يعد لسان الدين بن الخطيب، بحَقٍّ، أحدَ أعلام الأدب والفكر في الأندلس خلال القرن الثامن الهجري[i]؛ كما يظهر من كتاباته التي وصلتنا في عدد من المضامير الأدبية والفكرية والعلمية، وإنْ كانت جملة أخرى منها قد ضاعت، للأسف الشديد، لأسباب ما؛ فحُرمت المكتبة العلمية والأدبية العربية والإسلامية – نتيجة لذلك – من آثار نفيسة في حقول عدة. ويدل على مكانة ابن الخطيب العلمية، أيضاً، شهادة معاصره ابن خلدون (ت808هـ)، الذي وصفه بأنه كان "آية من آيات الله في النَّظْم والنثر، والمعارف والأدب، لا يُساجَل مَداه، ولا يُهْتدَى فيها بمِثل هُداه"[ii]. وقد حظيت الآثار الخَطيبيّة باهتمام علمي ونقدي منذ القرن الثامن، بلغ ذُرْوَته على يد أحمد المقري التلمساني (ت1041هـ)، في مؤلَّفه الشهير "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذِكْر وزيرها لسان الدين بن الخطيب"، الذي ظهرت طبعته الأولى عامَ 1855، بلِيدن، بإشراف ثلة من المستشرقين، على رأسهم رينهارت دوزي (R. Dozy). وتزايد ذلك الاهتمامُ حديثاً بإنجاز أبحاث ودراسات حول تراث ابن الخطيب السلماني، سواء من قبل عرب – مغاربة ومشارقة – أو من قبل أجانب مهتمّين بالثقافة والأدب العربييْن. ومن الباحثين مَنْ صَرَف اهتمامه بابن الخطيب وإرْثه الفكري والعلمي والأدبي إلى نشر جملة من تآليفه وتحقيقها وترجمتها إلى لغات أخرى. يقول د. حسن الوراگلي مُبْرزاً تنوعَ هذا الاهتمام وتعدُّدَه من نواحٍ كثيرة: "على قدْر ما عرف به تراث ابن الخطيب من تعدد ووفرة، وتنوّع وغزارة، تعدَّدتِ الكتاباتُ حوله وتنوّعت، سواء لدى الدارسين العرب، وخاصة المغاربة، أو لدى المُسْتعْرِبين، وخاصة الإسبان. وهي كتاباتٌ اختلفت من حيث المادة المدروسة؛ فكان منها العام الذي عُنِي بحياة الرجل وآثاره، وكان منها الخاص الذي اهتم بجانبٍ، دون سواه، من تراث الرجل وإبداعه. كما اختلفت من حيث المنهجُ المُعتمَد؛ فكان منها الراصِدُ الواصف، وكان منها الدارس المحلِّل. واختلفت، في درجة أخيرة، من حيث ما انتهت إليه من نتائج؛ فكان منها الطريف المبتكر، وكان منها المُعاد المكْرور"[iii].
ومن المؤلَّفات الخطيبية التي نالت بعض ذلك الاهتمام، تحقيقاً ودراسةً وترجمةً، كتابُ "روضة التعريف بالحب الشريف"، الذي وصفه المقري بأنه "فريد في بابه"؛ أي باب التصوف والحب الإلهي. فللكتاب تحقيقان ظهرا معاً في ستينيات القرن الماضي (عبد القادر أحمد عطا – محمد الكتاني)، وهما عملان أُنْفِق فيهما مجهودٌ واضح، على امتداد سنوات، ولكن ذلك لم يحُلْ دون تسلل هنات ونقائص إليهما، تتبّعها بعض الدارسين المدقِّقين سابقاً[iv]. وأُنجزت حول الكتاب، وحول الجانب الصوفي في تراث ابن الخطيب عموماً، أبحاثٌ أكاديمية، ودراسات علمية؛ على نحْو ما فعل المستشرق الإسباني د. إميليو دي سانتياگو سيمون (Emilio de Santiago Simon) في أطروحته الجامعية حول الفكر الصوفي لدى ابن الخطيب، وفي دراسته الموسومة بـ"العالِم الغرناطي المُشارِك ابن الخطيب والتصوف"، التي أفرد حيّزاً مهمّا منها للحديث عن "روضة" ابن الخطيب. وعلى نحْو ما فعل الباحث المصري عصام قصبجي في رسالته المقدَّمة لنيل الماجستير من كلية الآداب التابعة لجامعة القاهرة، عامَ 1975، حول "النزعة الصوفية في أدب لسان الدين بن الخطيب". وعلى نحو ما فعل الناقد المغربي محمد مفتاح، مثلاً، في الباب الثالث من كتابه "التلقي والتأويل – مقارَبَة نَسَقيّة"، الذي حاز به صاحبُه جائزة المغرب الكبرى للكتاب عامَ 1994. ويبدو أن أكثر الدراسات المُنجَزة في هذا الإطار تركّز على تناول الكتاب بوصفه يعكس التجربة الصوفية التي عاشها ابنُ الخطيب، بما اتسمت به من خصوصيات وأبعاد، أو يُلقي الضوء على واقع التصوف بالأندلس، عَصْرَئذٍ، وصلته بالأخلاق والفلسفة. على حين أنها لم تخُصَّ الجانبَ الذي ارتأيْنا الوقوف عنده، في هذه الدراسة، بعناية كافية. وتُرْجمت أجزاء من "الروضة" إلى لغات عالمية؛ كالإسبانية والفرنسية والإنجليزية، مِثل القسم الأول من الكتاب، المُعَنْوَن بـ"خطبة الأغراس وتوطئة الغِراس"، الذي نقله إميليو دي سانتياگو إلى الإسبانية[v].
ألّف ابن الخطيب هذا الكتابَ الضخم في ظرف زمني قصير، عام 769هـ، تلبيةً لطلب مَليكه الغني بالله الذي وَزَّر له، وتحقيقاً لرغبة كثير من أصحابه. ولتأليفه قصة ذكرها ابن الخطيب في مقدمة "الروضة"، وفي رسالةٍ بعثها إلى صديقه ابن خلدون الحضرميّ حين فراغه من تحريره وتصنيفه، مُلخّصُها أن أحد المشارقة، وهو الأديب والفقيه الحنبلي أبو العباس ابن أبي حجلة التلمساني (ت776هـ) نزيلُ القاهرة، كان قد ألف كتاباً في موضوع العشق، ضَمَّنَه جملةً وفيرة من أخبار العشاق وشعر الحب، سَمَّاه "ديوان الصبابة"، وكان قد اشتهر الكتاب، وذاع صِيتُه، وبلغ ديار الأندلس عامَ 767هـ، فأعجِب به الناس وسلطان غرناطة أيَّما إعجاب؛ فأشار على وزيره ابن الخطيب بتأليف كتابٍ في معارضة مؤلَّف ابن أبي حجلة، فما كان منه إلا الاستجابة لهذا الطلب، على الرغم من كثرة مشاغله السياسية، وضيق الوقت، وانصرافه إلى ما هو أهمّ في ظل الوضع الذي كانت تعيشه إمارة غرناطة، إبّانئذٍ، أمام توالي الأطماع النصرانية في الاستيلاء على كافة بلاد الأندلس، وطرْد المسلمين منها نهائيا، وأمام احتداد الأزمة السياسية داخلياً، فضلاً عن أن الرجل كان متقدما في السنّ. جاء في رسالته إلى ابن خلدون: "إن كتاباً رُفِع إلى السلطان، من تصنيف ابن أبي حجلة من المشارقة، أشار الأصحاب بمعارضته؛ فعارضْتُه، وجعلتُ الموضوع أشرف، وهو محبة الله تعالى؛ فجاء كتاباً ادّعى الأصحاب غرابتَه. وقد وُجّه إلى المشرق صُحبة كتاب تاريخ غرناطة وغيره من تآليفي، وتَعْرف تحْبيسَه بخانقاه سعيد السعداء من مصر، وانثال الناس عليه..."[vi].
إن موضوع الكتاب، كما ذكر مؤلفه نفسُه، هو المحبة الإلهية؛ مما يجعله أشرف وأرفع من موضوع الكتاب المُعارَض وغيره من المصنفات في العشق والعشّاق، مما لا يتجاوز نطاقه دائرة الإنسان. وإن ذلك الموضوعَ يُلْحِق "روضة" ابن الخطيب بنوعٍ من دراسات الحب في التراث العربي الإسلامي، ألّفها أهل التصوف مُلِحّين على أن تلك المحبة، التي تجعل غايتها محبة الله عز وجلّ، إنما هي العشق الحقيقي، وما سواها فعِشْقٌ مجازيّ. ولذا، نالت، منذ القديم، اهتماماً يفوق ذاك الذي نالته نظرية الحب الإنساني[vii]. إن الحب الإلهي، حسب ابن الخطيب، هو أصل طريق التصوف، وأساس الوعي الروحي. وهو "المُتأدّي إلى البقاء، المُوصِل إلى ذروة السعادة في معارج الارتقاء، الذي غايته نعيمٌ لا ينقضي أمَدُه، ولا ينفدُ مَدَده، ولا يُفصَل وَصْلُه، ولا يفارق الفرعَ أصْلُه". وهو "المُوصل إلى قرب الله، المُسْتدعي لرضاه وحُبّه، المؤثر بالنظر إلى وجهه. ويا لها من غاية تَلْقى رَحْل المتّصف بها بعد قطع بحار الفناء على ساحة الولاية!"[viii]. كما أن هذا الحب، الذي وصفه ابن الخطيب بـ"الحقيقي"، حُبٌّ "يصعدك ويرقيك، ويخلدك ويبقيك، ويطعمك ويسقيك، ويخلصك إلى فئة السعادة ممّن يشقيك، ويجعل لك الكون روضاً، ومشرب الحق حوضاً، ويجنيك زهر المُنى، ويغنيك عن أهل الفقر والغنى، ويخضع التيجانَ لنعْلك، ويجعل الكون متصرّفَ فعلك"[ix].
