«في الظلام وراء ظهري مباشرة فوق عنقي الأملس، شاب يتمرأى لفراشة لا يعرفها ممسكا شفتيها بمفكّ براغ! والأصدقاء يشربون الدم والينابيع مع «إيكار» صغير في تلك الحانة/ المقبرة التي غنى فيها سعدي «أغنية البدو» ثمة فتاة بيضاء تشرب دمها الأخير... عندما أيقنت بهدوء مذهل أنها إسبانية لم ألاحظ على ردفيها سوى ثيران سوداء تسحق في الفجر» « نزولا عند رغبة المطر»ص68.
«هكذا كان كلّ شيء عطسة عصفور مبتلّ» نزولا عند رغبة المطر، ص137.
تتناول هذه الدراسة مجموعة «نزولا عند رغبة المطر» للشاعر عبد الفتاح بن حمودة، وتتعلق بعلامتين فنيتين مميزتين لهذا الأثر وهما: الغموض والسّيرة الشعرية. ويعود اهتمامنا بهذه المجموعة إلى سببين على قدر غير قليل من الأهمية، أولاهما مكانة هذه المجموعة في تجربة الشاعر، إذ تمثل صميم رؤيته الشعرية التي أخذت ملامحها الأولى تتبدّى في مجموعتيْ؛ «الفراشات ليلا» و«عندما انظر في المرآة لا أفكر»(1) ثانيهما ارتقاء هذه المجموعة إلى درجة صارت معها تمثل أنموذجا من النماذج الفارقة في قصيدة النثر في المشهد الشعري التونسي على الأقل. وسنحاول في هذه الدراسة الموجزة الوقوف على مظاهر الأصالة في قصيدة النثر مؤكّدين أنّها ضرْب من القول الشعريّ يتطلّب مهارات عالية يجب أن تتوفر في الباثِّ والمتقبل على حد السّواء، وأنّ خصومها لا يخلو موقفهم من أمرين إمّا الحكم على قصيدة النثر من خلال تجارب هزيلة أو العجز عن النفاذ إلى ما في هذه التّنويعة الشّعريّة من عمق يجعل منها وجه الحداثة في الشعر العربيّ.
الغموض في مجموعة «نزولا عند رغبة المطر»
لا شكّ في أنّ معالجة هذه المسألة يتطلّب التّمييز بين الغموض والإبهام(2)، فالأوّل مطلوب في الشعر بل هو إحدى مزاياه التي تجعله ينفتح على أكثر من قراءة حيث تتحرّر اللغة من البعد المعياري لتصطبغ بما هو شعريّ، وقد تفطّن النقّاد القدامى إلى قيمة الغموض في الشّعر باعتباره علامة فرادة وعبقريّة تميز شاعرا عن آخر، أما الثّاني فمنبوذ لأنّه دلالة عن عِيّ في التّعبير وهو مراوغة تكشف عن تكلّف الشّاعر الخروج عن المألوف بحثا عن تميّز موهوم.
ومن الحجج التي يعتمدها خصوم قصيدة النثر اعتبار هذا الضرب من القول الشعري طلسما لا يمكن النفاذ إليه وظلاما دامسا تنعدم فيها الرؤية، وقد استندوا في ذلك إلى تجارب شعرية نثرية مهزوزة ينتسب أصحابها باطلا إلى قصيدة النثر، ويتبجّحون بها صفاقة ورقاعة، ويمكن أن نَرُدَّ سوء ظنّهم إلى قصور نظريّ أبعدهم عن التّمييز بين الغموض والإبهام، فالشعرية في النقد الحديث اتخذت وجوها جديدة لم تعد وحدة المعنى اهتمامها الأسنى ولا الوضوح هدفها المنشود، إن منتهى غايتها أن تهبك سرّ لملمة ما تناثر من المعنى وتقدّم لك طرف الخيط الذي ينتظم عقد الدّلالات الراقصة على صدر القصيدة.
وتمثل مجموعة « نزولا عند رغبة المطر» لعبد الفتاح بن حمودة أنموذجا للغموض الذي يرتقي بالنص الشعري من هوّة التقرير إلى ذُرى الشّعريّة، وتحوّل القارئ من مجرّد مفعول به مأخوذ ببلاغة إيقاعيّة وإنشائيّة فقدت أرضيّة تقبّلها إلى فاعل منتج للمعنى.
ويتجلّى الغموض في هذه المجموعة في أحد المكوّنات الأساسيّة للصّورة الشعريّة التي ينْسِجُها الشاعر بأصابع ماهرة، وهي الطّبيعة، فالشّاعر ينفخ فيها من روحه فيجعلها تتفاعل مع الأشياء والأشخاص مُخْرِجًا إيّاها من صمتها وحيادها المزعوم. قد يكون ذلك مألوفا في الشعر الرّومنطيقي بمعنى أن الشّاعر يسقط مشاعره على الطبيعة فتتفاعل معه، لكن غير مألوف هو عقد علاقة جديدة بين عناصر الطّبيعة فيما بينها وبين الأشياء بطريقة تصيِّرها في تفاعل كبير سواء في بيئة وحشيّة أو مأنسنة، ومن الأمثلة الدالة على ما تقدم هذه الأسطر المُقْتَطَفَة من نصوص شتّى:
*إذا رأيت عصافير طائرة من أقفاص
فهي بلا شكّ زقزقة نهر مبتلّ(3)
*لماذا صارت أسماك البحر أشجارا «تثغو»(4)
* كم يلزم الأزرقَ المأخوذَ بنهايته
من حوافر خيول أتعبها الموج(5)
*يؤلمني الصباح الخارج توّا من البحر. وصفّارات «المترو»
التي تتحوّل إلى طحالب.(6)
*قالت شجرة هذه سمكة نار في أصابعي(7)
*شجرة لها فم ولسان ومروحتان(8)
*ستمسك الغيوم في الصّباح
أيّها اللّقلق في الأعالي(9)
*ربّما ينزل المطر خائفا فوق مبنى المعرض الدولي(10)
* فكّري في نباح قمر آخر تحت أقدامك اللاّهثة(11)
*ليس بسيطا أن تنام في الشرفة صيفا
مطلاّ على شجرة تين ضاحكة(12)
ومن الواضح من خلال هذه الأمثلة أنّ الصّورة الشّعرية في جانبها البلاغيّ قامت على الجمع، في سياق استعاريّ، بين عناصر مختلفة؛ الطبيعة، الإنسان، الأشياء (زقزقة النهر/صارت أسماك البحر أشجارا «تثغو»/ نباح قمر/ستمسك الغيوم / ينزل المطر خائفا / أصابعي/ أقدامك اللاهثة/ شجرة تين ضاحكة/شجرة لها فم ولسان ومروحتان....)، وإذا تتّبعنا هذه العلاقات في المجموعة نلاحظ أنها لا تُتَمثّل إلاّ في صلتها ببعضها البعض.
ويكمن الغموض في هذه الأسطر وشِبْهَهَا في«نزولا عند رغبة المطر» في تمثل الصّلة بين العنصر الطبيعيّ والفعل المسند إليه على سبيل المجاز وهي صلة تخرج عن السّائد لأنها تؤسس لمنطق جديد للإنصات إلى العالم وفهمه، فالشاعر في هذا الإطار مَثَلُهُ في التّعامل مع عناصر الطّبيعة مثل لاعب الورق يخلط الأوراق ليمكّن اللاّعبين من تنويعة ورقيّة جديدة وهو بذلك يقدّم عددا لا حصر له من التّنويعات والتّشكيلات بشكل يجعل من اللّعب اكتشافا مستمرّا، ولكن اللّعب لا يقف عند استلام الأوراق بل يتعدّى ذلك إلى التّصرف فيها وفق قوانين اللّعبة إننا نكتشف هذه المجموعة من العناصر الطبيعة من جديد لأنّها في كل مرة تظهر بإخراج معيّن، وما علينا إلا أن نستمتع بهذا الإخراج، أليس الشاعر من هذا المنطلق بمبدع للخلق من جديد، ولكنّ هذا الفعل الخلاّق إنّما يحتاج إلى خبرات لغوية ومعرفية عديدة، كما يتطلّب عبثا طفوليّا حقيقيّا، إذن على الشاعر أن يكون طفلا «فللطّفولة ألف لغة»(13)
وتدقيقا لما سبق نشير إلى أنّ الشاعر في إطار هذه اللّعبة قد جعل عناصرالطّبيعة والأشياء تصوّت بألسنة بعضها بعض فالأشجار تثغو وتطنّ والنّهر يزقزق ويحشرج، والعجلات تنبح، والسّيارات تعوي وكذلك الثيران....(14)، وتكشف هذه الاستعارات الصوتيّة عن شفافيّة ملكة الالتقاط عند الشاعر فهو ينصت إلى الطبيعة والأشياء فيسمع ما لا يُسْمَعُ كما لو كان أحد الأولياء الذين كشفت عنهم الأحجبة، ولعلّ الشاعر في ذلك يتجاوز مجرّد البعد الإحيائيّ وما فيه من تفسير شعريّ للعالم مصبوغ بالدّهشة إلى البعد الصوفيّ الذي يتوحّد فيه الإنسان مع العالم.
