبير، لست كذلك اكيدا، فقط اذكر لك الوقائع خالية من الرتوش، لترى بنفسك وتخلق ما تشاء بمخيلتك . ساعود قريبا، في امان الله .

السلام عليكم، ساقص عليك اليوم ما نشرته خيمة مدريد تمهيدا على ما يبدو لمشروعهم الرئيس، كان على شكل تخطيط اولي له، ولكن بلغة السرد لا الرسم ..

يحيى المجريطي
يقول يحيى او جون ثاباتيرو : كنت كاثوليكيا لا يفارق حضور القداسات والصلاة في الكنيسة وغيرها من الاحتفالات الدينية وكنت مولعا باعادة رسم اللوحات المسيحية الكلاسيكية كصورة العذراء مريم وطفلها ونظائرها، عدا لوحة العشاء الاخير فقد كنت رغم انبهاري بها مترددا برسمها لانتقاد الكنيسة لها اذ اظهرت السيد المسيح في جو دنيوي صاخب وامام مائدة عامرة بالملذات والمباهج كالخمور وغيرها من اطايب الطعام والشراب، وهكذا بقيت وبقيت قدراتي الفنية محدودة لا تجتذب المشاهدين ربما لكثرة تكراراها على مر السنين، هكذا ظننت، لكن ملاحظتي لاهتمام زوار المتاحف والمعارض بلوحة العشاء الاخير وغيرها مما كنت ابتعد عنه من لوحات، جعلني اعيد قراءتي وآرائي، حللت العشاء الاخير واكتشفت سحر الفن وغنى الخيال فيها، ثم درست لوحات دافنشي الاخرى، كالموناليزا، كما تأملت اعمال غيره من الفنانين الكبار، تغيرت ذائقتي وصرت جديدا حتى على نفسي واعمالي السابقة، وثمة محطتان خلال تجوالي مع الرسامين ولوحاتهم كان لهما اثر في تحولاتي ومراجعاتي لثوابتي ومعتقداتي حتى رسوت اخيرا على شاطيء الاندلس ..

 الاولى : كانت مع بروجل ولوحته (إمثولة العميان)، ادهشتني هذه اللوحة وغيرت في حياتي كثيرا ليس على المستوى الفني، لا غيرت افكاري ونظرتي الى الحياة، كنت اتساءل، من يدري لعلي مثل عميان بروجل، لست اكثر من اعمى يقوده عميان، لا اعرف الى اين امضي، ومتى اسقط في الهاوية، لوحة بروجل الهولندي تمثل ستة عميان، يسيرون واحدا بعد الاخر، الاعمى الاول يقودهم، وكلهم يمسك بعصاه، لكنهم جمعيا يرتبطون ببعضهم عبر امساك كل واحد منهم بعصا الاخر، حتى بدوا وكأنهم يمسكون بعصا طويلة واحدة، كان الاول، قائدهم قد سقط في حفرة، والثاني انجر مع السقطة وهو في اللوحة على وشك السقوط، وهكذا الثالث بدرجة اقل، وكان العميان الاخرون يتجهون الى السقوط منقادين خلف قائدهم من دون ان يعلموا ما يجري، ملامح الرعب والفراغ على وجوههم، ويتحركون كالدمى، هزني بروجل، كأنه يخاطبني بلوحته هذه، ومن حينها لم اعد اثق بمسلماتي وثوابتي الفكرية، كل شيء في داخلي تحرك، كأن اهتزازا ما جعله يتحرك، وبدات رحلة بحث عن حقيقتي ومنها، بل في مقدمتها، تاريخ وطني الحبيب اسبانيا، وموقفي الصارم المتشدد من كل ما هو غير اسباني وغير كاثوليكي، اعدت قراءة تاريخ الاندلس والدور الحضاري للمسلمين في حياتنا، فقرأت للمؤرخين باروخا وكوندي وللامريكي واشنطن ايرفنغ الذي فاجأني بحياديته او بانحيازه المقنِع للاندلسيين وحضارتهم، قرأت ايضا القصائد السورية لشاعرنا الاسباني الكبير انطونيو غالا، وغدا الجناح الاندلسي والموريسكي في الاسكور يال محطتي اليومية لساعتين او اكثر حسب ما يسمح به عملي في الغاليري، ويوما ما، وقع قلبي قبل يدي على مخطوطة موريسكية مترجمة الى الاسبانية وقد وضع الاصل المكتوب بلغة الخميادو الخاصة بالموريسكيين ونص الترجمة في مجلد واحد، رسمت على غلافه معالم اندلسية، جانب من الحمراء ورجال بعمائم وكتابات، وغيرها.

 كانت تلك المحطة الاولى في تحولاتي نحو الاندلس كما يحلو لي ان اصفها، اما المحطة الثانية والاهم عندي، ومنها حملت هذا الاسم، يحيى المدريدي، فتعود الى تلك المخطوطة وهي لمؤلفين كلاهما اسمه حامد، هكذا علق المترجم ويقول انهما معا يحملان لقب حامد الاندلسي وهما قريبان على ما يبدو، اذ باشر الثاني اكمال مخطوطة الاول التي تركها ناقصة، وكان يسميه بخالي ويذكره بعبارات الاحترام ويترحم عليه ..

بنات الاندلس
يقول حامد الاندلسي : ان الرسام الاندلسي يحيى المجريطي (مجريط الاسم العربي لمدريد) كان في القاهرة حين شهد مباراة في الرسم جرت امام وزير السلطنة في مصر وقتذاك، جرت المباراة بين رسام مصري اسمه بن عزيز، كان قد تحدى براعة منافسه الذي جاء الى القاهرة هاربا من بطش صاحب الشرطة في بلاده بغداد، بالقول :

-                     مولاي وزير السلطان المعظم، سارسم بعد اذن مولاي صورة حية ل دلال هذي الواقفة الان امام مولاي (كانت الجارية الجميلة واقفة وهي تحمل بيدها ابريقا وكأسا لتسقي سيدها ماءا) سارسمها تخرج من هنا عبر هذا

 الجدار الذي امامكم وسترونها وكأنها تدخل حقا فيه.

ابدى الوزير اعجابه بما قال بن عزيز، ثم التفت الى الرسام العراقي واسمه قاسم.

-                     وانت ايها العراقي، ما عندك ازاء رسام قاهرة المعز لدين الله، بن عزيز؟

-                     اذا أذن لي مولاي الوزير فسارسم ذات الجارية وهي تخرج من الجدار داخلة الى هنا، وسترى مولاي انها هي بلحمها ودمها وبارديتها هذه وبخمارها ستدخل .

ها، ابدى الوزير السلطاني تعجبه اكثر.

-                     كم يوما يكفيكما؟

-                     ما يراه مولانا وزير السلطان، قال قاسم العراقي.

 فتنحنح بن عزيز ثم قال : اسبوع من الان يا مولاي، لأن جارية مولانا وزير السلطان تستحق وقتا اطول واهتماما اكثر مما ابداه ضيفنا الذي لايعرف قدرها عند مولاي، وكذلك يا مولاي ليعرف الخبر جميع رعايا مولانا السلطان في القاهرة وما حولها ويحضروا العرض.

كان قاسم قد سمع تهكم الناس في القاهرة وانتقادهم لما يكنه وزير السلطان من هيام بجاريته دلال، واوشك ان يرد على كلام بن عزيز، لكن صوت الوزير اسكته وهو يقول :

-                     هذا افضل، لنرى، على بركة الله وقام ايذانا بالانصراف.

((قاسم كان يدعى في بغداد ب قاسم الكرخي وكان كثير التعريض والانتقاد لكبار الدولة هناك، خاصة الخليفة الضعيف وكان يردد دائما بيت الشعر المعروف:

(خليفة في قفص بين وصيف وبغا+++ يقولا ما قالا له كما تقول الببغا)،

وكذلك بيت المعري (يسوسون البلاد بغير علم = فينفذ امرهم ويقال ساسة)

(فافّ من الحياة وافّ منهم =ومن زمن رياسته خساسة)

وكان هذا سبب هربه من بغداد بعد ان امروا بصلبه ولجأ الى القاهرة فوجد ان حال الحكام في القاهرة لا يختلف كثيرا عن بغداد / هامش من المشارك العراقي في المخيم .

رفعت الستارة عن لوحة بن عزيز وانحبست الانفاس، كانت دلال الجارية تخرج من القاعة بتغنج ودلال كأنها ترقص، وبانت تقاطيع جسدها ومفاتنه بشكل حي مثير للاغراء، وظن الحاضرون ومنهم الوزير السلطاني وحاشيته انها هي فعلا من تمشي خارجة عبر الحائط وليس صورتها، فارتبك الوزير وقام كأنه يريد ان يتبعها، هم بذلك لكنه انتبه لنفسه وتوقف، وقامت حاشيته والحاضرون جميعا لقيامه، وتعالت صيحات الاعجاب.

 تقدم بعدها قاسم، تقدم في أناة، تطلع في وجوه الحاضرين، كأنه يستعرضها، فانشدت الانظار اكثر، ثم ازاح الستارة عن لوحته ببطء وهدوء، وشهقت انفاس الحاضرين، اي سحر هذا، دلال التي خرجت قبل قليل بدلع وتراقص، ها هي تدخل الان عبر الحائط ذاته باردية طويلة، تمشي مشيتها لكن باحترام لمن تمشي اليه، حركاتها توحي بالحشمة والوقار، هي هي، دلال نفسها، من دخلت عليهم، وتعالت همهمات الاعجاب، لكن الوزير الذي وقف ثانية انبهارا بما يراه، وبعد ان تجاوز لحظات الاندهاش، استغرب ان قاسم وهو يعرض لوحته اسماها (سلام) وليس (دلال)، وكتب هذا الاسم رسما على خمارها بشكل لافت و ذكي ..

اخذ السلطان وقتا ليتمالك نفسه، ثم سأل قاسم ببرود:

- ما الذي دعاك لتغيير اسم جاريتنا دلال؟

- هيبة سلطان المسلمين في الديار المصرية يا مولاي، دعتني لاختار هذا الاسم، السلام هو الاليق بكم مولاي الوزير.

اعجبته شجاعة العراقي وفصاحته، وفهم تلميحاته، لكنه استغرب من جرأته، وتجرعها على مضض، فاشاح عنه بوجهه وامر باستطلاع راي المحكمين، على ان يكون القول الفصل له .

قال المحكمون رأيهم بنقاط ..

1-              ان كلتا اللوحتين نالت الدرجة القصوى في الفن والصنعة والسحر الجميل.

2-              ان الرسام العراقي كان لبيباً باختياره لرسم الجارية وهي تدخل فلا يكون ظهرها بوجه مولانا وزير السلطان، وهذا ما فات بن عزيز الالتفات اليه.