ويذكر دارسون كُثرٌ، قدامى ومُحْدَثون، أن هذا الكتاب هو السبب المباشر لقتل ابن الخطيب؛ إذ إنه – بعد ظهوره – سارع فقهاء المالكية بالأندلس إلى استصدار فتوى تدين مؤلِّفه؛ فاتهموه باعتناق مذهب الوحدة المطلقة وبالقول بالاتحاد والحُلول، ورَمَوْه بالكفر والإلحاد المُوجِبَيْن للقتل؛ فتعرّض الكتاب إلى مصادَرة وإحْراق، وتحرّك القضاة للحُكم على الكاتب، وبادرت السلطة الحاكمة إلى التنسيق مع سلطان المغرب الجديد لتنفيذ العقاب على ابن الخطيب، الذي كان يعيش في بلاد المغرب المريني. وتجدُر الإشارة إلى أن مذهب الوحدة المطلقة قام بشرق الأندلس على يد زعيمه أبي عبد الله الشوذي الحلوي، وساعد على انتشاره تيار التصوف العقلي الذي عَمَّ الأندلس وقتئذٍ، وانفتاحُ المنطقة على كثير من الأفكار والمعتقدات التي تميزت بغير قليل من الانحراف. وتبنى هذا المذهبَ آخرون؛ مِنْ مِثل ابن دهاق، المعروف بـ"ابن المرأة"، وأبي الحسن الشّشْتري، وابن سبعين. ومذهبُهم هذا أكثر غلوّاً من مذهب وحدة الوُجود، وأشدّ تطرُّفاً؛ لذا، جُوبِهُوا – بقوّة – من قبل الفقهاء، إلى حدّ أنَّ بعضهم (أبو حيان مثلاً) عَدَّ الردّ عليهم ومهاجَمَتهم من "علم أصول الدين". فأصحابُ نظرية وحدة الوجود (ابن مسرة – ابن السِّيد البَطَلْيَوْسي – ابن عربي...) يعترفون، نسبياً، بالإثنيْنيّة بين الخالق والخَلْق، أو بين واجب الوجود وممكن الوجود، ويفرّقون بين الوجود والثبوت؛ أي ثبوتُ الأعيان في الأزل، ثم وجودُها وَفق ما كانت عليه في الثبوت الأزَليّ، ويقولون إن الحق فاض على تلك الموجودات، فكانت تجلّياً له؛ وعليه، فإن وجودها – بحسب زعْمهم – إنما هو وجود الحقّ. على حين يذهب القائلون بالوحدة المطلقة إلى أن الله تعالى هو الوجود المطلق والمقيد معاً، وإلى أنه لا فرق بين الوجود والثبوت، وإلى أنه ليس ثَمَّ غير وسوى بأي وجه من الوجوه؛ كما قال الششتري وابن سبعين! ويلخِّص هذا الأخير صلب نظرية الوحدة المطلقة في مقولة "الله فقط"، التي تتردّد في كثير من رسائله. وهي، وإنْ بَدَتْ واضحةً، إلا أنها تُخفي مذهباً فكريا وعقديا عميقاً، يسميه ابن سبعين "الإحاطة"، ومُؤدّاه أن الوجود واحد، ثابت وأزلي، وأن الموجودات كلَّها – بما فيها الإنسان – لا وجودَ لها، بل هي ظلّ أو وَهْم من صُنع الجُهّال والعوامّ، وأنْ لا وجود إلا الله تعالى المُنزَّه عن قبول أي إضافة أو نسبة، فهو سُبحانه عين ما ظهر وعينُ ما بطن، وأنه لا مجال للحديث عن أي تعدد أو كثرة بأي وجهٍ من الوجود![x] إن الغلوّ والانحرافَ بارزان في مذهب الوحدة المُطْلَقة، ولذا كان لازماً أن يُواجَه بمُعارَضةٍ قوية من فقهاء الأندلس وغيرهم؛ معارضةٍ رافقها التضييق على القائلين بتلك الوحدة، وإحراق مؤلفاتهم في هذا الصدد، ورَمْيهم بالزندقة والمُروق من المِلّة. وهو ما كان له انعكاس واضح على الحدّ من انتشار المذهب، وتراجُع إشعاعه الذي كان له في أول ظهوره! وفي ظلِّ مناخ ثقافي كهذا، كان مجرد انتشار خبر اعتناق المذهب، أو المُنافحَة عنه في تأليفٍ أو غيره، ولو كان ذلك إشاعة فقط، يجرّ على صاحبه وابلاً من النقد والطعن والتجريح، الذي سَرْعانَ ما يتحوّل إلى مطالبة المسؤولين بإنزال أقصى العقوبات وأقساها في حقه. وهذا نفسُه ما حدَث مع ابن الخطيب؛ كما يذكر بعضُهم. فقد أشيع عنه القول بالوحدة المطلقة والحلول، والانتصار لهذا التيار في كتابه "الروضة". إلا أنّنا حين نعود إلى الكتاب، لقراءته وتبيُّن مدى صحة هذه الدعوى/ التهمة، نجد أن الرجل قد تحدّث، فعلاً، عن جملة من مذاهب المُحبّين، وعرَضها بتفصيل، ومن ضِمْنها مذاهب الاتحاد والحلول والوحدة المطلقة، ولم يصدرْ منه، مطلقاً، ما يفيد ميْله إلى أحدها، بله القول به والدفاع عنه، بل كان يركز على التعريف بها، وبيان أبرز مبادئها ورجالاتها ومظاهر المحبّة لديها. وألْفَيْناه – في أكثر من موضع – ينبّه على مكامن الفساد والانحراف في بعض مذاهب المُحبّين، أو مُدَّعي المحبة الإلهية بالأحْرى. فبعدما وقف، في آخر أقسام كتابه، عند مذهب الوحدة المطلقة، ولخّص مُعْتقَدَهم بقوله إن "الباري جل وعلا هو مجموع ما ظهر وما بطن، وأنه لا شيء خلاف ذلك، وأن تعدد هذه الحقيقة المطلقة والأنّية الجامعة، التي هي عين كل أنّية، والهُوية التي هي عينُ كل هوية، إنما وقع بالأوهام من المكان والزمان، والخلاف والغيبة والظهور، والألم واللذة، والوجود والعدم. قالوا: وهذه إذا حققت إنما هي أوهام راجعة إلى أخبار الضمير، وليس في الخارج شيء، فإذا سقطت الأوهام صار مجموع العالم بأسْره وما فيه واحداً، وذلك الواحد هو الحقّ..."[xi] [بعد ذلك] راح يدْحَضُ مذهب مُتبنِّي الوحدة المطلقة، ويُبْطله بالأدلّة، ويُثبت تهافته وفساده. قال: "وجدرَة الاتحاد والحلول، وهما من مقالات النصارى، وأن الإلهية حلّت في عيسى أو اتحدت به، وبذلك كان يُبرئ الأكْمَه والأبرص، ويُحيي الموتى، وهذا لا يكون إلا بالقدرة القديمة، فهو باطل. ومن أدلته العقلية: أما الحلولُ فيَلزم منه الافتقار والحاجة إلى المحل والممارسة والانتقال، وهذه صفات الأجسام. وأما الاتحاد فتقريرُ الردّ عليه، وأنّ الثنوية، إذا اجتمعت، إنْ هي بقيت فلم يتحد، وإنْ زالت فلم تجتمع. وإن أرادوا الصفة التي في القدرة، وأنها حلّت أو اتحدت، فمزايلة الصفة القديمة لموصوفها محال في العقل، ولا يصحّ عليها حلول ولا اتحاد بجسم، ولا انتقال للجُسوم. وأدلة السمع في هذا الباب واضحة..."[xii]. كما عاب مذهب الشوذي وابن سبعين وأضرابهما، من القائلين بالوحدة المطلقة، وانتقده، في مواضعَ من كتابه؛ كما في قوله: "ارتكبت هذه الطائفة الشوذية والسَّبْعينيّة وأصحابهم مُرْتكباً غريباً من القول بالوحدة المطلقة، وهاموا به، ومَوَّهُوا ورَمزوا، واحتقروا الناس من أجْله. وتقريرُه على سبيل الإطالة لا فائدة فيه"[xiii]. لقد اتضح مما ذُكِرَ الموقف الحقيقي لابن الخطيب من مذاهب الوحدة المطلقة والاتحاد والحلول، وهو موقف الرفض والإبطال المَبْني على الدليل القويّ. ومن هنا، يتأكّد لمَنْ قرأ "روضة" ابن الخطيب، بإمعان، أن ساحة الرجل بريئة، وأن الحُكم بكفره، تحت ذريعة دفاعه عن تلك المذاهب في كتابه، كان – كما قال المرحوم عبد القادر عطا – "دعوى بلا برهان، وكان وصْمة في جيبن قضاة المالكية في المغرب لن يَغتفِرَها الله ولا التاريخ"[xiv]. ويرجّح بعضهم أن يكون هؤلاء قد حكموا على ابن الخطيب، وصنّفوا كتابَه، انطلاقاً ممّا سمعوه من أفواه مُرَوِّجي تلك الإشاعات ضد المؤلِّف، وليس بناءً على قراءتهم متْنَ الكتاب؛ كما هو واجب في مثل هذه المواقف! والواقعُ أنه من الصعب جدّا الإقرار بكون هذه التهمة هي السبب الوحيد القابع وراء مقتل ابن الخطيب، بل إن ثمة أسباباً أقوى فيما يبدو، وتتجلى – أساساً – في حُسّاده، من أمثال أبي الحسن النباهي وابن زُمْرك، الذين كانوا يتحيّنون الفرص لتعْكير صَفْو العلاقة بين ابن الخطيب وسلطان غرناطة؛ فسَعوا – بكل ما يمْلكون من طاقة ودهاء – إلى اختلاق الأكاذيب والدسائس، وإلى التخطيط لمؤامرات قصْد الإيقاع بالرجل الذي كان "الذراع اليُمنى" للحاكم آنئذٍ. وقد آتَتْ مخطَّطاتهم ومؤامراتهم أُكْلَها، وأفضت إلى مَصْرَع ابن الخطيب بفاس.
وقد أحسَّ ابنُ الخطيب نفسُه بخطورة هذه الدسائس، التي صار تأثيرها يبرز يوماً بعد آخر، لاسيما بعد أن أخذ يلْمَسُ تحولا في علاقة السلطان به؛ الأمر الذي جعله يفكر، بجدّية وحزم، في ترْك السياسة ومشاكلها، والنأي بنفسه عن حومتها التي كانت تعجّ بالاضطرابات والقلاقل، والتفرغ للعبادة. وقد تحقق له ذلك، وانتقل إلى العَدْوة المغربية؛ فعاش في كنف بني مَرين في أمْنٍ وسعادة، إلى أن سعى حساده وخطّطوا للانتقام منه، رغم بُعْده عنهم؛ فكان لهم ما أرادُوه! وخلال أواخر حياته ألف "الروضة"، بعدما سلك طريق التصوف، وأصْلُه – كما قال ابن خلدون – "العُكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يُقْبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة"[xv].
إن كتاب "الروضة" ذو أهمية كبيرة من عدة نَوَاحٍ. فهو – من ناحية أولى – يكشف عن وجه آخر من شخصية ابن الخطيب المعروف، أساساً، بكونه أديباً ومؤرِّخاً ورجلَ سياسةٍ محنّكاً، وهو ابن الخطيب المتصوِّف، بل إن أحدهم يؤكد جازماً – وإنْ كنا غير متفقين معه – أن الرجل "كان متصوفاً أكثر منه شاعراً وأديباً"، منطلِقاً من اطلاعه على كتابه المذكور[xvi]. وقد أشرْنا، آنفاً، إلى أن ابن الخطيب سلك طريق القوم، عن قناعة وإخلاص، وزَهَد في متاع الدنيا الفاني. ويرجّح مصطفى عبد الخالق الشبراوي أن يكون شيخ ابن الخطيب في الطريق هو ابن الحاج؛ صاحبُ "المدخل". ومن هنا، يتبيّن أن تصوف الرجل كان تصوفاً علميا وعمَلياً معاً، وأنه سلك طريقه بوصفه "الإيمان في أسمى إشراقاته، والخُلق في أرفع مُثله، والعلم في أصْفى مَوارده، والجهاد في أعلى ذراه"؛ على حد تعبير الشيخ الشبراوي[xvii]. كما أن قارئ "الروضة" يلْمَس أن حديث صاحبها عن التصوف والمحبة الإلهية إنما هو حديث سالك ذائق، لا حديث دارس – أيّ دارس – يكتب عن التصوف وما يتمحّضُ له. وعلاوة على "الروضة"، ذكر ابن الخطيب، ضمن ثَبَت مؤلفاته، الذي أورده في آخر "الإحاطة"، أن له رسالةً أخرى في التصوف، صغيرةً، عنوانُها "استنزال اللطف الموجود في سر الوجود"[xviii]، إلا أنها – للأسف – فُقدت مع ما فُقِدَ من تآليف ابن الخطيب في عدة مجالات معرفية.
وتظهر قيمة الكتاب – من ناحية ثانية – في أنه – رغم تقدُّم كتُبٍ عليه، زمناً، تعدّ من أمَّات الكتب في مجال التصوف – حوى "كل ما قيل عن المحبة الإلهية والتصوف القائم عليها، وكل ما قيل عن العرفان الصوفي والرياضات والمُجاهَدات والمقامات والأحوال. وإنه ليُشبه البُحَيْرة التي انتهت إليها جداول التأليف في هذا الموضوع منذ القرن الثالث الهجري، على أنه من وجهة أخرى لا ينطوي على جديدٍ في موضوعه، ولا يبلغ أن يكون في مستوى بعض كتب القوم الكبيرة، كـ"الإحياء" و"الفتوحات"؛ لأن الفارق هنا بينها وبين هذا الكتاب أن مؤلفه ابن الخطيب لم يجعله تعبيراً عن تجربة نفسية مباشرة لنفْسٍ قطعت مراحل التصوف مقاماً مقاماً، وحالا حالاً، إلى ذروة العرفان – كما هو الشأن عند الغزالي وابن العربي وأضرابهما – وإنما هو عرْض مركز للخواطر الصوفية بكل أبعادها، يُعين على تمثلها لدى ابن الخطيب ذوق مُرْهَف، ووُجْدان مُسْتنير، وأفق عقلي رَحْب"[xix].
وتبرز قيمة "الروضة" – من ناحية ثالثة – في بُعْده الحضاري، وفي مدى تعبيره عن واقعه وعصره. فالكتابُ يقدّم صورة عن ثقافة المائة الثامنة للهجرة، ولكنْ من وجهة نظر دينية وصوفية، لا من زاوية اجتماعية وتاريخية؛ كما لدى ابن خلدون، في "المقدمة"، الذي "عرض لثقافة عصره بالمعنى المعرفي من حيث ارتباطُها بالأرض؛ أي من حيث هي صناعة ونشاط وفعالية اجتماعية مرْتهنة بنواميس النشوء والازدهار والانحلال". بخلاف ابن الخطيب الذي عرض، في "الروضة"، لثقافة عصره عرْضاً تربويا صوفيا "من حيث ارتباطها بالسماء؛ أي من حيث هي تربية للنفس الإنسانية، ومن حيث اعتبارُ هذه النفس متدرجةً من مستويات بيولوجية متدنّية إلى مستويات روحية متسامية، إلى أنْ تتجَوْهَر بالحقائق العليا في هذا الكون"[xx]. ويرى الباحثُ محمد علي آذرشب؛ مؤلِّفُ كتاب "نهج العاشقين"، أن مؤلَّف ابن الخطيب يرمز إلى سر ازدهار حضارة الإسلام في الأندلس، وإلى سر تراجُعها وسقوطها هناك في الوقت نفسه. فهو يرمز إلى سرّ ازدهارها وتألقها "بما تضمّنه من آراء في الحب الذي يمثل روح العلاقات القائمة في الكون والحياة، والذي يشكل عامل الدفع الحضاري بين الأمم والشعوب. كما أنه يرمز إلى سبب سقوط الأندلس بسبب ما نزل بمؤلف الكتاب... بل وفي الواقع بسبب الأحقاد والحَزازات التي عصفت بالعلاقات الاجتماعية في ذلك المجتمع، وأدت إلى فتح ثغرات واسعة في جسد الأمة هناك؛ فنفذ من تلك الثغراتِ مَنْ وجّه آخِر الضربات إلى الجسد الممزّق، وقضى على أعظم فرصة للّقاء الإنساني بين الشرق والغرب"[xxi].
ولا يمكننا، ونحن نتحدث عن قيمة الكتاب، إغفال صياغته وبنيته الأدبية عامة. ذلك بأنه متميّز من حيث طريقته في ترتيب مكوناته، وغنيٌّ من حيث لغته وأساليبُه، وجامعٌ بين الأدب والفلسفة، والخيال والمنطق، ومقدَّمٌ إلى القارئ على طبق لغوي آسِر لا يكاد يُشْعِرُه بالروتين ولا المَلاَل؛ مما يجعلنا نستمر في قراءته، رغم تشعُّب مسائله وأفكاره.