ولتبديد هذا الغموض وتحقيق المتعة على القارئ أن يعرف قوانين اللّعبة، وهي مسألة لا تكون إلا بالدّربة. وقد تتبعنا في معرض الاستدلال على هذه الفكرة حضور الشجرة في المجموعة، فقد حضرت بثلاث وجوه : الأول تقريري مرتبط بأمكنة مرجعيّة مثل بني مطير (أشجار البلوط والصنوبر والفرنان )(15)مسكيلياني (أشجار اللوز والمشمش والزيتون واليوكالبتوس والطَّرْف...) والعاصمة (أشجار شارع باريس..) (16) والثاني مجازي يحولها من كائنات محايدة إلى أخرى تنفعل وتتفاعل وتفعل في الشاعر وفـي بيئتها ( ثمة لمسة حانية لأشجار اليوكاليبتوس/ ثمة المِشْية الأنيقة لأشجار المشمش صباحا مساء ثمة هتاف أشجار اللوز/فلا تتركيني مسكيلياني فريسة لأشجار المشمش/ يا شجرةَ المشمش المتورّمةَ من كثرة الوطء/قالت له شجرة «هذه سمكة نار في أصابعي/كانت الأشجار تأكل قلبي/لم أستطع أن أقول لشجرة جميلة/كانت شجرة جميلة قد استيقظت فجأة/همست لشجرة مأخوذة بكلمات الشعراء/شيء خفيف مثل شجرة عينيها الحزينتين/شيء ما خفيف مثل اللعنة أو لوعة الأشجار/ هل عثرت على أشجار الحكي/ شجرة تشرب الكوكا)(17) والشجرة بالإستناد إلى هذه الأمثلة استعارة للرغبة وتفريعاتها من عشق وإثارة، كما تبدو بعض الأشجار ذات دلالة رمزية وتحديدا شجرة المشمش فهي رمز للمرأة المشتهاة، ولا غرو في ذلك فالإسبان يعتقدون مثلا أنّ ثمار هذه الشّجرة مثيرة للرّغبة مُحَفّزة لها، في حين ترمز شجرة البرتقال وثمرتها إلى الخصوبة والبراءة والنّقاء وهي دلالات يمكن أن نتبيّنها بالعودة إلى سياقها الأسطوريّ، ففي الأسطورة اليونانية مثلا قدمت الآله «جايا » لكل من هيرة وزوس إله السماء زهرة برتقال عندما أقدما على الزواج، أمّا في الأسطورة الرّومانية فإنّ ملكة السماء وحامية النساء والزواج قد أُهْدِيَتْ زهور برتقال بمناسبة زواجها مع جوبيتر كبير آلهة الرّومان، إلاّ أن هذا العمق الأسطوريّ لشجرة البرتقال لا يكفي لمحاصرة الدلالات الرّمزيّة لهذه الشجرة فتَبَيُّن طرائق انتظامها في النّص هو السّبيل إلى إدراك هذه الدّلالات، ولعلّ أبرزها الحياة بكل ّوجوهها، يقول الشاعر :
* سأسقي شجرة البرتقال في الثالثة فجرا.(18)
* اغفر لي أنني ملأت الحديقة بأشجار برتقال.(19)
* أرقص مثل شجرة برتقال جذلى.(20)
* «لم يكن يريد من الشمس غير حبّة برتقال»
عندما استقبلته الملائكة بلباسها الأخضر(21)
* وحقول البرتقال تنبت فجأة في الجليل.(22)
* مطلا على المقابر وأشجار البرتقال.(23)
* حيث أطنان البرتقال التي تشقّ البحر ليلا.(24)
* إذا سقطت برتقالتان صغيرتان في المياه فواحدة لي حتما،
وأخرى لطفلتي التي انتظرت في الفجر!(25)
* كانت كلماته وحروفه تتحوّل
إلى مراكبَ محمّلة بالبرتقال(26)
وكلّما تمعّنت في ما يمكن أن يُوحِيَ به تكرار هذه اللّفظة (البرتقال) إلاّ وشعرت على معرفتك بقاعها الأسطوريّ بضبابيّة المعنى ممّا يجعلك في توتر مستمر، ولعلّ ذلك ما يرمي إليه الشاعر إذْ يريد أن يخلّص القارئ من كسله وأن يُحَفّزَهُ على إنتاج الدّلالات بقدر حفره في النصّ والتوغّل في مناخاته، يقول الشّاعر في بيانه الشعريّ « إذا أردت أن تقرأ قصيدة فحاوِلْ إعادة كتابتها، ثمّة دخان يطلع من قلبك وعينيك مع أنّك لم تقشّر بصلا.»(27)
ويحملنا ما تقدم من ملاحظات على الاستنتاج التّالي أنّ كلمة الأشجار أو الشّجرة تتراوح بين التقرير والإيحاء في مختلف النّصوص، أمّا في مستوى الأثر ككلّ فإنّ للشّجرة دلالات رمزيّة مخصوصة تُسْتَفَادُ من التواتر ومن انتظامها المجازيّ في الخطاب وتفهم هذه الدّلالات من خلال الشاعر الذي يصوّب وهو يقيم على الأرض بصره وبصيرة نحو الأشجار، فيقف معها في البرّية والمدينة يكتب بها ومن خلالها انفعالاته ورؤيته للعالم والوجود.
والشّجرة قبل كلّ شيء تصل بين الأرض والسّماء فجذورها راسخة في التّراب وأغصانها تتّجه إلى أعلى، وقد اعتبرت في الفكر الاسطوريّ من هذا المنطلق رمزا للحياة وقد اعتلت سلم الرموز عند المتصوفة وخاصّة اليهود (القبّالة)(28)، فقد تمّ تشبيه الإنسان بالشّجرة، والشجرة المتفرّعة دائما شبيهة بالكلمة التي تتناسل منها الدلالات، وقد يحيلنا ذلك إلى هندسة الفراكتال(29) ومحاولتها للتّوصّل إلى وضع قوانين للتّشعّبات في الأشكال الموجودة في الطّبيعة وتمثل الشجرة بأغصانها وأوراقها مثالا حيّا على ذلك. إنّ الشّجرة بما فيها من حياة وتجدّد وما فيها من غموض في أشكال تفرّعها، وما فيها من صمود وهي تتعرّض للصواعق والأمطار والشمس والرّيح، وما فيها من فرح، وهي ترقص على زقزقات «عصافير الندم الغامض»(30) ليست إلاّ قصيدة النثر تزيدها لعبة الغموض والتفرُّع جمالا وبهاء.
والحقيقة أنّ الدلالة الرمزية للشجرة في مجموعة عبد الفتاح بن حمودة تُسْتَمَدُّ من سياقها في نسيج النصوص مثلما تفهم بالعودة إلى أبعاده الأسطورية ولعل الجانب الأول هو الأكثر جدة لأنه يضيف قشرة جديدة إلى القشور الرمزية التي تلف الشجرة، وهي إضافة تكشف عمق الشاعر وتميزه عن غيره.
