كان الحاج السعيدي شيخا مسنا في السبعين ونيف من عمره ، يعيش في منزل متواضع في قرية " نوينويش" التي تبعد عن دكانه المنزوي في ركن من حي " بئر الشعيري" بسوق قصديري قديم ببني مكادة إحدى مناطق طنجة الأكثر اكتظاظا مسيرة ساعتين من الهرولة. بيته صغير مسقوف بالخشب والقصب والقصدير، به حجرتان ضيقتان وفناء ترابي ومرآب يجمع فيه بضاعته الخزفية التي كان يكسب قوته من بيعها. كان منظره يفرض الكثير من الاحترام على كل من يراه كل صباح جالسا أمام دكانه المتواضع مرتديا جلبابا ممزقا ومرقعا بقطع أثواب قديمة، ومنتعلا بلغة بدا عليها أنها صحبته منذ زمن طويل، منذ أن فارقته زوجته التي لم تخلف له ولدا فآلى على نفسه أن يعيش على الكفاف ما تبقى من عمره حزنا عليها. كان نحيل الجسم، ضيق فتحتي العينين، ناتىء الوجنتين، ذو لحية بيضاء وظهر معقوف، أشعث شعر الناصية، يخفي رأسه نصف الأصلع تحت طاقية من صوف حمراء، يمشي ببطء كأنه يكابد وَهناً ما، ورغم ذلك كانت نظراته القوية وصوته الأجش الحازم، وجوده على المارين أمام دكانه من أصحاب الحاجات يكشف عن شخصية جادة ومهيبة.
كانت علاقته بأهل الحي وطيدة، يتفقد الناس أحواله باستمرار، ويسألون عنه كل يوم مرات عديدة ، يقتاتون من كلامه حكما، ومن خفة روحه دعابات لطيفة، ويلتمسون منه بركات حافظ للقرآن مقيم للخمس متعاون على البر والإحسان، وكان يلتقي عشية كل يوم بعد أن يغلق دكانه بصديق طفولته الحاج سي عبد الكريم فيقضيان ساعة من نهار يستعيدان ذكريات أيام خلت، و يذكران ما آل إليه الأمر من فساد طباع وقلة بركة.
خرج ذات صباح يبحث عن مركوب يستقله إلى دكانه ، فانتهى به الأمر في سيارة " بيكوب " يعرف سائقها، ركب في الخلف مع ثلة من أناس يقتعدون كراسي هشة من خشب، ولم تسر السيارة غير هنيهة حتى وقعت الكارثة ، انزلق السيارة حين حاولت تفادي متجاوز مجنون، فوقعت من جرف صغير وانقلبت ، ولم تمض غير دقائق حتى تجمهر الناس حول السيارة التي رفعت قوائمها إلى أعلى يحاولون إخراج الناس من داخلها، بينما أبلغ بعضهم الشرطة والإسعاف، كان كل من أخرجوه يبدو حيا غير مصاب إلا برضوض خفيفة ما عدا الحاج السعيدي الذي بدا مبتسما ليس به أية رضوض، إلا إنه لم يكن حيا. حزن الناس كثيرا لفقدان الرجل الطيب ، وأقاموا له مأتما مدة أسبوع، وصار كل من مر أمام بيته من أهل القرية ، أو أمام دكانه من أهل السوق وغيرهم يترحمون عليه ويثنون على طيبته.