ومن الثابت أن ابن الخطيب لم يكن سبّاقاً إلى التأليف في موضوع المحبة في ثقافتنا، بل سبقه كثيرون – من العرب والمسلمين – إلى التصنيف في المحبة، سواء الإنسانية أو الإلهية، ولذا فقد رجع إلى عدد من تلك التآليف، وأفاد منها في تصنيف كتابه "الروضة"؛ كما اعترف هو نفسه بذلك، إلا أن ما يميّز مؤلَّفه هذا، حقا، هو منهجه في تأليفه، وترتيب عناصره وأجزائه. وقد وصف هذا المنهجَ بالغرابة أكثر من دارس قديماً وحديثاً، بل إن هذه الغرابة أدركها ابن الخطيب عيْنُه، فقال في مقدمة كتابه متحدِّثاً عن بعض ملامح منهاجه في تأليفه: "... وعلى هذا ذهبتُ في ترتيبه أغَرَب المذاهب، وقرعتُ في التماس الإعانة باب الجوّاد الواهب، وأطلعت فصوله في ليل الحِبْر طلوعَ نجوم الغياهب، وعرضت كتائب العزيمة عرضاً، وأقرضْتُ الله قرضاً، وجعلته شجرة وأرضاً"[xxii]. وقد لمَسَ غرابة كتابه، كذلك، أصحابه – في القرن الثامن – لَمّا اطّلعوا عليه؛ كما رأينا في جزء من رسالة ابن الخطيب إلى ابن خلدون، أوْرَدْناه في موضع سابق من هذه الدراسة. وذكر ذلك، أيضاً، المرحوم مصطفى الشبراوي، في تصديره لتحقيق عبد القادر أحمد عطا لـ"روضة" ابن الخطيب، قائلاً: "لقد كان ابن الخطيب غريباً في تبويبه لكتابه هذا، حتى عُدَّ بحقٍّ من أمّهات الكتب التي عرَضَت للتصوف في مَعينه الأول، وهو الحبّ الإلهي، عرْضاً فريداً من نوعه، يتجلى فيه الذوق الأدبي الرفيع مع الذوق الروحي العميق، والإلمام العلمي الشامل"[xxiii]. وقال عطا، في السياق نفسِه، إن "منهج الكتاب غريبٌ في بابه. فهو منهج لم يتفق لمؤلف قبله، ويُعتبر بحقّ خطوة في سبيل التجديد الصوفيّ لم يُسبَقْ إليها"[xxiv]. والحق أن هذه الغرابة والجِدّة المِنْهاجيّة من الدواعي الرئيسة التي جعلتنا نُقصر هذه الدراسة على تناول منهج ابن الخطيب في "الروضة"، وتبيان معالمه وقضاياه البارزة، التي يمكننا إجْمالُها في الآتي:
1/- اعتماد آلية الاستعارة في تصوير المحبة:
توسّل ابن الخطيب بالاستعارة، بما تقتضيه من مشابهة ومماثلة ومجاورة ومقابلة، لتصوير المحبة بوصفها محورَ كتابه كله؛ فتمثَّل هذه المحبة شجرة ذات فروع وأفنان وأوراق وأزهار وأثمار، وتمثل الأنفس التي تُغرس فيها أرضاً. يقول في مقدمة "الروضة": "فالشجرة المحبة مناسبةً وتشبيهاً، لما ورد في الكتب المنزلة وتنبيهاً. والأرض النفوس التي تغرس فيها، والأغصان أقسامها التي نستوفيها، والأوراق حكاياتها التي نحكيها، وأزهارها أثمارها التي نجنيها، والوصول إلى الله تعالى ثمرتها التي ندّخرها بفضل الله ونَقتنيها. شجرةٌ لعَمْرُ الله يانعة، وعلى الزعازع متمانعة. ظِلُّها ظليل، والطرْف عن مداها كليلٌ، والفائز بجَناها قليل. رَسَتْ في التخوم، وسَمَتْ إلى النجوم، وتنزّهت عن أعراض الجُسُوم، والرياح الحسوم، وسُقيت بالعلوم، وغُذّيت بالفهوم، وحملت كمائمُها بالزهر المكتوم، ووفّت ثمرتها بالغرض المَروم"[xxv].
يظهر من تأمُّل هذا القول أن في الكتاب استعارتين مفهوميتيْن كبيرتين، تفرّعت عنهما جملة من الاستعارات المفهومية الثانوية، ثم تشعّبت عنها تعابير استعارية عدة[xxvi]. فالاستعارتان الأصليتان الكُبْرَيان في الكتاب تتجليان في عبارتي "الشجرة المحبة"، و"الأرض النفوس". وسنكتفي – لتبيان ما تفرّع وما تشعّب عنهما – بالوقوف عند أولى الاستعارتين. فقد تَفَرَّع عن هذه الاستعارة أربعُ استعارات، هي: أغصان الشجرة أقسام المحبة، وأوراق الشجرة حكايات المحبة التي نحكيها، وأزهار الشجرة أثمار المحبة، وثمرة الشجرة هي غاية المحبة المتمثلة في الوصول إلى الله تعالى، وبلوغ مقام الولاية، والمقصود بها "أنْ يتولى الله الواصل إلى حضرة قدْسه بكثير ممّا تولى به النبي من حفظ وتوفيق وتمكين واستخلاف وتصريف"[xxvii]. وبقدْر ما يقترب الولي الصوفي من مقام النبوة، فإنه يختلف عنه في أمور؛ مما يجعل مقامه دون مقام النبي. يقول ابن الخطيب: "الولي يشارك النبيَّ في أمور، منها: العلم من غير طريق العِلم الكسْبي، والفعل بمجرد الهمّة فيما لم تَجْرِ العادة أن يفعل إلا بالجوارح والجسوم، مما لا قدرة عليه لعالم الجُسوم... ويفارق الولي النبي في المخاطبة الإلهية والمَعارج. فإنهما يجتمعان في الأصول، وهي المقامات، إلا أن النبي يعرج بالنور الأصلي، والولي يعرج بما يفيض من ذلك النور الأصلي، وإنْ جمعهما مقامٌ اختلفا بالوحدة في كل مقام، من فناء وبقاء وجمع وفرق. والولي يأخذ المواهب بواسطة رُوحانية نبيّه، ومن مقامه يشهد، إلا ما كان من الأولياء المحمّديين، فإنه لما كان نبيهم جامعاً لمقامات الأنبياء أوْرَثهم الله مقامات الأنبياء، وأوْصَل إليهم أنوارهم من نور نبيّهم الوارث وبواسطته"[xxviii]. ومن الاستعارة الأساسية المرجعية تشعّبت جملة من التعابير الاستعاريّة؛ مِنْ مثل: شجرة المحبة يانعة، ومتمانعة على الزعازع والرياح القوية، ذات ظل وارف، تُسْقى بماء العلوم، وتغذى بالفهوم... فهناك، إذاً، بؤرة استعارية مكثفة وغنية، انبثقت منها استعارات كثيرة لمناسبةٍ بينها أو مشابهة أو مُجاوَرة.
إن النظام الاستعاري الذي بَنى على أساسه ابنُ الخطيب كتابه يقودنا إلى تسجيل ملاحظات، وإلى طرح أسئلة مثيرة للنقاش. فهو قد شبّه المعروف بغير المعروف، والمعلوم لدى عموم الناس بغير المعلوم حقا لديهم. ألا ترى بأن الشجرة والأرض لفظان من القاموس المُشترَك العام، يَفهم مدلولَيْهما الجمهور. والقاعدة، لدى علماء البيان، أن يشبّه غير المعروف بالمعروف لتقريبه من الأفهام والأوهام، وأنْ يكون وجْه الشَّبَه أقوى وأظْهَرَ في المشبّه به أو المستعار منه. وكان الأولى بابن الخطيب – لو كان يريد إجراء التشبيه بالطريقة التقليدية المألوفة – أن يَقلب ترتيب عنْصُريِ الصورة البلاغية؛ فيقول: "المحبة شجرة"، و"النفوس الأرض التي تُغرَس فيها". ولكنه آثَرَ اصطناع التشبيه بتلك الطريقة؛ فجعل الأصل فرعاً، والفرعَ أصلاً، على سبيل "التشبيه المقلوب" المعروف لدى البلاغيين، لاسيما وأنه يتحدث عن شجرة من نوع خاص، وعن أرضٍ غيرِ الأرض التي نَعْرفها. الأمْرُ الذي ينقلها من المجال التداولي العام إلى مجال آخر خاصّ[xxix].
وتتجلى الملاحظة الثانية، ها هنا، في انطواء الصورتين الاستعاريتين الأصليتين على عناصر متباينة موزّعة ما بين المحسوس والمجرّد. فالمحبة والنفس الإنسانية طرفان مجردان، على حين أن الشجرة والأرض محسوسان ماديان. وقد كانت رغبته في تجسيدِ المحبة، وتقريبِ ماهيتها من أفهام الناس، ورَمْيُه إلى تربيتهم وإعدادهم، نفسياً وروحيا، لسلوك طريق القوم المُوصِل إلى السعادة في الدّارَيْن، لاسيما في محيط اجتماعي وسياسي على أهبة السقوط، من المُسَوِّغات التي دعت ابن الخطيب إلى اصطناع صور خيالية مركّبة كما أوْضَحْنا سابقاً، بالاستناد – أساساً – إلى استثمار الإمكانات البلاغية والتعبيرية التي يوفرها التشبيه المقلوب. وبذلك نجح في استيعاب موضوع تجريدي وتفريعه، وضَمِنَ لاستعاراته أفقاً منفتحاً رَحيباً. يقول محمد مفتاح: "إن ابن الخطيب شعَرَ بضيق مجال النموذج الأمْثل الذي تبنّاه، فالتجأ إلى التشبيه المقلوب ليكون مجال النموذج الأمثل أرْحَب وأوسَع"[xxx].
ويكشف النظام الاستعاري الذي أسّس على صَرْحه ابنُ الخطيب كتابَه مدى التفاعُل بين عالم الطبيعة، بشقيْها الصامتة والصائتة، وعالم الإنسان، انطلاقاً ممّا يقوم بينهما من تماثل وتشابُه وتجاوُر وتقابُل. فقد عبَّر عن مجال دلالي بلغة مجال دلالي آخر[xxxi]. وبيان ذلك أن المؤلِّف تطرّق إلى تناول موضوع الحب الروحاني الإلهي السامي المغروس في نفوس السالكين المُخْلصين، مستعمِلاً لغةً تمتح من غير حقل التصوف، بل تستمدّ مفرداتها ومقوّماتها من قاموس الطبيعة؛ بأنْ جعل المحبة شجرة يانعة ظليلة، وأنفسَ العاشقين بمثابة التربة المَرِيعة التي تحتضن جذورها وأصولها، وتمثـَّل ذاته، في نهاية المطاف، طائراً صادحاً فوق قُنَّة الشجرة المبارَكة. ولا يستبعد بعض الدارسين أن يكون ابن الخطيب – بصنيعه هذا – متأثراً ببِيئة الأندلس الفاتنة، وطبيعتها الآسِرَة، المغايرة لبيئة شبه الجزيرة العربية. ومنهم عبد القادر عطا، الذي سبق إلى تحقيق "الروضة"، حين أكّد أن تبويب هذا الكتاب – على ما فيه من غرابة وتجديد – لا يخلو من التأثر بالذوق الأندلسي الرفيق[xxxii]، الذي هو نَتاج مباشرٌ للمناخ الطبيعي والجغرافيا المميَّزة لبلاد الأندلس. والحق أن التفاعل والتداخل بين العالمين المذكورين أمْران ملحوظان لدى العرب، ولدى غيرهم كذلك، منذ أقدم العصور، وأن التعبير بلغة أحدهما عن أشياء الآخر وعناصره ومكوّناته يضرب بجذوره، أيضاً، في عمق التاريخ. وهكذا، فقد جعل العرب، مثلاً، للجبل قنة ورأساً وحِضْناً ورِجْلا وكاهلا وابنة، على غرار الآدميِّ تماماً، بناءً على إعمال آليات المماثلة والمشابَهة والمقابلة. إلا أن هذا التفاعل يطرح إشكالاً عميقاً صاغه د. مفتاح بقوله: "هل المشبّه به هو الإنسان، ثم نقلت أسماء أعضائه إلى أعضاء الجبل، أم إن العكس هو الصحيح؟"، قبل أن يقدّم إجابته عنه قائلاً: "إن حل هذا الإشكال ليس من السهولة بمكان؛ إذ يتوقف الحل، أو شِبْه الحلّ، على دراسات إناسية وأركيولوجية وتاريخية معمقة؛ على أنه إذا كان من المؤكَّد أن الظواهر الطبيعية سابقة على الإنسان، فهل يُبْنى على هذا السبْق أنه وقع تسميتها قبل أن يسمّيَ الإنسان أعضاء جسده، ومن ثمة يُسْتنتج أن بعض التسميات الأساسية نُقلت من الجبل إلى الإنسان؛ كرأس الجبل وحضنه ورجله وأنفه وخياشيمه. ومن الممكن أن يُفترض أن مظاهر الطبيعة، ومنها الجبل، بقيت غُفْلاً بدون تسمية إلى أنْ منحها الإنسان أسماء أعضاء جسده. وقد يتعزّز هذا الافتراض بأننا نجد بعض أسماء الجبل تسمى باسم بعض الحيوانات؛ فالصخرة الشّمّاء في رأس الجبل وَعِلٌ... والقطعة من الجبل قرْنٌ؛ وهذا الافتراضُ هو ما تُثبته الدراسات النفسانية اللغوية حديثاً"[xxxiii].