وقد تلبّس الغموض بالرّمز في هذه المجموعة فكثيرا من مكوّنات الطّبيعة قد شحنت بدلالات رمزية جديدة تفهم بالنظر في سياقها في النص، فأوراق النعناع مثلا أضحت رمزا للهشاشة والبساطة والرقة والخفّة ( أبسط من ورق النعناع/حاولت يا سيدي أن أكون بسيطا - مثل أوراق النعناع/والرفاق حول طاولاتهم مثل فراشات - مثل أوراق نعناع قطعها أحد الفلاحين فجرا/صباحاتنا مثل أوراق نعناع في كأس شاي (31) وهي أيضا رمز للشهوة (كانت أوراق النعناع تضج فوق ركبتيها/لكن لا تقطعي ورقة النعناع التي نبتت في عيني اليمنى/الصبايا اللواتي يضعن أوراق نعناع فوق ضفائرهن)(32) أم الأشجار على اختلاف أنواعها؛ زيتون، برتقال، لوز، يوكاليبتوس، فلين، فرنان، بلوط، صنوبر، نخيل، فهي من منظور بعيد عن سياقاتها المرجعيّة ترمز إلى الحياة بما فيها من رغبات وعمق وبساطة والواقع أن شبكة الرّموز في مجموعة «نزولا عند رغبة المطر» تتّسع باتّساع ثقافة القارئ وتتعمّق حسب ذائقته.
هكذا نتبيّن أن الغموض في مجموعة عبد الفتاح بن حمودة « نزولا عند رغبة المطر» يتأتى من طرافة الاستعارة وتشعب العلاقات فيها ومن كثافة الرّمز وتعدد طبقاته كما يظهر من خلال المراوحة في تشكيل الصورة بين القاع الأسطوري والقاع النّصّي، إلاّ أنّ الأمثلة التي عرضناها لا تميط اللّثام عن أسرار هذا الغموض بشكل يحقّق المتعة لأن هذا المطلب يكون بتناول النصوص بالتحليل في كليتها ثم تدبرها معزولة عن بعضها البعض ولا غرو في ذلك فالصّورة الشعريّة لا تكشف فتنتها من خلال أمثلة مقتطعة، لكن حسبنا ونحن في هذا الأمر درس الغموض وتقديم بعض الآليات لتذوّقّه والوقوف على جوانب الجدّة فيه.
السّيرة الشّعريّة في مجموعة نزولا عند رغبة المطر
إذا كانت السّيرة الذاتيّة فنّ في السّرد يقوم على عَقْد يتعهّد فيه السّارد بأن يروي حكايته بما فيها من أفعال وأقوال وأحوال وما تتضمّنه من شهادات على ما حدث في حياته وما تتوفّر عليه من مواقف ورؤى(33) فإنّ السّيرة الشّعريّة سبيل يعيّن الرؤية الشّعريّة للأحداث التي عاشها الشّاعر.
وتعتبر مجموعة عبد الفتاح بن حمودة «نزولا عند رغبة المطر» سيرة شعرية نتَبَيَّنُها بدراسة المكان والزّمان والأحداث والشّخصيات، على أنّ الفصل بين هذه الأركان القصصيّة هو مجرّد عمل إجرائيّ يقتضيه المنحى التفسيريّ لا غير.
أ/ المكان
تنقسم الأمكنة في مجموعة «نزولا عند رغبة المطر» إلى أمكنة مجازية وأخرى مرجعيّة. أما المجازيّة منها فلا علاقة لها بالواقع المرجعيّ إلاّ من حيث المكوّنات من ذلك الحديقة، الغابة(حديقة منزلي/ اغفر لي أني ملأت الحديقة بأشجار البرتقال/صرخت أزهار الليمون في الحديقة....(34) في حين أنّ المرجعيّة منها تتطابق مع أمكنة موجودة في الواقع كما هو الشأن عند الحديث عن العاصمة ومسكيلياني وبني مطير، ويخرج الشاعر هذه الأمكنة من خلال إقامته الشّعريّة فيها أي بالتقاط البسيط والمدهش في فضائها والإنصات إلى الوشائج التي تربط بين العناصر المؤثثة لها. فقد نفذ الشاعر إلى عمق مسكيلياني الذي هو عمقه من خلال الأمطار وأشجار المشمش والزيتون واليوكاليبتوس والطَّرف واعتمادا على أشكال إقامة العصفور الأخضر في المكان:
* قرب مصنع الصّوف ذي اللّون الأزرق
ثمّة لمسة حانية لأشجار اليوكاليبتوس
ثمّة المشية الأنيقة لأشجار المشمش صباحا مساء
ثمّة هتاف أشجار اللّوز ومياه سكرى فوق الينابيع
ثمّة تلعثم بقايا قطار فرنسيّ وراء التّين الشّوكي ّ
ثمّة صرخة «العصفور الأخضر» بين الحلازين الصّغيرة.(35)
* يقف «العصفور الأخضر» مشدوها
أمام صدمة أشجار الزّيتون.(36)
واكْتَنَهَ بني مطير متنقّلا بين الدّاخل غرفتيْ نزلها اليتيم «لينا» «نور العين» وبين الخارج محيطها الطّبيعي (أشجارالفلّين والبلّوط والفرنان، الخنازير، الدجاج، أعالي الجبال والضّباب)، وقد تلبّس هذا الفعل بنفسيّة الشاعر في تلك اللحظة وما تنفتح عليه من زوايا نظر مختلفة.
شيء ما خفيف مثل خفّة الله
يدخل من النّافذة الوحيدة لحجرة «لينا»
كانت الأشجار تأكل قلبي.(37)
*في الغرفة المظللة بأشجار «الفرنان» و«الفلين» و«البلوط»
بينما تعبث ملايين خنازير الشّمال
بأفئدة الصّبايا والأطفال والرّضع..
تأكل الخنازير الأصابع اليمنى لرجال الغابة
الفانوس خافت في لجّة الليل
والرّجل الطيب الذي يسجل إرشادات النزلاء
يفكّر مثلي بالأبيض الورديّ
وبقطيع من الخنازير التي أكلت أوراق الأشجار
ودجاج بني مطير.(38)
تكشف هذه الأسطر حركة خيال الشاعر فهو يتّجه من الغرفة المفعمة بخفة إلهية والمظللّة بأشجار الفرنان والفلّين والبلّوط وإلى الخارج حيث الخنازير التي تعبث بأفئدة الصبايا والأطفال والرضع، وبدجاج بني مطير ونحن هنا دون شك أمام دلالتين للخنزير الأولى مباشرة والثانية مجازية، إننا أمام حيوان مُفْسِد وحيال فئة من الناس تعبث بكل شيء، فئة يسير الشرّ حيث تسير. ولعلّ رطوبة الغرفة والظلال الداكنة التي غشتها تتطابق مع الأسى الذي تسربل به النّصّ، رغم نهايته المتفائلة فقد صبغ الشاعر بني مطير بصبغة مقدسة يقول الشاعر:
لقد مرّ آدم من بني مطير
وشرب لبن الأبقار في الخامس والعشرين من أفريل
النبيّ محمّد أكل خبزا مع الناس البسطاء
حلّق معهم.(39)
ومن الأمكنة المرجعية المحورية نذكر العاصمة، ولا غرابة في ذلك فالمدينة هي المِضْمَارَ الذي يتسابق فيها الشعراء، والعاصمة لم تحضر في مجموعة نزولا عند رغبة المطر إلا بتتبِّع تفاصيل دقيقة يتعذر على من لا يمتلك عين كاتب قصيدة نثر رصدها، فالشاعر يتحدث عن مقهى الكون ومقهى قرطبة ومعرض الكتاب واتحاد الكتاب وكلية الآداب بمنوبة وعن الشارع الرئيسيّ وباب سعدون ونزليْ أفريكا والانترناسيونال ... باعتبارها فضاءات تختزل بالتفاصيل التي تحفّها معاناته في المدينة وتوفّر له مادّة مُغرية بالكتابة، والشاعر في علاقته بهذه الأمكنة يرى ما تعْمَى عنه العين وما تَصْمَى عنه الأذن. فهو ينتبه إلى الصّراصير والحلازين والفراشات والعصافير وسطور النّمل وقطعان الشارع الرئيسي وحشراته وعناكبه .(40)
وتنفتح مجموعة «نزولا عند رغبة المطر» على أمكنة مرجعيّة أخرى انتظمت من الأحداث ما دغدغ ملاك الشّعر فيه من ذلك «كوسوفو» «بريشتينا» يقول الشاعر:
وأنا أصرخ في لحظاتي الأخيرة لألقى الله
«كوسوفو» ... «كوسوفو» ... «كوسوفو»(41)
ويضيف في النّصّ نفسه :
بريشتينا تعثر على شعرها الأسود لأوّل مرّة.(42)
هل المكان هو الذي يهيمن على الشاعر فيتلبّس بالنّص أم أن الشاعر بما لديه من قدرة على إعادة التشكيل هو الذي يطوّع المكان فيقدّه كما الخزّاف صورة جميلة ثم ينفث فيها من سحره فتصير ضاجّة بالحياة، حياة أخرى فيها ما فيها من روح مبدعها الجديد.أم أنه ثمة جدليّة بين هذا وذاك ؟
ب/ الزّمان
تحيل بعض الأزْمنة إلى ما هو مرجعيّ فليس صعبا أن نتبين أن قصيدة بريشتينا تعود إلى زمن الحرب الأهلية البلقانية في تسعينات القرن الماضي(أحيانا يتألّف المشهد من آلاف الجثث القديمة/التي مرّ عليها «الصرب» مثلما يمرون على أوراق النعناع)(38) كما أنه ليس من العسير التفطن إلى أن نصّ «سنديان» يتصل بزمن المحنة التي تعرض لها رفاق الشّاعر في نوفمبر الأسود وأن نصّ «ليل التوابيت» يتعلّق بزمن اندلاع الثّورة التونسيّة 2011، وتتضافر في بيان هذه الأزمنة وما تكتنِفُه من أحداث العتبات والهوامش التي يعلّقها الشّاعر في سقف النص ويُثبِّتُها في أديمه.