3-              لما كان الرسمان متساويين في الصنعة وايهام الناظر بحياة الجارية وكأنها حقا تمشي وتتحرك، فأن الغلبة تكون لمن رسم الجانب الاصعب وهو هنا ظهر الجارية لا مقدمها، ومع ان بن عزيز استعان بالتفاتة غنجة من وجه الجارية، الا ان الدرجة هنا لصالحه.

4-              ان بن عزيز وضع جهده في الفن والصنعة فقط ولم يلتفت لتأثيرات الرسم على الناظرين وسلوكهم، بينما انتبه قاسم العراقي الى الابعاد الاخلاقية في لوحته وطبع بصمات مهذبة على اذواق النظارة، من خلال سلوك الجارية وملابسها المحتشمة، مما يجعل الغلبة له في هذا الجانب.

5-              لكن الرسام قاسم تجاوز حدوده باختيار اسم للجارية دلال غير الاسم الذي اختاره لها بنفسه مولانا الوزيرالسلطاني، ونوصي بمحو الاسم من على الرسم، واعتذار الرسام عما فعل.

 اطلع الوزير على اراء الحكام واعجب بها بينما عينه ترمق اللوحتين حينا واخر . ادرك الوزير ان كلا من الرسامين كان انعكاسا للبيئة التي عاشها..

فامر امام دهشة حاشيته بالجائزة متساوية لهما، وهمس باذن صاحب الشرطة ان يصرف العراقي مكرما بعيدا عن القاهرة، ثم انصرف الى جناحه الخاص وخلفه حُملَت اللوحتان الساحرتان.

شهد يحيى المجريطي المباراة وانطبعت تفاصيل الجارية بصورتيها في ذهنه، كان في اوائل تعلمه لفن الرسم والتصاوير، لكنه كان بارعا في رسم المننمات والزخرفة بالاشكال الهندسية المتناظرة والمتداخلة والمتقابلة ومبدعا فيها، وحتى بعد عودته الى تطوان على الساحل المغربي، وهي من منافي الغرناطيين بعد سقوط مملكتهم، كان يوم المباراة ملازما لخياله، فانزوى لاعادة رسم اللوحتين، مستولدا دقائق مشاهدهما من ذاكرته وابداعات خياله، انجز اولا لوحة بن عزيز، لكنه اشتغل وجها اخر للجارية، وجها ضمنه امارات الجمال الاندلسي، الملائم بين عذوبة اللون العربي وحنطيته الآسرة وبين بياض العنصر الاوربي وشقرته الجاذبة، سعى يحيى لعجن ملامح الاندلس وايبريا والافرنج معا، ثم غدت الجارية عند يحيى ثلاث فتيات اندلسيات يرتدين ازياء الاندلس الزاهية باصباغها وتغطي رؤوسهن باقات، بثلاث او اربع وردات نضرات، رسم احداهن تحمل باقة ازهار كبيرة، كن يمشين معا ويتضاحكن وهن يخترقن الحائط خارجات بمشيتهن البريئة المرحة، كأنهن كن يعبرن غلالة من البخور الهندي اوستارة شفافة من الهواء الملون وهن يخرجن ..

ثم اكمل بعدها لوحة الرسام قاسم، وجعل البنات الاندلسيات يدخلن تجاه الناظر من خلال الحائط نفسه وبالهيأة الاولى ذاتها، الا ان وجوههن كلها بانت للمشاهد ومنها شعت ملامح الجمال الاندلسي الاخاذ، كانت اعمارهن لاتتجاوز الثانية عشرة وكن مغطيات الشعر بشالات من الحرير الغرناطي الملون و المشبع بالخضرة الخفيفة الرائقة و الاصفرار البهيج، مما اضفى على حركاتهن مسحة من الطفولة الفرحة والسعادة..

وما ان انتهى من اللوحتين حتى برق ذهنه الوقاد عن فكرة مبدعة اذهل الاندلسيين التطوانيين بها..

وضع الفنان الاندلسي يحيى المجريطي اللوحتين معا ظهرا لظهر واحكم شدهما معا بحيث بدت لوحة بوجهين، كالعملة (طرة وكتبة) الاول للاندلسيات وهن يخرجن والثاني لهن ايضا وهن يدخلن ويواجهن الناظر بوجوههن، ثم ربط اللوحتين معا من الاعلى بحبل من حبال الاشرعة القوية المرنة وصبغه حلزونيا بالوان متناسقة من الازرق الى البنفسجي فالاحمر فالبرتقالي ثم الاصفر فالاخضر فالازرق وهكذا، لتبدو حركة الحبل لوحدها وهو يعود الى وضعه الطبيعي بعد برمه بشدة، حركة الوان تطارد بعضها وتتمازج معها، لكن هذا وان نال اعجابهم لطرافته وجدته، لكنه لم يثر الاندلسيين كما اثارتهم وهم الذواقون للفن ولم يزل عهدهم بالاندلس قريبا وحنينهم اليها يملأ قلوبهم وحياتهم كلها، حركات الخروج و الدخول الوادعة المتتالية بتريث ومهل للبنات الصغيرات، يرون البنات يخرجن كأنهن يومئن لهم بالوداع ثم يطللن عائدات مع الدوران الهادىء للوحة، وهن باسمات ولاهيات، فترتفع صيحات الاعجاب والثناء للرسام الاندلسي المبدع كأنما كانوا في ذاك الزمان البعيد يشاهدون فلما سينمائيا متحركا..

اعطى لوحته المزدوجة عنوان (بنات الاندلس) ومضى بها الى مصر، لكنه لم يصل، لاهو، ولا لوحته الآسرة، واختفت من حينها اخباره.

يقول يحيى المدريدي، من هنا، من هذه الحكاية التي رواها حامد الاندلسي، انفتح لي باب مشرق جديد، غادرت كاثوليكيتي، ودخلت الاسلام، انجذبت اولا لتلك الروح الكامنة، المولدة للسلام، التي استشعر قلبي ذبذباتها تدغدغه وتشده اليها، ما الذي يدعو الرسام العراقي قاسم لمخالفة ذوق رجل حاكم كوزير مصر فيعيد رسم جاريته باسلوب اخر لا اثارة فيه للغرائز كما فعل رسام البلاط بن عزيز، عندنا في اسبانيا رسم غويا، فناننا الكبير، لوحته الشهيرة (العارية)، وكان هذا يمثل ذوقه الشخصي، لكنه بعد ان بلغه خبر انزعاج رجال الكنيسة، واستحضر بطش محاكم التفتيش، اعاد رسم العارية ثانية بعد ان كساها، فسميت لوحته الثانية، (المكسوة او المرتدية)، امر مضحك فعلا، وان كان خوف غويا مبررا بالتاكيد، لم يكن هناك ما يهدد قاسم لو رسم الجارية كما فعل بن عزيز، بل ان ذوق الوزير السلطاني كان مع ما رسمه بن عزيز، والعراقي يعرف هذا، لكنه فضل ذائقته هو ومقاييسه الاخلاقية هو على ذائقة السلطة ومقاييسها، وعرض نفسه وهو المطارد اصلا الى التهديد والخطر بارادته، فضل الانصات لروحه، لانغام السلام النفسي التي تعتمل في قلبه بدلا من الانصياع لاغراءات الجائزة والحظوة عند الملوك، وبدلا عن الخضوع لبطشهم، خضع لقلبه، ولعلها، تلك الروح الخفية التي تجلت لي عبر لوحته وان لم ارها، هي من شدني اليه، والى ما يؤمن به، وهذا ما انا مندهش منه الى الان..

ما ابدعه يحيى المجريطي، في لوحته الرائعة، ذات الوجهين، بنات الاندلس، دعاني لاعادة النظر في ارائي المتشددة تجاه مواطني بلادي المنكوبين من الموريسكيين، اتخاذه براءة الاطفال ومرحهم موضوعا، اشاع السلام في نفسي وجعلني اشعر بارتياح خاص شرح صدري، وتركني وقتا بعد قراءة المخطوطة أعيش ما أشاعه في نفسي من سلام ومحبة للاخرين، كأنه اراد بقصد او لا، ان يترجم غاية زميله العراقي وهو يسمي الجارية سلام، فقد اتضح لي بعد تخيلي للوحة المجريطي، ان ما ذكره قاسم للوزير لم يكن كل الحقيقة، اراد قاسم ان يعبر عن جوهر الاسلام وغاياته عبر الفن، وهو، السلام، السلام النفسي الداخلي، والسلام الاجتماعي الخارجي، وهذا ما شعرت به فعلا حين اسلمت، ولهذا، اتخذت اسم يحيى الرسام اسما لي، بدلا من جون ثاباتيرو، انا الان يحيى المدريدي، وهذا اول ما فعلته لانصاف الاندلسيين، ابناء وطني الحبيب، اسبانيا .

حكاية خيمة مدريد الجميلة ارجو ان تكون قد اعجبتك، انا واثق من ذائقتك المرهفة، وتقبلك لاعتذاري، فانا بحاجة الى قيلولة ومن ثم ساكتب، ساكتب لك حتى لملمة المخيم، اعدك.

 =

 سرت حالة من الانشراح والحبور نشرتها لوحة بنات الاندلس، وكانت كارمن ومارتينا منفعلتين جدا باجواء اللوحة كأنما كان المخيم يشاهد اللوحة واقعا في ايام تطوان تلك، بعدها بساعة او اقل بقليل نغصت خيمة المرية انشراحنا، بتعليقها على الجملة السردية الخاصة بالهلال (كانوا يتطلعون)..

كانوا يتطلعون
غدا - سيمتنعون عن الطعام سرا-

او بعد غد،

 ثلاثة رجال كانوا،

وثلاثة صبيان،

وطفلتين وكانوا – غربا - يتطلعون، لرؤية الهلال،

فلم يروا الخيول وهي تحط عليهم..

بعد يومين فقط،

وشموا جباههم بالصليب،

وفي عيد الميلاد أحرقوهم..