وثمة مسألة أخرى يَحْسُن بنا التعرض إليها، قبل الفَراغ من الحديث عن الخاصية الأولى لمنهج "روضة" ابن الخطيب، ويتعلق الأمر بقضية التمثيل بالشجرة؛ إذ إنه صوّر المحبة الإلهية على هيأة شجرة بمواصفات عدة أتيْنا على ذكْرِها آنفاً. وهذا التمثيلُ، في واقع الأمر، لم يكن من مُبْتكَرات ابن الخطيب التي تُحْسَب له، بل إنّنا نجد التمثيل بالشجرة، وتحميلها دلالات رمزية معينة، في كثير من الثقافات والحضارات، على امتداد العصور؛ ممّا يؤهِّلها لأنْ تكون رمزاً كونيا بامتياز، وإنْ اختلفت رمزيتها – بطبيعة الحال – من سياق ثقافي لآخر، ومن عصر لعصر. ويؤكد هذه الرمزية الكونية للشجرة ما جاء في الكتب المقدّسة، وفي تراث الإنسانية المتنوّع[xxxiv]. فالشجرة، لدى بعضهم، ترمز إلى الكون برَحابته وشُسُوعه (كما عند كثير من أهل التصوف)، وترمز، لدى بعضهم الآخر، إلى الخلود، وهي – عند أقوام – معبود يُعْبَد، ويشير بها ابن عربي إلى الإنسان الكامل، بوصفه "نسخة ومثالا وظلاّ" للعالَم العُلْوي؛ كما يقول حشدٌ غفير من الصُّوفية. وذُكرت الشجرة في جملة من الآي الكريمة والأحاديث الشريفة، تحت مسمّيات عدة، وبصفات عدة، وفي سياقات عدة، وبدلالات عدة كذلك. وفي التراث الإسلامي كتب كثيرة ضمّت عناوينُها لفظ "الشجرة"؛ من مثل كتاب "شجرة اليقين" للشيخ إسماعيل حقي الرومي، ورسالة ابن عربي الموسومة بـ"شجرة الكون والبحر الموجود". وخلّف قدماء الإيرانيين كتاباً يُعرف بـ"شجرة آشور" (= درخت أسوريك)، يعود إلى عهد الأشكانيين، وقد كتب باللغة الفهلوية القديمة، واستُخْدمت فيه الشجرة بمعنى رمزي، تكشفه المناظرة بين النخل والماعز فيه. ولم يقتصر استعمال الشجرة على البِيئة الصوفية والنصوص الدينية، وفي سياقات ثقافية حمّلت ذلك العنصر الطبيعي دلالات رمزية عميقة، بل امتدّ إلى مجالات أخرى؛ كالصَّناعة الشعرية وعلم الأنساب مثلاً. فلدى شعرائنا القدامى نوعٌ من الشعر، ذو قالب خاص، يُسَمُّونه "المشجّر". ويُتَحَدَّث في المجال الثاني عمّا يسمى "شجرة النسب"؛ هذه الشجرة التي يتردد ذكرُها في ميدان التصوف أيضاً، ولاسيما حين الحديث عن ارتباط المُريدين بمشايخهم وبطرقهم الصوفية التي ينتمون إليها[xxxv]. ولم يكن ابن الخطيب أولَ ولا آخِرَ مَنْ تمثَّل المحبة شجرة، بل ألْفَيْنا ذلك لدى آخرين؛ منهم أبو حامد الغزالي الذي حدد، في "الإحْـياء"، المحبة بأنها "شجرة طيبة أصْلها ثابت، وفرْعُها في السماء". ولكنّ طريقتيْهما في تصوير المحبة، ورَبْطها بالشجرة، مختلفتان ومتمايزتان.
إن المنهجية التي اعتمدها ابن الخطيب في تصوير المحبة، والقائمة أساساً على مبدإ الاستعارة عموماً، وعلى المطابقة بين عالمين متغايرين ومتماثلين في الآن نفسِه، ذات أبعاد إيديولوجية سياسية؛ كما يرجّح محمد مفتاح، منطلِقاً من الربط بين الكتاب ومنهجيته في تناول موضوعه الرئيس وبين واقع غرناطة حضارياً وسياسياً. وعليه، فإنه لا يَسْتبعد أن تكون الأرض هي الأندلس، والنفوس هي المجتمع الأندلسي، والشجرة هي أسرة بني نصْر الحاكمة[xxxvi]، بما قامت به من أعمال جليلة تمكيناً للإسلام في ذلك الفرع القصيّ من الدولة الإسلامية، وحمايةً له، ودفاعاً عن الوجود الإسلامي بالمنطقة، الذي كان يواجه تحدّيات كبرى إبّانئذٍ.
2/- النهل من ينابيع ثقافية متعددة ومتنوعة:
ذكرنا، في مَوْضِع متقدِّم، أن ابن الخطيب ألّف "الروضة" عن غير اختيار، في زمنٍ محدود جدّا (حوالي شهرين)، وكان خلال تلك الفترة منشغلاً بما هو أهمّ، يتوقف عليه استمرار الحكم الإسلامي بغرناطة وصُموده في وجه حملات النصارى المتتالية لاستعادة الإمارة، ووضْع حدّ نهائي لذلك الحكم، الذي امتدّ قروناً كثيرة، فيها. ولذلك جاء كتابه أشْبَه بعمل تجميعي حشَد فيه ما أمْكَنَه تجميعه من أقوال ونصوص وأشعار وحكايات، وضمّنه ما اختزنته ذاكرته القوية من مادة علمية وإبداعية في موضوع المحبة. بل ونجده، أحياناً، يُثبت تلك النصوص والمنقولات بحذافيرها، سواء بالنص على قائليها/ أصحابها ومصادرها أو دون ذلك. وفي أحايين أخرى، كان يَعْمِد إلى تحويرها والتصرف فيها ضُروباً من التصرف (الاختصار – تغيير اللفظ). ولم تقتصر تناصّات الكتاب على المخزون الثقافي والتراث الأدبي الإسلامي الأصيل فقط، بل استفاد ابن الخطيب من التراث الأجنبي كذلك، واستمدّ جزءاً من مادة كتابه من روافد فلسفية وغير فلسفية، يونانية وغير يونانية كذلك. ولعل هذا الانفتاحَ على ينابيع ونصوص أخرى واحدٌ من مميِّزات الكتابات الصوفية عموماً. يقول أحد دارسي الخطاب الصوفي المعاصرين: "إن أهم خاصية للكتابات الطرقية، منظوراً إليها من زاوية نظرية الأنواع/ الأجناس الأدبية، أنها كتابات نثرية، ولكن تتخللها نصوص قرآنية وحديثية وشعرية... علاوة على احتضانها لنصوص صوفية أو طرقية غيرية عديدة... ولكن يمكن الإقرار بأن صيغتها الغالبة هي النثر، الشيء الذي يؤكد بأن نصوص الخطاب الصوفي هي، كغيرها من النصوص، لا تنهض من فراغ أو من عَدَم"[xxxvii].
إن النص الخطيبيّ الذي نحن بصدد دراسته لم ينهض من فراغ، بل ألِّف اعتماداً على كمٍّ مهمّ من المظانّ والمصادر التي اطّلع عليها الكاتب، وبعضُها مذكور في مقدمة "الروضة" نفسِها. فقد أورد، بين ثناياها، ابنُ الخطيب عناوين جملة من الكتب المصنفة في موضوع الحب الإلهي، خصوصاً، والتي أتيح له الاطلاع عليها، في فترات ما، واستثمار بعض ما حَوَتْه من علم وأفكار في تأليف "الروضة". وأرْفَق تلك العناوين بعبارات تصف المصنفات المذكورة وتُقيِّمها. ويُفهَم من كلامه عنها محدودية استفادته منها، لِمَا لمسَه فيها من قُصُور. قال ابن الخطيب: "وكنت وقفت من الكتب المؤلفة في المحبة على جملةٍ منها: كتاب شَيْذَلة .. كتاب يشهده العوام، ويستخفه الهيام. ورسالة ابن واطيل .. رسالة مهذارة، تطفر من دارة إلى دارة، في مطاردة هرّ وفارة. وكتاب ابن الدبّاغ القيرواني .. كتاب متفقع، ووجْه المقصود منه متبرقع. وكتاب ابن خلصون، وهو أعْدلها لولا بداوة تسم الخرطوم، وتناسب الجمل المخطوم؛ فكنتُ بما ذكر لا أقنع، وأقول ما أصنع، والله يعطي ويمنع"[xxxviii].
والواقع أن هذه المؤلفات لم تكن المظان الرئيسة التي اعتمدها ابن الخطيب في تأليف كتابه، وإنْ نقل من بعضها في حدود ضيقة جدا؛ كمؤلف أبي القاسم محمد بن خلصون اللوشي الموسوم بـ"وصف السلوك إلى ملك الملوك" (توجد منه نسخة مخطوطة بالخزانة الملكية بالرباط)، كما أن أغلبها مفقودة! أما المصادر التي رجع إليها ابن الخطيب، واقتبس منها مادة علمية غزيرة، واتخذها مُسْتَنَده الأساس في تأليف "الروضة"، فكان يذكرها، أحياناً، بين ثنايا كتابه، وأحياناً كان ينقل منها دونما إشارة إلى ذلك، وقد عمل محقق "الروضة" الدكتور محمد الكتاني على تخريجها، وعزْو الأقوال إلى أصحابها، والتنبيه على ذلك في الحواشي. وهو عمل، في الحقيقة، مهمّ جدا، يستحقّ عليه المحقق كلَّ التنويه، ويعطي تحقيقه قيمة مضاعَفة في الساحة العلمية الأكاديمية. ولعل أهم مصادر ابن الخطيب في تأليف كتابه ما يلي (وهي مرتبة بحسب سنوات وفاة مؤلِّفيها)[xxxix]: "الإشارات والتنبيهات" للشيخ الرئيس ابن سينا (ت428هـ)، و"السياسة والآراء الفاضلة" لأبي الفرج عبد الله بن الطيب البغدادي (ت435هـ)، وقد أكثر ابن الخطيب من النقل عنه، وهو يذكره – في "الروضة" – بكنيته فقط. ومن تلك المصادر، أيضاً، "الرسالة القشيْرية" لعبد الكريم القشيري (ت462هـ)، و"منازل السائرين" لعبد الله الأنصاري الهروي (ت481هـ)، و"إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي (ت505هـ)، و"المِلَل والنِّحَل" لأبي الفتح محمد الشهرستاني (ت548هـ)، و"حكمة الإشراق" لأبي الفتوح شهاب الدين السهروردي (ت588هـ)، و"كتاب الأنماط" للشيخ أبي العباس أحمد البوني (ت622هـ)، ورسائل ابن عربي (ت638هـ) وكتاباه "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم"، وكتابُ "مشارق أنوار القلوب ومفاتيح أسرار الغيوب" لابن الدباغ القيرواني (ت696هـ)، وكتاب "بدّ العارف" لعبد الحق بن سبعين (ت699هـ)، إلى جانب رسائله في التصوف، و"رياض المحبّين" لابن قيم الجوزية (ت751هـ).
ولكنّ الملاحَظ أن طريقة استفادة ابن الخطيب من هذه المصادر وغيرها، والتناصّ معها، لم تَطَّرِدْ في الكتاب، بل اختلفت اختلافاً واضحاً، واتخذت أشكالا عدة. فهو أحياناً يُقْحِم النقول ضمن كلامه، دون أي إشارة إلى أصحاب تلك المنقولات أو مظانّها، إلى درجة أن أكثر القراء يَخالون ذلك من كلام ابن الخطيب كله، ولا يتأتى التنبُّه إلى ذلك النقل إلا لمَنْ كان كثير الاطلاع على كتب القوم، وإلا لمَنْ سبق له قراءتها بإمعان؛ فتكوَّن لديه من ذلك رصيدٌ ثقافي مهمّ في هذا الميدان. ومن أمثلة ذلك جملة من المواعظ والأخبار نقلها ابن الخطيب من كتاب "الإحياء"، لدى حديثه عن الورقة الأولى من فَنَن الدنيا المحبوبة، دون ذكْر مصدرها إطلاقاً، بل اكتفى بإيراد تلك النقول بعضها إلى جَنْب بعض، مصدَّرة بفعل القول ذي الفاعل المجهول[xl]. ومن ذلك، أيضاً، كلامٌ نقله المؤلف، حرْفيا، من المقالة الخامسة، من كتاب "حكمة الإشراق"، والمتمَحْورة حول المعاد والنبوات والمنامات، ولكن دون إشارةٍ تُذكَر إلى مصدره أو قائله[xli]. والواقع أن مثل هذا الأسلوب في استفادة العلماء من بعضهم البعض كان شائعاً في التراث العربي الإسلامي، ولم يكن أمْراً مَعيباً، بدليل رُكوبه من قبل كبار علمائنا في اللغة وغيرها من حقول المعرفة، ولاسيما حين يتعلق ذلك بأقوال اشتهرت على لسان علماء وأدباء، أو كان مما يجري تداوله بين الناس. إلا أن واجب احترام الأمانة العلمية يحتّم على المؤلِّفين نسبة أقوال الآخَرين إلى أصحابها الحقيقيين. ويقدّم محمد الكتاني تفسيراً لاعتماد ابن الخطيب ذلك الأسلوب في النقل والاقتباس بقوله: "فابن الخطيب ينقل عن مصادره نقولاً متعددة، دون التزام بذكر مَنْ ينقل عنهم، ولعل ذكر بعض أولئك كان يُحْرجه؛ لأنهم كانوا معروفين بمذهب معين، لا يُحب أن يُقال عنه إنه تأثر بهم أو نقل عنهم؛ كابن سبعين وابن العربي والسهروردي"[xlii]. وكان ابن الخطيب، غالباً، يورد مُختصَرات من هذه النقول، ومقتطفات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة.