وقد نوّع الشاعر الإشارات الزمنية في المجموعة فهي؛ الشهر أو الشهر واليوم والساعة وهي الوقت من اليوم (في صباح السابع عشر من فيفري الطيّب، ستأتي شجرة البرتقال في الثالثة فجرا / يؤلمني احتساء قهوة سريعة في الخامسة والنصف فجرا/بعد منتصف ليل جوان المليء بصبايا الشمال الإفريقي / أيها الصيف يا منقذ العذارى / أغسطس يا صليب العذارى /مع أول خيوط الفجر/مع أول الفجر فوق الجبال/ مبلّلا بمطر تونسي ومليئا بغبار لامع في غرة ماي/ عندما يصعد هلال «أوت» التونسي/في الرابع والعشرين من جويلية التونسي/مساء السادس من ديسمبر التونسي/كتبت في ليلات «جويلية» و«أوت» القذرين/لكني مساء ذلك اليوم من «أوت» التونسي/في مساءات «أوت» الجميلة/ في الخامس والعشرين من «جوان» التونسي/مساء الخامس والعشرين من جويلية/عادوا ليلة الثالث عشر من ماي)(43)،حتّى لكأنّه يروم من خلال هذا التحديد شد نصوصه إلى تجربة ذاتية عبر عنها شعريّا، وقد بلغ الشاعر في تعاملها المعياري مع الزمن مبلغا جعله يلوّنه بلون محلّي فكأنّ الأشهر في تونس، بما تتلبّس به من سِمَات، غيرها في بلد آخر، فضلا عن ذلك تضمّنت النّصوص إشارات زمنيّة تؤطّر الأحداث(مساء همست للعصفور الأخضر/ تؤلمني القمصان ليلا/ألطف من صوف بماء البحر فجرا/همست له فجرا/في الفجر/في الليل/نسيت كل شيء ذلك المساء)(44) أو ترتيبها(بعد قليل، بعد ساعة أو ساعتين ....سوف يدب النمل/منذ قليل في لجة الليل/صباحا بلا نوم .... عندما وضعت أعقاب قلبي في الحاوية، كانت ضحكاته الآثمة تمزق قلوب العذارى )(45)
وما يلفت الانتباه في المجموعة أن الإشارات الزمانية المتواترة تتعلق بالفجر والمساء وهما من وجهة نظر علمية فترتان انتقاليتان مهمتان تؤثران على الإنسان فيزيولوجيا ونفسيا، إنهما زمنا موت وحياة؛ ليل يموت وصبح يولد أو نهار يموت وليل يولد، إنهما مرحلتا التقاط ورصد وتأمل لا يفقه كُنْهَهُما إلاّ شاعر ثاقب البصر والبصيرة مأخوذ بالطّبيعة وطقوسها، ولعل ذلك يبرّر التّوتّر الذي يطغى على الكثير من النّصوص في المجموعة، وقد يفهم هذا التوتر على انه ترديد لما يعتمل من أحاسيس في نفسيّة الشاعر.
إلا أنّ ما يميّز الزّمن في السّيرة الشعريّة التّداخل غير المنطقي الذي يَسِمُه ذلك أن غاية الشّاعر تتجاوز الشهادة إلى التأويل الشّعري. فالسيرة هنا ليست حكاية تقوم على العلاقة السببية العلية للأحداث وإنما هي تسليط الضوء على المستفز والحارق من منظور الشاعر.
ج/ الشخصيات
تتنوع الشخصيات في«نزولا عند رغبة المطر» في العتبات وفي المتن وهي إما قادحة على القول أو حاضرة بأقوالها وأفعالها، لقد وردت أغلب النصوص مصدرة بذكر شخصيات هي على الأرجح معنية بالقول الشعري ولعلّ نصّ كاميرا المصدّر بإهداء إلى الهادي خليل مجنون السينما دليل على ذلك فهو يتناول موضوعا من هموم الشخصيّة الموجودة في عتبة النص وفي السياق نفسه نقرأ القصيدة المهداة إلى «العصفور الأخضر» إسماعيل السباعي فهي تسرد تجربة عاشها الشاعر مع صديقه في مسكيلياني «حاجب العيون»، ولقد أدرج عبد الفتاح بن حمودة في نصوصه أقوال مجموعة من الشعراء والقصاصين بعضهم عانى معه الحياة وغربة المثقف؛ توفيق الثامري، وخالد الهداجي، عبد الواحد السويح، صابر العبسي، نزار الحميدي، وأنور اليزيدي، وجميل عمامي، لسعد بن حسين، عبد الرّزاق المسعودي.. وبعضهم الآخر يشترك معه في هذه المعاناة؛ الهادي خليل، سعدي يوسف، محمود درويش، المنصف الوهايبي رافائيل ألبرتي، أوديسيوس إيليتيس، بودلير، جان جينيه، وبول فرلين، تشارلز سيميتش....(46)
على أنّ هذه الشّخصيات الحاضرة من خلال أفعالها أو أقوالها تصنع للنّص فضاء للتّصادي وتجعله موطنا لأصوات متعددة يجمعها صوت الشاعر في بؤرة دلاليّة تتشظّى كلما اعتقدنا محاصرتها، أصوات من كلّ أزمنة وثقافات مختلفة لكنّها مكويّة بنار واحدة، نار النّفاذ إلى عمق الوجود والثورة على المألوف، أصوات متنوّعة تؤكّد أن عبد الفتاح بن حمودة ابتعد عن تقليد ساد في الشعر وهو أن يقول الشّاعر ذاته والآخر والعالم بصوت واحد لينجز ذلك بأصوات مختلفة حاضرة بأسمائها ودلالاتها ونصوصها، ولعل ذلك ما يحقق مفهوم الإقامة الشعرية على الأرض.
