رسالة الخليج

أكاديمية للشعر العربي في أبوظبي في إطار الهوس بـ"الأول" في كلّ شيء و"تسليع" الثقافة

غيث سالم

بعد سلسلة مشاريع وبرامج ثقافية احتفالية تغري بمقايضة الإبداع بالملايين وتحتفي بتسطيح الثقافة، وتروم أن تكون "الأول" و"الأكبر" و"الأعظم" والأكثر إدهاشاً، بالمنطق الاستهلاكي العابر، من نوع برنامج "شاعر المليون" للشّعر النبطي، الأول من نوعه خليجياً وعربياً، ومسابقة "أمير الشعراء" التلفزيونية، الأولى من نوعها عربياً ودولياً، وجائزة الشيخ زايد للكتاب (التي تبلغ إجمالي جوائزها المالية سبعة ملايين درهم إماراتي، ما يجعلها "الأغنى" و"الأكثر كلفة" من نوعها في العالم، علاوة على كونها الأولى التي تُمنح في تسعة فروع مختلفة)، دشّنتْ هيئة أبوظبي للثقافة والتراث في أبوظبي "أكاديمية الشعر العربي" كأول أكاديمية ثقافية في الوطن العربي "تعنى بالإبداع الشعري ودراسته وتدريسه بصورة علمية ومنهجية بما يشكل دعماً قوياً لتعزيز الهوية الوطنية"، دون أن يتوقف البيان بالشرح والتوضيح لمصطلح "الهوية الوطنية"، وما إذا كان المقصود بالهوية تعريف "عُصبة" اجتماعية تنضوي تحت وحدة سياسية واقتصادية واجتماعية بعينها، أم أن الهوية الوطنية هي هوية ثقافية أو هوية الشعر العربي نفسه، بوصفه وطناً للجميع، بغض النظر عن انتماءات الشعراء العصبية والقبلية، أم لعلّ الهوية الوطنية إنما هي في النهاية مفهوم غيبي شأنها في ذلك شأن العديد من المفاهيم المفخخة، سواء بالمعنى السياسي أو الثقافي.
ويحرص البيان على  أن يشدّد على أن الأكاديمية هي المؤسسة "الأولى"، من حيث طبيعة توجهاتها في الوطن العربي، حيث تسعى إلى "دعم الإبداع وحفظ الموروث الشعري"، كما يُرتقب منها أن "تؤدي دوراً مهماً في دعم الشعر الفصيح والنبطي وتشكل رافداً لأية برامج أو مشاريع ثقافية تهدف إلى الارتقاء بالشعر." ويُتوقع منها ضمن الأهداف المعلنة أن تؤدي دوراً مهماً في دعم الشعر العربي والمحافظة عليه ودراسته وتدريسه بعيداً عن الصورة التقليدية المتداولة"، دون أن نعرف كيف لأكاديمية، اتخذت على عاتقها أهدافاً مهولة، "غير متواضعة"، وقطعاً غير قابلة للتحقق والتبلور في المدى المنظور، ناهيك عن كونها ضبابية في الأصل، أن تتولى على عاتقها مهمة استيعاب كل مراحل تطور الشِّعر العربي، سواء من خلال الاستيعاب التدريجي أم عبر اعتماد نظرية "حرق المراحل" قبل أن تطرح برنامجاً ضخماً غيوراً على الشعر العربي، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه لا خلاف على تعريف الشعر وآليات تدريسه وسبل تقديمه. بيد أنه في النهاية، وضمن سياسة ثقافة الاحتفاء، التي تعتمد سياسة الصخب والتهريج وتجنيد الأتباع والمريدين، من السهل الترويج لمشاريع تشبه مشاريع تعبئة الشمس في زجاجات!

وبحسب ما ذهب إليه بيان إطلاق الأكاديمية، فإن ما حدا بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، المؤسسة المشرفة على طرح إمارة أبوظبي عاصمة للثقافة في الخليج، إلى أن تتبنى هذا المشروع ذاك الزخم الشعري الجماهيري الذي لمسته الهيئة منذ إطلاق برنامج "شاعر المليون" للشعر النبطي، مع تقدم المئات من "أشباه الشعراء" للمشاركة فيه، ضمن مدّ شعري عرمرميّ الطابع كشف بأن الشعر المقدم على طريقة برامج تلفزيون الواقع، غير الواقعية، قابل للاستثمار التجاري! من هنا، "لمست الهيئة حاجة عدد غير قليل من الشعراء الشباب للعثور على من يوجههم ويتبنى موهبتهم الشعرية ويرعاها"، لتكون أكاديمية الشعر بالتالي ملاذاً ومأوى لمشردي الشعر العربي، غير المعترف بهم!
لعلّ نظرة إلى مجموعة الأهداف التي وضعتها الأكاديمية في مخطط تأسيسها، ليعزز ما ذهبنا إليه أعلاه لجهة المشاريع الثقافية التي تعتمد مبدأ "التهويل" و"التضخيم"، وفي النهاية تظل ذات طابع ضبابي، عمومي، قابل لأن ينسحب على أي شيء آخر، وفي النهاية لا يعني شيئاً كما لا يقدم أي شيء.. بمعنى أنه من السهل جداً أن نأخذ حزمة الأهداف المعلنة ونطرحها بوصفها أهدافاً لأي مشروع آخر، ثقافي أو غير ثقافي، لتبدو مشروعة تماماً، فقط من منطق الاحتفاء الصاخب، حيث تعلو نبرة الإنشاء على أي صوت مشكّك. أما هذه الأهداف، كما جاء في بيان إطلاق الأكاديمية، فمن أبرزها: الإشراف على البرامج والمشاريع الثقافية الهادفة إلى دعم الشعر ونشر الثقافة المحلية والعربية، إلى جانب الإسهام في التعريف بالشعر النبطي والموروث الشفاهي، وتزويد الدارسين والمتدربين بالمعارف وإكسابهم المهارات التطبيقية اللازمة لتمكينهم من الإلمام بمختلف فنون الشعر وعناصره الفنية وأدوات الإبداع فيه عن طريق استخدام مختلف الوسائل التعليمية الحديثة.