وحَرَص المؤلٍّف رحمه الله، في جملة من مواضع كتابه، على إثبات اسم صاحب المنقول، في المتن، أو عنوان تأليفه المنقول منه، أو هما معاً. وكان يستعيض، أحياناً، بدلَ ذلك، بالإشارة عن التصريح باسم المؤلِّف أو المؤلَّف أو هما معاً، ولاسيما في المواقف التي يرى أن الحاجة ماسّة إلى عزو الأقاويل والمُقتبَسات إلى أصحابها. والأدلة على ذلك في الكتاب وافرة بما يكفي؛ على نحْوِ ما نقرأه، مثلا، في "الروضة" على لسان ابن الخطيب: "قال أبو الفرج: كلما قوي حامل المحنة زِيدَ في حَمْله"[xliii]، وعلى نحو ما نقرأه في قوله: "قال الشيخ الرئيس: الزهد عند غير العارف معاملة ما، كأنما يشتري بمتاع الدنيا متاع الآخرة. ثم قال: كذلك من غضّ النقصُ بصره عن مطالعة بهجة الحق، أعلق كفيه بما يليه من اللذاتِ؛ لذاتِ الزور، فتركها في دنياه عن كرْه، وما تركها إلا ليستأجل أضعافها. وإنما يعبد الله تعالى ويُطيعه ليخوّله في الآخرة شبعة منها؛ فينبعث إلى مطعم شهي، ومشرب هني، ومنكح بهي. وإذا بعْثر عنه فلا مطمح لبصره في أُولاه وأخْراه، إلا إلى لذات قبقبه وذبذبه"[xliv]. فهذا الكلام ممّا نقله ابن الخطيب عن الفيلسوف الشهير ابن سينا، في كتابه "الإشارات والتنبيهات"، ويَنظر آخِرُه إلى حديث نبويّ نصُّه: "من كفي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي". ومن نماذج إشارة المؤلف إلى اسم الكتاب الذي ينقل عنه، فقط، قوله عن فئة المحبين الصالحين من صوفية المسلمين: "ذِكر هؤلاء بركة مضمونة. ونحن نجتزئ من ذكر سيرهم وأخبارهم بكتاب "الرسالة القشيرية" لفُشوّها وذياعها"[xlv]، ثم راح يورد جملة من أخبارهم وحكاياتهم مستفيداً ممّا وجده في كتاب القشيري. ومن المَوَاطِن التي ذكر فيها ابن الخطيب مصدر منقولاته وصاحبه معاً قولُه عقب عرْضه جملةً من الأقوال بشأن أصناف الأنوار التي تشرق على إخوان التجريد الكاملين في الحكمة العملية والذوقية: "ومعظم هذه الواردات مذكورة في كتاب "حكمة الإشراق" للسهروردي، ورتبها على أسرار حروف أوائل السُّور، وهي: ألم، ألر، كهيعص، طسم، حم، ق، ن. فلْيعلم ذلك، فإنها من الفوائد المتلقاة"[xlvi]. واكتفى ابن الخطيب، في أحيان قليلة، بالإشارة إلى الأصل المنقول منه وصاحبه، أو إلى أحدهما فحسْبُ. ويشهد لذلك، مثلا، قوله: "ونحن نُخرج من سطح الجرم الشريف هذه الأقسام غصوناً، ونجعل أقسام كل غصن من الإسلام والإيمان والإحسان في الغصن فروعاً، ونجعل أقسام كل فرع ورقاتٍ إن شاء الله تعالى، ونأتم في تعديدها... بالجزء المعروف بمقامات السائرين إلى الحق؛ إذ مؤلفه هو الإمام، وكتابه الزمام، وإنْ كان ما جاء فيه نتائجَ لا تفيد، وأخباراً لا تُبْدئ في صورة السلوك ولا تُعيد"[xlvii]. فهو يشير، في كلامه هذا، إلى كتابٍ بعنوان "منازل السائرين" للهروي، شَرَحَه ابن القيم في كتابٍ بعنوان "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"، صَدَر بمصر، عامَ 1956، في ثلاثة أجزاء. وهو، في الواقع، ينقل منه نقلا حرفيا، وإنْ حاول، أحياناً، الإجمال والاختصار[xlviii].
ولئن كانت أغلب منقولات الكتاب من مظانّ التصوف وعلم الكلام، إلا أنه انطوى، كذلك، على مادة علمية وفيرة استمدّها من مؤلفات اللغة والفقه والتاريخ والفكر وغيرها من مجالات العلم؛ مما يجعل "الروضة" بمثابة سِجِلّ علمي غني، يَنِمّ عن سَعة أفق ابن الخطيب وتبحُّره في أنهار العلم والأدب والمعارف على اختلافها. إنه، بذلك، أشْبَهُ بـ"مسرح للفاره وغيره، يجد فيه كلٌّ ميداناً لسَيْره، وملْقطاً لطيره، ومحكّاً لغيره؛ فمَنْ فاق تلف بأصوله، ومن قصّر قنع بفصوله"[xlix].
وإلى جانب هذه المادة العلمية الغزيرة التي يَحْبَلُ بها الكتاب، ذات المنابع المختلفة، نجد فيه كَمِّية كبيرة جدا من الآيات القرآنية، التي تولّى المحقق، مشكوراً، تخريجها في الحواشي، ونجد فيه – أيضاً – مقتبسات من كتب دينية أخرى، ومثالُ ذلك قول كاتبه عن أثر الجوع في النفوس: "فالجوع يرقّ به دم السويداء، وتخف به عجرفة القلب، وينفسح به مجال الروح، وتومض من ثناياه بُروق المكاشفة. قال في الإنجيل: معاشر الحواريين، جوعوا، لعل قلوبكم ترى ربكم. وتنوير القلب من الجوع من ودائع التجربة، بعد مراعاة الحذر من إخلاله بالأعضاء الرئيسية، ويسبّب اليبْس المشوّش للفكر، الجالب للاضطراب."[l]. ونجد في "الروضة"، كذلك، أحاديثَ نبوية كثيرة، اجتهد المحقق في تخريجها وبيان درجتها من الصحة والحُسْن وغير ذلك، مع ملاحظة أن ابن الخطيب لم يكن يهتم بأسانيدها، بل كان يورد متونها فحسب. ويزخر الكتاب، إلى جانب ما تقدَّم، بكَمٍّ مهمّ من أخبار العشاق والمُحِبّين وحكاياتهم وقصصهم في دروب الحب، مع حِرْص المؤلف على إيرادها وسرْدها مقرونةً بأصحابها وقائليها، ولاسيما في أواخر الكتاب. وقد تعمَّد ابن الخطيب الإكثار من الحكايات في "الروضة" لغايات حدّدها، في مقدمة كتابه، بقوله: "واجتلبت الكثير من الحكايات؛ وهي نوافل فروض الحقائق، ووسائد مجالس الرقائق، ومراوح النفوس من كدّ الأفكار، وأحْماض مسارح الأخبار، وحظ جارحة السمع ممّن منح الاعتبار، وبعض الجواذب لنفوس المحبين، والبواعث لهِمَم السّالكين"[li]. ولا يخلو الكتاب، أيضاً، من أمثال بليغة؛ كما نُلْفي، مثلاً، في الفصل المعقود لـ"ذمّ الكسل الذي يشغب عن إجابة ما يرغب"؛ إذ قال فيه ابن الخطيب: "ونحن نجلب بعض الأمثال في ذمّه، مما يسهل حفظه، ويجب لحْظه. فمن ذلك: الكسل مزلقة الربح، ومسخرة الصبح. إذا رقدت النفس في فراش الكسل استغرقها نوم الغفلة... الندامة في الكسل كالسّم في العسل. الكسل آفة في الصنائع، وأرَضَة في البضائع. العجز والكسل يُنتجان الخمول ولا تسلْ. الفلاح إذا ملَّ الحركة عَدِم البركة"[lii].
ويَلفت انتباه قارئ "الروضة" كثرة الأشعار التي أوردها ابن الخطيب لدى حديثه عن المحبة وعلاماتها ونحو ذلك من موضوعات الكتاب. بحيث ناهزت المائة وألف بيت، وقد جمعها المحقق، بعد تخريجها في حواشي المؤلَّف، في ملحَق خاص أثبته في آخِرِه مرتَّباً ترتيبا ألفبائياً. وهي – في مجملها – من الشعر الصوفي والحِكْمي والغزلي، وكان – في أكثر الأحيان – يوردها غُفْلاً من الإشارة إلى أصحابها، وبعضُها من تأليف ابن الخطيب نفسِه[liii]، الذي كان – أيضاً – شاعراً بارعاً كما نعلم. ويعكس ذلك، في الواقع، سعة محفوظه من الشعر العربي، المشرقي والمغربي معاً، وكثرة مقروئه من شعر التصوف والزهد. ثم إن نسبة مهمة من أشعار "الروضة" لا نكاد نعثر عليها إلا فيه، بعدما ضاعت أصولها، ولاسيما تلك المَقُولة في المحبة الإلهية بلغة مخالفة، تماماً، للُغة الجمهور؛ وبذلك يغدو الكتاب "ديواناً جديداً للشعر الصوفي والحِكْمي، مكمِّلاً لديوان ابن الخطيب وغيره من الشعراء"[liv]. وقد وجد ابن الخطيب أن الشعر من الكلام المناسب جدّا للحديث عن الحب والمحبّين، ولإحداث التأثير في الناس؛ فأكثر منه. يقول: "استكثرتُ من الشعر لكونه من الشجرة بمنزلة النسيم الذي يحرّك عذبات أفنانها، ويؤدي إلى الأنوف روائح بستانها. وهو المزمار الذي ينفخ الشوق في يَراعَته، والعزيمة التي تُنطق مجنون الوَجْد من ساعته، وسلعة ألسُن العشاق، وترجمان ضمير الأشواق، ومجلى صور المعاني الرِّقاق، ومكامن قنائص الأذواق. به عبَّر الواجدون عن وَجْدهم، وأشار المُحبّون إلى قصْدهم. وهو رسول الاستلطاف، ومنزل الألطاف، اشتمل على الوزن المطرب، والجمال المعجب المغرب، وكان للألحان مرْكبا، ولانفعال النفوس سبباً. فلا شيء أنسب منه للحديث في المحبة، ولا أقرب للنفوس الصّبَّة"[lv].
لقد اتضح مما سلف، إذاً، مقدار استفادة ابن الخطيب من نصوص الوحي والشريعة والأدب، ومن ينابيع ثقافية أصيلة، وتوظيفها – وَفق طرق تناصّية متعددة – لتأليف "روضتـ"ـه، التي تبدو لنا – بسبب ذلك – موسوعة تضم بين دفتيْها معارف كثيرة ومتنوعة؛ من التصوف والعقيدة والتشريع والشعر واللغة وغيرها. وقد أعان ذلك المؤلف على تناول موضوع كتابه الأساس بإفاضة واضحة، ومن زوايا عديدة؛ مما أهّله لأنْ يكون عملا مرجعياً في بابه لا يَستغني عنه الباحث والقارئ الراغب في التعرف إلى ماهية الحب الإلهي وأماراته وسبيل الوصول إليه ونحو ذلك. وقبل ذلك، فقد وظف ابن الخطيب رصيده الثقافي المُكتسَب، من العلوم الشرعية والأدبية واللغوية، في تثقيف الذات، وتزكية النفس، تحْدُوه رغبة مُلِحّة في بلوغ مقام السعادة في الحال والمآل. كما أنه نظر إلى الثقافة الإسلامية – كما يقول الكتاني – نظرة ظاهرية وباطنية معاً .. ظاهرية بحسب ما يحصل بها من الملكات والخبرات والصنائع، وباطنية بحسب ما يحصل بها من سمو النفس من مقام إلى مقام إلى أن تبلغ أعلى الدرجات. وعلى هذا الأساس، لم يتردّد الكتاني في اعتبار ابن الخطيب أحدَ فلاسفة التربية، وأحدَ أعلام فلسفة الأخلاق، في تاريخ الإسلام[lvi].
على أن مناهل ابن الخطيب ومصادره، في تأليف "الروضة"، لم تقتصر على ما ذكرْناه فحسب، بل إنه استفاد من الفلسفة ومن جملة من العلوم المتصلة بثقافة القرون الوسطى، وتأثر بروافدَ ثقافيةٍ أخرى غير إسلامية؛ على نحو ما سنبيّن في النقطة المُوالية. ونخلُص – من ذلك كلِّه – إلى أن "كتاب ابن الخطيب تخلَّق من نواتين أساسيتيْن هما: الثقافة العربية الإسلامية التي أساسُها القرآن، والثقافة الدخيلة بمختلف تياراتها. ومع أن ابن الخطيب انتقد هذه الثقافة الدخيلة فإنه تبنّى لُبَّها وجَوْهرها، ولا مناص له – وهو يكتب في التصوف – إلا أنْ يفعل ذلك. وهكذا اندمَجَتْ لديه الثقافتان"[lvii].
3/- التأثر بمؤثرات علمية وفلسفية محدّدة:
على الرُّغم من وضوح العلاقة بين هذه النقطة وسابقتها، إلا أننا آثرْنا أن نخُصَّها بحيز مستقل لإلقاء مزيد من الضوء عليها، ولأن تلك المؤثرات تركت بصْماتٍ بارزةً في المشهد الصوفي الأندلسي؛ فقادت إلى ظهور اتجاهات فيه. ولا مناص من الإشارة، في مستهلّ حديثنا عن هذه الخاصية، إلى أننا لا نريد بالمؤثرات العلمية تلك المتحِّضة للعلوم التي أومأنا إليها حين الحديث عن السمة المنهاجية الثانية؛ من لغة وفقه وكلام ونحوها من العلوم الشرعية واللغوية والأدبية، بل نقصد بها ما يُعرف بـ"العلوم البَحْتَة"؛ من مثل الطب والفلك والنبات والفلاحة، والتي كان لعلمائنا – في المرحلة القروسطية خصوصاً – إسهامٌ مشهود فيها.