ويظهر هذا التصادي في التقاطع بين صوت الشاعر وأصوات أخرى في مواضيع عديدة لعل أبرزها الحديث عن حبيبة «إيكار»، فهي الغزال المجروح :
كان «إيكار» قد أضاع غزالا مجروحا في «قرطاج»
غزالا يئنّ تحت ضربات الشّمس
شيء ما أعمى قاد «إيكار» نحو مياه وصخور
حيث الفتيات المترنحات من كثرة تقبيل الموج (47)
وهي الغزالة المقتولة في المقطع المنسوب إلى الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي :
«غزالتي أيها الصّديق الطّيّب
غزالتي البيضاء
قتلتها الذئاب، أيها الصديق الطيّب
التي هربت عبر النهر
الذئاب قتلتها في أعماق الماء»
في أعماق الماء.(48)
ومن الملفت للانتباه في هذين المقطعين هو ثنائيتا؛ الماء والدّم، والمفترس والضّحية، وما فيهما من نفس عذريّ (49) يكشف معاناة الحبيب ولوعته وحسرته على حبيبة صعبة المنال، تقف عراقيل كثيرة دون وصالها، يقول الشاعر:
لماذا كنت أحلم بأنّ راعية ماعز برّيّ
تجري فوق رمال بحر مع أصدقائها الملاعين؟
لماذا كنت أحلم بأنها تلعب معهم لعبة غامضة؟
لماذا كنت أحلم بأنّ صدرها تأكل منه القطعان؟
لماذا حلمت بأنها تشرب سجائر فاخرة وقوارير
آتية من وراء البحر؟(50)
وقد أخرج الشاعر، وهو « إيكار» كنايةً، علاقته بحبيبته في شكل دراميّ تردّد صداه في المجموعة، فتعدّدت الأقنعة والضّمائر وبقي الحزن واحدا يسري في شرايين النّصوص في أمكنتها وأزمنتها وأصواتها وألوانها وأشيائها وأشجارها، يقول الشاعر:
قرأت لها أشياء تشبهنا
من كتاب«الطائر الذي يغني داخل القفص»
بعد ذلك مباشرة (اشتهيت أن أقبّلها)
ثم فَلْأُدْفن حيث تنام الأشجار بلا وسادة فوق شفتيها الحاقدتيْن.(51)
ولا يجب أن يُفْهَمَ من حديثنا عن التّجربة العاطفيّة للشاعر أن هذه التّجربة حدثت فعلا في الواقع، وحتّى إن توفّرت لدينا القرائن التي تدلّ على ذلك، فإننا نبقى معْنِيِين بالصّياغة الفنّيّة لهذه التّجربة.
ومهما يكن من أمر فإن هذه الشّخصيّات لا تستمِدّ هويّتها من دلالتها المرجعيّة فحسب وإنّما من علاقتها بالشّاعر «إيكار الصّغير» وبالنّصّ، إنّها علامات فنّية تطِلّ برأس على تجربة الشّارع وبآخر على مكانتها في نسيج النّصّ، وتؤكّد أنّ كاتب قصيدة النّثر لا يتعامل مع النّصّ كما لو كان متعاليا لا يرى فيه إلاّ نفسه في نرجسيّة مضلّلة، إنّه نصّ يستدعي النّصوص الأخرى روائيّة كانت أو شعريّة ويصهرها في صميمه الّذي هو صميم إيكار الصّغير المجلود بسياط الحرمان والألم، إيكار مطعون في الظهر.
د/ الأحداث
تقدّم الأحداث في مجموعة «نزولا عند رغبة المطر» من وجهة نظر الشاعر فهو الذي ينتقيها وفق منطق مخصوص يقوم على ما فيها من تحفيز وإثارة وإدهاش، كما أنّه يخرجها وفق تصوره فيترك مفاصلها الكبرى ليركّز على جزئيّات صغيرة تصدم القارئ.
والشاعر عبد الفتاح بن حمودة في روايته لسيرته الشعرية يقدّم شهادة على ما عاشه من أحداث كما هو الأمر بالنسبة إلى حرب البلقان أو الثورة التونسية ويعرض التجارب المؤثرة في حياته إلى لحظة الكتابة الرّاهنة، وتتوزّع هذه التّجارب على مستويين : الأوّل غراميّ كقصة الحب المقطوعة التي جمعته بالمرأة المكنّى عنها ب«راعية الماعز» وهي قصّة نسمع صداها في كامل المجموعة تحت عناوين صغيرة، والثاني وجودي مثل مغامراته في بني مطير ومسكلياني، والعاصمة بشوارعها وحاناتها ومقاهيها وعمالها ومشرّديها.
وحتّى نلتمس ما يشير إلى أن هذه المجموعة سيرة شعرية علينا أن نستخرج بعض النواتات السردية ولعل أبرزها يتبدّى في نصّ «شكوى إيكار» فالأحداث انتظمت على سلّم زمني يمتد من غرة ماي إلى الثالث من الشهر نفسه، ويراوح بين الصباح والمساء والفجر وتدور في أمكنة متعددة ففي معرض الكتاب الدولي التقى بأم يوسف وفي الشّارع الرّئيسيّ في مقهى قرطبة حدثنا الشاعر عن حكايته مع امرأة تجاوبت مع نزقه وفي مقهى الكون سحق صرصارا في المرحاض ومارس طقوس الكتابة، أمّا في نزل أفريكا فقد استمع إلى شاعر مشرقيّ.(53)
إذن فالنواة السردية لهذه الحكاية هي زيارة معرض الكتاب وبقية الأحداث هي انتشار لهذه النّواة وهو انتشار لا يتأسّس على ترابط سببيّ وإنّما على إسقاطات نفسيّة ووجودية يسلطها الشاعر على أحداث تتعالق فيما بينها لتقدّم العالم من زاوية نظر مخصوصة، فترد الصّور متنوّعة، دقيقة التفاصيل، مليئة بالكائنات الصّغيرة والأصوات، والأزهار والسّجائر وقوارير الخمر.
وممّا يعضد هذه الفكرة أنّ الشاعر عبد الفتاح بن حمودة يروي حكايته بعقيدة تختلف عن عقيدة الكاتب في السيرة الذاتية فهو لا يهتمّ بالأحداث إلاّ من حيث هوامشها ومُهْمَلِها ولا يُلْقِي بالا إلاّ لليوميّ المعيش بكلّ ما فيه من تناقضات، أليس الموت والحياة والسرور والجنون والضّجر والملل والقلق بأشياء تسكن في المنسيّ والمألوف والمتروك والمرفوض والاستثنائيّ والشاذّ والغريب. ويتوسل عبد الفتاح بن حمودة في رصده لكلّ ذلك على مجهر في صرامة مجهر العالم يري به ما يقبع في النفس وما يعلق بالأشياء والناس والأحداث ويعتمد على بصر الأنبياء وبصيرتهم لينصت إلى الكائنات التي نحسبها تعسّفا صامتة فيتمثّل العالم من خلالها. لذلك علينا أن لا نندهش إذا ألْفينا هذه الوفْرة من الأصوات (ثغاء، نباح، طنين، صياح، زقزقة، خرخرة، حفيف/سعال، حشرجة، صراخ، قهقهات، لهاث، زغاريد، اصطكاك أسنان، تصفيق دندنة، هدهدة، هتافات، ضحكات، أهازيج، أغاني، طقطقات/ دقات، ضربات، قرع طبول، رنين، قرقرة) والألوان (الأسود، الأبيض، الأحمر، الأزرق، الورديّ، الأخضر، الأصفر..) والحيوانات (الذباب، النحل، النمل، الصراصير، الفراشات/ السمك، فرس النهر، السردين، السلمون/ حلازين/ ذئاب، خنازير، غزال، الماعز البري، ديكة، كلاب، دجاج، قطة، حمام، عصافير،شحرور، أغنام، نوق، جمل، حيّة، ثعبان، حرباء، وطواط/تنين) والنباتات (أزهار الليمون، أزهار اللوز، الأقحوان، الوردة، الزعتر، أزهار برقوق/ القرنفل/ زهرة قنب بّريّ/ طحالب/ سنابل/ الطماطم/ أشجار اللوز والزيتون النخيل والفلين والبلوط والفرنان واليوكاليبتوس والصفصاف والبرتقال والتين)(54)
حتى أنّ بعضها تحوّل من دلالته المباشرة أو من سياقه الاستعاري إلى رمز. ألم تصبح الصراصير والوطاويط والحرباء مثلا رمزا للقيم المنبوذة؛ الحقارة والصّغار والتّلون التي تملأ العاصمة، وصارت أوراق النعناع رمزا للبساطة والعمق والإثارة، كما تزخر المجموعة بالأمكنة والشخصيات والنصوص إلى درجة يُجَنُّ معها القارئ إنها الحياة في صخبها وعفويتها في صمتها وحركتها في شعرها ونثرها إنها قصيدة النثر.