من الأهداف الأخرى التي تعلّب الشعر وتعبئه في زجاجات جميلة، تشجع على شرائها: توفير التعليم المستمر وإعادة التدريب وتقديم برامج دراسية متنوعة ودورات قصيرة وطويلة للراغبين والمهتمين، بالإضافة إلى تأهيل وتوفير الموارد البشرية اللازمة لخدمة المجتمع في مجالات الثقافة الشعبية والأدب المحلي، وذلك عن طريق إعداد باحثين متخصصين في المجالات المختلفة للشعر النبطي والثقافة الشعبية، وعقد الندوات والمؤتمرات العلمية وحلقات البحث والمناقشة لتأكيد التواصل العلمي بين الباحثين والمتخصصين والعاملين في المجالات الاجتماعية المختلفة المتصلة بنشاط المركز.

وما زلنا مع الأهداف العظمى للأكاديمية، كما وردت في بيانها التأسيسي؛ فمن بين ما تسعى إليه أيضاً: تأسيس مركز بحثي يساعد مختلف الباحثين داخل دولة الإمارات وخارجها في إجراء البحوث المتعلقة بالشعر الفصيح والشعر النبطي ورعايتها، علاوة على توفير قاعدة أساسية للمعلومات المتصلة بالإنتاج العلمي في بحوث الشعر والأدب الشعبي للوفاء بحاجات الباحثين والمؤسسات القائمة في المجتمع. وأخيراً: إصدار أبحاث ودوريات ودراسات في الشعر والأدب الشعبي يتم من خلالها إبراز نتاج الأكاديمية ومتدربيها.

وباعتبارها مؤسسة ثقافية تعليمة، ذات طابع أكاديمي وجماهيري في الوقت نفسه، تنقسم أكاديمية الشعر العربي في أبوظبي إلى ثلاثة أقسام: "الأكاديمية العلمية"، ويفترض أنها قسم مختص بالدراسة الأكاديمية، حيث يعنى بتقديم دورات علمية إلى جانب عقد ندوات بحثية، كالأدب الشعبي ومكوناته، وجمع الأدب الشعبي من مصادره الأصلية من جمع وتدوين وتوثيق وأرشفة، بالإضافة إلى تعليم الأسس الفنية لنظم الشعر وتجويده، ونقد الشعر وتذوقه، وكذلك إقامة الندوات في مختلف الموضوعات المتصلة بالشعر الفصيح أو بالثقافة الشعبية، ودعوة الباحثين والمفكرين المحليين والعرب والأجانب للمشاركة فيها.

أما القسم الثاني في الأكاديمية فهو "قسم المسابقات الشعرية"، وهو القسم التجاري الجماهيري، ذو الطابع الشعبوي التلفزيوني. فمن المقرر أن يشرف هذا القسم على المسابقات والبرامج المرتبطة بالشعر، مثل مسابقة "أمير الشعراء"، التي تقترب من تتويج أمير الشعر العربي الجديد بعد الراحل أحمد الشوقي، عبر مهرجان تلفزيوني صاخب نجح في اجتذاب إعلانات تلفزيونية لـ"سلع" غير شعرية! كما تندرج في إطار هذا القسم مسابقة أخرى ذات طابع قبليّ بحت؛ هي مسابقة "شاعر المليون" للشعر النبطي، التي كرّست في أولى دوراتها قبل شهور الانقسام القبلي ورسخت العصبوية بين "العُربان"!

أما القسم الثالث والأخير في الأكاديمية فهو "قسم الإصدارات"، ويشمل المطبوعات (المعنية بالشعر) ضمن مختلف وسائل النشر التقليدية والتكنولوجية، كما يضم هذا القسم الموسوعات الشعرية (الفصيحة والنبطية)، والمكتبة والمخطوطات والدوريات المتعلقة بأنشطة الأكاديمية المختلفة.

وهكذا إذ يكتمل مشروع الأكاديمية على الورق، ننتظر الصرح الضخم، بموازاة ضخامة الفكرة، علماً بأنه للآن لم يتم تحديد موعد لـ"تشغيل" الأكاديمية، وإن تم تحديد الجمهور المستهدف الذي يشمل هواة نظم الشعر، بنوعيه الفصيح والنبطي، والباحثين في الأدب الشعبي بمختلف مجالاته، والطلبة الدارسين للأدب من داخل الدولة وخارجها، وطلبة المدارس والمعاهد والجامعات والجمهور العام ممن يرغب في الاستفادة، وكل من يرغب في التعمق بصورة أكاديمية في الشعر.

لكننا نستطيع أن نهنأ بالمشروع الذي يطمح إلى إضفاء طابع مؤسساتي، بعد الطابع الاحتفالي المبهرج، على الشعر، في إطار "علمي" لا يقل، في نهاية المطاف، احتفاليةً وبهرجةً عن أي مشروع ثقافي يروم المظهر ومغلف في إطار "سلعي" في المتناول.