قرية السماكين
عند الطرف الجنوبي للمرية، على الساحل تماما تنتشر بيوت لصيادين مواركة، يقال ان بعضهم يتحدر من عائلة بني حمود الادارسة، وكانو كما هو حال اهل الاندلس الموريسكيين يكتمون اسلامهم ويعلًمونه، بل يرضعونه لاولادهم سرا، يمنحهم بعد قريتهم عن المرية واعين الرقباء حرية اوفر في اقامة شعائرهم الاسلامية، وهكذا اعتادوا اول كل شهر قمري خاصة مع اطلالة رمضان ووداعه وشهري الحج ومحرم ان يتطلعوا جهة الغرب لرؤية الهلال، كي يبدأون صومهم او يحتفلون بالعيدين الفطر والاضحى او يباشرون شعائر الحزن على مأساة عاشوراء، ولم يحدث من قبل ان اكتشف القشتاليون افعالهم، الا في اليوم الذي ترسمه الجملة السردية، فقد حسبوا ايامهم بدقة وكان هلال رمضان متوقعا الليلة او ليلة غد فخرج جماعة منهم الى اعلى تل قريب من قريتهم، كانوا اكثر من عشرين رجلا مع اولادهم، لكن جنود الملك ادركوا الذين ذكرتهم القصاصة فقط، واذاقوهم عذابات بشعة، فقد مات بعضهم قبل أحراقه، عرف اهالي القرية ان الحمدي وكان في الستين من عمره زفوه مرتين الى تابوت العذراء الجميلة نكاية به، ففي ارضية التابوت اللعين صورة حسناء شبه عارية بثوب الزفاف وهي تمد ذراعيها كأنها تريد احتضانك، فادخلوا الحمدي عليها وطرحوه في التابوت على وجهه كي يحتضن عذراءهم اللعينة، لكنهم لم يطبقوا التابوت عليه جيدا لكي لايتمزق جسده كليا بسكاكين التابوت، امعانا في تعذيبه، اخرجوه داميا يئن ثم ادخلوه ثانية حتى تمزق رحمه الله ومع انه كان ميتا الا انهم رموا بجثته في النار مع الاخرين، قيل انهم عذبوه هكذا لمعاندته لهم واصراره على ترديد الشهادة الى اخر لحظة، وكانت احدى الطفلتين ميتة ايضا، اقاموا الاحتفال في الميدان العام في المرية وساقوا قرية الصيادين كلها لتحضر الاحتفال، عرضوا الاحياء اولا ثم قرأوا لائحة الاتهام، اتهموهم بانهم كانوا على التلة ينتظرون مجيء قوارب القرصنة الاتراك (طبعا كانت وجوههم الى الغرب كي يروا الهلال، اي تجاه غرناطة تقريبا وليس الى البحر كما ذكر الراهب وهو يقرأ الاتهام) كما اتهموهم بانهم يمارسون الشعوذة والتنجيم بتطلعهم للنجوم، ثم جرجروهم وكانوا مقيدين، وقد شوهت الكدمات وجوههم، كووا جباهم واحدا بعد الاخر بحديدة متجمرة، ووشموا عليها علامة الصليب، وكانت صيحات الاستحسان الهستيرية تدوي، كان منظر الصغار مفزعا يفطر القلب، وقد اكد اهل القرية ان العديد من المسيحيين الحاضرين بكوا، وكانوا يمسحون دموعهم لئلا يراهم احد، صرخت ام الصبيين احمد وجعفر حين باشروا كي ولدها جعفر، صرخت من اعماق قلبها وسقطت، فهب الجنود اليها وسحلوها، لكن القس منع القاءها بالنار، قائلا يجب عرضها على الديوان المقدس اولا واخذت ولم يعرف بخبرها بعد ذاك احد، بعدها بدا الاحتفال المقدس، رموا جثة الحمدي اولا ثم الصبية الميتة ثم الاخرين واحدا بعد الاخر ولم يصدر عنهم اي صراخ او صوت فقد كانت افواههم مكممة و محشوة بالقماش ..

تلك الايام من شهر رمضان كان اهل المرية وخاصة قرية السماكين تتراءى لهم اشباح الاطفال كالملائكة وكان فطورهم يمتزج بالدموع.

صديقي العزيز، كنت اخبرتك في رسالة سابقة ان هناك اضافة من الهولنديين، كورنيلوس وزوجته فيرونيكا، بصدق نسيتها، لكن الان وانا اراجع رسائلي اليك قرأتها، اليك الان تلك المشاركة الهولندية وهي مهمة لسد ثغرة في سردياتنا وستربط بين حكايتين لخيمتي غرناطة واشبيلية ..

حرير مارتينو
يقول الهولنديان، انهما اطلعا في اوراق بيتر باستن المحفوظة ضمن ارشيف شركة الهند الشرقية الهولندية على ما جرى بين ماركوس الغرناطي وبيتر باستن في الليلة التي قررا فيها الهرب مع لارنكا البروتستانتية وابنتيها..

كتب باستن : اختلى ماركوس بنفسه، لم يبق على خروجنا سوى ساعات، كان مخططنا ان نخرج جميعا ماركوس وعائلته ولارنكا وابنتيها، وانا معهم ببضائعي واوراق سفري الايطالية كي اوفر غطاء لهم اذا اعترضنا الجنود، وسيتولى ماركوس اذا وصلوا ارض المغاربة ترتيب نقل لارنكا وابنتيها على ظهر سفينة الى هولندا، حيث زودتها برسالة الى امير اورانج، اما انا فساعود ببضاعتي بمجرد ابحارهم، كنت قلقا، سالت ميشيل او محمد عن ابيه، قال لي يصلي، وسمعته يرتل بصوت حزين، يتقطع ببكائه وتضرعاته، كان يقرأ القرآن ويصلي، انتظرته بصبر صعب، ثم جلس الى جواري وقال :

-                     اسمع اخي باستن، سأكشف لك سرا لايعرفه في غرناطة احد سوى زوجتي فاطمة، ما ارجوه ان تكتم السر حتى نصل الى العدوة المغربية، بعدها، سكت قليلا ثم اردف، أحتاج مساعدتك، أعرف إني سأتعبك لكني مضطر لذلك.

-                     لاعليك اخي ماركوس، لاعليك، قل ما تريده وسأبذل جهدي لمساعدتك.

-                     اولا، سأروري لك قصتي : انا من اشبيلية، اسمي الاندلسي بدر، وفي الكنيسة عمدوني باسم بيدرو، ولجأت الى غرناطة هاربا من بطشهم لقد اعتقلوا ابي امامي لكنهم لم يروني، كنت في حجرة مجاورة فاعماهم الله، سحلوا ابي الى خارج الدار، واخذوه الى محكمة التفتيش، كان لايحب الاختلاط بالناس ولم يفعل شيئا، لا ادري لماذا اعتقلوه، يقال انه اعتقل بسبب صديق له اسمه علي الخير، عرفته فيما بعد وعشت معه زمنا، ما زال حيا مرابطا في الجبال، وهو من نسل السادة الادارسة، احفاد النبي، وبعد ساعة من اخذ ابي عادوا للبحث عني، طلبوني بالاسم ولطموا زوجتي قمرين على وجهها، كسروا فكها، فاغمي عليها، كنت قد خرجت واختبأت عند صديق نصراني، لاادري ان كان موجودا الان ام لا، اسمه الونزو، كبرنا معا مذ كنا صغارا، وكنا لانفترق، لكن اهله ابعدوه عني بطلب من القس، كي لا تتنجس روحه بسببي كما قال لهم، ومع هذا، كان يختلس الفرص للقائي، عندنا حمَام، ورثته زوجتي من ابيها، وهو بمنزلة عمي، لعلك سمعت به، هو الملاح المعروف باسم خوان رودريغو، اول من رأى ارض العالم الجديد، كان مع كولمبس في تلك الرحلة البحرية الشهيرة، هل سمعت به؟

-                     اجل سمعت عن رحلة كولمبس .

-                     كنا كلما جاء الونزو نصعد الى سطح الحمَام، وكنا نجلس لساعة او اكثر قرب قن الطيور ثم يعود الى اهله، واستمرت علاقتنا الى ان تزوج كل منا، وحين اخذوا ابي، كانت علاقتي بالونزو شبه منقطعة، ولم اكن قد التقيته منذ شهور، لكني مع هذا، قصدته، لم اجد مكانا اخر اذهب اليه، الكل يخاف انتقام الكنيسة اذا وجدوني عنده، كما انهم سيبحثون عني في بيوت الموريسكيين، لذا ذهبت اليه، قبل ان ادخل داره اخبرته بكل شيء، فادخلني من الباب الخلفية لداره اخفاني عن زوجته، بقيت عنده ساعات، اعطاني ثلاث دوقيات ذهبية ورسالة الى صديق له في فالنسيا، شكرته واعدت النقود اليه، كان معي ما يكفي، فقط اخذت الرسالة، رافقني الونزو حتى خارج اشبيلية، ثم عانقني طويلا وافترقنا، فقصدت قرطبة اولا، بقيت يوما عند احد معارفي من الموريسكيين، لم اخبره بقصتي، ومع الفجر غادرت في رحلة طويلة الى فالنسيا، هناك اوصلت الرسالة الى صديق الونزو وكان صانع قوارب من كاتلونيا استقر به المقام في فالنسيا، بقيت عنده الى ان اشتريت دارا وبستان توت بما حملته معي من مال، حاولت ان امثل دور المواطن الكاثوليكي الصالح كما يقولون وتعرفت الى فتاة شقراء من بقايا المجوس الفايكنغ، لكني لم استطع معاشرتها كما تريد، وطاردتني اينما ذهبت، حاولت التخلص منها بشتى الطرق، لكنها غير قادرة على الابتعاد عني كما قالت، كان زوجها ضابطا او بحارا وقد ذهب في رحلة بعيدة، وانا لا استطيع الارتباط بها، نفسي ابت ذلك، انا مسلم يا اخي ولا استطيع ان أعاشر امرأة متزوجة، ولم يكن مسموحا لها بالطلاق، لذا اخفيت وجهي عنها مستعينا بالكاتلوني الذي حاول ابعادها عني، فذكر لها اني موريسكي كي تتركني، المسكين اراد ان ينفعني فالحق بي الضرر، هددتني بفضح اصلي الموريسكي ان لم اذهب معها الى البيت، حاولت ارغام نفسي على ذلك، ما افعل؟ لكني لم اطق رائحتها المقرفة، وتركتها، كنت اتوقع ان تشي بي، وقد لاحظت اشمئزازي منها، جمعت ما املك من مال وهو ليس قليلا، حصلت عليه من تجارة الحرير، كنت انتج في منسجتي اجود انواع الحرير في فالنسيا وكان التجار يشترونه مني باي ثمن، حتى ذاعت شهرته وسمي بحرير مارتينو وهو الاسم الذي حملته في فالنسيا، الكل يعرف اني قشتالي عدا الكاتلوني صانع القوارب الذي اخبر ساندرا، كنت متواريا في الميناء بذريعة المشاغل عندما اخبرني الكاتلوني بان رجال محكمة التفتيش يبحثون عني، وهكذا هربت الى مكان ما ثم الى غرناطة، لأتنكر باسم ماركوس، واعود مجددا تاجرا بارعا للحرير، هذا ملخص قصتي، اغلب افراد عائلتي قتلوهم، بالحرق او التعذيب، وما ارجوه منك يا اخي ان تساعدني بانقاذ زوجتي قمرين واولادي، حامد وعمار وكناري، وبكى، لم ارهم منذ سنوات، واجهش يبكي، ابكاني معه ماركوس ووعدته بالذهاب الى اشبيلية واخذت منه رسالة تعريف الى زوجته قمرين.