إذا ما أردنا أن ندعم الملاحظات السابقة يكفي أن نتدبّر نصّ «أغنية لراعية الماعز» فهو، إلى جانب كونه يمثل النص الأطول من بين النصوص في المجموعة إذ يمتد على تسع صفحات، يقوم دليلا على السيرة الشعرية في هذا الأثر، فقد روى الشاعر حكايته مع حبيبته منتقيا باقة من أحداث دون غيرها، وتحديدا ما يصلح منها أن يكون موضوعا شعريا، ولا شك في أن حدث لقائه بحبيبته مثّل محورا تدور حوله بقيّة الأحداث الأخرى التي انتظمت وفق ثنائيّة؛ الأمل الخيبة، فالشاعر قد التقى بمن يحبّ لكنّه لم ينعم بذلك طويلا فقد ضاع منه الحبيب (كان إيكار قد أضاع غزالا مجروحا في «قرطاج»)، وقد تعلّق الحدث المحوريّ بأمكنة مرجعيّة متعدّدة (المرسى/ سيدي الظّريف شارعيْ « أبي فراس الحمدانيّ» و«عمر بن أبي ربيعة» ومقهى الصفصاف) وبأزمنة تدرّج الشّاعر في تدقيقها (أوت التونسيّ، في الرابع والعشرين من جويلية التونسي) (مساء/ مساء أمس/ في السابعة مساء بالضبط)، أمّا ترتيب الأحداث على سلّم الزّمن فقام على التّزامن من جهة (عندما يصعد الهلال ... سوف/ عندما يصعد هلال ...ارفعي/ عندما نظرت...كنت/ عندما وصل... كانت/ عندما راوغت ... كان/ عندما وصلت ... كنت أرقص/ لم أعط ... عندما/ عندما رددت ... كان أحدهم/ عندما كنت أصعد. كانت مياه اخترقت) والأسبقية من جهة أخرى (بعدما سقطت ... كنت أعرف/ بعد أن طاروا ... كان ثمة/ بعد أن اقتطعت ... كان ثمة) ويحمل هذا الترتيب دلالة إذ يبين تفاعل الشاعر مع الأمكنة والأزمنة والشخصيات وهو بصدد مغامرته العاطفية المختزلة شعريّا في حدث اللقاء بالحبيبة (قبل اللقاء، إثناءه، بعد بعده)، وتبعا لذلك سرت في النّص حيوية تعكس توترا كبيرا في قلب إيكار الصغير، إيكار المجروح بجرح غزاله. غير أن الأحداث لم ترد على سلم الزمن خطية وإنما كانت مشوشة على المرء أن يجمع شتاتها ويبحث عن خيطها الناظم وهي عملية على طرافتها تتطلب نوعا من التعسّف.(55)
ومن المفيد الإشارة ونحن في هذه الدّائرة إلى أنّ الأحداث في هذا النّصّ على رمزيّتها وانحسارها في نواة سرديّة صغيرة (اللّقاء) وفي منطق حدثي بسيط يقوم على ثنائية الأمل والخيبة (لقاء الحبيبة، ضياعها) ورغم ذوبانها في تصوير الانفعالات والمشاهد، تبقى متصلة بمراجعها وذلك من خلال الإشارات الزمنيّة والمكانيّة، أو استنادا إلى سياقها في المجموعة ككلّ إذ تأتي في مسار المغامرة العاطفيّة التي عاشها الشاعر/ إيكار بعنف ومرارة.
والواضح أنّ إيكار/ السارد هو الشخصية الرئيسية في هذا النص في حين جاءت بقية الشخصيات سابحة في فلكها، إذ لم يكن لها حضور إلاّ في انفعالات الشاعر أو باعتبارها جزءا من المشهد المُلتقٌط والمرصود (سائحان/ أربعة رجال من الجنس الأصفر/ أحدهم/ الفتيات المترنحات/ شجرة تشرب الكوكا/ شجرتان سمراوان تشربان المطر)، والأمر نفسه ينطبق على راعية الماعز/الغزال، قناع الحبيبة.(56)
لكننا نفهم بيسر إذا ما حاصرنا النفس القصصيّ في النّصّ أنّ الأمر يتعلّق بحبيب عاشق وحبيبة ممتنعة بل مخطوفة القلب والجسد، وقد صبغ الشاعر هذه الطعنة العاطفيّة بصبغة عذرية تذكرنا بالقصّة المجازيّة المعروفة قصّة الذئب الذي افترس غزالة الشاعر.
ويواصل الشاعر من خلال المراوحة بين الضمائر لعبة الغموض بل يعمقها أكثر بإغراق النص في عالم من التفاصيل إلى حد الجنون؛ عناصر الطبيعة : الحيوانات (راعية الماعز/ ماعز برّي/ يا الماعز البري/ ذئاب الجبل/ عيني راعية ماعز/ جمل قديم/ جملا أبيض/ نحلة/ أسماك/ سمكة/ راعية الماعز/ غزالا/ راعية الماعز/ قطيع من الماعز البري) النباتات والأشجار والأزهار (أشجار البرتقال/ شجرة التين/ سنابل/ أزهار برقوق/ شجرة صفصاف/ شجرتي صفصاف/ طحالب البجر/ أشجارا عالية/ بالنعناع/ بعطر الأشجار/ غرور الأشجار/ وردة غبار/أحطاب الغابة/إكليل الغار أشجار اللّوز أوراق توت/شجرة تشرب/شجرتان سمراوان) إضافة إلى (رمال البحر/ وراء التلال / نجمتي الخارجة توا/ الحقول/ أسفل جبل في قرطاج/ قمر منتصف أوت/ ذئاب الجبل/ رواغت الشمس/ مياه جمّة/ طحالب البحر/ سقوط مياه / فلأبدأ من البحر أوّلا/ جملا أمام البحر/ أسماك البحر/ من البحر/ الموج الأصفر/ الرّمال المدعوكة/ ساقيّ في الماء/ دفعه الهواء/ تحت الماء/ ضربات الشمس/ مياه وصخور/ تقبيل الموج/ الرمل الأبيض/ رمل الشاطئ/ تشربان المطر) الألوان (أقراص بيضاء/ أنفك الأحمر/ نوافذ العابر الأزرق/ قلال خضر/ بسنامه الأبيض/ جملا أبيض/ جملا أمام البحر/ شايا أحمر/ قبة خضراء/ بخضرتها الناصعة/ رمح أبيض/ كانت سمراء/ قميص أخضر/ الموج الأصفر/ الجنس الأصفر/ بشيء أسود / الرمل الأبيض/ تذكرة حمراء)، الأصوات (أغنيات/ أغنياتهم مصفّرين/ هتفت/ مبحوحا/ حفيف/ طقطقة/ نشيد العصافير )(57)
ولا تقتصر هذه التّفاصيل على ما ذكرنا بل تتجاوزه إلى عرض الأعضاء البشريّة (حاجبيك/ صدرها/ النهد الأيمن/ أصابعها وأنفها وخديها/ الشفتين الحاقدتين /إبطي/ جبهتي العريضة) وتعديد الأشياء الاتّجاهات والظّروف المكانيّة والزمانيّة.(58)
فضلا عن ذلك تتراكم طبقات من الرّموز وتتشابك بدرجة يصبح الوصول إلى العلاقات بينها أو النّفاذ إلى عمقها مطلبا مستعصيا، وبغضّ النّظر على المستوى التّقريريّ أو الرّمزي في هذه الغابة من التّفاصيل والرّموز فإنّ حضورها في النّصّ منبثق عن نيّة مبيّتة فلا مجال للاعتباط والصّّّّّدفة في قصيدة النثر، المهمّ دائما هو معاشرة النّص ومكابدته حتّى يَهَبَ لك أسراره.
وقد تمكّنّا بشيء من روح المغامرة في التّأويل من تحديد قطب دلاليّ تدور حوله هذه التفاصيل، وخاصّة ما تعلّق منها بعناصر الطبيعة والألوان :
الماء
البحر
الامتداد والعمق والقوة المغامرة
السواد والبياض الفرح (البياض)
الألم (السواد)
شجر/ نبات / زهر.....
الأخضر يرمز للخصوبة أزرق + أصفر= أخضر
أحمر + اصفر ⇐ برتقالي⇐
شجرة البرتقال معروفة بالاخضرار المتواصل لأوراقها
ترمز شجرة البرتقال إلى الخصوبة
العشق ⇐ ماء الحياة
إذن العشق ماء الحياة إلاّ أنّ هذا الماء زلال في حالة الوصال ومرّ علقم في حال الانفصال، والشّاعر في نصّ «راعية الغنم» وفي المجموعة برمّتها عاشق محروم، مغدور، غير أنّ هذا المعنى يبقى ثاوِيا ودونه الفخاخ والمزالق دائما.