إنّ التصوف في الغرب الإسلامي لم يسلمْ من التأثر بمؤثرات علمية وفلسفية، سواء أكانت مشرقية أم أجنبية. ولعل من أبرزها الفلسفة اليونانية، والآراء الباطنية، ومعتقدات الشيعة الإسماعيلية والرَّوافِض. وأسفر ذلك عن ظهور التصوف العقلي/ الفلسفي في قرطبة، على يد ابن مسرة الجبلي، الذي كان يقول بوحدة الوجود، وكان متأثرا بتعاليم الفيلسوف اليوناني القديم انباذقليس، وبالأفلاطونية المحدثة، وبكثير من الأفكار الباطنية، وله رسالتان في التصوف، هما: "الاعتبار"، و"خواص الحروف". وقد انتشر مذهبه عن طريق تلاميذه ومُريديه، وعن طريق كتبه الناجية من الحرق والإتلاف. وانتقل التصوف العقلي من الأندلس إلى مناطق عدة في المغرب الإسلامي، قبل أن يحمل لواءه متصوفة مشارقة وفُرْس وأتراك، ويتضوَّعَ أريجه عبر العالم الإسلامي كله، وينفذ إلى العالم المسيحي منذ القرون الوسطى متجسِّداً في مؤلفات ريموندو لوليو، وجيوردانو برينو، وسبينوزا حديثاً[lviii]. وعلى هذا الأساس، فإنه لا سبيلَ إلى دراسة الحركة الصوفية في بلاد الأندلس، دراسة موضوعية، ما لم نستحْضر هذه المؤثرات الفلسفية والعقدية، وغيرها من العوامل التي أثرت فيها. وقد أكّد الباحث الجزائري د. حميدي خميسي ذلك حين ذكر عدمَ إمكان الحديث عن التصوف الإسلامي بالأندلس واتجاهاته المختلفة، بما فيها التصوف الفلسفي، "ما لم نحاول استيعاب الفعالية الفكرية والثقافية في الأندلس بجميع أبعادها، من خلال نظرة شُمولية تأخذ بالحُسْبان جميع المؤثرات والخلفيات الحضارية والاجتماعية والفكرية لهذا الشطر من العالم الإسلامي، الذي يخضع، في مجمله، لعوامل إنسانية وتاريخية متنوعة توّجت، في نهاية المطاف، بظهور فكر متميِّز مَزيج من الرؤية الصوفية التي تتخذ الذوق والكشف أساساً للمعرفة، ومن رؤية فلسفية نظرية تعتمد الاستدلال والعقل والتأمّل للوصول إلى الغاية نفسِها، ولتأخذ هذه النظرة ببُعْدها الصوفي والفلسفي، في النهاية، طابَع الظاهرة الثقافية والاجتماعية المتمثلة في القول بوحدة الوجود. ومن ثم يغدو من الصعب الفصْل بين الفلسفة والتصوف، أو بين التصوف وسائر المذاهب الآخرى؛ كالاعتزال، والتشيُّع، والآراء الباطنية، والفلسفة الإشراقية واليونانية..."[lix].
ولم يكن مُسْتبْعَداً أن يتأثر ابن الخطيب بمثل هذا المناخ الثقافي والفكري الذي ساد مناطق كثيرة من الغرب الإسلامي وقتئذٍ؛ لذا يلمس قارئ تآليف الرجل في التصوف (ولْنركِّز على "الروضة" فقط) حُضورَ الأثر الفلسفي فيها، في المضمون والصياغة معاً. كما أنه ضمّن كتابه جملة من آراء الفلاسفة وتصوراتهم وتحليلاتهم، سواء أكانوا أغارقة أم مسلمين. فمن الشواهد على ذلك الحضور في كتاب ابن الخطيب قولُه عن مذهب بعض المحبين في السلوك والتصوف: "... ثم يبنون السلوك على الرياضة إلى مقام الجمع، شأن من قبلهم... فلينظر في أمهات هذا الرأي، فليست الإحاطة والاستقصاء من غرضنا في هذا الكتاب. وهذا الرأي نبيل، وحاصلُه التأليف من رأي الفيلسوف، بزيادة من الأسماء والحضرات، وتعديد الوسائط، والكلام في مرتبة النبي ووارثه. ومستندُ دعاويه على الكشف في الأغلب؛ لضعفها من جهة النقل، وعدمها من جهة العقل..."[lx]. وقد علَّق د. محمد الكتاني على الرأي المذكور في كلام صاحب "الروضة" قائلاً: "يشير إلى أن هذا المذهب متأثر بالفلسفة، ولاسيما الأفلاطونية المحدثة؛ فما عند هؤلاء أسماء، عند الآخرين جواهر كلية وأعيان موجودات. وما عند أولئك فيوضات، عند هؤلاء تجليات أو حضرات"[lxi].
ونَلْحَظُ الأثر الفلسفي في "الروضة"، كذلك، من خلال آراء فلسفية ونُقول يُُورِدُها ابن الخطيب في كثير من مواضع كتابه. فمن ذلك، مثلا، قوله عن عناصر الكون الأربعة الأساسية: "العناصر التي تركبت منها الأشياء الكائنة الفاسدة أربعة: نار وماء وأرض وهواء، جعل الله فيها – إن كانت جُسوماً – قُوى تقوم مقام الأرواح في الحي، وهي الصور التي تتم بها ماهياتها، وبها تفعل بإذن الله في غيرها، من تسخين وتبريد وترطيب وتيبيس. وهي قسمان: ثقيل وخفيف. وثقيلهما مشترَك بين اثنين، وخفيفهما مشترك بين اثنين؛ لينجذب بعضها إلى بعض، ويداخل بعضها بعضاً بالوسائط المشتركة؛ فيتحرك كلٌّ إلى ما يناسبه"[lxii]. ونقل عن أرسطو الإصطرخي، الذي وصفه بـ"الحكيم المطلق، والمبتدع الكبير، المعروف بالحق، إمام المشّائين، وواضع المنطق الذي فلاسفةُ الإسلام على رأيه"[lxiii]. كما نقل عن غيره من الحكماء والفلاسفة الأقدمين. فقد أورد – على سبيل المثال – لدى حديثه عن المحبة الباطنة، وثنائه عليها عقلا وطبعاً، أقوالاً لبعض هؤلاء الفلاسفة؛ فقال: "قال المؤلف رضي الله عنه: نقل عن أرسطو الحكيم، من الإلهيين، أنه قال: المحبة أفضل رياضات النفس، وفيها جلاء العقول وصقل الأذهان. وقال معلم الخير أفلاطون الإلهي: رَوِّضوا أنفسَكم بالمحبة، فإنها خاصية الحي من حيث هو حيّ؛ يعني: أنها لا يتصف بها جماد؛ إذِ النفس جزء من ماهية الحي، وهو صورته. فالمحبة كذلك؛ لأنها لاحقٌ من لواحقه. وقال إبرّخس[lxiv]: إذا نظرت الكواكب بعضها إلى بعض نظر مودة، وطرحت أشعتها بعضها على بعض انحطّت منها أشعة روحانية فاضلة إلى النفوس الجزئية؛ فيتعاطف بعضها على بعض، وتتحرك حركة مودة ومحبة، وذلك علامة رضا محرّكها... وقال أرسطو: لو لم يكن في المحبة إلا أنها تشجع قلب الجبان، وتسْخي كف البخيل، وتصفي ذهن الغبي، وتبعث حزم الغافل، وتخضع لها الملوك، وتضرع لها صولة الشجعان، وينقاد لها كل ممتنع، لكفى بذلك شرفاً..."[lxv].
ولم ينحصر استمداد ابن الخطيب، فيما يتمحَّض للفلسفة، في تلك الأجنبية، ولا في آراء الفلاسفة اليونانيين والأعاجم عموماً، بل نلمس، أحياناً، حضور الفلسفة الإسلامية في "الروضة" (ابن سينا – ابن رشد – الفارابي...)، وتارات يذكر بعض رموزها ممّن نقل عنهم. فعند حديثه، مثلا، عن القُوى النفسانية، اعتمد – بصورة جليّة – على هذه الفلسفة، ولاسيما على ما ورد في رسالة "أحوال النفس" للشيخ الرئيس؛ فقال: "القوى الباطنة أولها الحسّ المشترك المسمّى فنطاسيا، وهي قوة مرتبة في التجويف الأول من الدماغ، تقبل بذاتها جميع الصور المُنطبعة في الحواسّ الخمس... والقوة الخيالية أو المصوّرة، وهي قوة مرتبطة أيضاً في آخر التجويف المقدم لحفظ ما قَبِله الحسّ المشترَك من الحواس الجزئية، وتبقى فيه بعد غيبة المحسوسات .. والقوة المفكّرة، وهي قوة من قُوى النفس الناطقة، تجول في الأشياء، وتمحص الموجود، وتخرجه من حيز الإجمال، وتحققه في النفس... والقوة الذاكرة تذكر الأشياء الكامنة في النفس بالبحث والطلب .. والقوة الحافظة هي ثبوت الصورة في النفس على ما هي عليه في الخارج من الذهن وداخله .. والقوة الصانعة .. والقوة الوهمية .. والقوة النُّزوعية الشوقية."[lxvi].
وكان للفلسفة الهرمسية أثر في كتاب "الروضة"، يظهر في جملةِ مواطنَ منه. وقبل التمثيل لها، يحسُن بنا الإشارة إلى أن اسم هذه الفلسفة منسوب إلى "هرمس"، ويعني – في لغة السّريان – العالَم. ويذكر مؤرِّخو الأفكار أن هذه الفلسفة انتشرت في العالمين الهيليني والهيلينستي، وفي أماكن أخرى من العالم القديم، بدءاً من القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، بواسطة الفلاسفة والسَّحرة ومُدَّعي النبوة الفُرْس والمصريين القدامى، واقتحمت عدة أشكال ثقافية، شعبية وعالِمة، وأثّرت مبادؤها وأفكارها في حقول علمية متعددة؛ كالفلك، والكيمياء، واللاّهوت. ولم يكن الفكر والتصوف الإسلاميان بمنأى عن ذلك التأثير، في الأندلس وفي باقي مناطق الإسلام[lxvii]. وقيل إن "الهَرامِسَة" لفظٌ أطْلِق على الحُكماء الأقدمين بدون تخصيص، وقيل إن المراد به شخصيات وهمية لحكماء الأفلاطونية الحديثة. ويجعل بعضُهم الهرامسة ثلاثة، أشهرهم هرمس الأكبر، وكان قبل الطوفان[lxviii].
ومن مبادئ الهرمسية أن العالم عالمان: عالم كبير/ كلي/ الوجود وعالم صغير/ جزئي/ الإنسان، وفي كل منهما عشرون عالماً، وبينهما علاقة تقابل وتطابق. ويظهر أثرُ هذا المبدإ في "الروضة" في جعْل ابن الخطيب العقل جزءاً من العقل الفعال، والروح جزءاً من الروح الكلي، والنفس جزءاً من النفس المطلقة؛ وذلك عن طريق المطابَقة بين العالمين العلوي والسفلي[lxix]. ويظهر ذلك الأثر، أيضاً، في سعْيه إلى البحث عن خيوط رابطة بين الظاهر وغير الظاهر، القريب والبعيد؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى مقابلته بين شجرة المحبة المتحَدَّث عنها وشجرة أخرى مَرْجُوة يأمل ابن الخطيب في أن تعيد لبلاد الأندلس سالف مَجْدها وعِزِّها. يقول د. مفتاح إن "شجرة ابن الخطيب تُخفي غابة الأندلس، أو قلْ إنها الشجرة المأمولة التي هي تعويض عن شجرة بدأت تصوِّح وتذوي أوراقها وتسّاقط أوراقاً أوراقاً"[lxx]. ويظل أبرز شاهد على التطابق في الكتاب ذاك الذي وقفنا عنده سابقاً، بين الشجرة والمحبة، والأرض والنفوس. ومرّ بنا، كذلك، أن أهل التصوُّف يَعُدّون العالم السفلي ظلاّ أو نسخة من العلوي.
ومن هنا يتضح لنا جليّا تأثير الفلسفة الهرمسية والأفلاطونية المحدثة، علاوة على المنطق الأرسطي، في كتاب ابن الخطيب؛ على غرار تأثيرها في كثير من الصوفية والمفكرين في الأندلس، إبّانئذٍ. أضِفْ إلى ذلك تأثره بحمولة ثقافية ومعرفية أصيلة غزيرة كما رأينا سابقاً. ولا شكَّ في أن ثمة غايات كانت تحْكُم هذا الاستمداد، وتدفع إليه. وذلك ما عبّر عنه محمد مفتاح بقوله: "استحضر ابن الخطيب التراث العربي الإسلامي والتراث الدخيل ليتحقق الجمع بين النبوة والحكمة والملك، ويتحقق الترابط الفعلي بين أجزاء الكون، وتبادل التأثير فيما بينها بالتجاذب والتنافر. ولذلك قام ابن الخطيب بالربْط بين عوالم ثلاثة: عالم كلي، وعالم وسيط هو عالم النبوة، وعالم واقعي هو الذي كانت تحْياه الأندلس أرضاً ومجتمعاً وحُكّاماً. وقد أمكن له الانتقال من عالم إلى آخر عن طريق المماثلة والمشابهة: إن النبي نسخة من الكون، والولي الحاكم فيه قبس من النبوة؛ فمن القبس إلى النسخة فإلى الأصل، أي من العالم السفلي إلى العالم العلوي"[lxxi]. ويضيف الناقد المرموق محمد مفتاح أن اعتماد ابن الخطيب على الثقافة العربية الإسلامية وكتاباتها المرجعية الأصيلة (قرآن – حديث – أخبار – آثار – أمثال – أشعار – حكايات)، واعتماده – في الوقت نفسِه – على موادّ فلسفية هرمسية وأفلاطونية حديثة وأرِسْطية مَشائية هو سبب تميُّز منهجية كتابه، ومَكْمَن خُصوصيتها[lxxii].
ولا يملك قارئ مؤلَّف ابن الخطيب إلا أن يقرّ بحقيقة حضور الأثر العلمي فيه بقوة أحياناً، وبإفادة صاحبه من ميادين علمية عدة وتوظيف جملة من موادها وأفكارها في تأليف "الروضة"، ولاسيما تلك التي كان لابن الخطيب إسْهام فيها؛ من مثل الطب والفلاحة والزراعة والنبات والفلك أيضاً، إلى درجة أنك لمّا تقرأ، في مواضع من "الروضة"، كلام ابن الخطيب عن مسائل ذات صلة بالطب أو الفلاحة، مثلا، تحْسب أنك تقرأ لعالِمٍ ذي خبرة في فلاحة الأرض أو في علاج الأدواء. ولا بد من الإشارة إلى أن ابن الخطيب اشتغل بالمجال الفلاحي، لاسيما حين أطيح بمليكه في غرناطة، فاضطر إلى المغادرة في اتجاه البلاط المريني بالمغرب الأقصى، وكان له في ثغر سلا وضواحيه رياض وبساتين يمارس فيها الفلْح والغرْس. كما أن له رسائل ومؤلفات ومنظومات، بعضها نُشر وحُقق، في الأغذية وطب الأمراض. وإذا علمْنا بهذه المعطيات من حياة ابن الخطيب سَهُل علينا فهْم سبب حضور مثل تلك المؤثرات في "الروضة".