مع استغراقنا بقراءة المدريديين الاربعة ومشاركة الهولنديين، وزعت خيمة قرطاجنة حكاية جديدة تملأ فراغا اخر في متوالية حكايات قمرين كما بدأ المشاركون في المخيم يسمون كل الحكايات لانها بشكل وباخر تدور في فلك حكاية قمرين . يقولون في خيمة قرطاجنة انهم استقوا حكايتهم (علي الخير) مما كتبه شرطي قشتالي خدم في قرطاجنة وحفظت يومياته في مكتبة المدينة، بالاضافة الى مصادر اخرى من الاسكور يال ومكتبة تطوان وغيرها .

 علي الخير
(1)
-
ساندرا، انهضي، انهضي، نادى خافيز زوجته بفرح .

- ها ماجرى، الديك غيرها، قبضتم على مغاربة او موريسك .

- لا، ساندرا، لا، تصوري اليوم اوقفت دوريتي صاحبك الموريسكي، قالها غامزا.

- من، مارتينو؟

- هو بعينه، مارتينو، كان مع زوجته وابنه، راقب تأثير ما قاله عليها، كانت منفعلة..

- هل اخذوه؟ لماذا خافيز؟ لماذا؟ ألم يكن بإمكانه قتلنا لكنه لم يفعل؟ كان شهما معنا، رغم ما فعلنا به، لماذا لم تساعده؟

- ها، اياديه كريمة، غمز ثانية، وكان فرحا.

- لستم مثلهم، هم رجال، قل لي، ما فعلتم به؟ قالتها بحزن وازدراء .

- ساندرا، ما بك؟ لقد انقذته حبيبتي، هو وزوجته..

- حقا، قفزت وعانقته، اين هم الان؟

لم يرتح لسؤالها عنه و رد بانكسار..

- مضوا بسلام، اعطيتهم كتابا بختمي لكي لايتعرض لهم احد ومضوا.

- الى اين مضوا؟ واين كانوا ذاهبين؟

- تجاه البحر، يريدون الهرب ..

- مسكين، آذيناه، هل عرفك؟

- انت آذيتيه ساندرا.

- وانت ايضا، كلنا في قشتالة قتلناهم وسرقناهم واحرقناهم، كلنا، وبكت..

- ساندرا، هو الان بخير، وطلب مني ايصال تحياته اليك، وقال انه غفر لنا من زمان، ساندرا، عانقني كأني اخاه ومضى، ولده ذكي وصغير، صافحني ايضا.

 (2)
يقول بيتر باستن : ذهبت الدورية وعاد بيدرو، لم اصدق، كدت اجن خوفا عليه، وما ان ابتعدوا تركت نيكولا وابنتيها وهرولت اليه.

-                     بيدرو، كيف تركوك حيا؟

-                     قائد الدورية عرفني وأمر بتركي، كان زوج ساندرا، حدثتك عنها، شقراء فالنسيا.

-                     السلام لمريم، ولماذا تركك، انسان حقا، لا اصدق كيف لم ينتقم منك؟

-                     لهذا حادثة لم اروها لك، وقعت بعد هربي منهم، من فالنسيا، وقبل مجيئي الى غرناطة، كنت في الجبال..

 (3)
لم اقل لك، عندما هربت من فالنسيا، قصدت الجبال اولا، جبال الثلج، هل مررت بها؟ جبال شلير او البشرات، وهناك التقيت علي الخير، والد زوجتي هذه، فاطمة، وهو صديق والدي الذي أخذوا أبي لعلاقته به، كان مطلوبا بقوة و كان مرابطا هناك في الجبال يجاهد القشتاليين، رفض الخضوع لهم او التنصر، إنه من سلالة الأدارسة كما قلت لك، وكان كثير التحدث عن جده الحسين عليه السلام وكيف رفض الظلم حتى بعد ان ذبحوا اولاده واخوانه واصحابه، حتى طفله الرضيع ذبحوه، وكلهم قتلوا عطاشى، لكنه لم يستسلم، حتى ذبحوه هو ايضا..

(كان بيتر باستن يستمع لهذه القصة المحزنة.. و واصل بيدرو، او، بدر بن حامد بن بدر البشرات بن الحاج هلال، كما تسهب المخطوطة في ايراد اسمه..)

هكذا كان علي الخير يشحذ ههمنا، و بعد عام تقريبا، زوجني ابنته فاطمة، قال لي، هذي امانتي عندك، وطلب مني النزول الى غرناطة، ثم الابحار الى العدوة المغربية، لكن قبل موعد النزول بيوم او يومين، خرجت للمرة الاخيرة في مرابطة، كما كان القشتاليون يكمنون لنا ويصطادوننا، كنا نكمن لهم، ومروا قريبا منا، خافيز هذا وزوجته ساندرا في عربة واربعة فرسان لحمايتهم، لكن الجبناء فروا منا، وامسكنا بخافيز وزوجته وكان معهم طفل رضيع، عندما وقفا امامي، عرفتها، ساندرا، فغلى الغضب في صدري وصرخت بها..

 (4)
امام قادته قدم خافيز الخطاب التالي الذي حفظته حكومة مقاطعة اندلوثيا في سجلاتها الرسمية:

(سادتي، اماكن عديدة هي التي نلت فيها شرف الخدمة في جيش صاحب الجلالة وكنيستنا الكاثوليكية المقدسة، من مسقط راسي جيرونا وبلباو وسان سباستيان وكومبوستيلا حيث نلت بركات كثيرة في ضريح منقذنا القديس ياغو ذباح الاندلسيين الكفرة، حتى نقلت من قرطبة الى غرناطة وفي البحر حاربت في سفن الارمادا ضد الاتراك والمغاربة وطاردنا القراصنة والهراطقة الكفار، ثم تزوجت من السيدة ساندرا ونقلت للعمل على الارض المسيحية..

في الطريق الى غرناطة سادتي التي قصدتها مع زوجتي لاستلام مهامي الجديدة، هاجمنا الموريسكيون، كانوا كثيرين، خرجوا لنا من الادغال وكانوا مسلحين بالسيوف والبنادق، فهرب الجنود، اقولها متأسفا، هؤلاء الجنود خانوا شرف قشتالة وكانوا جبناء، تركت لوحدي امام جيش من الموريسكيين وكانت زوجتي معي وابننا الرضيع ليون، قائدهم موريسكي اسمه مارتينو، اعرفه كان من فالنسيا، فاشفق علينا، للامانة المسيحية اقولها، الم يامرنا السيد السيح بالامانة في القول، كانت انفاس العذراء معنا فلم يعتدوا علينا ولم يتحرشوا بزوجتي كما يفعل جنودنا معهم ..

قال لنا مارتينو الموريسكوس:

لماذا اخذتم مزارع التوت التي سقيتها بروحي وانفاسي، ودودات الحرير، باي حق سرقتموها؟ لماذا، صرخ، تكلما، ولم نتكلم سادتي، كان غاضبا جدا، وادركت انه سيقتلنا، فرسمت علامة الصليب بقلبي وصليت السلام على مريم شفيعتنا.

 سادتي اولئك الموريسك يحبون بساتينهم كما نحب الخمر، انا اعرف قصة مارتينو هذا، اتهم باغتصاب مؤمنة مسيحية من فالنسيا فاعتقل وضرب وكسرت اسنانه الكمثرى الخشبية التي دفعوها في فمه، لكن الديوان المقدس رأف به وخفف الحكم عليه بالعمل على سفن الارمادا لعشر سنوات، كان جريئا ومغامرا فاستطاع الهرب من جنودنا، ولم يره احد، حتى وقعت انا وزجتي ساندرا بيده..

سادتي اقسم بالعذراء انا الى الان لا اصدق كيف تركونا، لكنه بعد ان هدأ، قال لنا لاجل هذا الرضيع لن نؤذيكم، لااريد ان نراه يتيما، اذهبوا، اوصلونا مسافة ثم تركونا على مشارف غرناطة.

 (5)
-
ارجوك بيدرو – قال باستن – انا لا اصدق، اي قلب شفيق تحمل؟ كيف عفوت عنهما؟

- اسمع اخي، قبل ليلة كان علي الخير يحدثنا عن طفل الحسين الرضيع وكيف ذبحوه وهو عطشان، تذكرته عليه السلام، وانا ارى الرضيع بين يدي ساندرا، فقلت لنفسي الغاضبة، لا، لن افعل مثلهم..

اسمع اخي، حين ترى قمرين زوجتي قل لها توصل سلامنا انا وفاطمة الى علي الخير والى اخي كريم، قل لها، كريم كاسياس وستعرفه.

-                     هل هو اخوك؟

-                     لا، صديقي هو مثل الاخ، اسمه الاول زكي، وعمدوه عندهم في كنيسة غرناطة باسم زاكاو، دلني على خفايا تجارة الحرير في سوق القيصرية، وصار صديقي، كان حطابا، وكنت احاول العمل من جديد في الحرير، تمهيدا، لما نويته في التسلل الى الشاطيء الاخر، وفي احد الايام اخذ احد نبلائهم، حمارة هذا المسكين وحطبه وضربوه، لكنه لم يسكت فرد عليهم بضرب زيات قشتالي، وجاءني هاربا فقد عرفه الزيات، اخفيته يوما ثم اخرجته من غرناطة ليلا، وزودته برسالة الى قمرين لتساعده بايجاد عمل، وقد بلغني انه تورط في مشاجرة اخرى هناك، فهرب الى الجبال، ولجأ الى علي الخير ايضا، وكنت قد حدثته عنه، ووصفت له مكانه، وكريم كاسياس هو الاسم الذي تنكر به في اشبيلية.

طابت اوقاتك صديقي لقد اتعبتني، لكن تعبك راحة لي اكيدا، في امان الله.

خيمة العدوة، نصبت وكذلك خيمة بلد الوليد، نسيت ان اخبرك، احدى الظواهر الغريبة في المخيم، ان بعض الخيام كانت تقوض وتختفي بمجرد ادائها لدورها، فيما تنهض خيمة جديدة او اكثر، تبدلات المخيم تتم بتناغم وانسجام مع مجريات السرد فيه، مع الحكاية الام، حمام قمرين، بعضنا اقترح تسمية مخيمنا، باسمها، حمام قمرين، واخرون، رأوا ان نؤطر حكاياتنا بها كعنوان عام، لم تفرز حواراتنا بعد رأيا جامعا، والى ان نتفق اسرد عليك حكاية خيمتنا الجديدة، بلد الوليد ..

في كاتدرائية اشبيلية، سجل زواج الكاثوليكيين، كولاني الايطالي , وكامرينا الموريسكية، وكانا متقاربين في العمر، وحسبما نقل عن حامد الاندلسي، ان هذا لم يكن زواجا فعليا، انما وسيلة آمنة لسفر قمرين وابنها الثاني عمار مع بيتر باستن الحامل لاوراق ايطالية مزورة باسم السنيور كولاني، ويؤكد ان والده يبدرو في حينها لم يزل حيا وكلاهما باستن وقمرين يعلمان بذلك، بل ان هذه الخطة اتفق عليها بين باستن وبيدرو، قبل افتراقهما عند ساحل ملقا..