ألم يَصْدُق الشاعر عبد الفتاح بن حمودة إذن في بيانه الشعريّ(وصايا) حين قال « إذا كتبت قصيدة فكن مهندسا معماريّا ومخرجا سينمائيّا وعالما في الآثار والبحار والحشرات والنّبات ... »(59)
أليست السّيرة الشعرية بهذا المعنى قولا لحكاية الشاعر من خلال التّفاصيل المدهشة والمثيرة واستنادا إلى اليومي المُرْبِك، أليس من الحكمة الإعلان على أنّ الشاعر الحقيقيّ لا يلتقط الصّور فحسب وإنما الأحداث والتّجارب وأقوال الشّخصيات؟ أليس الشاعر في نزولا عند رغبة المطر بصياد يملأ الشباك من غلال البحر ثم بعد ذلك يصنّفها حسب النّوع؟
الخاتمة
جملة الأمر أن مجموعة عبد الفتاح بن حمودة «نزولا عند رغبة المطر» تمثل أنموذجا حقيقيا لقصيدة النثر وذلك من خلال انشدادها إلى طرائق حديثة في الأداء الشعري تقوم على الغموض الممتع والبسيط المدهش وتنهض بمهمة ترتيب العالم وإخراجه باستقصاء التفاصيل والدقائق وبالنفاذ إلى عمق الأشياء.
وتمثل السيرة الشعرية التي حاولنا محاصرتها في هذه الدراسة الموجزة بعض جوانبها أحد مظاهر الطرافة في «نزول عند رغبة المطر» وقد وظفها الشاعر بطريقة تنسجم مع طبيعة النصوص في قصيدة النثر وما تُوسم به من بساطة وعمق وتلبسي باليومي المعيش، إلا أنّ هذه السيرة التي تضخمت التفاصيل فيها حتى أضحت نشيدا للحياة بألوانها وحيواناتها وأزهارها وأشجارها وأمكنتها وشخوصها ونصوصها واتّسعت فيها بُؤَرُ المجاز ودوائر الرّمز لا يمكن أن نراها كما ينبغي أن تُرَى إلاّ بدراسة لعبة الضمائر وهي مسألة مغرية بالبحث في هذه المجموعة التي أعتقد أنها علم في المشهد الشعري التونسي والعربي، وما على الباحث عن الشعر أن ينتبه إلى هذا الأثر فسيجد فيه مبتغاه.
باحث من تونس
الهوامش:
1/ صدرت مجموعة «الفراشات ليلا» سنة 2003 عن المطبعة العالمية سوسة، أما مجموعة عندما أنظر في المرآة لا أفكر فقد رأت النور سنة 2003 أيضا عن دار الاتحاف تونس.
2/ وأنشد ابن بري ل رؤبة:
بلال يا بن الحسب الأمحاض ليس بأدناس ولا أغماض
جمع غمض وهو خلاف الواضح، وهي المغامض واحدها مغمض، وهو أشد غوْرا. وقد غمض المكان وغمض وغمض الشيء وغمض يغمض غموضا فيهما : خفي. اللحياني: غمض فلان في الأرض يغمض ويغمض غموضا إذا ذهب فيها. وقال غيره : أغمضت الفلاة على الشخوص إذا لم تظهر فيها لتغييب الآل إياها وتغيبها في غيوبها. (ابن منظور: لسان العرب،مادة غمض، دارصادر،2003)
وأمر مبهم : لا مأتى له واستبهم الأمر إذا استغلق، فهو مستبهم. وفي حديث علي : كان إذا نزل به إحدى المبهمات كشفها، يريد مسألة معضلة مشكلة شاقة، سمّيت مبهمة لأنها أبهمت عن البيان فلم يجعل عليها دليل، ومنه قيل لما لا ينطق : بهيمة. وفي حديث قس : تجلو دجنات الدياجي والبهم، البهم : جمع بهمة، بالضم، وهي مشكلات الأمور. وكلام مبهم : لا يعرف له وجه يؤتى منه، مأخوذ من قولهم حائط مبهم إذا لم يكن فيه باب. ابن السكيت : أبهم عليّ الأمر إذا لم يجعل له وجها أعرفه. وإبهام الأمر : أن يشتبه فلا يعرف وجهه، وقد أبهمه. وحائط مبهم : لا باب فيه. وباب مبهم : مغلق لا يهتدى لفتحه إذا أغلق. وأبهمت الباب : أغلقته وسددته. وليل بهيم : لا ضوء فيه إلى الصباح. وروي عن عبد الله بن مسعود في قوله - عزّ وجلّ - : إن المنافقين في الدّرك الأسفل من النار; قال : في توابيت من حديد مبهمة عليهم، قال ابن الأنباري : المبهمة التي لا أقفال عليها.
(ابن منظور: لسان العرب، مادة غمض، دارصادر،2003)
وغنيّ عن البيان في هذا السياق أن الغموض يختلف عن البيان فالأول يعني ماهو غير واضح، خفي والثاني ماهو مستعص يتعذر معرفة أي وجه من وجوهه، ومن ثمة فالغموض في الشعر يتصل بخفاء المعاني واحتجابها في حين يرتبط الإبهام بالتعمية، وشتان بين لطف الخفاء في المعاني وما يصحب ذلك من محاولات للنفاذ إليها وقسوة الطلسم واستحالة الولوج إلى عالمه.
وقد سئل أبو تمام لم لا تقول ما لا يفهم؟ فأجابه أبو تمام : ولم لا تفهم ما يقال ؟(انظر الآمدي: الموازنة بين أبي تمام والبحتري، دار المعارف مصر، ط. 2، 1972) ويشير هذا الرد على إيجازه إلى أن المعني بالفهم هو القارئ فالمعنى ليس مُتَاحا مبذولا بل خفيّ يتطلب استخراجه جهدا ولعل هذا التوجه في القول الشعري هو الذي جعل من أبي تمام أول المجددين. والحقيقة أن الشعر شأنه شأن كل أنماط القول التي لها صله بالإلهام والوحي له باطن لا يمكن أن نستكنهه إلا بالتدقيق والتمحيص، ولقد أصبح هذا الشرط أكيدا مع قصيدة النثر، إلا أن المسألة تبقى دائما متعلقة بالخيط الرفيع الفاصل بين العميق الخفي والمغلق العصي.
3/ نزولا عند رغبة المطر، عبد الفتاح بن حمودة، منشورات كارم الشريف،2 الطبعة الأولى،2012 ص 20
4/ المصدر نفسه، ص21
5/ المصدر نفسه، ص25
6/ المصدر نفسه، ص 32
7/ المصدر نفسه، ص 53
8/ المصدر نفسه، 57
9/ المصدر نفسه، 61.
10/ المصدر نفسه، 69.
11/ المصدر نفسه، 97.
12/ المصدر نفسه، 165.
13/ المصدر نفسه، (وصايا)، 04.
14/ المصدر نفسه،صص،99/ 21/ 133/ /184 ......//84 / 19
15/ المصدر نفسه، صص 63/64
16/ المصدر نفسه، صص 36/38/43/71.
17/ 36/38/49/53/62/70/..../72/79/81/162/156.
18/ المصدر نفسه، ص19.
19/ المصدر نفسه، ص 26.
20/ المصدر نفسه، 95.
21/ المصدر نفسه، ص101.
22/ المصدر نفسه، ص101.
23/ المصدر نفسه، 105.
24/ المصدر نفسه، 120.
25/ المصدر نفسه، 90.
26/ المصدر نفسه، 102.
27/ المصدر نفسه، ص 12.
28/ أصل القبالة (kabbala) من الجذر العبري (ق،ب،ل) فالأستاذ «العارف» يمنع والمريد السائل «يقبل»، والقبّالي ينظر إلى نفسه المريد السّائل.