فحينما نقرأ، مثلا، قول ابن الخطيب، في أحد فصول القسم الأول من "الروضة"، عن "إزالة العشب الذي يضرّ بالشجرة المغترسة بالطبع، ويُعاديها بالجوهر"، ويريد بذلك – في حقيقة الأمر – "الأخلاق الذميمة": "والعشب الذي تضرّ مجاورته بغراس المحبة هو الذي جعل الله بينه وبين تلك الشجرة منافرة طبيعية؛ كما يقع بين الحيوان والنبات من المضادّة الجوهرية؛ إما معلومة السبب، وإما منسوبة إلى باب الخواصّ. فمِمّا زعم أرباب الفلاحة فيه وقوع العداوة الآس والورد، وأنه إن اغترس حول الآس أفسده، وشجرة الكرنب تفسد شجرة العنب. وقالوا: إن أغصان شجرة العنب تفرّ عنها، وإن أجزاء الكرنب إذا وضع في الخمر أسرع إليها التخليل، وذلك لذهاب روحها به"[lxxiii]. فقد تضمَّن القول معلومات قيّمة في مجال النبات والزراعة، لا يعرفها أكثر الناس، بل هي مما يعرفه الخبراء في الفلاحة والمتصلون بهم. ويبدو أن ابن الخطيب خالَط بعضَهم، واستفاد منهم معلومات في المجال في غاية الأهمية. وغيرُ خافٍ أن المؤلف قد وظف لغة من صميم ميدان الأغراس والأعشاب والنباتات للحديث عن ميدان دلالي آخر، هو الأخلاق النفسية.
ونجد ابن الخطيب، في مواطن أخرى من "الروضة"، يتحدث عن أمور مَا مُقْحِماً في ثنايا كلامه معلوماتٍ من صميم مجالات الطب والأغذية والبيولوجيا، وكأننا أمام طبيب أو عالم أحياء مجرّب وذي خبرة طويلة في ميدانه. ومما يمكننا الاستشهاد به على ذلك قول ابن الخطيب: " .. ثم الإنسان وانتصاب قامته طالبةً بنية العلو، وجعْل عينيه طليعة في أعلى رابية منه، وحركة يديه ورِجْليه إلى جهتهما، وصوْنهما بإطْباق الجُفون، وتهديبهما بأهداب الأشفار، وجعْل الحاجبين فوقهما رفرفاً واقياً ما ينزل من الأعلى، وتهيئة آلات الغذاء إنْ كان مُنْبتاً على الأرض، بخلاف النبات؛ فجعل الفم تمضي منه الأغذية إلى جميع أجزائه، ورتب فيه عظامه على اختلافها؛ من آلة قطع ورضٍّ وكسْر، وطواحن تهيئ المطعوم، واللسان يقلبه فوق الطواحن، واللعاب المتفجّر من جانبيه يهيئ له الابتلاع، ولا تنبت له إلا عند الضرورة من فطام الرضاع، وتناول المطعومات بالتدريج. وأعْجب من ذلك حال التوالد، واستقرار بذره في حرث الرحم بزرافة النسل، متشوقاً إلى ذلك باللذة، مستدرجاً بالشبق."[lxxiv].
وتتخلل الكتاب مواد وأفكارٌ ذات صلة بعلم الفلك والتنجيم، استمدّها ابن الخطيب من علماء وفلاسفة وفلكيين قدامى، تركوا تآليف في هذا الصدد، ولكنه ربطها بالنفس والروح الإنسانيتيْن؛ على غرار ما كان شائعاً لدى أمم أخرى سابقة. فقد أورد في "الروضة" أن للنجوم والتشكيلات الفَلَكيّة أثراً في الإدراك النفسي والأمْزجة والطبائع والمُيول والأحوال النفسية؛ فقال، مثلا، إن "الإدراكات العقلية تدرك بالحُسْن الموجود في غير المحسوسات؛ إذ يحكم على العلم بالحسن والقبح، وعلى المعاني والأخلاق. فمَنْ كانت حواسّه أغلب مدركاته أو لم يكن له مدرك غير الحواس لم يدرك إلا جمال الظاهر، ومَنْ كان الإدراك العقلي عليه أغْلب كان أغلب مدركاته في الأمور الروحانية. قالوا: ووُفور هذه المدارك في بعض الناس وقلّتها في آخرين مواهب مرتبطة بتشكيلات فلكية، اقتضتها الهيأة المرجحة لوجوده على خلق وخلق ما بتقدير العليم الحكيم"[lxxv]. ويوضح هذه الفكرة، نقلا عن غيره، قائلاً: "قالوا: فمن كان المُسْتولي عليه في أصل مولده القمر أو الزُّهَرة أو زُحَل كان الغالب على نفسه وطبيعته قوة النفس الشهوانية نحو المأكولات والمشروبات والجمع والادّخار. وإن كان المستولي على أصل مولده الشمس أو المرّيخ أو الزهرة أو القمر فإن الغالب على طبيعته شهوة الجماع والمناكح. وإن كان المستولي الشمس وعُطارد كان الغالب عليه شهوات النفس الناطقة من المعارف والحكم والعدل والفضائل"[lxxvi].
ووَرَد الربْط بين المحبة والانجذاب النفسي – أو عدمهما كذلك – وبين النجوم والكواكب، أيضاً، في كلامٍ نقله ابن الخطيب عن بعضِ مَنْ يؤمن بمثل هذا الربط من المُنجّمين والفلكيين، ممّا جاء فيه أن هؤلاء "علّلوا ما يقع من ذلك بين الأشخاص بالعلل الفلكية القصوى؛ فزعموا أن أسباب المحبة بين الأشخاص لمناسبات في المدبّرات، لكل محب ومحبوب في العالم الأعلى، الذي لا تتحرك في هذا العالم ذرة إلا من أجله؛ وذلك على وجهين: إما من مناسبات مدبرات للمحبوب في مولده. أو من مناسبات تقع بين مولديْ كل واحد من المحب والمحبوب .. والمدبرات خمسة عشر."[lxxvii]. وأفاض، عقب ذلك، في شرْح تلك المناسبات والموافقات، وبيان ما يترتب عنها من أمزجة وإحساسات، بادئاً بقوله: "فإذا اتفق أن تكون مدبرات أحد الشخصين مناسبة لمدبّرات الآخر حصل الوُدّ والمعرفة، ويكون اختلاف المحبة بالأشدّ والأضْعف باختلاف قُوى المناسبات. فالنظر[lxxviii] ينقسم إلى ما يوجب المودة التامة والمحبة الفائقة، وهو نظر التثليث، وإلى ما يوجب نصف تلك المودة، وهو التسديس، وأيْمَنُ النظرين أقوى من أيْسَرها، واتصاليه أقوى من غير اتصاليه"[lxxix].
وتتأثر المحبة، في نظر هؤلاء، بالنجوم وتحرُّكاتها قوة وضعفاً. فقد جاء في "الروضة" تأكيدُ هذه الفكرة وتفصيلها على النحْو الآتي: "تضعف المحبة حيناً، وتقوى حيناً؛ وذلك عندهم بحسب انتقال الفرداريات والكذخذاه والأوتاد الأربعة. وتقريب ذلك مفصّلاً أن الولد إن اتفق كون طالعه خامسَ أبيه، وكان رب طالعه في تثليث ربع طالع الآخر الأيمن، ونير النوبة كذلك، وسهم الحب مثل طالع الولد، واتفقت الأدلة، كانت أنْهى المحبة، ونقْصُها بحسب ما نقص. وحب الزوجة بأنْ يكون طالعها سابع الزوج، والزهرة في سابعها، وطالعه بالعكس، أو بنظر الطالعين نظر المودة... وكذلك حب الإخوة والأقارب والملوك وسائر الناس"[lxxx].
والواقع أن هذه النظرية التي تربط المحبة وغيرها من أحوال النفس بالأفلاك ومنازل النجوم قديمةٌ في الفكر البشري، عرَفها الإغريق والهنود والفرس وقدماء المصريين، وانتقلت إلى ثقافات وشعوب أخرى؛ كالعرب القُدامَى. يقول أحدُ الباحثين: "إن القول بأثر النجوم في عَقْد المحبة قد قالت به العرب في فترة مبكرة، وإنّ أثراً وافداً قد ظهرت ملامحُه في ذلك، حتى وإنْ كان الاهتمام بالنجوم وتحّكمها في مصائر البشر سابقاً على ذلك. ولكنْ هذا كله لم يأخذ شكل النظرية المتكاملة، بل لم يهتم بقضية المحبة في ذاتها في إطار علم النجوم، وإنما جاء تفريعاً على القول بالطبائع واكتشاف المستقبل بصفة عامة. وهذا الأثر المحدود هو الذي يناسب الإيمان الإسلامي بالقدر، وبأن المقدّر غيب، وأن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء"[lxxxi]. ولئن كان بعضهم يجعل اليونان، وعلماءَه في الفلك، مصدر هذه الفكرة، إلا أن آخَرين، ومنهم المستشرق كارلو نلينو، يُرْجِعُونَها إلى ثقافات أخرى شرقية (هندية – فارسية). ولعل ابن داود؛ صاحبَ كتاب "الزهرة" في موضوع الحب، أول من نقل تلك الفكرة إلى الثقافة العربية، عن بطليموس بالأساس، والذي كان يزعم أن الصداقة والعداوة إنما تحْصلان في النفس بحسب وضْع الشمس مع القمر في السماء. إلا أن هذه الفكرة عرفت تراجعاً واضحاً، في ثقافتنا، خلال العصر الوسيط، ولم يتحمّس لها علماء كثيرون (الوشاء – ابن حزم – ابن الجوزي)، رغم اطّلاعهم على أسُسها ومقتضياتها. بيد أنها ستعود إلى الظهور، بقوة، في العصور المتأخرة، وسيتبنّاها عددٌ من علماء الإسلام؛ أمْثال داود الأنطاكي المتوفى سنة 1008هـ. كما أن أصحاب هذه النظرية والقائلين بها، من العرب ومن غيرهم، يَصفون كلّ نجم أو فلك بصفات محددة يُحْدث بها أثراً في النفوس؛ فيصدر منها النفور أو الانجذاب والمحبة. فقد قالوا، مثلا، عن كوكب الزُّهَرَة إنه يتسم بالحُسن والبهاء والجمال المُفرط، وإن النظر إليه يبعث في نفس الناظر الارتياح والتلذذ والوَلَه الذي قد يقود إلى الشبق. ولهذا كان للزهرة اعتبار ومكانة خاصّتان لدى القدماء؛ فاتخذها اليونانيون الأقدمون معبوداً يُعْبَد، وأسْمَوْها "أفروديت" (إلهة الحب والجمال). وسمّاها الرومان "فينوس". وقيل إن عرب الجاهلية، الذين كانوا يسكنون شمال شبه الجزيرة العربية، عَبَدوها، كذلك، وسَمّوها "العُزّى"[lxxxii]...
وبالإضافة إلى هذا الربط بين الأفلاك ومنازلها وتشكيلاتها وبين النفس الإنسانية وحالاتها وأحاسيسها وأمْزجتها، نُلْفي في مؤلَّف ابن الخطيب ربْطاً آخَرَ بين المحبة والمؤثرات الموسيقية والغِنائية، وهو ربْطٌ اطّلع عليه في بعض تآليف الحُكماء والعلماء، وارتأى أن يورده في سياق حديثه عن المحبة. يقول: "... وكذلك المناسبة بين الألحان الموسيقية وبين النفوس ذات ارتياض السمع، فيؤثر فيها عشقاً ونفرة؛ بحيث تَحار الأذهان في علته. وقد علل ذلك الحُكماء بمناسبات عَدَدية لما أخرجوا نسبة الصوت إلى الصوت، أو الوتر إلى الوتر، أو النقرة إلى النقرة في الخرق والحدة أو الثقل، أو في الفصل بين الأوتار والدساتين[lxxxiii]، ليجدوا أن كل ما وقع من النسب في الأصوات الملذوذة يرجع إلى أبعادها. والبُعْد ما بين النغمتين... وكلها في نسبة ذي الأضعاف، أو في نسبة الجزء، أو في نسبة الأجزاء. أعْني أن التفاضل الواقع بين النغمتين إما في الزمان... أو في المكان... أو في غير ذلك من الكيْفيّات، وهي المُعبَّر عنها عندهم باللُّحون، لا بد أن يكون في إحدى هذه النسب. فأما نسبة الجزء فنسبة عدد إلى عدد بعده... وأما نسبة ذي الأضعاف فعَكْس هذه النسبة... وأما نسبة الأجزاء فهي كنسبة ستة إلى ثلاثة عشر... فجميعُ ما وقع من النسب اللّحْنية في نسبة الجزء أو في نسبة ذي الأضعاف كان ملائماً عذباً يقْبله السمع، وتحنّ له القوة الناطقة، وتألفه الطِّباع. ويتفاضل في العذب والأعْذب ما وقع في هاتين النِّسْبَتين"[lxxxiv]...
فهذه، إذاً، جملة من المعالم البارزة لمنهج ابن الخطيب السَّلْمانيّ في "روضتـ"ـه، يؤكّد بعضُها، حقّاً، أصالته وفَرادَته وتميُّز المؤلِّف في تناول موضوع الحب الإلهي وما يتصل به على نحْوٍ لا نظير له قديما وحديثاً، لدينا ولدى غيرنا كذلك، دون أن يَجْرؤ على ادّعاء الإحاطة في ذلك التناول[lxxxv].