بقي حامد بن قمرين وحيدا من عائلته في اشبيلية وعمل بكتابة القصص وبيع وطباعة الكتب، وغدا جزءا من اوساط الادباء الاسبان هناك، لكنه كاد ان يسجن عندما كتب قصة فروسية عنوانها..

الكوندي دي ليريا
الكوندي دي ليريا الفارس العظيم لكنيستنا الكاثوليكية المقدسة، كان معاونا للمقدس الكاردينال ثيسنيروس، وكل رجال كنيستنا عظام ومقدسون، لكن الكوندي دي ليريا كان ملتزما باداب الفروسية القشتالية المقدسة، وفروسيتنا يا سادة مقدسة ايضا، كل ما عندنا مقدس طبعا، وكان دي ليريا شجاعا جدا، جدا، جدا، حتى انه عندما كان يقود خمسين من خيرة فرساننا المقدسين، نعم سادتي فرساننا مقدسون، وقائدهم الشجاع جدا جدا مقدس اكثر منهم، ولانه كذلك، وحفاظا من حضرته المقدسة على قداسة نفسه، لم يعرض نفسه لخطر الاشتباك مع المرتدين عن ديننا المقدس من المورسكيين، الذين خانوا قشتالة المقدسة، وتآمروا عليها مع المغاربة الكفرة، اعذروني سادتي من كثرة تكراري لكلمات القداسة، هكذا ينبغي تبجيل ديننا ورجالنا امام اؤلئك الهراطقة والمشعوذين، اقول سادتي ان الكوندي دي ليريا، لانه مقدس، ادار جواده وعاد خببا الى غرناطة، بل أنه لاهتمامه بقداسته لم يلتفت خلفه ابدا، وترك رجاله يقاتلون المرتدين، وبهذا فقد قدم لتاريخنا المقدس خدمة كبرى لبقائه حيا، بينما قتل الهراطقة اكثر رجالنا واسروا عددا اخر منهم ولم ينجو الا القليل، وان فاته كما رأى الكاردينال ثيسنيروس المقدس، فاته ان يتبرك بذبح الموريسكيين مثل النعاج.. ولان الكوندي دي ليريا، لا احد اكثر منه اخلاصا للكاردينال ثيسنيروس، فقد تلقف الوصية جيدا وانطبع كلام الكاردينال بعقله وحفظه كما يحفظ اوقات طعامه، ولهذا اسرع حين علم بان العشرات من الموريسكيين ممن لا يستطيعون القتال قد لجأوا بعد هدم دورهم الى مسجد قريب، اسرع المقدس دي ليريا، وهو يحفظ كلمات المقدس ثيسنيروس ومعه عدد اكثر من السابق من الفرسان، المقدسين ايضا، وان كانوا مقدسين بدرجة اقل من دي ليريا، كما ان الكوندي دي ليريا اقل قداسة من الكاردينال ثيسنيروس، ماذا اقول سادتي، كان دي ليريا في مقدمة فرسانه، وهكذا هم الشجعان، هكذا هي الفروسية القشتالية، كان في المقدمة، هذه المرة لم يتأخر، وانما كان يسرع اكثر من الاخرين، وما ان وصل، حتى امر رجاله باقتحام مسجد الكفرة، وحين عادوا اليه، عاد رجاله وقالوا له ان من في المسجد ليسوا مسلحين ويتباكون، فماذا نفعل بهم؟ نهر من سأله وهجم وهو شاهر سيفه وخلفه جنوده الشجعان جدا وذبحوا الجميع، كل كبار السن ذبحوهم، كل الرجال حتى الصبيان، وانفردوا بالنساء ساعات، ارتاحوا لساعات، ومعهم المقدس دي ليريا طبعا، كن نساء المرتدين، هن مرتدات ايضا، ثم باعوهم كلهم، الاطفال والنساء، كلهم، لكن كل واحد الى جهة، كانت اثمانهم رخيصة، وهدموا المسجد على جثث القتلى..

عندها استعاد دي ليريا المقدس حظوته عند المقدس اكثر منه، الكاردينال ثيسنيروس، وعادت الامور كما كانت صحيحة تماما، هكذا فروسيتنا المقدسة وفرساننا المقدسون.

أثارت قصة الفروسية هذه بطرافتها وإنتقاداتها الخفية ردود افعل متباينة، فقد عدها بعض الادباء إساءة للتاريخ القشتالي المجيد، وكاد هؤلاء ان يرسلوا بحامد الى السجن، بل طالب احدهم بتقديمه لمحكمة التفتيش، ملمحا الى ان الموريسكيين لايمكن ان يكونوا مخلصين لقشتالة، لكن عددا مهما من الادباء ومحبي قصص الفروسية عارضوهم ووجدوا فيها تجديدا في الاسلوب القصصي السائد، وكان لهؤلاء الغلبة في النهاية، اذ اقنعوا الحاضرين بجمال القصة واكدوا على احترامها لكل ما هو مقدس بتكراراها الرائع لكلمات القداسة، وكان اكثر المدافعين عن حامد حماسة، احد كتاب قصص الفروسية واسمه سرفانتس، وكان قد عاد لتوه من الاسر عند المغاربة، بعد ان قضى عندهم خمس سنوات، مما جعله بلا مال كما يقول، وكان كثيرا ما يقص على رفاقه من ادباء اشبيلية قصصا عن بطولاته في معركة ليبانتو التي انتصر فيها التحالف المقدس للبنادقة والمسيحيين الكاثوليك مع الارمادا القشتالي العظيم على اسطول الاتراك والمغاربة في بحر ايجه، وكان يظهر لهم يده اليسرى ويقول انها شلت بضربة سيف مغربي في تلك المعركة، ثم يختتم كل قصة بالاقتراض منهم حتى مل اكثرهم منه باستثناء حامد الذي لم يتوقف عن مساعدته بما يقدر كلما طلب منه مالا، ان حامد او خوان كما يسمى عادة نال اعجاب سرفانتس باصغائه الجيد له حينما كان يروي حكاياته عليه، كما كان حامد كثيرا ما يستضيف سرفانتس في بيته ويقدم له الطعام وهما يقضيان الوقت بتبادل الاخبار الأدبية وقراءة القصص، ومنها قصص حامد المليئة بالتهكم على طريقة قصة (الكوندي دي ليريا) والتي طلب سرفانتس سماعها عدة مرات لاعجابه الشديد باسلوبها الممتع والجديد..

لكن صداقة حامد وسرفانتس لم تستمر طويلا، كان سرفانتس حديث العهد باشبيلية التي تعج باصناف البشر، ولم يكن يعرف الاسم القشتالي الكامل لحامد، وهو خوان رودريغو، وهو مشابه لاسم والد سرفانتس المدعو، رودريغو دي سرفانتس، وما ان علم بذلك وكان قد عرف ان حامد او خوان موريسكوس متنصر، حتى استشاط غضبا واصر على تطبيق القانون القشتالي بحق هذا الموريسكي المنتحل لاسماء سادته القشتاليين، وكان القانون القشتالي يحرم على النصارى الجدد (الموريسكيون) انتحال اسم لنصراني قديم، واذا حررت وثيقة باسماء متشابهة بين نصراني قديم ونصراني جديد واخفى النصراني الجديد ذلك ولم يخبر محرر الوثائق، فعلى السلطة ان تغرم النصراني الجديد مبلغا كبيرا يدفع للنصراني القديم، ويتم اصلاح الخطأ.. وهكذا جرجر سرفانتس صديقه حامد للمحاكم، ممنيا نفسه بغرامة تغسل فقره، واصر سرفانتس على ذلك رغم تدخل صديقهما المشترك الاديب جون بيرز..

«جون بيرز هو اديب من اصل موريسكي، طرد فيما بعد عام 1609 الى تونس وهناك عرف باسم ابراهيم الطبيلي، نسبة الى نهر طبيلة احد فروع نهر شقورة في مدينة مرثية، وتقول بعض المصادر التي اطلعنا عليها في مكتبة خاصة تعود لاحد اساتذة جامعة القيروان : ان ابراهيم الطبيلي او جون بيرز هو نفسه الاشبيلي لويس بن سالم وقد هرب مع صديقه حامد الى بلد الوليد وهناك تنكر لويس باسم جون بيرز، بينما بقي حامد محتفظا باسمه، ولم يذكر المصدر وهو رسالة او ما يشبه مجلة قديمة بلا غلاف، سبب إختياره لاسمه الاخير ابراهيم ولم يعد الى اسمه السابق لويس بن سالم بعد اخراجه من الاندلس عام 1609» إضافة لموريسكي من تونس.

لكن القاضي حكم لصالح حامد، لان الاسم كما ذكر في قرار الحكم يتعلق بملاح اشبيلية و قشتالة العظيم خوان رودريغو، والمثبت في السجلات الملكية مما لايمكن محوه او الاعتراض عليه، وهو على كل حال - كما قرر القاضي - اسم مسجل قبل ان يولد سرفانتس..انتهت علاقتهما الى القطيعة، لكن المهتمون بالادب في اشبيلية لاحظوا تأثر سرفانتس باسلوب حامد في كتابة القصص وتقليده له، واصبح تأثره محل انتقاد الادباء وتهكمهم مما اوغر صدر سرفانتس على حامد وازداد بغضا له، لقد غدا ظل حامد يلاحقه ويزعجه، فحتى لو بذل كل طاقته في كتابة قصة جديدة، فان حكم زملائه مقدما، انها تقليد لحامد او مسروقة منه، وصار يشعر بعقدة الاضطهاد (البارانويا) من كل ما يذكّره بحامد..

«تقول خيمة العدوة المغربية، في اضافة قيمة :

 نقلا عن ابراهيم الطبيلي، او جون بيرز او لويس بن سالم : ان حامد لصداقته الوثيقة به اطلعه، على ما يكتبه من قصص، قبل ان يرسلها الى شقيقه عمار المسمى بالقشتالية امّارو، وهو يعمل بالتجارة بين بلد الوليد وقلعة هنارس ..

 (كتب ضيف اسباني هذا الهامش:

 هنارس هي المدينة التي يقول سرفانتس انه ولد فيها ويفاخر دائما بمكتبتها التي انشأها الكاردينال زمينز المشهور بابادته للموريسكيين عبر محاكم التفتيش وغيرها)

وكان حامد قلقا دائما من ضياع قصصه، ويضايقه كثيرا انه لم يكن يستطيع نشر اكثرها لكي لا تسبب له مشاكل كما حدث مع قصته (الكوندي دي ليريا) لذلك كان يرسل نسخة من كل قصة ينجزها الى اخيه ويوصيه بنشرها اذا سمحت الظروف بذلك، وقد انجز في ايامه الاخيرة قصة جميلة مضحكة من قصص الفروسية، وهي اطول قصصه، تتجاوز المائة صفحة، وكنت لا أملّ من الضحك عند قراءتها – يقول الطبيلي - لكني نصحته بعدم نشرها، لانها وان كانت في الظاهر تنتقد الفروسية وفرسانها بسخرية واستهزاء، الا انها بشكل خفي لا يغيب

عن القارىء الذكي تنتقد ما تدعيه حكومة قشتالة من بطولات الفروسية وملاحمها ضد الموريسكيين العزل من القوة والسلاح، ووصف حامد في قصته من يسير وراء حكومة كهذه بالتابع الغبي او الحمار، ورسم مشاهد سردية غاية في التندر واثارة السخرية من قشتالة وفرسانها..