والقبالي يرى في الخطاب المنطوق أو المكتوب معنى يجب فكّ رموزه. فالسرد الكتابي الواضح في نظر الذهن البسيط يصير في نظره غامضا مثقلا بالمعنى. (انظر مقال دانيال بيرزينيك الوارد بكتاب القبالة وشفرة التوراة والعهد القديم للكاتب الحسين الحسيني معدي، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى،2007، ص 230 )
وتقزم أحد أركان هذه «الفلسفة» على شجرة يسمونها «شجرة الحياة» أصلها فى السماء وفروعها فى الأرض، أى أنها مقلوبة رأساً على عقب حيث تبدأ بالذات العليا فى السماء! وتنتهى بالعالم الدنيويّ فى الأرض، وتتكون من عشر طبقات تسافر فيها الروح عبر جسد الإله الذى يُجسد تلك الشجرة حسب مُعتقداتهم ! والتي جاء بها نبيهم ومرشدهم الذى اختفى عن الأنظار مدة من الزمن فى مغارة نائية ومن ثم خرج عليهم يقول بأن أسرار قد كُشفت له، وإنة قد حصل له شكلاً من الكشف أو الوحى الإلهى! وقد ظهرت مجموعة نصوص عندهم جمعوها فى كتاب أو سفر سموه «زوهار » والزوهار كلمة آرامية تعنى النور أو الضياء .. (انظر مقال دانيال بيرزينيك الوارد بكتاب القبالة وشفرة التوراة والعهد القديم للكاتب الحسين الحسيني معدي، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى،2007، ص)
29/ تبحث هندسة الفراكتال( Fractal Geometry ) في وصف خصائص الأشكال الهندسية الموجودة في الطبيعة بصفة منتظمة ومتواترة ومتشعبة، وقد وقع تناول هذه الأشكال من وجهة نظر جمالية فأصبحت صورا تتبدّى فييها جمال الطبيعة وسحرها.
30/ نزولا عند رغبة المطر، عبد الفتاح بن حمودة، ص 53.
31/ المصدر نفسه صص، 28/176/178/184
32/المصدر نفسه صص، 82/90/173
33/ عرف فيليب لوجون السيرة الذاتية بأنها في علاقتها بالحقيقة «ليست أثرا فنيا يشكل فيه مؤلِّفه اللغة تشكيلا أصيلا محاولا التعبير عن ذاته، فحسب، إنها تمثل واحدة من الطرق الأكثر تشددا وتمحيصا في سعيه إلى نقل الحقيقة «والنص السير ذاتي حسب رأيه» إذا نقل الحقيقة فهي في الأصل حقيقة الحاضر الذي يعيش فيه (إنها صورة حياة المؤلِّف التي يحسّ اليوم أنه في حاجة إلى بنائها) أكثر منها حقيقة الماضي الذي لا يحاط به»( انظر الأجناس الأجبية من الضبط إلى العبور مقالات وفصول مترجمة، الأمين المبروك، مكتبة علاء الدين، الطبعة الأولي2008، ص 39 و ص 45)
وقد دقق النقاد بعد فيليب لوجون البحث في الخصائص الفنية التي تجعل من السيرة الذاتية جنسا أدبيا مستقلا بذاته واشتركوا على اختلاف مناهجهم في تأكيد أن هذا الجنس هو محاولة من المؤلّف لإعادة بناء تجربته، وهي صياغة لها باللغة الأدبية والإنشاء القصصي صلة وطيدة. ويستدعي الحديث عن السيرة الذاتية مسألة السيرة الشعرية وذلك لما بينهما من تقاطع رغم اختلاف الفضاء الذي ينتمي إليه كلاهما؛ النثر/الشعر،
إن المشترك بين السيرة الذاتية والسيرة الشعرية هو استحضار الكاتب والشاعر للتجربة التي عاشاها من منظور آنيّ، أما الفرق بينهما فيظهر في مستويين؛ الأول له يتعلق بالأحداث فهي في السيرة الذاتية مفصلة تقوم على بناء مخصوص يحولها من إلى عمل فني قصصي في حين أن الأحداث في السيرة الشعرية تنحصر في بعض الإشارات التي تغرق في عالم من الأشياء والصور والتفاصيل، أما الثاني فيتصل باللغة فهي في السيرة الذاتية تتأرجح بين الدرجة الصفر بين ما هو دون ذلك بقليل، على خلاف السيرة الشعرية التي تبدو فيها اللغة إيحائية إلى حد بعيد.
34/ نزولا عند رغبة المطر، عبد الفتاح بن حمودة، صص 19،26،50.
35/ المصدر نفسه ص36.
36/ المصدر نفسه ص38.
37/المصدر نفسه 62.
38/ المصدر نفسه 63.
39/ المصدر نفسه 64.
40/ وردت هذه الأمثلة متفرقة في المجموعة وهذه أمثلة عنها.
41/ المصدر نفسه 17.
42/ المصدر نفسه ص18.
43/ وردت هذه الأمثلة متفرقة في المجموعة وهذه أمثلة عنها.
44/ وردت هذه الأمثلة متفرقة في المجموعة وهذه أمثلة عنها.
45/ وردت هذه الأمثلة متفرقة في المجموعة وهذه أمثلة عنها.
46/ ذكر الشاعر شخصيات عديدة في العتبات أو في المتن وهذه أمثلة عنها.
47/ المصدر نفسه 115.
48/ المصدر نفسه 80.
49/ لا شك في أنّ هناك تقاطع كبير بين نصّيْ عبد الفتاح بن حمودة ورافائيل ألبرتي والمقطع الشعري التالي للمجنون، فكلاهما يتحدث عن (غزال/ظبي/غزالة) مجروح، مُفْتَرس، كناية عن الحبيبة. إلا أنّ هذه النصوص تخفي أسئلة مهمة منها؛ إلى أيّ مدى يمكن ان تكون الحبيبة ضحية؟ أليس من المحتمل ان تكون قد اختارت طوعا أن تكون بين يديْ الآخر؟ لا شك في أن مثل هذه الأسئلة تكشف أحد الوجوه المهمة للشاعر العذريّ، وهو الوجه التبريريّ.
يقول المجنون :
أبى الله أن تبقــى لحي بشاشـــــة فصبرا على ما شاء الله لي صبـرا
رأيت غزالا يرتعي وسط روضـــــة فقلت أرى ليلى تراءت لنا ظهـــرا
فيا ظبي كل رغدا هنيئا ولا تخــــف فإنّك لي جار ولا ترهب الدهـــرا
وعندي لكم حصن حصين وصــارم حسام إذا أعلمته أحسن الهبـــرا
فما راعني إلا وذئب قد انتحــــــى فأعلق في أحشائه النّاب والظّفـرا
فبوّأت سهمي في كتوم غمزتهـــــا فخالط سهمي مهجة الذئب والنحرا
فأذهب غيظي قتله، وشفى جـــوى بقلبي أن الحر قد يدرك الوتـــرا
(ديوان مجنون ليلى جمع وتحقيق عبد الستار أحمد فراج 132، 133)
50/نزولا عند رغبة المطر، عبد الفتاح بن حمودة، منشورات كارم الشريف، 2 الطبعة الأولى، 2012 ص 107
51/ المصدر نفسه 140.
52/ انظر المصدر نفسه، نص شكوى إيكار، صص، 72، 76.
53/ انظر المصدر نفسه، نص شكوى إيكار.
54/ أورد الشاعر في مجموعته كمّا هائلا من أسماء الحيوانات والنباتات والأصوات والألوان كما ضمّن مجموعته أضواء وروائح وأشياء كانت عالما بأسره.
55/ انظر المصدر نفسه نصّ أغنية لراعية الماعز، صص، 106، 116.
56/ انظر المصدر نفسه، نصّ أغنية لراعية الماعز.
57/ انظر المصدر نفسه، نصّ أغنية لراعية الماعز.
58/ انظر المصدر نفسه، نصّ أغنية لراعية الماعز.
59/ انظر المصدر نفسه، الوصايا، ص 12.
تقترح هذه القراءة التونسية أن المجموعة التي تتناولها تمثل نموذجا لقصيدة النثر في انشدادها إلى طرائق حديثة في الأداء الشعري تقوم على الغموض الممتع والبسيط المدهش، وتنهض بمهمة ترتيب العالم وإخراجه باستقصاء التفاصيل والدقائق وبالنفاذ إلى عمق الأشياء، لتقديم سيرة شعرية اتّسعت فيها بُؤَرُ المجاز ودوائر الرّمز.
بين غموض الصّورة ووضوح السيرة
قراءة في مجموعة «نزولا عند رغبة المطر»