إن التصوف، في الجوهر، واحد، ومبتغاه الأساس واحد، ولكنّ طريقة التعبير عنه وتفسيره تختلف من صوفي لآخر؛ وهو ما يجعله أقرب إلى الفنّ، لاسيما وأن أصحابه يتوسّلون بالأسلوب الرمزي في وصف حالاتهم[lxxxvi]، وبلغة خاصّة حمّالة لمعانٍ روحية مشدودة إلى مقصدية الصوفيّ وتجربته الذاتية؛ الأمرُ الذي يستدعي – على مستوى تلقّيها – التسلّحَ بميكانيزمات كفيلة بفهمها، والتمرُّسَ والاحتكاك بكتابات التصوف والزهد قبل ذلك، والتماهيَ مع تلك اللغة الذي يستلزم اندماجَ متلقي هذا الضَّرْب الكتابي، قارئاً كان أو باحثا دارساً، برصيده المعرفي، في الخصوصية الصوفية، وضبْطَ تقاطعات تلك اللغة الرمزية[lxxxvii]... والواضحُ أنّ ابن الخطيب قد وظّف، في كتابه محور دراستنا هذه، لغةً روحية عرفانية، ومصطلحات صوفية من الوفرة بمكان، علاوة على استثماره سجِلاّتٍ لغويةً أخرى، متعددة ومتنوعة، اقتضاها مقام تناول موضوعة مؤلَّفه الرئيسة من شتى زواياها. وكانت السمة المائزة في هذا التناول، بلا شكّ، كيفية توضيحه ماهية التجربة الصوفية من خلال تجسيدها عبر آلية الاستعارة؛ كما بيّنّا في موضع سابق من هذا البحث، وقد كان التوفيق حليفه، إلى أبعد الحدود، في مقاربته التمثيلية. وهذا ما أكّده، قبْلُ، د. محمد الكتاني بقوله: "أعتقد أنه لم يوفق أحد من المؤلفين القدماء في أدبيات التصوف مثلما وفّق ابن الخطيب – رحمه الله – في تجْلية حقيقة التجربة الصوفية، بطريقة تمثيلية مشوّقة للقارئ، تجعله يستمتع برحلته مع المؤلف في الانتقال من المعطيات البديهية والتجارب النفسية إلى المشاهدات القلْبيّة والأذواق الصوفية، والوقوف على ما يُعانيه الصوفيّ من اغتراب، وغيبة واصطلام، وقبْض وبسْط، وسكر وصحْو، وفرق وجمع"[lxxxviii].
باحث مغربي.
[i]– للاستزادة بخصوص ترجمة الرجل، انظر مقالنا "ابن الخطيب الأندلسي وإحاطته"، مجلة "التراث العربي"، فصلية محكّمة يُصْدِرها اتحاد الكتاب العرب، ع.128، شتاء 2013، ص 131 – 156.
[ii]– عبد الرحمن بن خلدون: التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا، والكتابُ هو الجزء 7 من تاريخه المسمّى "كتاب العبر، وديوان المبتدإ والخبر، في تاريخ العرب والبربر، ومَنْ عاصَرهم من ذوي الشأن الأكبر"، تح: خليل شحادة، مراجعة: سهيل زكار، دار الفكر، د.ت، ص 591.
[iii]– حسن الوراﮔلي: لسان الدين بن الخطيب في آثار الدارسين (دراسة وبيبليوجرافية)، منشورات عكاظ، الرباط، سلسلة المعتمد بن عباد للتاريخ الأندلسي ومصادره، رقم 3، ط 1990، ص 5.
[iv]– نذكر منهم د. عبد اللطيف السعداني في مقاله ""روضة التعريف بالحب الشريف" لابن الخطيب (دراسة ونقد)"، مجلة "دعوة الحق"، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، ع.4، س.15، يوليوز 1972.
[v]– انظر التفاصيل في كتاب الوراﮔلي المذكور في الهامش 3.
[vi]– التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا، مصدر سابق.
[vii]– محمد حسن عبد الله: الحب في التراث العربي، سلسلة "عالم المعرفة"، الكويت، ع.36، دجنبر 1980، ص 40.
[viii]– ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تح. وتق.: محمد الكتاني، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، ط.1، 2004، ص 87.
[ix]– المصدر نفسُه، ص 96.
[x]– حميدي خميسي: نشأة التصوف في المغرب الإسلامي الوسيط (اتجاهاته، مدارسه، أعلامه)، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردنّ، ط.1، 2011، الفصلان 5 و6.
[xi]– ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تح: محمد الكتاني، ص 506.
[xii]– نفســـه، ص ص 183-184، بتصرف.
[xiii]– نفســـه، ص 505.
[xiv]– ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تح. وتع. وتق.: عبد القادر أحمد عطا، دار الفكر العربي، د.ت، ص 37. (الكلام للمحقق عطا)
[xv]– ابن خلدون: المقـدمة، تح: درويش الجويدي، المكتبة العصرية، بيروت، ط.1، 1999، ص 449.
[xvi]– من تصدير الشيخ مصطفى عبد الخالق الشبراوي لكتاب "روضة التعريف..."، بتحقيق عبد القادر عطا، م.س، ص 12.
[xvii]– من التصدير نفسِـه، ص 15.
[xviii]– ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، تح: محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط.2، 1973، 4/460.
[xix]– من تقديم د. محمد الكتاني لكتاب "روضة التعريف بالحب الشريف" الذي حقّقه، ص 46.
[xx]– محمد الكتاني: ثقافة القرن الثامن الهجري بين منهجي ابن خلدون وابن الخطيب، مجلة "دعوة الحق"، ع.259، شتنبر/ أكتوبر 1986، ص 55 وما بعدها.
[xxi]– محمد آذرشب: لسان الدين بن الخطيب عاشقاً – دراسة مقارنة في نظرية الحبّ عند ابن الخطيب والأدب العرْفاني الفارسي، مداخلة شارك بها صاحبُها في الندوة العلمية الدَّولية التي أقيمتْ في حلب بسوريا، في كانون الأول 2003. (البحث مُتاح على الشابكة)
[xxii]– ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تح: محمد الكتاني، ص 89.
[xxiii]– من تصدير الشيخ الشبـراوي لكتاب "روضة التعريف..."، بتحقيق عبد القادر عطا، ص 12.
[xxiv]– من تقديم المرحوم عبد القادر أحمد عطا لكتاب "روضة التعريف..." (عامَ 1966) الذي حققه، ص 29.
[xxv]– ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تح: محمد الكتاني، ص ص 89-90.
[xxvi]– محمد مفتاح: التلقي والتأويل – مُقارَبة نسَقية، المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، ط.3، 2009، ص 204.
[xxvii]– ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تح: محمد الكتاني، ص 426.
[xxviii]– نفســه، ص 427.
[xxix]– محمد مفتاح: التلقي والتأويل، ص 198.
[xxx]– نفســـه، ص 204.
[xxxi]– نفســـه، ص ص 194-195.
[xxxii]– من تقديم عبد القادر عَطا لكتاب "روضة التعريف..." الذي حقـقه، ص 31.
[xxxiii]– محمد مفتاح: التلقي والتأويل، ص 194.
[xxxiv]– نفســه، ص ص 207-208.
[xxxv]– لمزيدٍ من التفاصيل في هذه النقطة، انظر مقال ""روضة التعريف بالحب الشريف" لابن الخطيب (دراسة ونقد)" لعبد اللطيف السعداني، مجلة "دعوة الحق"، ع.4، يوليوز 1972. وانظر، أيضاً، دراسة "الشجرة: دلالاتها ورموزها لدى ابن عربي" لمهى مبيضين وجمال مقابلة، مجلة جامعة دمشق، ع.2، مج.28، 2012. وكذا مقالنا "الاستعارة كآلية لتجسيد المحبة لدى ابن الخَطيب الأندلسي"، جريدة "العَلَم" (الملحق الثقافي الأسبوعي)، الرباط، عدد الخميس 2/1/2014، س.41.
[xxxvi]– محمد مفتاح: التلقي والتأويل، ص 206.
[xxxvii]– عبد الله بن عتو: "مقدمة للخطاب الصوفي المغربي الحديث: قضايا في المنهج والرؤية"، مطبعة الأمنية، الرباط، ط.1، 2008، ص 33.
[xxxviii]– ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تح: محمد الكتاني، ص ص 87-88.
[xxxix]– نفســه، ص ص 43-44. (من تقديم المحقِّق)
[xl]– نفســه، ص 442.
[xli]– نفســه، ص 477.
[xlii]– نفســه، ص ص 42-43. (من تقديم د. الكتاني)
[xliii]– نفســه، ص 559.
[xliv]– نفســه، ص 446.
[xlv]– نفســه، ص ص 524-525.
[xlvi]– نفســه، ص 425.
[xlvii]– نفســه، ص ص 391-392.
[xlviii]– نفســه، ص 392، ها. 1009. (من تعليق المحقق)
[xlix]– نفســه، ص 92.
[l]– نفســه، ص 388.
[li]– نفســه، ص 92.
[lii]– نفســه، ص 164، بتصرف.
[liii]– نفســه، ص 133 – ص 134 – ص 530 – ص 542... إلخ.
[liv]– نفســه، ص 46. (من تقديم المحقق محمد الكتاني)
[lv]– نفســه، ص ص 91-92.
[lvi]– محمد الكتاني: ثقافة القرن الثامن الهجري بين منهجي ابن خلدون وابن الخطيب، م.س، ص 63.
[lvii]– محمد مفتاح: التلقي والتأويل، ص 201.
[lviii]– حميدي خميسي: نشأة التصوف في المغرب الإسلامي الوسيط، م.س، ص6...
[lix]– المرجع نفســه، ص 34، بتصرف.
[lx]– ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تح: محمد الكتاني، ص 504.
[lxi]– نفســه، ها. 1421، بتصرف (من تعليق المحقق). وقال الباحث نفسُه عن هذا المذهب/ وحدة الوجود، في حاشية أخرى من الكتاب، إنه "مذهب يرى أصحابه أن الوجود حقيقة واحدة، أما التعدّد فيه فأمرٌ قضت به الحواسّ الظاهرة والعقل الإنسانيّ المحدود؛ لأنه يعجز عن إدراك الوحدة الذاتية والكلية للأشياء. ويقول ابن عربي (الفتوحات: 2/604): سبحان مَنْ خلق الأشياء وهو عينها، فهو يقرر وجود خالق ومخلوق، كما يقرّر الوحدة الذاتية بينهما... ولا يمكن إدراك هذه الوحدة إلا بالذوق لا بالعقل. والمذهب متأثر بالأفلاطونية، ولاسيما في القول بالفيوضات؛ فالجواهرُ الكلية العقل، والنفس، والهيولى إلخ هي التجليات عندهم. وهي إطلاقاتٌ اعتبارية؛ لأنّ الوجود الحقيقي إنما هو للذات الإلهية، وكل وجودٍ آخر لا يستقلّ عنها؛ لأن الوجود كله عندهم اتجاه دائري ينتهي حيث يبتدئ. وقد أثارت هذه النظرية ضجّة عظيمة في الفكر الإسلامي، ولقيت نقداً عنيفاً لِما تحمله من نتائجَ هدّامةٍ للعقيدة الإسلامية السّنية". (نفسه، ص 489، ها. 1403)
[lxii]– نفســه، ص 307.
[lxiii]– نفســه، ص 450.
[lxiv]– حكيم وفيلسوف وفلكي كلداني قديم.
[lxv]– نفســه، ص ص 303-304.
[lxvi]– نفســه، ص 124-126.
[lxvii]– محمد مفتاح: التلقي والتأويل، ص ص 195-196.
[lxviii]– ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تح: محمد الكتاني، ص 450، ها. 1150. (من توضيح المحقق)
[lxix]– محمد مفتاح: التلقي والتأويل، ص 200.
[lxx]– نفســه، ص 196.
[lxxi]– نفســه، ص 206.
[lxxii]– نفســه، ص 212.
[lxxiii]– ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تح: محمد الكتاني، ص 191.
[lxxiv]– نفســه، ص ص 225-226.
[lxxv]– نفســه، ص 326.
[lxxvi]– نفســه.
[lxxvii]– نفســه، ص 331. (انظر أسماء هذه المدبرات وشروحها في "الروضة"، ص 331)
[lxxviii]– معناه، في عُرْف المنجّمين، اتخاذ الكوكب وضعاً مخصوصاً في الفلك.
[lxxix]– نفســه، ص 332. (انظر تعريف الاتصال في الصفحة نفسها؛ تعريفَ المحقِّق)
[lxxx]– نفســه، ص 333.
[lxxxi]– محمد حسن عبد الله: الحب في التراث العربي، م.س، ص ص 185-186.
[lxxxii]– المرجع نفســه، ص 181-185.
[lxxxiii]– الدساتين (ج. دستان): "علامات في العود تحدد أقسام الأوتار المشدودة بين المشط والملاوي. وكل دستان يختصّ به أصبع من أصابع العازف". (ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تح: محمد الكتاني، ص 329، ها. 834)
[lxxxiv]– ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تح: محمد الكتاني، ص 329، بتصرف.
[lxxxv]– ورد نفي هذه الإحاطة في عدة صفحات من الكتاب المَعْنيّ بالدراسة؛ مثل: ص 287 – ص 323 – ص 344 – ص 504.
[lxxxvi]– عيد الدرويش: بين الفلسفة والتصوف، مجلة "المعرفة" السورية، ع.593، شباط 2013، ص 213.
[lxxxvii]– إسماعيل راضي: التصوف بين المدارَسة والممارَسة، منشورات مركز الإمام الجُنيْد بوجدة (تابع للرابطة المحمدية للعلماء)، سلسلة "مباحث السلوك"، رقم 1، طبْع دار أبي رقراق، الرباط، ط.1، 2012، ص ص 7-8.
[lxxxviii]– ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تح: محمد الكتاني، ص 5. (من تقديم المحقق)