 لم يعرف الى الان مصير قصة الفروسية تلك، لكن مصير حامد مؤلفها، معروف للاشبييلين وسكان بلد الوليد، اذ اقتاده رجال محكمة التفتيش ظهر يوم جمعة، فقد فاجأوه يغتسل ويفرش سجادته للصلاة، خرجوا به من داره، وخلفهم كان ميجيل دي سرفانتس يتمشى بانتشاء، ويثير الاستغراب لوجوده معهم.»

ارجو ان لا تكون قد تعبت، على خلاف عادتي، ساضطر اليوم للاستمرار معك، قد يلفت انتباهك صديقي، ان خيمة بلد الوليد، هي التي اعدت حكاية حامد وسرفانتس وليس اشبيلية، هذا لان بلد الوليد هي مسرح الاحداث بعد هروب حامد ولويس بن سالم، ولأن خيمة بلد الوليد جمعت مصادر الخبر ذي القيمة التاريخية بجهد خاص بها من صاحب مكتبة شخصية في مدينتهم ومن مكتبة قلعة هنارس واستطاعو اختراق نظام التشفير الالكتروني في اكاديمية التاريخ في مدريد للوصول الى مصادر لا يسمح بالاطلاع عليها، ولكن، كل سر معرض للاستباحة في عالم اليوم، كما ان اضافة خيمة العدوة المغربية كانت لافتة للنظر ايضا لاهميتها الخاصة..

 طبعا ما نشرته بلد الوليد سيثير اشكالات وليس اشكالا واحدا، فمن لديه - من الامم او الافراد - الاستعداد للتنازل عما سجل تاريخيا باسمه من الاثار الادبية

العظيمة مثل ما نشر باسم سرفانتس، الا اننا، لا نتوقف طويلا هنا، للقارئ ان يعيد قراءاته ثم يقرر، ونعود الى خيمة العدوة المغربية وما لملمته من اخبار عن بيدرو او ماركوس او مارتينو على اختلاف اسمائه القشتالية ونعني بدر بن حامد وزوج قمرين الذي ابحر الى العدوة المغربية، مستندة في ذلك الى مراجع عديدة، منها رحلة الشهاب افوقاي الموريسكي الى هولندا وغيرها، عرضت الخيمة وفرة من الاخبار والتفاصيل الدقيقة، الا اننا كأدارة للمخيم، اصررنا على ضرورة التركيز والاختصار، فقد اوشكت اجازة المخيم على الارض الاسبانية بالانتهاء وعلينا لم حكاياتنا باسرع ما يتاح لنا، من جهتي السرد والواقع المعاش معا، والعودة الى عوائلنا، في اسبانيا وخارجها، فقد غبنا عنهم طويلا، وهكذا كان ..

 العدوة المغربية
بعد عام تقريبا من بلوغهم العدوة مع بدر بن حامد وعائلته، رتب حامد لنيكولا وابنتيها السفر بحرا الى البرتغال كما اتفق مع الهولندي باستن، لكن نيكولا التي التقت ب بيترباستن اثر وصوله لشبونة ايضا ومعه قمرين وابنها عمار، اعتذرت عن السفر معهم الى لاهاي وفقا لخطتهم التي اتفقوا عليها عند الهرب من غرناطة، فقد تعرفت على بحار برتغالي وستتزوجه قريبا ليرحلوا بعدها الى البرازيل، وكانت سعيدة بما تقوله وهي تحتضن ابنتيها بحنان..

احتفت حكومة هولندا بمواطنها بيتر باستن لدوره في المخاطرة بحياته وإنقاذ أرواح العديد من المسيحيين في اسبانيا من اضطهاد محاكم التفتيش التي عانى منها ايضا شعب هولندا خلال الاحتلال الاسباني وذاق المرارة تلو المرارة كما يقول نص قرار التكريم، لكنه لم يبق في لاهاي طويلا فقد استغلت حكومته اهتماماته العربية ووجود قمرين وابنها معه، لتبعثه الى العمل في مكاتب شركة الهند الشرقية الهولندية خارج هولندا..

بعد ثلاثة اعوام من العمل في اندونيسيا، وكان عمار قد اصبح المساعد الاهم لبيتر، انتقلوا الى الخليج العربي او خليج البصرة كما تسميه الخرائط الهولندية، واثناء إبحارهم في الخليج تعرضوا لهجوم من سفن صغيرة سريعة الحركة، تسميهم المصادر الهولندية بالقراصنة العرب، ويظن انهم من القواسم لقرب الهجوم من سواحلهم وقيل انهم من الخواري عرب جزيرة خرج، وقد قتل بيتر باستن خلال المعارك، فيما استطاعت سفينة حربية هولندية انقاذ عمار وامه قمرين ونقلهما الى البصرة، ونقلا عن ارشيف الشركة فان عمار، او امارو، سكن منطقة العشار في البصرة مع امه وتزوج من فتاة بصراوية، وقد تنقل في عمله بين مكان قريب من ميناء المعقل حاليا، اعلى شط العرب، وبين الفاو اقصى الجنوب العراقي، حيث انشأت الشركة الهولندية هناك فنارا لرصد السفن او ارشادها، وانتهت اخباره هناك اذ طاب له اهل البصرة واحب عشرتهم فبقي فيها وصار كأحدهم بعد انتهاء اعمال شركة الهند الشرقية الهولندية في البصرة.

عادت خيمة غرناطة الى الظهور القوي بحكاية فاجعة، وهي بتعبير ادق، إخباراً عن المرسى الاخير لحياة مبدع دمية المايوركا، كريم كاسياس، او زكي الحطاب الغرناطي الشجاع..

 صيد الرؤوس
حفل زواج كريم وكناري اواخر عام 1567، كان بسيطا، ولو شهدته قمرين لتقطعت ألما، كانت تحلم بزفاف بهيج لابنتها في اشبيلية، ولكن لامقارنة عند قمرين بنت الاشراف وصاحبة القرآن، لامقارنة عندها بين الفونسو اللعين ونظراته الوقحة لابنتها وبين كريم الحطاب الفقير والمطارد، لالشيء، سوى انه مسلم اندلسي حر، لايقبل الذلة ولا الهوان، لذا أوصت حامد ان يخرج بأخته الى جبل البشرات ويزوجها من كريم، وربما كانت هذه - وفقا لبعض المصادر- وصية بدر والد كناري نفسه..

 مع زواجهما وبعده بأشهر، اندلعت اقوى واوسع واخر ثورات الاندلسيين، وكان كريم في المقدمة كعادته، وكان استاذه وقائده، علي الخير الاندلسي، قدوة لهم - على كبر سنه - في الاخلاق والشجاعة والقتال..

 قاد المعارك الضارية ضد الثوار الاندلسيين الدون خوان النمساوي بنفسه، الاخ غير الشرعي لملك قشتالة فيليب الثاني، واسرف في القتل والتنكيل بالموريسكيين، قتل الاسرى من الثوار بلا تردد، اغتصبت النساء وبيعت كجواري، وتم التفريق بين الامهات واطفالهن، الذين تم بيعهم ايضا، وأمر بقتل الالاف من الصبيان الصغار، وفي اجواء كهذه عاشت كناري، متنقلة مع زوجها من مكان الى اخر، ومن معركة لثانية، وهكذا عاشا اربعة اعوام انجبت خلالهما ولدين اسميا الاول حامد، تيمنا بخاله حامد بن قمرين، والثاني، عمار، باسم خاله الاخر، وكان العام الرابع اصعبها فقد اخمدت الثورة الاندلسية الكبرى عام 1571، وما تلاه كان عمليات مطاردة وحملات واسعة شارك فيها اغلب القشتاليين جنودا وغير جنود

لاصطياد الموريسكيين، اذ ان الدون خوان النمساوي، ويسميه المواركة، بالنغل، كونه ناتج عن زنا الجرماني كارلوس الخامس ملك قشتالة بأمه، قام بعد خداع الثوار واعطائهم وعود الامان التي لم يف بها، قام باصدار تخويل عام لكل القشتاليين، فمن يصطاد امرأة من نساء الموريسكيين المتمردين فهي ملكه، حتى الصغيرات منهن، وكذاك الاطفال، اما الرجال، فكل من يأتي برأس موريسكي فله 20 دوقة ذهبية..

وهكذا إشتهر عند القشتاليين ما سمي بصيد الرؤوس، فكانوا يخرجون لحفلات الصيد جماعات، كما تخرج فرق صيد الطيور او الغزلان وما شاكل ويتفاخرون كل منهم بعدد الرؤس التي اصطادها..

تدخلت خيمة البشرات بايراد قصاصات سرد، او جمل قصصية معبرة، لكنها ذات علاقة بحكاية صيد الرؤوس..

مبيد المواركة
الدون خوان اوستريا

(مبيد المواركة)

كان اميرا من قشتالة

لكن امه لم تتزوج قط

وعلى صدرها – كما يقال - تمخط كارلوس الملك.

الأندلسية مريم
مع صرخات فتاها الذي يمزق الان

كانت الاندلسية – مريم - تتلوى

ومن على سريرها الذي إعتلاه قشتالي

ارتشقت عينها ..

على النافذة.

يعد نقوده
عشرون، اربعون دوقة ذهب، ستون

كان القشتالي يعد الرؤوس المدماة،

لكل رأس عشرين،

كأنما يعد نقوده.

كانوا يتضاحكون
ببرود..

لم يأخذوا معهم سوى رأسه

ومن خلف الاكمة،

كم تمنت لو تلحق بهم، لتقبله!

وكانوا على افراسهم..

 يتضاحكون

 اعطت خيمة غرناطة وقتا كافيا للبشرات، شقيقتها وجارتها، وكأن الامر متفق عليه بينهما، ثم عاودت سرد حكايتها، صيد الرؤوس

صيد الروؤس 2
آن لرأسه الاندلسي ان يترجل عن جسده، كريم كاسياس، مبدع المايوركا الجميلة، كما يسميه الاندلسيون في اشبيلية وفارس البشرات، او، ذباح القشتاليين، كما يسميه الشماليون..

في تلك الساعة من الضحى، تحاوشوه، كان جريحا، وكان خائر القوى ويقاتل، على مبعدة منه، خلف الصخور اختبأت كناري واخفت طفليها، الرضيع في حضنها، كتمت فمه، والاخر، حامد، اصطكت اسنانه، واندس تحتها، رأته، كما تعرفه، بضراوة يقاتل، ثيابه قطعة دم ويقاتل، وكانوا كثيرين، اكثر من عشرة، ورأتهم يقطعون رأسه بوحشية، ربما اغمي عليها للحظات، علق احدهم الرأس بسرج جواده، ومضوا، كأنهم اصطادوا ارنبا او حمامة، وكانوا مبتهجين..

تركوا لها جسده ولم يروها، خاف الصغير حامد ولم يعانق ابيه، او جسد ابيه مثلما عانقته امه، ثم بعد ساعات جاء اخوة له، اندلسيون، ودفنوه..

بقيت كناري في رعاية علي الخير، كان يرى فيها ابنته فاطمة والتي علم انها توفيت بعد عبورها الى العدوة المغربية مع زوجها بيدرو، والد كناري، ووضع كل همه – بعد اخماد الثورة واستشهاد تلميذه ورفيق دربه كريم كاسياس - في النجاة بها وبولديها حامد وعمار، وقرر المجازفة والنزول من الجبال للابتعاد عن غرناطة وعن الاندلس الصغرى كلها، لكنهم فوجئوا بغارة للقشتاليين لم يتوقعوها، كانت كمينا، سارعوا بالصعود الى الاعالي، موريسكيون وعوائلهم، لامجال للاستسلام، يعرفون النتائج، الصخور وعرة، والقتلة وراءهم، اخيرا لجأوا الى مغارة ضيقة المدخل، واستعدوا للقتال، ادركهم المطاردون، لكنهم عدلوا عن اقتحام المغارة بعد مقتل العديد منهم، ثلاثة جنود او اربعة قتلوا، حامد لايتذكر الحادثة الا غائمة، علي الخير، قص عليه تلك الحوادث وتفاصيلها فيما بعد..

جمع القشتاليون الاغصان، كوموها امام باب المغارة، كأنهم اعتادوا فعل ذاك، ثم اشعلوا النار، وكان بعض الاغصان رطبا، وامتلأت المغارة بالدخان، علااالصراخ في الداخل والسعال، اما في الخارج فقد ابتهجوا، وعلت صيحات ابتهاجهم، وكانت سيوفهم مشرعة بانتظار من يهرب من النار او الاختناق، اندفع فتى في الخامسة عشر، اخترق النار فعلقت به، نحيفا كان وسريعا حين اندفع، فارتبكوا، اخافهم لاندفاعه مشتعلا، ثم تناوشوه، بسيوفهم وتركوه مدمى ويحترق..

 سمعوا بعض الاستغاثات من الداخل بالقشتالية، فتبادلوا النكات والضحكات، وبعدها اندفعت ام ورضيعها، وجهها اسود من الدخان، ركضت وهي تصرخ، ومع انها اجتازت النار بسلام، لكنهم مزقوها بخفة هذه المرة وبسرعة، رموا للنار اغصانا اكثر، وكان الظلام وشيكا، فانسحبوا وهم حذرون خوف ان يهاجموا وكانوا يتلفتون، وخلفهم النيران تتراقص السنتها أعالي البشرات، كأنها تطاردهم..

من المحرقة نجا القليل من المحاصرين، وقف علي الخير وبيده حامد عند كناري، على صدرها لم يزل نصف أمارو، رضيعها، وقريبا منها نصفه الاخر، ذراعه الصغيرة الناعمة و بعض صدره، وكانا مصطبغين بالدماء والرماد.

جنوب البرتغال، قريبا من البحر، عاش علي الخير ومعه الصغير حامد، بقيا بانتظار بيدرو وحفيده محمد، عاش علي الخير سنوات، ثم ترك حامد شابا ومات، تركه وفي صدره عبأ كل ما يعرف، علمه القرآن سرا والعربية والخميادوا البرتغالية والقشتالية ايضا، سقى قلبه الصغير رشفة رشفة، الخير والسلام والمحبة للناس ومضى عنه، كأنه معي الى الان، قالها حامد لخاله عمار بن قمرين، حين التقاه في البصرة..

 ((مداخلة بلا اسم : لم يأت بدر للبرتغال ولا محمد حفيد علي الخير، ولم يسمع عنهما احد، فقد قيل انهما غرقا في البحر، وقيل ايضا ان قراصنة اسبان اسروهما، قتلوهما او رموهما في البحر..))

عاد المدريديون الاربعة الى الاضواء بمساهمة جديدة، اكثر من رحب بها اعضاء خيمة اشبيلية، لان الرسامين تناولوا بمساهمتهم قراءة للاشارات المتبادلة بين اربعة نصب في اشبيلية..

1-              تمثال حامد الملاح او خوان رودريغو

2-              تمثال فرديناد زوج ايزابيلا

3-              تمثال الخيرالدا اعلى كاتدرائية اشبيلية

4-              قبر كرستوف كولمبس

عنونَ المدريديون قراءتهم ب كارمن، قد يتضمن هذا الاختيار تكريما ما لزميلتهم الرسامة كارمن، لكنه كان احتفاءا بذكرى كارمن بنت كولمبس وزوجة الملاح حامد رودريغو، لم يذكروا صراحة سبب التسمية، اكتفوا بعرض لوحتهم، الاخيرة، الرائعة، وكانت ختام المخيم، مخيم المواركة..

كارمن
كارمن ليس اسما، كما انه اوسع افقا من كونه عنوانا، كارمن تجسيد او اختزال لاربعة نصب تحتفل اشبيلية بستان ملوك الاندلس وعروس اسبانيا باحتضانها، واذا كان المخفي أو المسكوت عنه اكثر إغراءا في العادة من المعلن واللامحظور، فإن كارمن الايطالية غدت محطا لإشارات الاربعة، وملتقى لما يبث من تردداتهم، كارمن الراقدة تحت قدمي زوجها وحبيبها خوان رودريغو، او، حامد الملاح الاندلسي، والتي لم ينشِء الاسبان لها نصبا او رسما، نراها الان تتطلع الينا وتملأ مدى الاشارات كله بابتساماتها وهي ترى كرستوف كولمبس والدها يكتب بريشته اسم خوان، زوجها، كأول من رأى تلك الارض، الارض التي اغرقت اسبانيا واغرقت البرتغال جارتها بالذهب، واغرقتها الايبيريتان، اسبانيا والبرتغال، بالدم، الدم والفظائع..

«يقول كارلوس الناقد الارجنتيني نقلا عن رواية إنيس لايزابيلا اليندي: ان الاسبان اذا ارادوا تحريك مفرزة من فرسانهم في براري امريكا الجنوبية، يقوم كل فارس باختيار فتاة مرضعة او اكثر من الهنديات بعد ان يجبروهن على ترك اطفالهن لمصيرهم، قد يقذف الفارس بالرضيع جانبا فيتهشم امام امه، او تسرع بتركه او اعطائه لاقرب هندية، تربط المرضع الهندية بحبل ويجرها الفارس خلف جواده ماشية، يفعلون كل هذه البشاعة والوحشية والقسوة، فقط للاحتياط، لكي يرضعون اثدائهن اذا تعرضوا للجوع او العطش في وسط الصحراء».

«حول تعليق الارجنتيني ذكرت كارمن لوحة كلاسيكية يظهر فيها عجوز سجين جاث على ركبتيه امام ابنته التي كانت تجلس على مصطبة وتنحني على ابيها وهو يرضع ثديها، كانت تطعمه..وعلق مثقف من شيلي : ثمة فرق كبير بين ابنة تزور اباها السجين لتنقذه من الموت جوعا او عطشا وبين اسيرة يتنزع منها رضيعها بالقوة وتساق ماشية عبر الصحراء لتطعم فارسا قاسيا لا تعرفه، وقد لا يحتاج اليها وتموت هي من الجوع او الارهاق، او من الحنين الى رضيعها.»

كارمن، اذن، تعني شعوبا امّحت ألوانهم، شطبت برصاص الاسبان ووحشيتهم، المايا، الازتيك، سلالات الهنود الحمر العريقة، وتعني وهي تتنقل باشاراتها بين تمثال فردينالد وبين تمثال خوان الموريسكي، زوجها، تعني الاندلس..

كارمن عند قدمي حامد بن الحاج هلال ترقد، ووجهها تجاه الشرق، الى الجنوب قليلا، هل ستبقى كارمن هكذا، تصلي تجاه الكعبة الى الابد؟

قراءاتنا الاربع هي كارمن وان توزعتها الانصاب الارب

(1)
ولدت الكاتدرائية الاكبر في العالم الكاثوليكي، كاتدرائية اشبيلية، او كاتدرائية سيفيا، ولدت من رحم مسجد، عناق وأمومة، هكذا نقرؤها نحن في خيمة مدريد، ولنا ان نهمس بها في اذن المدينة العاصمة، مدريد.. ثمة مسجد في اسطنبول، المسجد الاعظم، انجبته كنيسة ايضا، كنيسة ايا صوفيا، بعضنا انجب بعضا، وكلنا للسماء..

 (2)
الخيرالدا ايضا، فارس الرياح، رفعته المأذنة، وبدأت حكاية التمثال المشير الى جهة الريح في ليالي بغداد، الف ليلة وليلة، وله، عن طيب خاطر، هزت اشبيلية تفاحاتها الاربعة فتساقطن، هزها الزلزال فتساقطن ليتربع الخيرالدا عاليا، والى محله ربما، يتمنى فردينالد، لو يطير، يتمنى، لكنها الراية المثقلة بدمهم، دماء الغرناطيين الذين ذبحوا تحت رايته، تثقله، وسيظل هكذا، مثقلا بدماء ضحاياه ويتمنى..

وهناك في الشرق ايضا، في روسيا، سيتلقف بوشكين ما قرأه في الليالي البغدادية او نقله عن واشنطن ايرفنغ ويكتب عن ديك الرياح، انجب الخيرالدا ديكا صائحا، لا شك انه كان وريثا للمؤذن فجرا، لذا باض الخيرالدا فولد ديكا، حبة حبة سيلتقط الديك الذهبي رمانته..

وعلى مبعدة كان فردينالد يردد : سنلتقط غرناطة، حبة حبة كالرمانة.

عاش الديك آكل الرمان الروسي،

وفيفا فردينالدو آكل غرناط

 كل شيء احمر
كل شيء احمر في غرناطة

اسمها..

وقصرها..

علم الثوار الموريسكيين في حي البيازين، احمر..

وعلى باب الرمان، تحت راية فردينالد،

 دماء الغرناطيين، لم تبهت بعد.

«ترى هل سيعزف كورساكوف اوبرا الديك الذهبي لو كان يعلم بكل هذي الدماء»

 (3)
يرقد كولمبس، يرقد لا اكثر، وبحسرة، فالخارطة البحرية التي أباحها لقشتالة من ارض وذهب وهنود، وقع عليها امريكو باسمه ونسي كولمبس، هكذا، كلعنة الاهرامات ابعدته غرناطة عنها، يتطلع الان الى مساعده رودريغو، ينتصب ليس بعيدا عنه، تمر به اشبيلية صباحا، وتنسى كولمبس، حتى النسور التي رافقت اشرعته الى هناك كتميمة حظ، تحوم الان حول الخيرالدا ولاتحط عليه ولا تذرق حتى، كأنما لم يكن كرستوف كولمبس جنديا دخل غرناطة مع قوات جنوى..

لعلها ذات اللعنة التي اهلكت ثلثي سكان اشبيلية القشتالية منتصف القرن السابع عشر للميلاد؟

المؤرخ خوسيه ماريا دي سينا سيذكر - ايضا - زلزال مدمر بعد قرن اخر، لعنة من هذه؟

 (4)
رودريغو، حامد، الملاح الاندلسي، يتذكر الثلاثة، هلال و بدر، اباه وشقيقه وابنته قمرين، ويبكي..

الايطالية كارمن ترنو اليه وتبكي..

ترى هل تذكر الان اباها، كولمبس؟

الكل نسوه، نسوا كرستوف كولمبس، فاتح الطريق لابادة الهنود ..كلهم نسوه

لكن خوان رودريغو لم ينس تعاليم ابيه، تذكرها حين مات زميله البحار وكان موريسكيا ايضا، فدفن خوان صاحبه الموريسكي هناك في اول الجزر، تذكر الحاج هلال والده وهو يدفنه، ولم ينس القبلة.

بعض الخيم لم يستسغ ما قدمته خيمة مدريد، لانهم كما قالوا غايروا به السرد السائد، لكن اخرون، عدوا قراءة المدريديين ممتعة، وتابعوا ايماءاتها، كانت ثرية وموحية كما قالوا، كأني اراك صديقي مستمتع ايضا، اذن لاحاول رسم لوحتهم الاخيرة لك..

 من فكرة اللوحة المزدوجة او المتحركة التي ابدعها يحيى المجريطي واعاد تنفيذها بموضوع مختلف مواطنه وسميه يحيى المدريدي، انجز الرسامون الاربعة معا لوحة لايمكن توصيفها بدقة على انها لوحة وكفى، هي مجموعة لوحات تتوالد دون توقف، لوحات اكثر من تعد، تماما، مثلما الطيف الشمسي مجموعة الوان لا يمكن عدها، لكن بعضها يكمل بعضا، وان كانت في نفس الوقت واضحة الاختلاف والتباين، باختصار كانت لوحات تتحرك مشاهدها على الشاشة وتتغير، تشد المتلقي ثم تختفي، لتولد اخرى محلها، تتمازج ببعضها، وبعضها يولد من بعض، لكنها جميعا تشكل بانسجام لوني بديع اللوحة الام، وكان اسمها..

وردة السلام :مايوركا
المشهد الذي لم ينسه المواركة حتى بعد ان حزموا خيامهم وحقائبهم وعادوا للشتات من جديد، هو مشهد الخيرالدا الجديد الذي رسمته أنامل المدريديين على الشاشة الكبيرة وسط المخيم..

كما تتشكل غيمة خفيفة تشكلت كاتدرائية اشبيلية، بانت الارض اولا، رشتها بنات اندلسيات بالخضرة، فامتلأت ورودا والوانا، قبلها، مر فينيقيون، مر هاني بعل، ثم ايبيريون اوائل، ومر القوط الجرمانيون، وحل لثمانية قرون واكثر، المسلمون..

 نما المبنى كما تنمو الزروع بتأن، مسجد اشبيلية امامنا، باعمدته وبهو البرتقال فيه واروقته، وتصاعدت المأذنة، وعلى سلمها الملتوي يصعد المؤذن على فرسه، يصعدها خببا ويؤذن للصلاة، آسر صوت المؤذن، شق اللوحة وانتشر في المخيم، وكاشجار التفاح في اشبيلية، اثمرت المأذنة، تفاحات اربع، إنما من ذهب..

ثم اندفع الشمال الاسباني، رسمته اللوحة يندفع، عبر جبال البيرانس اندفعوا، ومن اشتوريا، من صخرة بلايو والكوفا دونكا، ومن البحر، ورنت الاجراس، اجراس الكنائس، جرس الكاتدرائية الكبير، شدت المخيم دقاته، وارتعش، وفي مشهد مؤثر، تهادت كأنها تطير، تفاحات الذهب وتحت الكاتدرائية سقطت، ثمة حرائق صغيرة في ميدان إشبيلية، وثمة استغاثات، وثمة بشر يحترق، امتلأت المشاهد بالنيران المقدسة على اتساعها، وكان الخيرالدا فارس الرياح شيئا فشيئا يرتفع، يقص خطى المؤذن صاعدا، وبرمحه يطعن كل الجهات، يهش الحمامات كي لا تحط عليه، وفي لمحة، فز منها الحضور جميعا، اختفى الخيرالدا المسلح، هدمه المدريديون بريشاتهم، وبدلا عنه، نحتوا تمثالا لمايوركا جميلة ساحرة، حلت محله، كمايوركات كريم كاسياس كانت، اطمأنت قلوب الحاضرين لها، رفرفت حمائم حولها، كأنما تطوف، وكانت جمل بكل لغات ايبريا تدور، دوار المخيم تدور، كلمات السلام، وكانت الاخيرة منها تقول ومعها كانوا يرددونها

السلام لاسبانيا، وطني الحبيب

السلام على الاندلس،

وحل السلام..

شاعت نسائم السلام في المخيم وعم التسامح مع ما عرض من مشاهد وحكايات وراح الجميع مواركة واسبان، قشتاليون وكتالونيون وبشكنس واندلسيون، بعضهم يهنأ بعضا على نجاح المخيم ووسط هذه المشاعر الطيبة وزعت اخر المشاركات التي لملمت الحكاية، حكاية قمرين، ام الحكايات، وكانت لخيمة العدوة المغربية، وفاءا لاهلها جعلوها مسكا للحكاية..

ظل حامد بن كناري يتسقط الاخبار حتى عرف إن جدته قمرين في هولندا، ولم يكن قد رآها من قبل، لكنه كان كمن عاش في احضانها من كثرة ما تحدث له علي الخير عنها، خاصة حين اخبره برحيلها الى هولندا، واوصاه بالالتحاق بها حين حضره الموت، فابحر الى هناك سرا، وكانت البرتغال في تنافس وحروب بحار مع هولندا بعد سيطرة الاسبان على البرتغال وتوحدهما تحت حكم مدريد عام 1580 وما بعدها، وهناك، في لاهاي، علم برحيلها مع خاله عمار الى البصرة، وكان يتابع اخبارها مذ رحلت، ثم قرر اللحاق بهما، فعاد اولا الى البرتغال، لم تذكر المصادر التاريخية سبب عودته، ثم رحل مع سفن الارمادا البرتغالي الى خليج البصرة، وكان معه على نفس السفينة المؤرخ والرحالة البرتغالي بيدرو تخسيرا، وكان هذا يهوديا مكثلكا، رتب سفره لتحاشي محاكم التفتيش بعد تصاعد نشاطها في البرتغال اخيرا..

صارا صديقين، وكان حامد متعمدا صداقته، فمن خلاله بلغ البصرة، وهناك بحث عن جدته قمرين، وكانت قد ماتت، والتقى بخاله عمار، افضى كل منهما للاخر بما يعرف، كان حامد قد تجاوز الخمسين، وكان اصغر من خاله بثلاثة عشر عاما، بقيا كاخوين، وانتهت اخبارهما هناك في البصرة، لكن ثمة نتف معلومات متفرقة تشير الى ان حامد فارق خاله اشهرا وذهب مع بيدرو تخسيرا الى مدينتي النجف وكربلاء وزار اضرحة اهل البيت عليهم السلام كما اوصاه علي الخير حين وفاته، وثمة خبر يقول ان حامدا تزوج شقيقة زوجة خاله، وعاشت العائلتان في دار واسعة واحدة، لم يسموا صبيانهم بغير هلال وبدر وحامد وعمار وعلي وكريم وسموا بناتهم جيلا بعد جيل قمرين وكناري وفاطمة..

هل ادركت صديقي الان، لماذا سماني ابي بعمار، عمار اشبيليو؟

انا لم استطع على الرغم من كل ابحاثي وتدقيقاتي ان اعرف لمن انتسب تحديدا، لحامد بن كناري ام لعمار بن قمرين؟ الذي كان معروفا بعمار اشبيليو، لقب به وجوده في اشبيلية حيث اعتاد الموريسكيون مناداته به..؟

كما اعترف بأني عجزت عن التحديد الدقيق، عمن كان عمار اشبيليو يروي، عن اي حامد؟

حامد بن قمرين الذي اخذته محكمة التفتيش في اشبيلية في بلد الوليد ام حامد بن كناري الذي سكن البصرة؟

كلاهما كان مؤلفا، وكلاهما كتب الكثير عن سيرة العائلة وتاريخ الموريسكيين، وكل منهما كان اديبا وكاتبا للقصص والحكايات..

فمن منهما حامد الاندلسي الذي كان عمار اشبيليو الاول يروي عنه، وينسب كتاباته اليه؟

بعض الابحاث تشير الى ان المقصود هو حامد بن قمرين الذي يذكره سرفانتس، اكثر من مرة، كمصدر لحكاياته عن دون كيشوت، ويسميه، سيدي حامد العربي..

 لكن حامد الاخر، بن كناري، كان كخاله مؤلفا بارعا وكاتبا جيدا، وقد عرف ادق التفاصيل عن سيرة عائلته وتاريخ الاندلس والمواركة من مربيه واستاذه علي الخير..

حدائق الاندلس
انتهت الرواية، او هكذا ظننت، فخرجت بأولادي للتنزه، كما وعدتهم، فقد تأخرت في انجاز وعدي لهم باصطحابهم للتنزه في حدائق الاندلس، بمحاذاة ميناء المعقل في البصرة، اخرني عمار اشبيليو حين تدفقت رسائله وحكاياته على بريدي الالكتروني، والان، حلت حبال مخيمهم، المواركة، وعاد كل الى بلده، كنت كمن خرج من حمام بخار ساخن، اشعر بالخفة والارتياح، فقد انتهت الرواية، رواية (مخيم المواركة) هكذا سماها مؤلفها، عمار اشبيليو، فرحي وارتياحي انعكس على لعبي مع الاولاد في حدائق الاندلس، وفجأة رن هاتفي بنغمة الانترنيت الخاصة به، ب عمار اشبيليو، وفتحت رسالته..

«السلام عليكم، صديقي العزيز، انا الان اتنزه في حدائق الاندلس، قريبا من ميناء المعقل، والهو مع اولادي، اين انت الان؟!»

 

 - انتهت -